الفصل الحادي والثلاثون

الأمير الجريح

كان إياس قد نصح لصديقه ورقة أن يلجأ إلى أيلة، ولذلك لم يكن في نيته أن يطيل مقامه في تبوك. على أنها لم تكن يومئذ مما يصلح لإقامة أحد بها. فقد كانت خرابًا أو تكاد تكون كذلك، إلا من بعض مضارب لأعراب من جذام، ومنازل لهم في بقية من حصنٍ ثمودي قديم فيه بئر منحوتة في الصخر يتهافت عليها أهلها في كل حين ليستقوا. هناك نزل حمى هؤلاء الأعراب هو والأشهلي غلام إياس بن معاذ؛ إذ كان قد بلغ بهما الجهد والجوع غايتهما، ورأيا أن يقضيا الليل في جوارهم.

ولكن هؤلاء الأعراب لم يكونوا ممن يؤمن جانبهم ولو حموا. فقد فكر بعضهم حين رأوا الشملالة أن يغلبوهما عليها ويأخذوها استراقًا، فإن عجزوا فقتلًا، ولذلك انتظروا حتى يدخل الليل.

على أن غلام إياس كان قد أردك غايتهم؛ إذ كان ورقة قد أرسله إليهم يشتري شيئًا من اللبن، فقصد إليهم وسمعهم يتحدثون في دارهم فيما انتووا، ولكنه تظاهر بأنه لم يسمع شيئًا، وتقدم يطلب اللبن ونقدهم ثمنه شاكرًا مثنيًا، وعاد يخبر ورقة بما سمع. فلم يكن لهما بعد هذا من رأي إلا أن يرحلا على الفور، ولكنهما خادعا القوم حتى دخل الليل، فأشعلا النار؛ ليوهماهم أنهما هناك، ولكنهما تركاها تشتعل، وانتحيا وامتطيا ضاربين إلى أرض مدين بلاد نبي الله شعيب موسى الكليم، حتى بلغا معانًا وكانت بلدة على قدمها وتهدم قصورها الرومانية — واسعة العمران كثيرة البساتين والمروج كيثرب إلا أنها صغيرة. هناك التقى ورقة بجموع كثيرة من أهل الشام والقدس؛ روم وسوريين وغسانيين، تركوا ديارهم ومتاعهم، وفروا بأنفسهم ونسائهم وأولادهم إلى قرى الصحراء يلتمسون موئلًا من الفرس واليهود معًا؛ ذلك أن الفرس كانوا في ذلك الوقت قد تمكنوا بقيادة السلار شاهين من اقتحام أسوار مدينة القدس فدخلوها، وأعملوا السيوف في حماتها من جنود هرقل، حين كان أهلها من اليهود يقتلون سكانها تنفيسًا لحقدهم القديم، ويعملون المعاول في البِيَع والأديار؛ ليهدموها، ويسلبوها، ويفضحوا أعراض الروم والمسيحيين فيها.

امتلأت بالمهاجرين ساحات معان، وخرائب قصروها ومعابدها، حتى أصبحت وكأنها سوق لا ممر فيها لسائر، ولا مستقر فها لقدم. فاضطر ورقة أن يلتمس لنفسه مناخًا في حاجر جبل قريب، وما زال يتأمل البقاع حتى لاح لعينه مكان طيب ومسطح قريب على سفح الجبل فارتضاه مضربًا لخيمة رقيقة كان يحملها فوق جوالقه لمثل هذه الظروف.

