الفصل السابع والعشرون

الهجرة إلى الحبشة

أجمعت قريش رأيها على أن تقاطع كل مسلم كذلك، وتلحقه ببني عبد المطلب في الأذى. فلما جاع المسلمون وكادوا يعرون — أذن لهم رسول الله في الهجرة بأولادهم ونسائهم إلى الحبشة؛ إذ كان لهم فيها ملك كريم عرفوا من إخوانهم السابقين إليها أنه مال إلى الإسلام، فأكرمهم أيما إكرام، ولكنهم ما كانوا يجدون جمالًا تنقلهم إلى حيث يركبون البحر إلى بلاد هذا الملك الذي وفقه الله إلى الخير، وانتظروا القافلة، ولكنهم أدركوا أنهم لن يستطيعوا أن يستأجروا شيئًا منها؛ لأن قريشًا قد أنذرت أهلها وضربت عليهم الحصار، ولذلك ظلوا يتحينون الفرص حتى حانت من حيث لا يعلمون. ذلك بأن ورقة لما ذهب إلى بيته وجد في انتظاره في البيت رجلين من المؤمنين لم يكن في الإمكان حبس الخير عنهما، ألا وهما عبد الله بن مسعود خادم رسول الله، وبلال بن رباح عتيق أبي بكر الصديق، وكانا كثيري التردد على أخيهما في الإسلام باقوم الرومي. فلما اجتمعا به قبلاه ودعوا له بالخير جزاء حسن صنيعه وجهاده في سبيل نبيِّه! وذكرا له ما يلقى المسلمون من الأذى من قريش، وأن منهم من استأذنوا رسول الله في الهجرة إلى الحبشة كما هاجر إخوانهم من قبل؛ ليحموا ذرية المسلمين من الفناء مرضًا وجوعًا، ولكنهم لا يجدون جمالًا. قال ورقة: هذه جمالي فخذوها لمن يريد، وهناك أربعون جملًا أخرى تعود إلى اليمن في صبيحة هذه الليلة، إن شئتم جعلتها لهم، على أن يرحل الراحلون في الصباح لا ينتظرون ولا يتلوّمون خشية أن تعرف قريش من أمرها ما تجهل حتى الساعة فتعاقب أصحابها على ما فعلوا من أجل بيت الرسول.

فلما سمع الرجلان هذا الكلام كبرا لله شكرًا وحمدًا، ونهضا إلى بيوت من كان في نيتهم الرحيل من المسلمين، وأكدا لورقة أنه إن ذهب إلى العير القافل، فاستقدم البعران في موهن الليل إلى داره، فسيلقيانه ليفرقاها على بيوت الراحلين. على هذا اتفقوا، ونهضوا لهذا الأمر، وذهب ورقة على حمار كان باقوم قد اشتراه ليحمله، حتى بلغ عير اليهود، وأخبرهم بما اتفقوا عليه، فشكروا له سعيه، وكان الجمالة أشد رغبةً من سادتهم في ذلك لما علموا من فرط بر المسلمين، وإحسانهم لقاء ما يحسن الناس إليهم وإن كان ضئيلًا.

جاء بهم ورقة فعلًا، وكان الليل قد انتصف، وأهل مكة كلهم نيامًا إلا من اتفق معهم بلال وعبد الله، فقد شكروا لهما هذا السعي، ونهضوا من فراشهم يعدون أحمال الرحيل، وما أحمالهم إذ ذاك بالأمر الكبير، حتى إذا جاء الجمَّالة بالجمال رحلوها وركبوها، وساروا قبل السحر يلتمسون جدة؛ ليأخذوا طريق الشاطئ على أقرب مرفأ تحملهم مراكبه إلى بلاد الملك الطيِّب.

كان الذين رحلوا في تلك الليلة وما قبلها حوالي مائة من المسلمين،١ منهم جعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن مسعود، إذ ركب بعيرًا من بعران ورقة، وعبيد الله بن جحش ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكان عيرًا كبيرًا لم تسمع قريش بنبئه إلا يوم تعجبت؛ لاختفاء الطلب من بني عبد المطلب على الأسواق، ولكنهم مع ذلك لم يصدِّقوه.

