ما نُسخ تلاوته وحكمه

عن الزهري قال: «أخبرني أبو أمامة … أن رهطًا من أصحاب النبي قد أخبروه أن رجلًا منهم قام في جوف الليل، يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها، فلم يقدر على شيء منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فأتى النبي حين أصبح، يسأل النبي عن ذلك. وجاء آخر وآخر حتى اجتمعوا، فسأل بعضهم بعضًا ما جمعهم، فأخبر بعضهم بعضًا بشأن تلك السورة، ثم أذن لهم النبي فأخبروه خبرهم وسألوه عن السورة، فسكت ساعة لا يرجع إليهم شيئًا، ثم قال: نُسخت البارحة.»١
وقد عقب أبو بكر الرازي على باب «ما نُسخ تلاوته وحكمه» بالقول: «إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتابته في المصحف، فيندرس مع الأيام.»٢
وقد وضع ضمن هذا الباب عددًا من الروايات حول عدد من الآيات التي كانت معروفة زمن النبي، لكنها لم توجد بالقرآن الكريم، لكن مع تعللات أخرى تشير إلى أحداث في الواقع، أدت إلى اختفاء مثل تلك الآيات. ومن تلك الروايات ما جاء عن شريك بن عاصم عن زر، فمن قوله: «قال لي أُبي بن كعب: كيف تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت: سبعين أو إحدى وسبعين آية، قال: والذي أحلف به، لقد نزلت على محمد وإنها لتعادل البقرة أو تزيد عليها — انظر التهذيب ج١٠، ص٤٢–٤٤.»٣ وعن عمر قال: ليقولن أحدكم: قد أخذت القرآن كله، وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر … وعن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي حتى مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا على ما هو الآن … وعن أبي أمامة ابن سهل أن خالته، قالت: لقد أقرأنا رسول الله آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة. وقال حدثنا حجاج بن جريح، أخبرني أن أبي حميدة عن حميدة بنت يونس قالت: قرأ علي أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: «إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسلميا»، وعلى الذين يصلون في الصفوف الأولى، قالت: قبل أن يغير عثمان المصحف … وعن أبي سفيان الكلاعي أن مسلمة بن مخلد قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين من القرآن لم تكتبا في المصحف فلم يخبروه، وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال ابن مسلمة: «إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم»، ألا أبشروا أنتم المفلحون، والذين آووه ونصروه وجادلوا عنه القوم الذين غضب عليهم، أولئك لا «تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون».٤ هذا ويورد السيوطي: «عن عدي بن عدي قال عمر: كنا نقرأ: «ألا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم»، ثم قال لزيد بن ثابت: أكذلك؟ قال: نعم … وقال عمر لعبد الرحمن بن عوف ألم تجد فيما أنزل علينا: «أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة» فإنا لا نجدها، قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن.»٥ كما روى «مسلم» في إفراده عن عائشة — رضي الله عنها — أنها أملت على كاتبها: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين» (بشرح النووي ج٥، ص١٢٩-١٣٠).
والإشارات من جانب السيدة عائشة إلى دور الجمع في عهد الخليفة عثمان فيما حدث تعود بلا شك إلى كون عثمان قد حمل الناس على مصحف واحد، ثم حظر ما عداه، بل وحسم الأمر فحرق ما عداه من صحف قرآنية. وقد عقب د. طه حسين على ذلك بقوله: إن النبي قال: نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كافٍ شافٍ، وعثمان حين حظر ما حظر من القرآن، وحرق ما حرق من الصحف، إنما حظر نصوصًا أنزلها الله وحرق صحفًا كانت تشتمل على قرآن أخذه المسلمون عن رسول الله ، وما كان ينبغي للإمام أن يلغي من القرآن حرفًا أو يحذف نصًّا من نصوصه. وقد كلف كتابة المصحف نفرًا قليلًا من أصحاب النبي، وترك جماعة القراء الذين سمعوا من النبي وحفظوا عنه، وجعل إليهم كتابة المصحف، ومن هنا نفهم سر غضب ابن مسعود، فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن، وهو فيما يقول قد أخذ من فم النبي سبعين سورة من القرآن، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد. ولما قام ابن مسعود يعترض الأمر، رافضًا تحريق صحف القرآن أخرجه عثمان من المسجد إخراجًا عنيفًا، وضربت به الأرض فدقت ضلعه.٦

وبعد، فإن ما قدمناه هنا على عجالة، ليس دفاعًا عن كتاب الله الكريم، فالكتاب متكامل بذاته، مستغنٍ عن مثل ذلك الدفاع، وليس دفاعًا عن عقيدة أو دعوة، فقد بلغ الإسلام تكامله واستقراره في حياة صاحب الدعوة ، وهو الأمر الذي لا يخشى معه عرض مسألة من المسائل التي تشغل بال المسلم. ومن ثَم فقد حاولنا إبراز شذرات قليلة في الروايات، تشير إلى ارتباط الوحي بواقعه أثبتها الكتابان السالفان في هذا المجلد، اللذان ربطا الوحي بكل حادثة موضوعية كانت تحدث في واقع زمن الدعوة. وكانت محاولتنا بالأساس محاولة لفهم ظاهرة النسخ، مستندة إلى اعتبار الواقع مقياسًا لفهم حركة النص المرتبط به، فينفعل به، ويفعل فيه، من أجل مصالح ومنافع وغايات أعم في فضلها، وحسبي هنا إخلاصي النية في الجهد للفهم. وهو الجهد الذي ربما أصاب ذلك غاية المراد، وربما أخطأ ولا جناح هنا من الطموح إلى ثواب الأجر الواحد، وربما كان جهد المحاولة بين الصواب والخطأ، وربما ألمح إلى طريق حان ولوجه، بكفاءة المقتدرين عنا من متخصصين، وربما كان كل الجهد بلا طائل لسقوطه في أخطاء غابت عنا. لكن اليقين الذي نعيه تمامًا ونعتقده ولا نحيد عنه، هو تكامل الوحي وتفاعله التاريخي العظيم مع واقعه، فلم يدخله باطل ولا زيف، ذلك الوحي الكريم الذي جمعته صفحات القرآن الكريم، ووصفه الله عز وجل بأنه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (هود: ١).

١  ابن الجوزي: سبق ذكره، ص٣٣.
٢  السيوطي: سبق ذكره، ج٢، ص٢٦.
٣  انظر أيضًا: ابن الجوزي: سبق ذكره، ص٣٤.
٤  السيوطي: سبق ذكره، ج٢، ص٢٥، ٢٦.
٥  نفسه، ص٢٥.
٦  انظر: الفتنة الكبرى للدكتور طه حسين، دار المعارف، ط١، ج١، صفحات ١٦٠، ١٦١، ١٨١، ١٨٢، ١٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