هناك أناخا الشملالة وزميلها بعير الغلام الأشهلي، وعقلاهما وصعدا إلى المسطح يفحصانه، فوجد ورقة أنه منبسط سوت أرضه يد الإنسان؛ إذ كان في الحقيقة عرصة مغارة في الجبل غير غائرة ولا كبيرة، ولكنها كانت على كل حال مشغولة بركام من صخرات ملقات فيها، وإذ لم يكن في قصد ورقة أن يطيل مقامه في معان، فقد صرف عنها نظره، وضرب خيمته على عرصتها، بيد أنه تعجب لدقة صنعها واستقامة زواياها، وما رأى عليها من أسطر بالخط الآرامي. فوقف يتأملها وهو غارق إذ ذاك في تذكر أستاذه ورقة بن نوفل حين كان يريه أنواع الخطوط التي كان العرب يكتبون بها، وإذ كان يعرف منه أن الأنباط سكنوا هذه الجهات، وأنهم كانوا يكتبون بهذا الخط قدر أن تكون هذه المغارة من صنع الأنباط١ ولعلها كانت محرسًا أو مخفرًا أو قبرًا من قبور السادة، نهب اللصوص ما كان فيه مما كان يدفن مع المدفون، وتركوه كذلك. على أنه رأى به أثرًا من دخان المواقد فقدّر أنه استعمل ذات يوم لسكنى طابخ أو مستدفئ.

وفيما هما شارعان في حل حمولهما رأيا رجلين من العرب يدنوان منهما، وهما يقودان بعيرين ركب على ظهر أحدهما شبه سرير مغطى بأردية على شبه قبة مستطيلة؛ لحماية من فيه من أعاصير الصحراء. فلما بلغا مكانهما وقفا وتطلعا، ثم التفت أحدهما يكلم ورقة يسأله أن يسمح لهما بمكانه لينزلا به الأمير.

أخذت ورقة عزة النفس فقال: أليس في هذه الصحراء مكان غير مكاني ينزل به الأمير؟ قال مخاطبه في شيء من الوادعة: بلى، ولكنه جريح ومريض، ونخشى أن يدركه الأجل قبل أن نعثر له على مكان طيب! إن هي إلا مكرمة نلتمسها، فإن شئت أن تظل فيه فذاك ونذهب للبحث عن مكانٍ سواه، وإن كنا لم نجد منذ دخلنا معانًا بقعة كهذه قال ورقة: بل حبًّا وكرامة. ثم نهض هو والغلام يساعدان الرجلين على حمل الأمير في سريره، وأنزلوه في مكان أمين، ثم خطر لورقة أن الغار أصون للأمير في مرضه، وذكره لهما فارتاحا إلى ذلك، وصعدا مع ورقة ليرياه. فلما أمعنا فيه النظر وافقا على أن يخلياه مما فيه من الأحجار، وشرعوا جميعًا في ذلك على الفور محاذرين من أن تكون الأحجار مأوى صلال أو أفاعي تخرج عليهم من ورائها وهم ينقلونها، ولكنهم لحسن الحظ لم يجدوا بها من ذلك شيئًا.

figure

ولقد رأوا مع ذلك أن ينظفوا المكان فانصرفوا لذلك. في تلك الهنيهات فهم ورقة من الرجلين ما أفهمهما الجندي وهو أن الأمير رومي من القدس، وأنه من أقرباء نيقتاس والي مصر، وأن أباه قتل في موقعة بيت المقدس التي دارت فيها الدائرة على الروم في ظاهرها وباطنها، وأنه جرح في المنزل وهو يدافع عن إخوته الصغار — الذين قتلهم اليهود — جرحًا بالغًا هو وجندي كان أبوه قد تركه في الدار لحمايتها، ولكن هذا الجندي الوفي حمله على عاتقه والدم يقطر منه حتى خرج به بعيدًا عن القدس في غير طريق الفارين إلى غزة؛ إذ كان المجوس واليهود يتعقبونهم في تلك الناحية، حتى إذا لم يعد الجندي الوفي يقوى على حمله، والسير به أكثر مما سار؛ لكثرة ما سال منه من الدماء، سقط به على الأرض إعياءً أمام مضرب خيام هذين العربيين، فأوصاهما به خيرًا، ثم لفظ النفس الأخير وقضى، وقال أحد الرجلين متممًا حديث زميله: ولقد بكى الأمير عليه بكاءً شديدًا، وكان لا يزال الآن يبكي، ولكنه لا يستطيع حراكًا؛ لأن به جراحًا بالغة أبى أن يكشف لنا عنها لما رجونا منه ذلك عسانا نعرف له دواءً أو ضمادًا، ولكنه رجا منا أن نحمله إلى أمير أيلة؛ لأنه من أقربائه، وأعطانا خاتمًا كان في يده أجرًا لنا على نقله؛ لأنه لا يملك نقودًا. سرقها اليهود كلها!

