الفصل الأول

قافلة مكة

كان أهل نجران١ وجيرتها من بلاد اليمن وباديتها يعلمون أن القافلة عائدة إلى مكة في بكرة اليوم الأول من الربيع — ربيع سنة ٦١٦ الميلادية لتدرك عيد العزّى٢ إلهة قريش٣ الكبرى قبل موعده بعشرة أيام، ولذلك حرص كل راغب في شهود العيد من شباب صعدة وصنعاء وأبناء سراتهما، وكذلك كل من كان في سبيله إلى العراق أو إلى الشام، من يهود اليمن ونصارى بني كندة٤ أن يكون في نجران قبل يوم القافلة؛ ليسير في أمنها وحماها.

وعمل تجار مكة الذين كانوا قد وردوا اليمن في أوائل الشتاء ليستبضعوا لهذا العيد أن ينسلوا إلى نجران قبل موعد الرحيل بأيام؛ ليستريحوا هم وجمالهم من وعثاء الأسفار في مرابع اليمن وأسواقها المترامية قبل أن يندفعوا في سفرةٍ أخرى أمدها عشرون يومًا متواصلة. على أن منهم من كان في نجران من قبل؛ ليستولي على ما تصنعه أيدي أهلها من البُرُد والأدم، ويزاحم على ما يرد إليها من العطور والتحف التي يتهافت عليها الناس في الأعياد، ولذلك امتلأ سفح الجبل من نجران ومغارس نخيله دوين البيوت بمضارب الأغراب والتجار ومناخات الإبل ومرابط الخيل والبغال وأكداس البضائع، ولاحت نجران كأنما هي في يوم الحشر؛ لاجتماع أنواع الخلق فيها، وتزاحم الناس في أسوقها متفرجين أو مستبضعين، وانتعشت الحياة فيها بما كان ينفق الرحل من الأموال، وما يدفعونه فيما يشترونه من الأثمان.

وفي عشية الربيع سمرت القافلة سمر الوادع، واشترك أهل نجران في السامر بمعازفهم وأعوادهم وغلمانهم وقيانهم، فشربوا، وغنوا ورقصوا، وتلهوا، إلى أن انتصف الليل أو كاد، فعاد أهل نجران إلى بيوتهم، وانصرف أهل القافلة إلى مراقدهم؛ ليغنموا شيئًا من الراحة قبل الرحيل في بكرة الصباح.

جاءت ساعة الرحيل، فما همت النجوم بالإدبار حتى هب الرقود على صوت المنادي: أيها العير، آذنت الشمس بالشروق. هبوا إلى الأحمال.

لم تكن الشمس قد آذنت بشيء ولا الفجر، ولكنها أكذوبة اعتادها المنادون؛ ليوقظوا الركب من رقاده، ويصرفوه إلى العمل، ولم يكن الركب على علمٍ بحقيقة الساعة؛ لأنهم كانوا نازلين على سفح الجبل من جانبه الغربي، وما كانت الشمس لو طلعت لتبين لهم قبل أن يعلو النهار وتعلو الشمس هضباته، ولذلك نفروا من مراقدهم؛ ليقوِّضوا الخيام ويلموها، ويجمعوا الرواحل ويحملوها حتى إذا تنفس الفجر كانت القافلة قد تهيأت للرحيل عن نجران.

figure
الشماسة يتراكضون نحو القافلة.

ولكنها ما كادت تنتظم في طريق الحجاز، ويهم المنادي أن يصيح: سيروا على بركة الله، حتى اضطرت إلى الوقوف على صياح متدارك وارد من ناحية الكنيسة، ونداء من منادين يقولون: قفوا. انتظروا لا ترحلوا.

وقف الركب، والتفت الناس نحو الصائحين وهم على أكوار الإبل فإذا هم يتبيَّنون في فترة الصباح ثلاثة أشباح تنحدر عن قمة الجبل حيث قامت الكنيسة، وتتراكض بين النخيل القائم على السفح تراكض الظلمان المستنفرة تبتغي ساحة الركب بأدنى سفحه. حتى إذا دنت لاح أنها أشباح ثلاثة من الشمامسة جاءوا لينهوا إلى الركب بخبر. فأخذ الناس في عجبهم يتساءلون ماذا جرى؟ لماذا يقفهم أهل الكنيسة عن الترحال بعدما توجهوا واعتزموا الرحيل؟ وفي ذلك ما فيه من سوء الطالع وشر النذير، ولكنهم لم يلبثوا في عجبهم طويلًا فقد بلغ المجلِّي٥ من أولئك الشمامسة ساحة العير، واستطاع أن ينهى إليهم وهو يلهث من شدة الركض، أن مولاه ابن الحارث٦ أسقف نجران المعظم يأمرهم بالعودة إلى المضارب حتى يسافر معهم في الغد، وأنه يريد لقاء سلمان المنادي.

