مقدمة

بقلم  إبراهيم رمزي
 مصر الجديدة في ١٥ مارس سنة ١٩٣٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خاتم الرسل وسيد الخلق أجمعين، وعلى آله وصحابته والتابعين.

أما بعد، فهذه الرواية هي الحلقة الأولى من سلسلة قصص استخرت الله في وضعه على معالم التاريخ الإسلامي، لا سيما فيما له علاقة بمصر؛ تحقيقًا لأمنية تمنَّاها أستاذنا إمام المصلحين المرحوم الشيخ محمد عبده في بعض ما سمعته من حديثه في الخرطوم سنة ١٩٠٥، وإجابة لتكليف من إمام الوطنيين أستاذي وصديقي المرحوم الشيخ عبد العزيز شاويش يوم كنت أعمل تحت رياسته في تحرير جريدة اللواء في سنة ١٩٠٩، ثم تقاضانيه أيام جمعنا الفلك الدوَّار مرةً أخرى بوزارة المعارف سنة ٢٥، حين كنت أعمل تحت رياسته كذلك في التفتيش على مدارس المعلمين الأولية.

فإن أكن قد تأخرت كثيرًا فالعمل العظيم يحتاج إلى توفُّر، والرأي لا ينضج في زمنٍ قليل، وقد يكون للكاتب من حالة الناس ما يقعده عن العمل إذا نشط له، ويصرفه عن المضي في الطريق اضطرارًا، بيد أني قد عجلت من المقصد بشيء منذ سنة ١٩١٣ فيما وضعت للتمثيل العربي من روايات تاريخية من قبيل ما عني١ ولكن ذيوع الروايات التمثيلية في يد الممثل لا في يدي، وعرضها معلق على إرادته لا إرادتي، وإحسان أدائها مرتبط بكفايته لا كفايتي، وانتشارها بين الناس تبع لحالة الزمن معه لا معي، كما أن أكُلُها مقصور على المدن في مصر وبعض البلاد العربية القريبة منا، حين أريد أن أدنيه من كل عين وكل يد وكل قلب في مصر وبلاد العربية وأصقاع الإسلام، شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا، وأبلغه إلى إخواني في الإسلام الذين يتاخمون غير إخوانهم في البلاد النائية من آسيا وجزائرها، وإلى أرومة المجد والفضل المنتشرة فيما بين جدار الصين وأطراف نهر الطونة٢ أولئك الذين نصروا الإسلام فنصرهم، وأعزوه فأعزهم، والذين سيجد القراء ما طالت الحياة حلقات من هذه السلسلة خاصة بفضلهم؛ فلقد كان منهم علماؤه الأعلام الذين ستبقى مؤلفاتهم — ما بقي الدهر — أصفى مورد، وأصدق معلم لطلاب حكمة الدين والحديث والتفسير والشريعة والأدب واللغة والتاريخ وفنون العلم والعرفان طرًّا، والذين كان منهم الرجال العظام الذين وقف منهم الملوك والأمراء والجنود يذودون عن حياض الإسلام ذود الأسود، ويكتبون بأعمالهم المجيدة صفحات من أخلد صفحات التاريخ الإسلامي، والذين جعلوا للإسلام من حبِّهم للفنون فنونًا خاصة به في العمارة والموسيقى والزخرفة وزينة الحياة في المدن والمنازل؛ إدراكًا لمعنى نعمة الإسلام، وتحقيقًا لمشيئة الله في قوله (تعالى): قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وسيكون محور غالب القصص تاريخ الإسلام فيما له علاقة بمصر، وإذا قلنا مصر فقد قلنا بلاد العرب والشام والعراقين وبرقة وإفريقية، وما يتصل بها شرقًا وغربًا؛ إذ إن جوهر الذين كانت لهم يد في صياغة أحوال الدنيا في وادي النيل منذ الفتح العمري رجال من أهل تلك الأقطار، فالإلمام بهم يتطلب حتمًا الإلمام بتاريخ هؤلاء العظام، والتوغل في بيئاتهم بما لا يقصر القول على مصر. بيد أن مصر كانت في جميع من الأزمان ذات اتصالٍ وثيق بهذه الأصقاع؛ إما تابعة كما كانت في عهد الراشدين والأمويين والعباسيين الأول والعثمانيين، أو متبوعة كما كانت في عهد الفاطميين والأيوبيين وسلاطين المماليك البحرية والبرية، أو تابعة اسمًا ومتبوعة فعلًا كما كان حالها أيام الطولونيين والإخشيديين والأسرة المحمدية العلوية القائمة.

وهل يملك كاتب مهمته ما ذكرتُ أن يتجاهل منابت من كان سكان السفينة وقلم التاريخ في يدهم، ويهمل مصادرهم وعلاقاتهم بالخلافة والخلافة نفسها، أو يقتصر من أمرهم على أعمالهم في مصر حين أن أمجد صفحاتهم إنما خطُّوه بسيوفهم في غير أرض مصر؛ كصلاح الدين، وبيبرس، ومحمد علي مثلًا!