ولكنا ولا نكذبك لا نعرف لهذا الخاتم قيمة وإن كان فيما يلوح كريمًا، ولو عرفنا فما نعرف كيف نبيعه، ولقد كنا رأينا أن نعطيه إلى أمير أيلة حينما نصل به إليها، ونأخذ منه أجرنا، بيد أنا أصبحنا نشتهي أن نرد إليه خاتمه ولا نأخذ منه شيئًا؛ لأنا نشعر أن تكسب المرء من وراء كوارث الناس مضيّع للمروءة، ومؤلم للنفس. قال الآخر: أما وربي إني لأرى ذلك، أجل، لا بد أن نرد إليه خاتمه، وحسبنا مما فعلنا وما نحن في صدده أننا نفعله، ونحس بالخير فيما نفعل. على أننا لسنا جمَّالة يا صاحبي، بل نحن من أهل يثرب، جئنا نستبضع فرأينا القتل والهدم والتخريب، فاعتزمنا العودة، وجئنا بالأمير معنا.

ما كاد الرجل يذكر أنه من يثرب حتى تنبهت نفس ورقة إليهما فقال لهما: من أي الأحياء أنتما؟ قالا: من موالي أبي أيوب النجاري٢ نسكن في شرقي يثرب عند البقيع. أأنتما من يثرب؟ قال ورقة: إن رفيقي يثربي، أما أنا فمن مكة، وإن كنت أعرف أبا أيوب فقد كنت من ضيوف ابن عمه أسعد بن زرارة. فلما سمع الرجلان ذلك أكبراه، وزادهما منظر الشملالة إكبارًا، ولكن وداعته وفرط كرمه وتبسطه معهما ومع غلامه ألزمتهما ما أراد من أن يكونا معه كما هو معهما عديلًا ومثيلًا، وكانوا قد انتهوا من تنظيف الغار فنزلوا جميعًا؛ ليحملوا الأمير إليه فلما بلغاه كلمه أحد الرجلين قائلًا: لقد وجدنا لك أيها الأمير غرفة طيبة ترتاح فيها. نظفناها لك وأعددناها وسنحملك الآن إليها. كيف حالك الآن؟ لم يكن الأمير يجهل العربية، ولكنه كان ضعيفًا فلم يزد على قوله: شكرًا لكم. ثم حمله الرجلان وغلام إياس يساعدهما، حتى أدخلوه المغارة.

