الفصل السابع عشر

فراق الدار

صعد ورقة بقية المرتقى، واستقام في طريقه إلى بيت الحارث وهو يفكر في فتنة بعدما أسلمت وطهرت. لقد أنقذها من عذابٍ داهمٍ، ولكن ماذا يكون من أمرها حتى ولو استطاع مولاه الحارث أن يحمل ابن جدعان على العفو عنها؟ أتعود إلى مكة؟ وماذا تصنع فيها؟ لا يمكن أن تعود حياتها الماضية التي أجبرها عليها ابن جدعان؛ لأنها أسلمت والإسلام عدو البغاء، ولكن ابن جدعان لن يدع الإسلام يحرمه حقَّه عليها؛ إذ هي جاريته وملك يمينه، وإذا أمكن ابتياعها منه فأين تنزل؟ وهل يستطيع أن يحمل والدته على قبولها لديها؟ نعم هذا يستطيعه، ولكن ماذا تفعل فتنة هناك؟ ليس أشق على الإنسان الحي المتنشط من أن يعيش بلا عمل، ولأهون عليه أن يقضي يومه ينقل كومة من الحجر من مكانٍ إلى مكان بغير ما قصد، من أن يبقى بلا حراك. إنها لا تزال على شيء من الملاحة، فهي في الثلاثين من العمر أو أقل قليلًا، وهي ذكية وقوية، وفيها شيء من سعة الحيلة، فهي صالحة للزواج، ولكن أين الكفء الذي ترتضيه بعلًا؟ ويرضاها زوجة؟ إن حالتها لتحير اللب! من ذا يستشيره في أمرها! لو كان ابن نوفل حيًّا لكان قد ابتسم لورقة ابتسامة الحب وأجابه على الفور إلى ابتياعها من ابن جدعان، ولنظر في إصلاح حالها بما لا يدع مجالًا لمطلب، ولكنه قضى وخلفه بلا معين، وحرمه تلك الابتسامة الحلوة التي تدل على معاني الخير الذي تنطوي عليه نفسه المباركة. يا لله! أي خير زال من الدنيا بفقد ابن نوفل، وأي فراغ تركه في حياة ورقة، وأي شقاء سيتشعره لموته، وأي يتم. ثم هلت دموع عينيه، وتساقطت على خديه، وامتلأت نفسه بالكآبة، حين وقف به الجواد عند باب الحارث.

رأته سودة قادمًا من بعيد وهي في البستان، فذهبت عجلة إلى سيدتها الصغيرة تنبئها بذلك، فانتعشت نفسها، وسرت في بدنها هزة السرور، ولكنها لم تشأ أن تنهض للقائه، على الرغم منها؛ لتشعره أنها مغضبة، وتعاتبه على غيابه عنها كل تلك المدة فإنه يعلم أو يجب أن يكون عالمًا بأنه يشق عليها فراقه: نعم، إنها لم تقل له إنها واجدة به، ولن تقول، ولكن ألم تخبّره عيناها بهذا الوجد، أو يسمعه قلبها دقات شغفها به؟ إن كان قد رأى وقد سمع، ثم تركها تعاني البرح في غيبته فقد أساء؛ ومن حقها أن تجزيه غضبًا وإن لم يكن قد رأى ولا سمع، فواخيبة أملها وواضيعة هواها، ولكنه قد رأى كل شيء، واطلع على كل شيء، فما من مرة نظرت إليه وهو يحادثها، أو نظر إليها وهو منصت لحديثها إلا وحملت إليه عيناها آيات من الحب البريء آمن بها، ورأت أناجيل من المحبة تتراءى بها عيناه، فتقرؤها صفحة تلو صفحة، وتقنعها أنه يحبها كما تحبه محبة خالصة، وما من مرة سمعت صوته إلا وسمعت من وراء حديثه حديثًا آخر خفيًّا لا تدركه غير أذينات قلبها حديثًا شبه المزامير يرتلها القلب في حضرتها. فما سرُّ هذه الغيبة إذن إلا أن يكون قد صبأ ونسي هذا كله! أو أن يكون قد ذهب به هوى آخر احتواه في مكة، فإن في بيت ابن نوفل فتيات يحببنه كثيرًا، وقد خطن له ثيابًا وأهدينه إياها، وعلمت من سودة أن في الحي الذي تسكنه أمه أمهات يحببنه كثيرًا، وقد عرضت إحداهن عليها أن تزوجه من ابنتها وتنزل لها عن المهر، ولكن العفيفة قالت: إن زواجه موكول إلى سيده ابن نوفل، ألم يكن هذا الرد مريبًا؟ ألم يوح إليها به أنها تعتقد أن ابن نوفل سيزوجه من إحدى تلك …