على أن أروع حوادث التاريخ الإسلامي، وأمجد وثائقه، وأملأها بالعبرة، وأصرحها في القول المنذر، إنما كان يوم حملت مصر أمانة الإسلام في القرون الوسطى دون سائر إخوانها من العوالم الإسلامية، ذلك يوم اجتمعت أوربَّة على حرب الإسلام لإبادته وإبادة العربية معه، فجاهدت مصر واستبسلت حتى أنقذت الإسلام للدنيا والعربية لأوطانها، ولن يمر كاتب بهذه الأحداث العظيمة حيث تصادم الشرق والغرب، أو بالأحرى حيث أخذ الغرب يعلننا بإرادة السوء التي لم تزايله حتى يومنا هذا٣ ولا يعيرها إلا اهتمامًا قليلًا، ويتجاوز ما كان لمصر فيها إلى توافه الأمور، حين نقصد بدراسة التاريخ على أية صورة، وبأن نكتب قصصًا محوره حوادث التاريخ الإسلامي، أن ندل فيما ندل على هذه الإرادة السيئة القديمة العهد، والتي كان من أثرها في حاضرنا ما نرى؛ ابتغاء التنبيه والتذكير والإهابة بالجنسية العربية خاصة والإسلامية عامة أن كفى ما أنتم فيه، فانهضوا واعملوا، واحموا أنفسكم من عوامل الإفناء التي أخذتكم من كل جانب.

أبدأ سلسلة القصص فيما يختص بمصر برواية: «باب القمر» هذه، وإنما سميتها كذلك؛ لأنه اسم الباب الغربي من سور مدينة الإسكندرية الذي دخل منه السلار شاهين قائد الفرس لما جاء لفتح مصر (٦١٦–٦١٨م) على أثر فتحه الشام والقدس (٦١٦م)، فتم بذلك نصر كسرى أبرويز على هرقل في أدنى الأرض، قبل أن تحق عليهم كلمة الله فيعود الروم ويجلوهم عن الديار في بضع سنين.

ليس هذا فيما يلوح لبعض القراء لأول وهلة في شيء من تاريخ الإسلام بمصر؛ إذ الإسلام إنما جاءها بمجيء الأمير عمرو بن العاص لفتحها في خلافة الفاروق عمر — رضي الله عنهما — أي بعد ذلك الفتح الفارسي بثلاث وعشرين سنة، ولكن الواقع غير ذلك؛ فإن الحرب التي جرت بين الروم والفرس هي التي مهدت لانتشار الإسلام، والخلافات المذهبية والجنسية هي التي أيقظت النفوس إلى حاجة الدنيا إلى إصلاح العقول والقلوب، وتنظيم الحياة على شرعة الحق العقلي، والخلاص من تلك الأوزار، وهي التي أظهرت فضل الإسلام، ونبهت العرب إلى حق إخوانهم عليهم، وحفزتهم إلى فتح العراق والشام ومصر وما وراءها؛ لإنقاذ الوطن العربي وجيرته برًّا بالجار، وما يملك كاتب له نظرية في ذلك مؤيدة بتلك المظاهر أن يمر بهذا العهد الخصب كأنه ماحل قاحل، وهو هو العهد لا عهد سواه؛ لإمكان إظهار السر العظيم في نشأة الإسلام، وذيوعه هذا الذيوع السريع، وفي استقراره في مصر إلى الأبد، وانتشاره منها إلى ما وراءها، وإذا عرضت الأسباب في موسمها فمن الخطل أن يتركها الكاتب على أن يتحدث عنها بالرواية بعد انتهاء موسمها بسنين.

وإذ كانت مهمتنا تاريخ الإسلام، وكانت فترة الحرب بين الفرس والروم هي الفترة التي بعث فيها النبي المصطفى وأجاب فيها دعوته أولئك الرجال الذين خطوا بسيوفهم وأقلامهم تاريخ الدنيا بعد ذلك، فمن الخطل أكثر من ذلك أن يمرَّ بها الكاتب دون أن يلمَّ بمعالم الحال في بلاد العرب برمتها، وما كانت عليه من العقائد والمذاهب والنظم، ويذكر جوهر الدعوة وحوافزها، ويعرض تاريخ صاحبها — صلوات الله وتسليماته عليه — ويتأمل بيئته وأثرها فيما فكر وفيما صنع وفيما جهر، ويعرض الأمر كله في نور العلم الحديث؛ ليتيسر فهمه عند أهل هذا الزمان الذين جعل العلم لعقولهم كرامة، فهم لا يمكن أن يفهموا الشيء ويصدقوه إلا إذا كان منطبقًا على قواعد المنطق ونظريات علم الاجتماع؛ ولذلك يطلبون إلى الكاتب، لكي يقتنعوا، أن يجيب الناس بالتعبير الحديث الخالص من روح التشيع: ما بلاد العرب؟ ما البيئة التي وجد فيها صاحب الدعوة؟ ما هي الدعوة ذاتها؟ هل كانت ضرورية لبلاد العرب وللدنيا؟ أهي دينية تعبدية فحسب كسائر الأديان جوهرها صلُّوا وصوموا وكونوا أخيارًا، أم إن الصلاة والصيام مما بني عليه الإسلام لا الإسلام نفسه، وأن للإسلام غرضًا أعم ومقصدًا اجتماعيًّا عالميًّا حفز العرب إلى المجاهدة في سبيله بالقلب واللسان واليد؟