لم يكن في قصد الأمير أن يبقى في معان، ولكنه كان من الضعف بحيث لم ير اليثربيان بدًّا من أن يبقيا به في معان حتى يسترد شيئًا من العافية؛ ليقوى على احتمال مشقة النقلة إلى أيلة التي رجا منهما الجندي الرومي أن ينقلاه إلى أميرها فلم يكن له بد من الموافقة، ولذلك لم يعترض بشيء حين جاءا به إلى معان، وأخذا يبحثان له عن مكان ينزلان به فيه. فلما استقر في المغارة رفعا الغطاء عنه فلاح الأمير من تحته في ثياب جندي عظيم، ولكنها كانت فضفاضة بدا فيها الأمير كأنه صبي يرتدي ثوب أبيه، وبدت كفاه من كميه صغيرتين كأنهما كفا عذراء لا كفا رجل عرك السيف، ولاح وجهه تحت عصابته ولثامه كأنما هو وجه وليد في لفائفه، وما كاد ورقة يتشكك حتى بادره أحد الرجلين يقول: انظر ماذا فعلت به الجراح ومشقة السفر والهم! ولكنا نرجو الله أن يرد عليه عافيته فتلتئم جراحه، ويقوى على النقلة إلى أيلة! فتقدم ورقة نحو مرقد الأمير يتفحصه وهو مؤمن على دعاء الجمالة، وكان في صوت ورقة نغمة عطف كصدى الموسيقى تنبه لها الأمير وفتح عينيه ليرى صاحبها، فإذا هو يرى وجه ورقة السمح يطالعه بعينين تفرغان عليه شآبيب من الرحمة، ثم يحييه بكلمات تشجيع كريم أدركها الأمير كلها وإن لم يكن يحسن فهم العربية؛ ذلك بأنها كانت من ثقة القلوب الصافية التي لا تحتاج إلى لسان. فأدرك الأمير أنه في حضرة إنسان كريم، وإن لم يكن قد عرف من هو ولا من يكون، وكأنه أراد أن يدله على حسن حكمه عليه، وارتياحه إليه، فشرع جفنيه مرة أخرى وأرسل إليه في شعاعهما الضعيف رسالة شكر وارتياح وتودد وثقة، ثم أغمضهما وقد لاح على وجنتيه أثر ذلك فيما كساهما من إشراق الرضا، وإذ كان ورقة يعتقد أن للجوع أثرًا شديدًا فيما يلقى الأمير من الإعياء فقد شرع يعنى به فتركه حيث هو وخرج بالرجال إلى خيمته ليدبر الأمر، وهناك أمر غلامه أن يذهب إلى سوق المدينة ويشتري لبنًا وخبزًا ليعد لهم طعامًا. فانصرف الغلام في ذلك، وجلس ورقة بصاحبيه في خيمته على باب الغار يتحدث معهما. فذكر لهما ما جرى من الأحداث في غيبتهما عن يثرب، وما لحق بالخزرج من الشدة يوم بعاث، وما فعل اليهود والأوس أثر انتصارهم، بديار الخزرج إذ خربوها وأحرقوا نخيلها، حتى منعهم عنها بنو الأشهل سادة الغلام الذي معه، وكيف أن اليهود لم يرعووا بل أمعنوا في السلب والنهب والمطالبة برءوس من قتلوا لهم في الملحمة عزيزًا أو قائدًا كبيرًا، وأنه إذ قتل لهم في الدفاع عن أسعد بن زرارة عملاقهم ثم فارسهم المعلم طلبوه في كل مكان، وأنذروا ابن زرارة بالويل ما لم يسلمهم إياه، ولكنه كان في ذلك الوقت في حمى بني معاذ زعماء الأوس، وإذ لم يقبل اليهود إجارة سادة الأوس، لم ير هؤلاء بدًّا من ترحيله، فرحل، وأنه اليوم في معان هاربًا لا يدري أين ينزل؟

كان ورقة يذكر ذلك والخزرجيان صامتان يتميزان من الغيظ وجدًا على اليهود، وأخذ كل منهما يذكر لبني قريظة والنضير سيئة إثر سيئة، ويعجبان للخزرج والأوس وهما إخوة كيف لا يصطلحان ويعملان على إخراج اليهود من أرض لا يريدون أن يندمجوا في أهلها أو يدمجوهم فيهم؛ ليعيشوا في الدنيا إخوانًا مطمئنين! قال ورقة: هذا ما لا يكون. إن اليهود لا يريدون أن تضيق أرض المعاد بهم، فهم يرجون أن يقيموا مملكة أورشليم التي هدمها عليهم بختنصر. قال أحد الرجلين: ها هي ذي أرض المعاد قد أخلاها لهم الفرس من الروم فليعودوا إليها ويريحونا منهم. إنهم لم يتركوا في القدس دارًا لرومي، ولا بيعة ولا ديرًا إلا خربوها فقتلوا من فيها؛ ليخلوا الديار لهم، ولإخوانهم المشتتين في الصحراء.

قال ورقة: لا. إن يُغلب الروم اليوم فسيغلبون غدًا. قالا: كيف تعرف ذلك والفرس، فيما روى الركبان، على أبواب مدينة هرقل؟ قال ورقة: لقد بلغت هزيمتهم مسمع المشركين في مكة فطربوا وفرحوا لانتصار الفرس عبدة النيران على عبدة الله؛ لأن المشركين حمقى كالفرس، وشمتوا بالمسلمين الذين هداهم نبي الله محمد بن عبد الله إلى عبادة الواحد الأحد القهار. فأوحى الله إليه قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِين فلينتظر الفرس قليلًا، ولينتظر اليهود. بل ستكون هذه البلاد من بعد ذلك للعرب يوم يسلمون. إنها بلادهم وسيملكهم الله بلادهم يحكمونها، ويقيمون فيها العدل، وينزلون الرحمة ويحكِّمون فيها العقل، ويمحون الفروق، وسيكون للموالي ما لسادتهم من الحقوق، وللمرأة في الدنيا ما يصونها من عبث الرجال. فالمرأة أم الدنيا يصونها الإسلام ويحميها.