ولقد كان ورقة يريد أن يصحبهم في تلك السفرة، ولكنه كان يرى أن الرسول أصبح في حاجةٍ إليه، بل وجد أن من واجبه أن يبقى؛ ليكون دريئة له من أذى الكفار، ولذلك بقي في مكة شهرًا لا يدري كيف باع فيه كل ما جاء به من العقاقير، ولكن الواقع أن الحارث كان قد علم بمقدمه، فأغرى تجار العطارة والعقاقير بمشتراها منه، وكان قصده من ذلك متشعبًا: بعضه أن يساعده على الربح من بضاعته، وبعضه أن يضمن له شاريًا قبل أن يدخله ولده وسائر قريش فيمن تجب عليهم مقاطعته، وبعضه أن يغريه بالرحلة عن مكة في طلب عقاقير أخرى من اليمن؛ ليصونه من أذى ولده الذي أنذر للّات دمه إذا هو رآه مارًّا بداره، أو سمع أنه اتصل بلمياء أو هرميون أو راسلهما. على أن هناك غرضًا آخر وراء ذلك كله: ذلك أن ولده النضر حمله على الرضا بتزويج لمياء من فتى من فتيان بني عبد الدار، وكان الحارث يعلم في قرارة نفسه أن بين ابنته لمياء وورقة محبة شديدة وغرامًا قويًّا، ولكنهما لطهرهما ما كانا يفصحان عنه أو يتدانيان بسببه، بل كان ورقة على وجده يعمل عمل الكريم الطاهر النفس على إخماد نيران جواه، وتجنب كل مباح، وكان الحارث بصيرًا بالقلوب فرأى من البر بالغلام أن يحمي أذنه أن تسمع خبر زواج لمياء، وقلبه أن يلتهب لانقطاع أمله منها، وإن لم يكن قد استشعر هذا الأمل من قبل.

اجتمع لدى ورقة من المال ما كان كثيرًا، فقد أعطته سيدته خديجة ثمن ما حمل إليها وزادته عليه إكرامًا، وأعطاه المسلمون الراحلون ثمن بعرانه الثلاثة؛ لأنه لم يرض أن يفارق الشملالة ولو على ألف دينار، وتضاعف ما كان قد دفعه ثمنًا في العقاقير، وزاد زيادة كبيرة فأصبح يملك نصف ألف من الدنانير لم يدر ماذا يفعل بها؟ فاستودعها أباه، وانصرف يفكر في الرحلة إلى اليمن في طلب العقاقير، ولكنه وجد نفسه كارهًا لهذه الرحلة؛ لما خطر له من ضرورة البقاء في جوار رسول الله، ولأنه كان يشعر أنه لقربه من حيث تسكن لمياء — كأنه مع لمياء، وكم مرة خطر له أن يمر بدارها؛ ليكون أدنى إليها أو تعسيًا أن يراها، ولكنه ذكر أن الحارث على فرط بره، وعلى ما سمع عنه ممن اشتروا منه بضاعته، لم يزره، بل أغراه بالرحيل في طلب عقاقير أخرى فأدرك أنه لا يستطيع أنه لا يستطيع ذلك خوفًا عليه من ولده، وأنه لا يحسن به أن يزوره، أو يبدو بجوار داره؛ لئلا يراه ولده أو أحد من أتباع ولده فيكون له منه أذى، وذكر نصيحة الأسقف فاستقرَّ رأيه على البعد عن دار الحارث وقلبه يلتهب شوقًا إلى لمياء.

وظل الفتى على حال دبَّره لنفسه؛ ذلك أنه كان إذا قضى سهرته مع أهله وبلال ومن يزوره من المؤمنين وانصرفوا، نهض هو فتقلد سيفه، واحتمل قوسه وكنانته، والتحف عباءته فوق ذلك، وسار حتى يبلغ شعب بني طالب، حيث يسكن رسول الله منذ قاطعتهم قريش فيجلس بالقرب من عتبة الحصن يحرس الباب، أو يطوِّف بالحصن خشية أن يعلوه أحد من أشقياء قريش الذين كانوا قد أعلنوا نيَّة قتل الرسول مهما ترتب على ذلك من الأذى، وكان إذا لاح الفجر، وسمع رسول الله ناهضًا ليتوضأ يعود هو إلى داره يتوضأ، ويصلي الصبح وينام، وإذا كان رسول الله في سهرة عند أحد من صحابته — رضي الله عنهم — وقف بباب الصحابي حتى يخرج فيسير أمامه حتى يطمئن عليه في داخل داره.