هذا ما عنيت به، ومن ثم فالرواية من حيث موضوعها القائم بالنسبة إلى مصر جوهرية في تاريخ مصر الإسلامي، وجوهرية في تاريخ الإسلام؛ ولذلك اقتصرَتْ في الحقيقة على حوادث الإسلام التي دعت إلى تيقظ الحنيفية في مكة وظهور الإسلام في بلاد العرب، ولم تتعرض لما بعد ذلك من تاريخ الرسول ؛ لأنه تاريخ تطبيق دعوته في يثرب في أيامه، وليس هذا موضوعي الآن، واقتصرت على عرض الأسباب التي دعت — فيما بعد — إلى تهافت الناس على الإسلام في مصر لمَّا جاء به الأمير عمرو بن العاص، وهي بالذات أسباب تهافت غير المصريين عليه في غير مصر من بلاد الفتوح.

•••

ولعله يجمل بنا أن نعجل هنا بمعرض تاريخي وتوطئة لما نحن في صدده لبيان الرأي الذي اتجهت الرواية إلى تقريره.

الوثنية والمجوسية والفتيشية والصابئة والبوذية والبرهمية والمزدكية واليهودية والتثليث والتربيع … وغيرها، هي الأديان التي كان عليها العرب في أنحاء الجزيرة العربية في أيام الرسول ، وكانت سببًا في الفرقة بينهم والعداوة، وكانت دعوة الرسول توحيد العبادة بتوحيد المعبود: توحيد الله (تعالى) الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فاطر السموات والأرض الواحد الأحد القيوم الذي إليه الرجعى وإليه النشور، فصارت بلاد العرب تدين بوحدانية الله، والعرب كانوا في جزيرة العرب ملكًا للفرس في اليمن، وأحرارًا جمهوريين في مكة ويثرب، وكانت دعوة الرسول متجهة إلى توحيد الوطن تحت لواءٍ واحد هو لواء العربية الموحدة، فصارت بلاد العرب كما أراد لها .

وكان العرب في العراق والشام ومصر عبيدًا للفرس والروم، وكانت دعوة الرسول إلى الوطنيين بعدما خلت أم الجزيرة من الشرك ومن نير الأجنبي، أن جاهدوا وحرروا إخوانكم في هذه البلاد النائية، ووحدوا كيان الجنس العربي حيث يكون؛ فأصبحت بلاد الجنس العربي حرة على يد صاحبيه أبي بكر وعمر في عشر سنين.

وكانت الدنيا فيما وراء ذلك شقية بحكامها، مرزوءة بنظمها ومعتقداتها، لا حق للشعوب في شيء من الحرية الصحيحة؛ إذ كان خيرها مقصورًا على الحكام الزمنيين والدينيين في الأمة، وخير الأمة مقصورًا عليها، أما جيرانها فأشقياء بأنفسهم وبجيرتهم، فدعا الرسول إلى التوحيد كذلك في الإنسانية. دعا إلى الإخاء العام والحرية العامة، ورفع الاضطهاد من الجنس للجنس المخالف، وإلى التسوية بين الناس ما داموا على شرعةٍ واحدة، ومن ثم دخلت الأمم في دين الله دين الفطرة الشاعرة بوحدانية الله، الراغبة في العيش والسلام والإخاء العام: دين الإسلام البار والعربية الداعية، وصاروا في الحقوق مع العرب سواء؛ لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وتاريخ فارس وتركستان وإفريقية أظهر دليل على ذلك وأقواه، ومن ثم نرى اليوم بين مسلم الشرق ومسلم الغرب صلة نفسية قوية أسقطت فروق الجنس إسقاطًا تامًّا، وتيسَّر بفضل الإسلام ما عجز عن تحقيقه علماء الاشتراكية ودعاة الإنسانية وحكومات أوربة بالرغم من عصبها ومواثيقها ومعاهداتها.