هنا دخل ورقة فقطع عليها سلسلة تلك الأوهام، فلما رأته شهقت شقهة صامتة تبينها ورقة، وانتفت كل تلك الأوهام كما تنتفي رقائق البخار في هبة الريح، وغمرت قوامه المعتدل، ووجهه الحسن، الذي يدل كل ما فيه على رجولة وكمال، بفيض حبها وحنوها وشوقها إليه، وابتسمت لمرآه، ولكنه لم يبتسم لمرآها على عادته، ولم يتجه إليها بقلبه، بل اتجه إلى هرميون ليحييها، ورأت لمياء ازوراره عنها، وضنه عليها ساعة اللقاء بكلمة من كلماته السعيدة التي يخصها بها في كل لقاء، ولم يكن ذلك ليمنعه عن أن يؤدي التحية لأمها قبلها، ورأت على وجهه قترة لا أثر فيها لمشرق الشوق أو الرعاية لها، فضاق صدرها، ولم تقو على احتمال الموقف فنهضت غاضبة، ودخلت إلى الغرفة المجاورة. أما الأم فرأت شحوبًا في وجهه وغئورًا في عينه، وكمدًا يملك عليه نفسه، فهالها الأمر، وإذ كان ورقة ينحني ليقبل يدها أخذت تسائله معاتبة، وأرجأت السؤال عما رأته عليه إلى اللحظة التالية؛ إذ العتاب بر وتحية واجبة. قالت: ما هذا يا ورقة؟ ما هذه الغيبة الطويلة؟ إنك لم تعوّدنا أن نفتقدك، لا بد أن يكون قد شغلك عنا أمر ذو بال فعسى أن يكون خيرًا … ولكنا ولا نخفي عنك … ثم قطع عليها الحديث أن رأت نبعًا من الدمع في عينيه فنهضت إليه مذعورة، وتخيلت في صمته أخيلة متضاربة، كان أبينها أن يكون النضر بن الحارث آذاه على عادته، أو يكون باقوم قد قضى نحبه. فعاجلته بالسؤال: ما بك يا ورقة؟ ماذا يبكيك يا بني؟ لم يكن ورقة يستطيع الكلام حتى غاض دمعه، وهدأ قليلًا فقال لها: معذرةً يا سيدتي. لقد اضطررت أن أبقى في مكة لأودع سيدي ابن نوفل فقد قضى أمس في ذمة الله. ثم هلّ الدمع في عينيه وفاض، ولم تدر هرميون كيف تعزي الفتى، وهي نفسها قد أهلعها النبأ الفاجع في صديقهم الكبير، والرجل الذي يعلو عن جميع من رأت من الرجال في مكة علوًّا كبيرًا، وتمثلت ورقة إذ كان ابن نوفل يعزه ويحبه حتى نزل عنه باختياره للحارث رغبة في أن يتعلم منه، وهو ما كان ليفارقه على أكبر عوض، فرثت لورقة، وحزنت لحزنه، ولم تجد لتعزيته على هذه الكارثة إلا أن تقبله على غير عادتها، في جبينه، ولكنها أشفقت عليه إشفاق الأم فقبلته قبلة الأم وقالت له: لا تحزن يا ورقة إنك لتعلم أن الله كان يعدُّ لك في الحارث أبًا كريمًا حين انتوى أن يقبض إليه ابن نوفل، وجعل إلى جواره لك أمًّا تحبك كما تحب ولدها، وجعل لك فوق هذا أختًا.

كانت لمياء قد سمعت حديثها فعادت لترى، وإذ رأت دموع عينيه وعرفت ما حدث سرّي عنها، ووقفت تنتظر دورها في تعزيته، حتى إذا لفتته أمها إليها وهو واقفة في الباب تتأمله راثية لحزنه، وإن كان شعورها بما زال من أوهامها جعل لسانها أسعى إلى الترفيه بنضج ما في قلبها من المسرة قالت: من في الدنيا مثلك يا ورقة؟ إنك لتجد الدنيا تواتيك بكل خير حتى في أحزانك. لك اليوم أبوان وأمان، بل ثلاث أمهات، أم تراني صغيرة.