جرى على هذا مدة طويلة لا تفتر له همة، ولا يغض له جفن، ولا يعرف هذا أحد إلا زيد بن حارثة، ولكنه مع ذلك لم يخبر رسول الله إجابة لرجاء ورقة خشية أن يصرفه رسول الله عما يجد فيه نعمة لقلبه بالسهر عليه.

وطال سهر ورقة وزيد يراقبه متعجبًا لبره. لقيه ذات يوم في داره فقال: إلى متى يا صاحبي تقضي الليل في العراء؟ إن رسول الله آمن في الحصن لا يمسه أذى. قال اسمع يا زيد إني إن أحببت رسول الله وقمت على حراسته فإنما أحب الله، وأجير الحق والخير الذي أرجوه للناس على لسانه. ما قيمة دنيا لا يكون فيها وما يصلح للناس حياة فيها؟ كلٌ يقوم بواجبه. إنه يدعو إلى الحق، ويحتمل فيه كل أذى، وهو من هو من الناس ومن الله، وأنا أريد أن أقوم بواجبي لله ولدينه ولنبيه وللناس، وتدخل بلال في الأمر هو وباقوم فاستمر ورقة على حاله غير مكلف ولا مسئول.

وحدث ذات ليلة والظلام شديد في العتمة من الليل بينما كان ورقة يطوف بالشعب — أن رأى ثلاثة أشباح تروح وتجيء في الطرقات المؤدية إلى الحصن، فزعمها في أول الأمر أشباح أفراد من بني هاشم يسيرون إلى بيوتهم، ولكنه رآهم يذهبون ثم يعودون، وقد يقفون ليتلفتوا. فخطر له أن يخدعهم كما خدع القرضاب وتظاهر بالنوم على عتبة الدار، فتجمع الثلاثة بعد قليل، وسمعهم ورقة يقولون: نراه عاد إلى داره مبكرًا. هذا ابنه زيد نائم على عتبة الدار. لو عاجلتموه! قال أحدهم: لا تفعلوا، وإلا أنذرتموهم بما نحن بصدده. دعوه، وانتظروا حتى يترك محمد داره في الفجر إلى مسجد ابن أبي قحافة.٢

أدرك ورقة أنهم يأتمرون بالنبي، وعرف من بين المتآمرين صوتًا ما كان يظن أن يكون مع المشركين على هذا، ولكنه قدّر أن يكون معهم اضطرارًا. ذلك هو زياد عبد الحارث أو بالأحرى عبد النضر، وأدرك لوجوده أن المؤامرة دبرها النضر؛ ليقتل رسول الله، وخشي إن هو تركهم أن يكون النبي قد انتوى صلاة الفجر مع أبي بكر في بيته، وكان قريبًا، وفي هذا ما يعرضه للأذى، وخطر له أن يوقظ زيد بن حارثة؛ ليلقي إليه خبر هؤلاء، ولكنه خشي أن يعاجلوه إذا نهض بالقتل فيموت في غرض يمكن تحقيقه بما أهو أهون عليه، وأعود بالخير على بني هاشم. فاستمر متظاهرًا بالنوم فرآهم مروا به، ثم وقفوا عليه هنيهة وانصرفوا، فما كادوا ينعطفون حتى نهض وشد قوسه فرمى أحدهم بين كتفيه فسقط، ورمى زيادًا في كفه فتقطعت، وأراد أن يدرك الثالث ولكنه جرى حتى أخفاه الظلام. فنهض بعض خدم الرسول على الصوت، وفتحوا الباب؛ فوجدوا ورقة عائدًا، وسألوه فأخبرهم الخبر، فشكروه وقبلوه، وذهبوا إلى الرجل الملقى على الأرض فوجدوه من عبيد بيت النضر عينًا، فنقلوه إلى مكانٍ أبين؛ ليراه الناس في غدهم، ويعلموا ما دبر النضر.