هذا هو مقصد دين الإسلام الذي دعا إليه محمد خير خلق الله، وهذا ما تحقق فكان العالم صعيدًا واحدًا، وكانت الدولة قوية في مجموعها، لم يستطع أن يفتئت عليها أحد أو يلحق بها أذى، فلما استنام المسلمون إلى الدهر، وغفلوا عن سر عظمتهم، وحقيقة هذا الدين، وما كان لهم فيه من عصمة — كان ما هو حاصل من تفتتهم ووشك ذهاب ريحهم، ثم رأوا أوربة في منعة فالتفوا يبحثون عن سر ذلك ويلتمسون الدواء والنجاء، والدواء في يدهم والنجاء قريب لو درسوا مبادئ الإسلام، ولكنهم لم يفعلوا، بل فتنوا بمبادئ أوربة العنيدة التي لم يشأ لها سادتها أن تعتنق الإسلام احتفاظًا بما كان في أيديهم من القوة والسلطان، حتى إذا لقيت شعوبها ما لقي من قبلهم، وأخذت تلتمس المخرج من الشرور التي تكتنفها، لم يخرجها مما كانت فيه إلا نور انبعث إليها من الإسلام في الأندلس، ومن الإسلام في الحروب الصليبية، وأخذ كتَّابهم يدلون بآراء هي نضح آراء الإسلام؛ كالاشتراكيين إذ ينادون بضرورة نشر مبادئ الإنسانية التي هي — كما مر بك — من قواعد الإسلام ومن أجلها جاهد العرب؛ إذ قال دينهم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وقال نبيهم: «لا فضل لعربي على عجمي إلَّا بالتقوى»، وكالاجتماعيين الذين يقولون بالديمقراطية وهي من قواعد الإسلام التي أعلنها الرسول؛ إذ جعل للموالي من الحقوق وفرص الحياة ما للسادة، فكان منهم القضاة والحكام والولاة.

والراشونالست الذين لا يرون أن يكون للدين أكليروس وكهنوت يحرمون ويمنعون، ولا للدنيا أن يكون الملك فيها على غير إرادة الجمهور، وهو شرعة الحكم في الإسلام، وكالأطباء الذين يرون ضرورة إجراء تمرينات رياضية كل صباح، والنظافة طول النهار، والصوم في بعض الأيام، وهذه من قواعد الإسلام، وكالكماليين الذين يرون أن يعمر القلب في ليله ونهاره بالتقوى وحب الخير، وهو ما قرره الإسلام في جعل الصلاة مع أقسام اليوم، وكالقانونيين الذين يرون ألا يكون الزواج رباطًا من حديد يقضي على الزوج والزوجة أن يظلا عليه ولو انتفت مصلحتهما منه وترتبت عليه شرور، وذلك ما راعاه الإسلام، وكالاجتماعيين — ثانيًا — الذين يرون من حق الحكومة أن تأخذ من فيض الله على الأغنياء قسطًا معلومًا تصلح به حال من قعد بهم الفقر والمرض أو العجز والشرور الطارئة؛ حتى لا تثور النفوس المحرومة وتعبث بالسلام والحياة الاجتماعية كما يحصل في أوربة وغير أوربة من الأمم، ومطلوبهما هذا من قواعد الإسلام حين قرر الزكاة، وحين جعل الإحسان إلى الناس من كفارة الذنوب والتقصير في أداء الفروض الدينية.

أقول كل هذا من شرائع الإسلام ومبادئه الأساسية، أهملناها فأهملتنا الدنيا، ثم لما تنبهنا على روعة مما نرى لأوربة من المنعة والعز والسلطان عكفنا ندرس أبحاثهم وفلسفتهم وخطبهم ومواثيقهم بعضهم مع بعض، فَفُتنَّا بما يكتبون وما يقولون، وفُتن المتطرفون بإلحادهم ولا دينيتهم، وخير ما وصلوا إليه حاضر بين أيدينا في ديننا ونظمنا وتاريخنا، وفي أن الإسلام دين الفطرة الذي لا يخجل عقل من اعتناقه، دين التوحيد الذي بني عليه الكون، فهو لا يغري بإلحاد ولا لادينية كما يغري سواه، إنما يكون الإلحاد فيما لا يقول بذلك، دين الديموقراطية التي كانت تشتاقها النفوس منذ عرفت الاجتماع، دين الإنسانية والمحبة والإخاء والمساواة، وهو أقصى ما وصلت إليه العقول. هو في شرعنا من أربعة عشر قرنًا حين أنهم ما عرفوه إلا منذ عهدٍ قريب جدًّا، ولا تزال حناجر بعض الأمم تطالب به حكامها وتثور من أجله، ومع ذلك لا يظفرون بشيء.

•••

أشد عناصر الوطنية اتحاد الجنس واللغة والبيئة ثم الدين، وهذا ما اجتمع لنا نحن العرب مهما ترامت بلادنا، على أنه ترام لا يفصله فاصل؛ فوطننا العربي كتلة واحدة في ناحية من أرض الله، يشمل كل البقاع التي يشغلها العرب ويكوِّن لهذا دولةً واحدة، ولا افتئات منا في هذا؛ فإنه إذا جاز لبعض الأمم الأوربية أن تضم تحت جناحيها أجناسًا وشعوبًا وبلادًا لا تتصل بها بأقل لحمة فمن حقنا من باب أولى أن نوحد وطننا العربي ونصونه، ونحج إلى كعبته شبانًا وشيبًا؛ لنتزود لحياتنا من مهد الإسلام والعربية، وإذا قلنا وطننا فهو وطن جنسنا كله؛ أي: جميع الجزيرة العربية التي جئنا منها: الحجاز ونجد واليمن وحضرموت وعمان والبحرين والعراق والشام وفلسطين ومصر، وجيرتها التي عمرناها قبل الإسلام وبعده، وهي طرابلس وتونس والجزائر ومراكش والسودان والصحراء الكبرى وأواسط أفريقيا والجزر المتصلة بها، هذه بلاد العرب من قبل أن يبعث النبي ثم ملأها العرب من بعده بالنازحين إليهما من بلاد العرب الأم على مدى ثلاثة العشرة من القرون. جنسنا فيها واحد هو جنس العرب، ولغتنا فيها واحدة هي العربية، ومجتمعنا فيها واحد؛ إذ حياتنا الاجتماعية في كل صقع منها مثيلة بها في كل صقع عربي آخر، ودين الغالبية، التي لا تعد الأقلية في جوارها شيئًا كبيرًا، هو الدين العربي، على أن هذه الأقلية عربية قديمة الأرومة، ولن يخرجها من حظيرة الوطنية العامة كونها بقيت على غير الإسلام، ولكن هذه الأوطان قد عبثت بها أطماع أوربة الاستعمارية وفكت من أوصالها.