ابتسم ورقة لحديثها، وتذكر أمره وما استقر عليه رأيه ليلة المبيت في مكة فأغمض عينيه حياءً منها من نفسه، ثم تناول فضل كمها فقبله، وشكرها وشكر هرميون، وحمد الله عليهما، وقال: ليلطف بي الله، وليجعلني فداءكم جميعًا من كل مكروه.

وكان ورقة في كل ذلك الوقت حتى مع امتلاء قلبه بحزنه، واشتغال نفسه بهمه، والاستماع لهرميون ولمياء — يفكر في أستاذه ويود أن يسألهما عنه، ولكنه ما ملك لذلك سانحة فما إن وجدها الآن حتى قال: أين سيدي؟ أهو مشغول؟ فلم تشأ هرميون أن تعاجله بنبأ مرضه، ولذلك اكتفت بأن قالت: كان في عزمه أن يهبط اليوم مكة ليرى ما بك، فقد خفنا أن تكون مريضًا، ولكنه وجد نفسه لا يقوى على النهوض فلزم فراشه، وقد أرسلنا زيادًا للسؤال عنك. قال: شكرًا لكم. قالت: كيف! ألم تلق في الطريق زيادًا؟ أجاب ورقة: إنه جاء هدى من غير طريقه المعتاد، ولكنه كان مشغولَ القلب بما حدثته هرميون من مرض سيده، وأخذه الوجد عليه، فمالت قدمه، وبه شيء من الذهول، حيث اعتاد سيده أن يرقد، وكان مباحًا له أن يدخل عليه حيث كان بلا استئذان، بل كان هذا ما أمره به الحارث، واستشعرت السيدة قصده فنبهته إلى أنها تركته نائمًا، وربما كان من الخير أن يظل كذلك حتى يفيق. فعاد ورقة وجلس على مقعد في الغرفة يفكر في علة سيده، واعتورته الأوهام والأخيلة المقلقة، فقد كان الحارث رقيقًا، وإذا كانت حمَّى فربما لم يقو عليها فيقضي كما قضى ابن نوفل، ولكنه أخفى وساوسه وسألها: أبه دفء يا سيدتي؟ قالت: كلا، ليس ما به! إلا فتور وألم في المفاصل، وقد بات ليلة أمس يقلب ساقيه، لا يكاد يقرهما في مكان من فراشه حتى ينقلهما إلى آخر، ويطلب إليّ تدليك مفاصله، وهو لا ينقطع عن الشكوى كالطفل المدلل، ولكنه بخير إن شاء الله. هل لديك من دواء؟ قال: الأمر هين يا سيدتي، ودواؤه فيما اعتقد التزام الفراش، وقليل من الخمر ندفئه له قبل أن يتعاطاه. هكذا رأيته يفعل حين عاد ابن المغيرة في مكة، وكان مريضًا بمثل ما تصفين فأبل على الفور.

وفيما هما في الحديث كان الحارث قد أفاق، وتنبه لما كانوا فيه، وسمع صوت ورقة فصفق وناداه باسمه. فنهض ورقة جاريًا يقول: لبيك، ودخل الغرفة والسيدتان وراءه. فلما رآه في فراشه جثا على ركبتيه وأخذ يده يقبلها، ويقول: نفسي فداؤك يا سيدي من كل مكروه! وغلبه الوجد فبكى. قال الحارث: إنه بخير، وإن الأمر أهون من أن يشغل باله، ولكن ورقة لم يستطع أن يجمع شتيت قواه؛ لأنه إذ رأى الشيخ مريضًا أسى لحاله وفرق، فانكشف ذلك الغشاء الرقيق الذي كان يغطي مرجل نفسه الآسية لوفاة ابن نوفل، فزايله الوقار حتى أنهضته هرميون ولمياء، وتعجلت هرميون فقالت لزوجها: إنه محزون يا حارث، وقد تجدد وجده إذ رآك في الفراش. قال الحارث وقد قعد: ما فاتني ذلك. فقد عرفت من حديثكم معه ما جرى، ولكن ليس في الأرض خالد، إنما نحن ضيوف في هذه الدنيا حتى تمجنا فتشردنا عنها بما لديها من وسائل التنكر لنا والأذى، وهي تبول الناس؛ فمن كان جامد الحس صادقته وأسعدته بجموده، ومن كان رقيقًا مثلك أنت وورقة نافرته وأشقته برقته، وكنت أحبُّ أن يكون ورقة … قالت هرميون مقاطعة: جامد الحس! قال: أريد لحبي إياه لو كان كذلك. قالت: لو كان كذلك ما أحببته؛ لأنه يكون قاسي القلب، وهو ليس كذلك. قالت لمياء: بل قاسي القلب يا أماه، ألم يغب عنا يومين كاملين. فضحك الحارث وهرميون واشترك بالابتسامة معهما ورقة، وقالت هرميون لزوجها: ولماذا لا ترجو لنفسك السعادة التي تريدها لمن تحب؟ قال: لا يعرفها إلا المحروم. قال ورقة: مولاي، إنك لتعبث بفؤادي كما عبثت بكسرى١ أما وربي لنظرة من عينيك بالعطف على سيدتي هرميون وسيدتي لمياء، ونظرة الحب منهما إليك لأرجح في لمحها على كل تلك السعادة المستمدة من جمود الحس، ولألم تستشعره نفسك في العطف على الناس، أملأ للقلب بالسعادة من استقلالك عن الناس وآلامهم، ولولا هذه اللذة القدسية لذة الألم ما سارعت إلى التضحية والهداية، والذود عن الناس، وتطبيب المرضى، والانتصاف لهم من نفسك ومن غيرك، وإحسانك إليهم، وأما وربي ما هو إلا ألمك لي قد حملك على أن تقول ما قلت لتروّح عني. هذا بعض برّك يا سيدي. جعلت فداءك من كل سوء. قال الحارث: شكرًا لك يا ورقة. أنت ولدنا وعلينا أن نكون لك، والآن فاذهب وهات نبيذك الذي وصفت سخينًا إنه لهو الدواء حقًّا، وإن كنت لا أجد بي الآن شيئًا.