figure

وكأن النضر قد علم بما لقي رجاله فأرسل من ينقل القتيل، ويتعرف القاتل، ولكنهم لم يجدوه. وجدوا بيت الرسول محروسًا بغير واحد، فولوا الأدبار مهطعين، وكان الفجر قد أوشك أن يلوح، ورأى ابن حارثة أن يذهب ورقة؛ لينام ويتركهم لينوبوا عنه في حراسته، وأصروا على ذلك فلم يجد بدًّا من إطاعتهم، ولكنه ما كاد يصل إلى الدار حتى رأى على بابها رجلًا مربوط اليد ينتظره وهو يئن أنين مكلوم، فلما دنا منه ورقة عرف أنه زياد بعينه الذي ضربه. قال: ما خطبك يا زياد؟ قال: أرسلني إليك مولاي الحارث؛ لتضمد جرحي بشيء من العقاقير، فإنه لا يجد في داره شيئًا، وقد كتب لك اسم الدواء على هذا الرق، وكان ورقة قد تأمل زيادًا فلم يجد عليه ما يريبه من أمره، فدق الباب ليفتح له، وأخذ الرق منه ودخل به إلى الدار ليقرأها. فإذا فيها: موّه عليه، وانج بنفسك وإلا هلكت. فسكت ورقة وغرق في بحر من الفكر والعجب. كيف عرف النضر أنه هو الذي قتل؟ ولكن الأمر لم يكن عجيبًا في الواقع؛ لأن النضر كان قد شغل نفسه بذلك، وكان له جواسيس وعيون من رجالٍ ونساء، وكان من السهل عليه أن يعلم أن ورقة عاد، وأنه يحرس بيت رسول الله كل ليلة، ولكنه لم يشأ أن يعلن أحدًا بذلك، ولاسيما زيادًا؛ لأنه كان يعلم ما بينهما من مودة فأبقاه جاهلًا أمره حتى تلك الليلة، ولكن ورقة لم يكن في حاجة إلى هذا الكتمان، ولا سيما بعد ما جاءه العلم من الحارث بظهور أمره. فقال له: حتى أنت يا زياد تأتي مع القتلة؛ لتقتل رسول الله. فشده زياد لما سمع، وقال: كيف علمت ذلك؟ قال: وماذا يهمك كيف علمت؟ ألست من موالي أم المؤمنين؟ وإن كنت حرًّا. قال: بلى، وإذا كنت لم تستطع أن تخالف لسيدتك الطيبة العفوة أمرًا، فكيف أملك أن أخالف لسيدي الشرير السافل أمرًا. لقد دفعني إلى ذلك دفعًا، وأنذرني إن أنا ذكرت شيئًا لأبيه أن يقتلني فكتمته، وهذا ما أصابني الليلة؛ إذ كنت في المؤتمرين، ولكن من أين لهم أني أنا أحدهم؟ قال ورقة: هذا ما دلني عليه جرحك البالغ. قال: أولا تكتم أمري؟ قال: لا والله، ولقد كنت أحب أن تكون أنت المقتول. أتخونني يا زياد في نبيي؟ وقد علمت قدر حبي له؟ قال: واسوأتاه!! هذا أقتل لنفسي من كل قتل. ليتني ألقى رسول الله وأنيب إليه بفيض دمعي وسيل قلبي. خذني بحقك إليه. إني أريد أن أطأطئ عنقي لسيفه ليضربني، فوحق الله وذلة الرق الذي أنا فيه لا يريح قلبي من إثم ما فعلت إلا أن أرى سيف رسول الله يهوي على رقبتي. لا أرى لعقابي إن أنا نجوت إلا أن أظل على شركي وكفري؛ ليعذبني الله عذابه الشديد لقاء ما همت نفسي بقتل رسول الله.

هنا تراءى باقوم ونادى: أسلم يا فتى. أسلم وأشهد الله على إيمانك، فإنك قد تبت وأنبت، وإني لأمنحك عن رسول الله عفوًا وإحسانًا. قال زياد وقد تحدر دمعه، واختنق صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنني أجرمت وأسأت، ولا يسع جرمي إلا عفو الله ورسوله. فتناوله باقوم على الأثر، وعلمه الوضوء، وتوضأوا جميعًا وصلوا صلاة الفجر معًا.