وفي اعتقادي أن جهودنا في سبيل الحياة والاستقلال يجب أن تكون موجهة إلى توحيد الوطن العربي الذي حددته؛ سواء كنا تابعين في هذا أو متبوعين، ما دام يعصمنا الإسلام من الزلل. ولذلك يجب أن نحيي الخلافة في صورة عصبة متحالفة لأقطار العرب وسائر المسلمين؛ لنحيي المبدأ الذي قامت عليه دولة الإسلام في وجه الدنيا المغيرة منيعة خيرة؛ ليكون من قوينا لضعيفنا صون، ومن عالمنا لجاهلنا نور، ومن غنينا لفقيرنا ثروة وتمكين، ولنا من وسائل ضمانة حسن العمل والتوازن ما عرفنا العلم والتاريخ والنظم القائمة.

هذا ما يجب علينا عمله والدعوة إليه بكل وسيلة إذا كنا راغبين حقًّا في الحياة على صورةٍ صحيحة مسعدة، أو كنا متألمين حقًّا لما أصابنا من الوهن والاتضاع، يجب أن نحيي وطننا العربي وديننا العربي، ونجري على ما أمر به رسول الله سيد العرب وسيد الخلق معًا؛ لنستعيد مجدنا وهناءتنا ومنعتنا، وإلا فماذا ينتظر هذا الشرق الإسلامي من الدنيا إذا كان لا يعمل لها عملها، بل يهمل أسباب المنعة والقوة، ويكتفي من الأمر بالدعاء لله تعالى أن يرد عنه غائلة المغتالين ومطامع المغيرين! لا، لن يجيب الله دعاء قوم يعطيهم الإسلام فيتجاهلونه، أو يكتفون منه بمظاهر العبادة، فما العبادة إلا وجه من وجوه الإسلام، أما روح الإسلام فالإخاء والتعاون والتناصر والعمل الجدي على صيانة بلاد الله ودينها من عوامل الفناء الملحة عليه من كل جانب، بكل وسائل الصيانة والدفاع، ورد منعتها إليها؛ لتستطيع أن تعيش شريفة، وتسعد الدنيا معها، وتمحو منها هذه الشرور العصبية التي تفتك الآن بالناس جميعًا، حتى بالفاتك نفسه.

من أجل هذا شرعت في وضع هذه السلسلة القصصية؛ لأعرِّف معالم تاريخ الإسلام إلى من لا يعرفونه أو لا يجدون الوسيلة ولا الزمن إلى مطالعته، أو لمن عندهم كل هذا ثم يهملونه؛ إذ هو علم، ولا يهملونه؛ إذ هو قصص، وقديمًا عرف الأوربيون فضل القصص في الدعاوة والتبصير والدرس الذي ما كانوا يملكونه لولا أن يُصاغ في القالب الذي تتهافت عليه الأيدي والقلوب، وهو قالب القصة التي لا يجد فيها الناس مشقة عليهم في قراءتها ولا تكليفًا، وإن وجدوا فيها علمًا ونورًا، بل يجدون في عنوانها مغريًا بتناولها، وفي روايتها حاديًا على قراءتها، وفي اللذاذة منها تطلعًا إلى أمثالها، ومن ثم تنتشر حيث لا يخطر على البال: في المدن والصحراوات والبحار وفي الجبال، في البيوت والفنادق والمعسكرات والمستشفيات، في القطر والسفن والطائرات وفي الترام والسيارات وفي الضياع والمزارع والمضارب والمنتجعات والمشاتي والمصايف، بين أيدي الكبار والصغار من رجالٍ ونساء، وبين العلماء والجهلاء، والأغنياء والفقراء، والأبناء والأمهات، والبنين والبنات، وفي أيدي التلاميذ ومعلميهم، والجنود وضباطهم، والعمال والصناع والسادة والخدم وأحلاس البيوت. جميع هؤلاء ومن لا يستطاع حصرهم سيكون لهم من هذه الرواية وما سيتبعها من سلسلة قصص التاريخ الإسلامي — أيسر وسيلة للعلم به واكتناه الحقيقة فيه، وسيرون الإسلام فيما فعل المسلمون، وسيكونون — يومئذ — أدنى إلى الإجابة عند الإهابة، وأرعى للآباء ساعة النداء، وأزكى قلبًا وأعظم بالعقل والروح؛ حبًّا لرسول الله وتقديرًا للخير الأعلى الذي جاءنا من ظلال سدرة المنتهى.