فنهض ورقة يحضر النبيذ سخينًا لمولاه، وبقي الحارث مع السيدتين يذكر ورقة متعجبًا لحاله. قال: يا هرميون، ما كنت أريد أن يأتي ذكر أبيك على لساني في حضرتك؛ لئلا يتيقظ فيك الشوق إليه، ولكني لا أحبس عنك الآن بعض ما علمت منه. قالت: وما ذاك؟ قال: لقد كان يقول: إن الهجين خير من الأبوين. قالت: ما معنى ذلك؟ قال: إنه يرى أن نتاج أبوين مختلفين جنسًا يجمع خير ما في الجنسين. فهذا ورقة أبوه مصري وأمه عربية، فهو ينطوي على أحسن ما في المصري والعربي معًا من صفات؛ أره أذكى وأكرم وأعف وأشجع، ولكأني وربك حين أحادثه أنظر إلى فتى من سادة بيزنطة إلا أنه أعف عينًا وقلبًا. قالت: صدقت يا حارث، ولكنه يقول: إن أباه عربي من الحيرة. قال: إن الصنوف تختلف: فعربي الحيرة غير عربي بني لحيان. لكل منهما صفات أحدثتها فيه البيئة والمناخ والحياة التي يحياها. قالت: كذلك، وأرى أنه أصبح من حقه علينا وقد مات موئله أن نكون له موئلًا، ولا نكتفي من أمره بأن نعوله ويتعلم من علمك. فهل فكرت في ذلك؟ قال: نعم فكرت من يوم أن جئنا إلى هدى. قالت: وما ذاك؟ قال: فكرت في أن أجعل له عندي دينارين كل شهر لا يعطاهما حتى ينقضي العام؛ ليكون المال عدة له، وقد استودعني ابن نوفل عشرين أخرى أعطيه إياها عندما أرى أنه أصبح صالحًا للاتجار في العقاقير، وأراه اليوم أصبح بصيرًا لها كولدي النضر، ولكني لن أخبره بذلك؛ لئلا يرى الغلام أنه أصبح أجيرًا فيتأذى ويلتزم حد الأجير وهذا ما لا أطيقه. بل إني وحقك لأخشى أن يحمله الأمر على تركنا. قالت: صدقت يا حارث. بورك لنا فيك. إنه لفتًى نبيل. قال الحارث: فإذا أذنت لنا أن نرحل إلى اليمن شهرين كان في هذا كل ما ترجينه له من الخير. قالت: يسوءني أن أرفض، ولكني أخشى ألا أجد في اليمن مكانًا كهذا. قال: لن يكون هذا المكان طيبًا بعد شهر فسيدخل الشتاء، وسيكون هذا الجبل العالي أجمع لثلوج الشتاء من جبال لبنان، وما تطيقين فتح هذه النوافذ يومئذ، ويبقى الجبل قاعًا باردًا صفصفًا. قالت: فلنبق إذن حتى نرى هذا، ويتنادى كل منا الرحيل. الرحيل. أما مكة فأقسم لن أسكنها. قالت لمياء: ولا أنا. إني لأوثر أن أتنقل في الجبال والوديان على أن نستقر حيث كنا. قال الحارث: نرحل إلى نجران. إنها كبعض هدى، لولا أن الثلوج لا تغشاها، ففيها شعاب وفيها وهاد، وفيها ظهور وفيها بطون، فلنسكن في الوادي. قالت: كذلك.