تذمر الركب لهذا الأمر على اختلاف من فيه أيما تذمر حتى المنادي حتى الحداة والسائقون، وغالبهم من نصارى نجران أتباع الأسقف نفسه وملتمسي بركته وفضله، ولكنهم لم يملكوا إلا أن يطيعوا كارهين، ويأخذوا بمقاود الجمال لينيخوها غاضبين، واستشعرت البعران سورة الغضب من أصوات قادتها، وشدة أخذهم بزمامها فعجت ذعرًا، ولغبت استشفاعًا، ثم بركت في النهاية طوعًا للصوت والإشارة.

وكان الذين في الركب من تجار مكة ويهود صنعاء أشد حنقًا وغضبًا؛ لأنهم كانوا يحملون في القافلة أكداسًا من بضاعة الأعياد، فكل يوم يقضونه انتظارًا أو تلوّمًا يذهب بالكثير مما أملوا من الكسب في تجارتهم، ولذلك عارضوا في الانتظار، وأمروا رجالهم بالمسير، ولكن الرجال أبوا أن يخذلوا أسقفهم الكريم، وأدرك العير أن لا بد لهم من الأناخة فشرعوا في ذلك وهم محنقون، ونفس أحد اليهود عن صدره وخاطب الشماس: أما كان مولاك الأسقف يعلم أن القافلة تسير اليوم! وأن الناس تاركون فراشهم في السحر! ليدركوا ساحة الركب ويتحملوا! لماذا لم يعلن العير برغبته هذه في أصيل الأمس أو عشيته، ويتركنا في مضاربنا، ولا يكلفنا هذا العناء الكبير!

فلم يحر الشماس المخاطب جوابًا، ولكن أحد الاثنين الآخرين تصدى من عنده بجواب لفّقه في غير وعيه مما عنده من الأخبار التي كان يحرص أهل الكنيسة ألا تذاع إلا في أيام الصلاة العامة على لسان الأسقف وحده، ولذلك عاقبه الأسقف بعد يومه على ما قال؛ إذ خشي أن يتهمه اليهود بسوء. قال الشماس: وردت إلى مولانا رسالة من أسقف بني تغلب يدعوه للقدوم على عجل إلى ديار ربيعة؛ ليتذاكرا هناك فيما وقع بالشام من الأحداث.

فضحك اليهودي لهذا الجواب هازئًا وسأله متهكمًا: خبرني بربك متى جاءت هذه الرسالة إلى مولاك الأسقف! ومتى جاء الرسول! أفي موهن الليل مع روح القدس! أم في السحر على جناح العقاب!

لم تخْفَ لهجة التهكم على الشماس، ولكنه ما كان يستطيع أن يجابه اليهودي بمثلها، فقد كان اليهود حكام اليمن وولاة الشريعة فيها من قبل الأكاسرة، وكان مخاطبه لكثرة أسفاره معروفًا في ديار نجران بما له من عريض الجاه في صنعاء. فصمت كما صمت الأول، وتدارى عن الجمع في جبانة، وسار عائدًا إلى الكنيسة يتبعه صاحباه وسلمان، وقال أحد تجار مكة وهو ينزل عن راحلته غاضبًا: أما والعزى وربها لأرفعن الأمر إلى بني عبد الدار٧ يوم أصل إلى مكة، ولأنتصفن لنفسي ولتجارتي من هذا الأسقف، فإذا لم ينصفني الحكم فلأعوقن الأسقف عن الرحيل إلى ديار ربيعة يومين ولو خلته القافلة.
عند ذلك تراءى الحداة والسائقون للمتحدثين ينتصرون لراعي كنيستهم الأكبر بعدما كانوا أول الغاضبين، ويحاولون تطييب خواطر المتذمرين تفاديًّا من الشر، فانبرى أحدهم يقول: وحق مريم البتول، ومارسرجيوس الشهيد،٨ ما عمد الأسقف إلى ما فعل بملكه، بل لهو أمرٌ جلل أوحي به إليه كما قلت يا أبا دؤاد. فلم يطق اليهودي سماع هذا، وأشار بعصًا كانت في يده إلى الرجل ليفسح له الطريق، وسكت ثم عاد إلى الكلام فقال وقد نالت قدمه الأرض: لا عجب أن يكثر الوحي في هذه الأيام! إذا جاز أن ينبغ في الوثنيين من أهل مكة أمّيٌّ ويدعي الوحي، فلماذا لا يدعي الوحي مثله أسقف نجران!
تضاحك الجمع لدن هذه الملاحظة، وانتهز الجمالة فرصتها السانحة فأخذوا في حل الحمول، وانبرى أحدهم، وهو من جمالة ثقيف،٩ يقول: أما أنا فلا أومن بالوحي، ولكني أومن بالأسباب، ولا بد أن يكون لدى الأسقف سبب جلل حمله على رجائنا أن ننتظره، وإني لأعدكم أيها الرفاق، أن نغذ في السير فنعوِّض أنفسنا من يومنا الضائع يومين. إن الطريق سهل منبسط، والهواء لا يزال قرًّا، ولن يضيرنا أن نبكر في الغدوّ كل يوم ساعة، ونتعوَّق في الرواح كلَّ عشية مثلها. فأجاب المكي متهكمًا: أجل، لكي تقتل البعران إعياءً، وتحرمنا فترى العيد كلها. ثم نزل عن بعيره، ونزل معه الأكثرون.