وسيكون دأبي في هذا القصص غير دأب ديماس الفرنسي، فهو لم يهتم إلا بالخيال ولو أفسد التاريخ، ولا دأب وولتر سكوت الإنجليزي، فهو لم يرع للتاريخ كبير حرمة، بل سيكون إمامنا في ذلك لورد ليتون٤ وأيبرس٥ الألماني؛ فقد راعى كل منهما التاريخ أولًا، وغلب حقه على حق الخيال؛ لأنه لم يكن بصدد الأدب وحده، بل كان بصدد مواعظ التاريخ وعبره، ولأحرى بي أن أنهج نهجهما وأنا بصدد العبرة من تاريخ بلادي ومواعظه، حين أنهما كانا يكتبان عن غير بلادهما، على أني لم أجد هذا المسلك عليَّ شديد الوعورة حين كتبت قصصي التمثيلي، وهو أشق من هذا الصنف وأصعب مراسًا؛ ولذلك أراني شاكرًا فضل الله عليَّ في أني لم ألجأ مرة إلى مباحثات الأدب القصصي فألوي التاريخ، أو أقدم الحوادث أو أؤخرها من أجل الأدب، بل التزمت مسار التاريخ فيما بين أيدينا من الكتب المعتمدة العربية والإفرنجية إلا فيما يختص بأشخاص الرواية الذين تخيلتهم.

وإذا قلنا الرواية فمعنى هذا الذوات التي حيكت بينها قصة محبة تقصر أو تطول تبعًا للمقصد، وإذا طالت بنا قصة باب القمر؛ فالمقصد واضح، والغرض أعم وأوسع من أن تتضمنه بضع مئات من الصفحات.

•••

ولا بد لي قبل أن أنتهي من هذه الكلمة أن أدل — وإن لم أكن في حاجة كبيرة إلى الدلالة — على أن معتزى هذه القصة وهو ورقة بن صليح، أو ورقة بن العفيفة، شخص خيالي استولدته من ذاتية الزمان العربي في أوائل القرن السابع الميلادي، هو مثال مكة الفتاة في انتظار الهادي الأعظم، ولسان آرائها وآمالها وعلو نفسها، ثم تحمسها لإصلاح بلادها ولمِّ شعث جنسها، وإصلاح الإنسانية، وإنقاذ الدنيا من أوزار العقول على أثر ما أصابت من الهدي ببعثة الإسلام. غلام استولدته في كنف زعيم الحنفاء قبل الرسول — ورقة بن نوفل ابن عم سيدة المؤمنين رضي الله عنها — خديجة بنت خويلد زوج الرسول ، ورُبي على ما أراد له هذا الحنيفي الذي كان يدعو هو وزيد بن عمرو بن نفيل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش … وغيرهم من حكماء العرب إلى الحنيفية؛ أي: دين إبراهيم ، دين التوحيد الذي اقتضت رحمة الله بعباده أن يبعث به محمدًا — صلوات الله عليه وتسليماته — هدًى ونورًا للعالمين كافة.

وسيرى القارئ لهذا أني بنيت روايتي على معالم التاريخ في بلاد العرب من صنعاء إلى نجران فالطائف، ومكة فيثرب، وبلاد ثمود والقدس والشام ومصر والإسكندرية، في أيام بعثة المصطفى ، مصورًا للقارئ حالتها الاجتماعية والسياسية والدينية، وذاكرًا ما جرى من الأحداث فيها، وما فعلت قريش العاصية حين دعاها النبي إلى ترك عبادة الأوثان؛ ليكون ما قصدنا من إيراد تاريخ الرسول في مكة أبين وأوضح بأسبابه ومقدماته وملابساته، متبعين في ذلك خطى كتب السيرة الصحيحة (ونبهنا إليه في الهوامش) ومستأنسين بما لدينا من مصنفات علماء الفرنجة الذين لا يسعني إلا الإقرار بفضلهم علينا، بما جهدوا وما بحثوا وبما أظهرونا على جلائل شئون وتفاصيل أمورٍ ما كان في مقدورنا معرفتها أو تبينها إلا بجهدٍ كبير ودرسٍ طويل، وبتجرُّد منطقي ليس من الميسور تحقيقه إلا برياضة نفسيةٍ شاقة. هم أساتذتنا بما أخذنا عنهم، فلهم شكرنا الخالص فيما علمونا، وإليهم يرجع الحمد بما مكنتنا مؤلفاتهم من الاستعداد لأداء ما نشعر أنه أصبح مطلوبًا منا، ألا وهو هداية الناشئة العصرية وتبصيرها بحقيقة دينها وأدب سلفها، ومحاضرتها فيما كان وما يجب أن يكون في الدنيا على نحو ما يفعل كتَّاب الفرنجة اليوم، وإذا استشعرنا هذا الواجب، ونرى من حقنا أن نؤديه قبل سوانا، فذلك لأن الناشئة العصرية لم تعد تأمن فيما يُقدم لها من حكمة الدين وتاريخ من حملوا أمانته ورسالته، وشرح مقاصده وقواعده ومبادئه إلا لكاتب من أنفسهم، لا شكًّا في مقصد غيره، ولكن لأن وجهة الكاتب العصري في مهمته الدينية غير وجهة غير العصري؛ هو يلتمس الجانب الاجتماعي، ويعني بالقومية ومقوِّماتها، وهذا ما يعني مصر الفتاة أساسيًّا، وهو مثلها وليد الشك ينتهي إلى يقين، لا وليد التسليم لأول خاطر، وأساليبه أقرب إلى ذهنيتها وما اعتادت، ولأن للأدب العصري مطاليب كثيرة ليس في مقدور من لا يتيسر له الاطلاع على مناحي الفرنجة فيه أن يستكملها كمطاليب الفنون التي اختص بها الفرنجة ومن أخذ عنهم، ولهذه أصول وقواعد يبنى عليها علم النقد الحديث؛ أي: علم معرفة القيم في المؤلفات، وتبيُّن وجوه الكمال والنقص فيها.