وكان ورقة قد عاد لسيده بكأسٍ فيها نبيذٌ قليل. فقال الحارث: شكرًا يا ورقة. إني وحقك أكره الخمر مهما بالغ السفهاء في امتداحها. أأنت تشربها يا ورقة. قال: والله ما ذقتها منذ رأيت سيدي ابن نوفل يحرّمها على نفسه، ولكم سمعت مولاي محمد بن عبد الله يقول إنها «رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه»، ولكن هناك ما هو أشد منها في الرجس والأذى يأمر به الطب والدواء، فلا يكون إذ ذاك رجا بل دواء، على أن يكون ذلك طوعًا لأمر طبيبٍ كريم. قال الحارث ممازحًا: وأنت اليوم طبيبٌ كريم؟ قال: ما أعطيتك هذا الدواء فأكونه، وإنما أعطيتك ما وصفت أنت نفسك. ألم تعطها للوليد بن المغيرة في مثل حالتك؟ فضحك الحارث ازدهاءً بكلام الفتى.

وفيما هو يشرب النبيذ كان زياد واقفًا يتراءى في طرقة الغرفة، ولمحته هرميون من حيث كانت جالسة، فنادته، فدخل وفي يده شيء منبسط قد كُسي بخرقة ورُبط بخيط. قالت: ما هذا؟ قال: رسالة من سيدي النضر. فتناولها، ثم استمر يقول: مررت بالدار قبل أن أعود لأراهم عسى أن تكون لهم حاجة عند مولاي، فاستمهلني مولاي النضر حتى يكتب هذه الرسالة.

فكَّت هرميون خيوطها وعرضتها، فإذا هي مكتوبة على رق من الجلد بالعربية، فقدمتها على الفور إلى الحارث حين قدم الكوب إلى لمياء؛ إذ كانت أقرب إليه من ورقة، ثم أخذ يقرؤها صامتًا، ولاحت على وجهه سحابة لم يستطع أحد فهم سببها، ولكنه لم يتركهم في حيرتهم طويلًا، فقد أعطى الرسالة إلى ورقة وهو يقول: الأمور متداركة يا هرميون، قالت: كيف ذلك؟ قال: إن الوليد بن المغيرة زار ولدي ليخبره بأن ولده خالدًا ورفقته عائدون من ديار الشام قبل أن ينتصف الشهر، وأنه أرسل إليه ليرسل أهله إلى بيته هذا في هدى في انتظار مقدمه؛ لأنه سيقضي بقية الصيف في بيته.

قالت هرميون: لم يبق علينا إلا أن نستعد للرحيل. قالت لمياء: إلى أين نرحل؟ إني لا أعود إلى مكة، وخيرٌ لنا أن نرحل من الآن إلى نجران إن كنا فاعلين. قالت هرميون: مضى اليوم من الشهر ثلاثة أيام، ويجب أن نترك البيت لزوجة خالد قبل مقدمه بما يكفي لإعداده. قال الحارث: أمامنا إذن أربعة أيام أو مثل ذلك. إنا راحلون إلى اليمن يا ورقة فماذا ترى! لقد قررنا ذلك الآن قبل أن تأتينا رسالة النضر. قال: كل مكان أكون معكم فيه طيب، وإني لأشتهي أن أرى اليمن السعيدة فهي ديار الرخاء والعلم، ومرابع الأخيار. أليس أهل يثرب والحيرة والعراق والشام من اليمن؟ حمير وكندة وأزد والأوس والخزرج وغيرها؟ قال الحارث: إذن فاستعد لذلك. إني ذاهب في الغد إلى مكة؛ لتدبير أمر هذه السفرة فدبروا أنتم لها من هنا.

على هذا اتفقوا، ورأوا أني يتركوا الحارث؛ ليستريح، وينصرفوا هم للعشاء، وإعداد ما يليق أن يعطاه الحارث من الطعام لليلته.

١  ورد في تاريخ الحارث أنه خطب كسرى في فضل العرب على غيرهم حتى ألزمه الحجة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