ثم أخذه ورقة إلى غرفته وطمأنه بأنه لم يخبر أحدًا أنه كان من المؤتمرين. ثم سأله عن حال هرميون ولمياء فقال: إنه أسوأ حال؛ لأن النضر يُلح في أن يزوجها من فتى من بني عبد الدار، وهي وأمها ترفضان، ولكنه يخشى أن تحمل إليه حملًا وإكراهًا، ولكني أعلم حق العلم أن لمياء عازمة على قتل نفسها ليلة الزفاف، وأمها لا تشك في ذلك فهي لا تفارقها، ولا تنقطع عن الشجار مع زوجها وابن زوجها بسبب ذلك.

والواقع أنه في اللحظة التي كان فيها زياد عند ورقة والنضر والحارث مشغولين بما جرى؛ إذ كان الحارث قد وقف على ما كان ابنه يدبره من السوء — كانت هرميون ولمياء على ظهر ناقتين من أهزل النوق تسيران في طريق جدة.

كانت هرميون تكره زواج ابنتها من عربي، وكانت لمياء تكره كل زواج بعدما خاب أمل قلبها، وكان النضر يوشك أن يضربهما الضربة القاضية، فلم تجد هرميون بدًّا من المجازفة، وأخذت تتحين الفرصة حتى وجدتها في تلك الساعة فانسلت بابنتها على الأقدام، حتى بلغتا بعض خيام كانت قد نزلت عندها هي والحارث يوم جاءت معه من مصر وأكرمهم أهلها أيما إكرام، وأكرمتهم هي من جانبها؛ إذ أعطت أهلها ثيابًا ومالًا.

هناك التقت بالعجوز ربة الدار وزوجها وابنة لهما، وكانتا متنكرتين كل تنكر، فلم يعرفوهما لأول وهلة، ولكن العرب كرام فلم يسائلوهما في شيء، إلى أن وجدت هرميون فرصة للحديث مع الزوجة فأخبرتها خبرها، وطلبت إليها رواحل؛ لتنقلها هي وابنتها إلى جدة، وحلفتها بكل مقدس لديها أن تكتم خبرها حتى لا يعرف أحد مكانها. فطمأنتها المرأة على ذلك، وخلت بزوجها فأجاب وأعد بعرانه، ونقدت هرميون المرأة أجرة البعران نقدًا سخيًّا، ووعدت أن تكرم الزوج عند بلوغها سالمة إلى جدة، وتطوع الزوج إزاء هذه المكارم أن يسير بهما في غير الطريق المعتاد، مارًّا بمفازة سكانها أهله وأولاد له؛ ليبلغ جدة مسرعًا وكذلك كان.

هناك وجدتا سفينة على وشك الرحيل إلى عيذاب كانت آتية من بلاد الحبشة تحمل من خيراتها شيئًا كثيرًا إلى مصر، ولكنها لم تكن لتحمل ركابًا، ولذلك أبى صاحبها أن يأخذا أحدًا معه، ولكن هرميون توسلت إليه وكلمته بالرومية، وخبرته أنه إن لم يأخذها معه فسيردها أعداؤها وهم من ولاة مكة، إلى حيث يعذبونها. فلم يسع الرجل إلا أن يبادر فينقلها، وينشر قلوع السفينة على الفور؛ ليرحل بها من بلاد كرهتها اليوم كُرهًا شديدًا. لم يفت هرميون أن تكرم العربي الذي نقلها أيما إكرام، وتحمله رسالة شكر وسلام إلى زوجته وابنته.

١  كتب السيرة.
٢  هو أبو بكر — رضي الله عنه — وكان له في داره مسجد يصلي فيه يلجأ إليه المسلمون للصلاة في بعض الأوقات ولاسيما في الفجر، وكان كثير من أهل مكة يذهبون إليه في بيته؛ ليؤمنوا على يديه سرًّا، وعرف المشركون هذا فأنَّبوه وأهانوه، وإلى دعاية أبي بكر للدين يرجع الفضل في إيمان سيدنا عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن الزبير وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح … وغيرهم، وهم من أعظم أساطين الإسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