ولذلك أبادر فأعترف لعلماء النقد بنقصٍ تعمدت أن يبقى نقصًا؛ ذلك أنني لم أورد في روايتي من المواقف ذات العلاقة بشخصية الرسول إلا ما كان له سند صحيح من كتب السيرة، أما ما كانت ضرورة الرواية تتطلب استكماله بالخيال على سبيل الاحتمال فقد نبوت عنه وتركته؛ لاعتبارات كثيرة لا يجوز أن يتجاهلها حماة الأدب والقصة اعتمادًا على أن الرسول وصفه الله تعالى بأنه بشر مثلنا يوحى إليه، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؛ لأن ذاتية الرسول مقدسة عندنا، وليست مما يجوز أن يتناوله الكاتب حتى في أبسط نواحيها؛ أي: في الحوادث العادية كالأكل والمشي والتحية والالتفات والابتسام والدعاء، في مواقف متخيلة ليست ذات سند، فإن ما نزعم نحن أنه من عادي الأمور لا يكون كذلك في الواقع فيما يختص بذاتية كل خلجة من خلجاتها وحركة من حركاتها مما يبنى عليه أحكام ويؤخذ منه قواعد وبه يستشهد، من أجل ذلك أهملت هذا الجانب من مستلزمات القصة إهمالًا تامًّا، إلا في ثلاثة مواقف لم أكن أستطيع مع اقتضابي إياها إلا أن أشبع السياق فيها، وهذه نبهت القارئ فيها بالإشارة في الهامش إلى أنها تخيُّل لا حقيقة تاريخية، وارتاح علماء الدين إلى ذلك، على أني تلوت الجانب العربي من القصة على أستاذنا صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان شيخ كلية أصول الدين؛ وإذ رأى فرط حرصي على ما أنا بصدده أشار بأن ألزم القارئ التنبُّه إلى هذا في صلب الكلام نفسه وسياقه ففعلت، فله عظيم شكري.

نعم حسب القصة من أنها قصة ما لا بد أن ينبه، وكان يكفي للأمر أن يشار إليه، ولكنا لا نريد أن نطبِّق هذا على أقدس ذاتية خلقها الله.

•••

وإذ يجب أن أتقدم بالشكر إلى من كانت لهم يد في هذا العمل، فشكري أوجهه بعد ذلك إلى صديقي الفاضل محمد أفندي جبر مدير مكتبة وزارة المعارف؛ لفضله علي قديمًا وحديثًا، فقد هداني باطلاعه الواسع إلى ما لم يكن في استطاعتي الاهتداء إليه من موارد العلم فيما له علاقة بعملي القصصي من سنة ١٩١٣ إلى يومنا هذا، وإلى أبي الفضل والسادة الفضلاء الشيخ الوقور الأستاذ حسين بك أباظة؛ إذ أعارني من مكتبته ما لم أكن أستطيع الوصول إليه من كتب التاريخ والفقه، ولتوليه عني البحث والتحقيق في كثيرٍ من المسائل برًّا منه بدينه، وإكرامًا للعلم، وإلى صديقي الفنان الأستاذ حسين أفندي فوزي عضو بعثة وزارة المعارف ومدرس الرسم والتصوير بمدرسة الفنون الجميلة العليا، ثم إلى الأستاذين الناشئين أحمد أفندي زكي وكامل أفندي منصور من طلاب الفنون الجميلة العليا في روما؛ فقد تولوا تصوير مناظر الرواية وأجادوا.