ضحك الناس لهذا الأمر مرةً أخرى، وانبرى بعض من كانوا يودعون الركب يخففون عنهم بالكلم الطيب. هذا يقول: إنما أراد الله أن نأنس بكم ليلة أخرى، وذاك يستكرم فيقول: إنكم أهل صنعاء ومكة أهل جودٍ وكرم، ونحن هنا نعيش في خيراتكم، فلا بأس عليكم أن تكرمونا بالبقاء هنا ليلةً أخرى.

على هذا هدأت سورة الغضب وسرّى من الناس فنشطوا إلى خيامهم يحلونها عن الرواحل ويضربونها في المضارب كما كانت، وشرع الخدم والعبيد يعدون طعام الصباح.

١  ناحية في شرقي بلاد اليمن الشمالي، ذات نخيل وأشجار ومياه كثيرة، كورتها نجران، وهي على ثلاثة جبال، وتبعد عن صعدة إلى الشمال خمس مراحل، وعن صنعاء عاصمة اليمن عشر مراحل (٥٠٠ كيلو) وبينها وبين مكة عشرون يومًا، وهي ذات تجارة واسعة في حاصلات اليمن ومصنوعاتها من الجلد، وفي العطارة والعطور، وكانت في أيام النبي — عليه السلام — أسقفية مسيحية، ثم دخلت في الإسلام على يد سيدنا خالد بن الوليد، وكان أمراؤها بني عبد المدان أخوال أبي العباس السفاح الخليفة العباسي.
٢  وثن كان لقريش شمالي مكة في طريق العراق عند مكان يسمى نخلة الشامية على مسيرة تسع ساعات من مكة، كان له سدنة وحجاب، وله عيدٌ كبير تجتمع فيه قريش والأعراب، يُقال: كان صنمًا، على أنه فيما يخيل إلينا كان شجرة قديمة العهد على رابية، وقد أزالها سيدنا خالد بن الوليد بأمر الرسول إثر فتح مكة.
٣  أشهر قبائل العرب، وأفصحها وأشرفها، وقريش عاشر جد للنبي ومنه تفرعت بطون، ولعل أعظم البطون شأنًا في تاريخ مكة وبلاد العربية بعدئذٍ بنو عبد المطلب جد الرسول وبنو أمية، وكان لكل بطن شأن ديني أو مدني فكان لبني هاشم (أبي عبد المطلب) السقاية والعمارة، ولبني أمية الراية ولبني نوفل (أهل السيدة خديجة) الرفادة والإحسان، ولبني عبد الدار سدانة الكعبة وحجابتها ولهم دار الندوة، ولبني أسد رياسة الشورى، ولبني تيم (أهل سيدنا أبي بكر الصديق) الأشناق أي الديات والمغارم، ولبني مخزوم (أهل سيدنا خالد بن الوليد) القبة والأعنة أي شئون الحرب، ولبني عدي أهل سيدنا عمر بن الخطاب السفارة، ولبني جمح الأيسار والأزلام والقداح، ولبني سهم الأموال المحجرة أي المخصصة لآلهتهم.
شجرة مختصرة من تفريع قريش.
٤  أهل امرئ القيس.
٥  سوابق الخيل ثمانية: فأولها المجلي ويسمى السابق، والمصلي الثاني، والمقفي الثالث، والتالي الرابع، والعاطف الخامس، والمذمر السادس، والبارع السابع، واللطيم الثامن.
٦  ابن الأثير.
٧  هم أصحاب الندوة وإليهم كانت تنتهي الخصومات للفصل فيها.
٨  يقول بطلر: إنه شفيع نصارى اليمن ومصر.
٩  قبيلة عربية عظيمة الشأن مستقرها الطائف، وهي قرية عظيمة فوق جبل على يومين جنوبي شرقي مكة، يزيد ارتفاعه على ألف وخمسمائة متر، وفيه مياه كثيرة، وبساتين كروم وزروع. ومن مشهوري الثقفيين: القائد والحاكم الشديد الحجاج بن يوسف الذي يعزى إليه استقرار ملك بني أمية بعد الراشدين، والحارث ابن كلده أشهر أطباء العرب، وكانوا يعبدون اللات كما تعبد مكة العزى، وقد استعصت الطائف على جيوش النبي — عليه السلام — واستعملت جيوش المسلمين فيها ما كان معروفًا من آلات حرب الحصار يومئذ وهي الماجنيق والدبابات؛ فالأولى: آلات لرمي الأحجار الكبيرة لتهدم الحصون، والثانية: قلاع متنقلة على عجل يكون فيها الجند بحيث يستطيعون أن يوازوا الأسوار ويقاتلوا وهم فيها. فإذا أجلوا العدو تسلقوا الأسوار ودخلوا، ولم تسلم إلا بعد غزوة تبوك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