وأرفع شكري كذلك إلى العلماء الفضلاء أصحاب الفضيلة والعزة محمد جاد المولى بك المفتش بوزارة المعارف ومراقب المجمع اللغوي، والأستاذ الكبير الشيخ مصطفى العناني مفتش أول العلوم العربية بالجامعة الأزهرية الشريفة، وفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد الحسيني الظواهري المدرس بكلية أصول الدين، والأستاذ النابغة الشيخ محمد عبد اللطيف دراز من جلة علماء الأزهر الشريف، وإلى المربي الكبير صاحب العزة محمد لبيب الكرداني بك مراقب التعليم الأوَّلي بوزارة المعارف، وإلى الأستاذ الجليل أمين سامي حسونة بك ناظر معهد التربية، وإلى المؤرخ العمدة الدكتور حسن إبراهيم حسن أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب بالجامعة المصرية الموقرة، وزميله العالم الجغرافي النابه الأستاذ الشرقاوي، وإلى الأديب الفاضل الشيخ عبد الرازق سلمان مدرس التاريخ الإسلامي بكلية اللغة العربية، وإلى الأستاذ العالم الأجل الشيخ عبد الرحمن الجزيري كبير مفتشي مساجد الأوقاف؛ لاطلاعهم على الرواية قبل عرضها على القراء، وتفضلهم عليَّ بالكلمات الكريمة التي أقتضبها وأنشر بعضها بترتيب ورودها تحدثًا بفضل الله عليَّ، وإثباتًا لامتناني وشكري الدائم، فإن فيهما غذاء لنفسي يقويها على المضي فيما اعتزمت من خدمة الدين والتاريخ بقدمٍ ثابتة وقلبٍ مطمئن، كما أن فيها تزكية لعملي عند من أردتهم بما اعتزمت من صياغة التاريخ الإسلامي في قالب قصصي.

على أني لا أريد أن أقصر شكري على ذوي الأيادي الظاهرة عليَّ في عملي، فإن هناك فريقًا من علية القوم في مصر وزعماء الرأي والفكر فيها كانت لهم عليَّ — ولا تزال — أيادي خير قوتني فيما أنا بصدده: وزراء وقضاة وكتَّاب وعلماء، وأساتذة في الجامعتين، ومراقبون ومفتشون ومدرسون في وزارة المعارف، وسيدات من زعيمات الحركة القومية في مصر، قرءوا منه وتتبعوه، فكان ارتياحهم إليه، واستحثاثي عليه، وتساؤلهم عنه، معوانًا لي على العمل، وتقويةً للجهد.

وكذلك إلى رصفائي الأدباء الذين لا أزال أحنُّ إلى عهدي معهم — وأدعو الله أن يمكنني من الأوبة إليهم — كتَّاب الجرائد العربية الذين رحبوا بالمشروع، وكتبوا عنه قبل ظهروه؛ حسن ظن منهم بأخيهم، وتشيعًا للفكرة كما تشيع معلمو التاريخ لها واغتبطوا بها.

وإلى صديقي المفضال صاحب العزة الأستاذ مصطفى غزلان بك رئيس قلم التوقيع بالديوان العالي الملكي؛ لتفضله بكتابة عنوان الرواية في شكله الرمزي بخطه البديع النادر المثال.

والآن أضع الرواية بين يدي العالم الإسلامي راجيًّا أن أكون قد وفِّقت إلى طريق الخير الذي قصدته، ولقد كنت أرجو أن يكون في الأحياء أستاذي وصديقي الخالد الذكر الشيخ عبد العزيز شاويش لأقول له: هذا باكورة ما سألتني أن أنهض له، فهل يرضيك؟ أو يكون حيًّا أستاذ المصلحين السيد الإمام المرتضى الشيخ محمد عبده — رضي الله عنه — لأقول له: يا خليفة الأفغاني العظيم، ويا من كان عليه أن ينفخ في الصور؛ ليوقظ العقول، ويهيب بالناشئة أن يعملوا للدين والوطن، هل أردت أن يكون الأمر من هذا القبيل؟

هذا ما أترك الجواب عليه لخليفتك الأعظم وولدك الأبر الأكرم:

صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر

وزعيم النهضة الإسلامية العصرية، وداعية الحركة الإصلاحية العلمية من بعدك، والذي يعد جلوسه على كرسي الرياسة العليا في الجامعة الأزهرية فوزًا مما لك في عليين.

أتركه بين يديه مستفتيًا، فإن كان الرأي أني في سبيل الوفاء لك ولأساتذتي من بعدك فوا سعداه، وإلا فإني منتصح في منهجي بنصحه، ومستهدٍ فيه بهداه، والله الموفق وحده إلى الصواب.

١  كرواية الحاكم بأمر الله، وبنت الإخشيد، وأبطال المنصورة، والبدوية، والدرة اليتيمة.
٢  من الترك، والفرس، والديلم، والهنود، والتتر، والكرج، وسائر الآسيويين.
٣  راجع كتاب الشرق الإسلامي والعصر الحديث للأستاذ حسين مؤنس.
٤  مؤلف خاتمة بومبي.
٥  مؤلف وردة، التي نقلها إلى العربية أستاذنا محمد مسعود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