قال أحد الرجلين: لقد سمعنا عن محمد شيئًا كثيرًا من اليهود، يقولون: إنه سيأتي إليهم بقريش كلها مسلمة موحدة مثلهم لينصرهم ويعطيهم يثرب ملكًا، والأوس والخزرج موالي. قال ورقة: كذبوا. بل آمن بعض الأوس وبعض الخزرج، وقد أخذوا يفكرون في دعوته إليهم؛ ليجعلوه سيدًا فيهم، يرأب صدعهم، ويجمعهم تحت لوائه: لواء التوحيد، والمحبة، والإخاء، وهنيئًا لمن يسارع إلى الإيمان به، والانضواء تحت علمه، ويكون فيمن يلقاه داخلًا إلى يثرب؛ لينشر منها دين الله، ويهدي الخلق إلى الصواب.

قال أحد الرجلين: اللهم إني مؤمن بدعوة ابن عبد الله، راغب في دينه، وحقك يا ورقة لن أعبد مناة٣ بعد هذا إني وحقك لأستحي من نفسي كلما أخرجتها من رحلي، وأخذت أدعو لها وأصلي. وقال الثاني: وأنا والله يا مسعد، لا أدري لماذا نعبد مناة إذ كنا لا ندعو إلا الله ولا نقسم إلا بالله! ألا ترى هذا عجبًا! لا والله، ما عدت أعبدها! ثم هبَّ الرجل من مجلسه، وذهب إلى رحله وأخرج منه قطعة من الخشب على شكل عرائس الأطفال،٤ وأخرج مثلها من رحل صاحبه مسعد، وأتى بهما إلى ورقة يقول: هذا يا سيدي ما يحملوننا على عبادته. أرأيت أشد جهلًا من هذا؟ أنا راميها عن يميني. ألا ترى ذلك يا مسعد؟ قال: بلى. قال ورقة: أعطوي إياهما فأخذهما، وكان الغلام قد أتى براوية كبيرة من اللبن، فناداه ورقة، وقال: خذ هذين الإلهين القبيحين واجعلهما في النار، سخن بهما اللبن. هذا كل فائدتهما! أحرقهما كما سيحترق من يعبدونهما بالنار في الآخرة، ولنار الآخرة أشد وأنكى.

تردد الغلام في أخذ الخشبتين منه، وقال له ورقة: ويحك يا غلام إياس! ألم يأتك نبأ إسلام مولاك؟ وأنه خلع اللات والعزى ومناة؟ قال: بلى. قال ورقة: ثم ألم تؤمن بمحمد بن عبد الله الذي صدق به اليهود قبل أن يدعوهم؛ لأنه مذكور في توراتهم، ومذكور في الإنجيل؟ قال: بلى. قال: فما هذا إذن؟ قال: لا أدري وحقك. أشعر برهبة. قال: لا بأس عليك. أشعل النار. ستزول رهبتك عما قريب، وضحك! ولكن مسعدًا وصاحبه لم يضحكا؛ إذ كان بهما في الحقيقة شيء مما امتلك الفتى، ولكنهما لم يبدياه. ذلك بأنهما عاشا حياتهما يريان في هذه الخشبة من القوة والاقتدار على الأذى والشر ما لم يكن من السهل أن يقتلع بكلمة، ويمحى أثره فور تسليم بصواب، ولذلك أخذا يتساءلان عمن أسلم من يثرب فأخذ ورقة يذكرهم واحدًا بعد واحد، حتى إذا ذكر اسم سويد بن الصامت، وكان معروفًا في يثرب كلها بأنه الحكيم الرشيد الكامل — أقسما بالله لن يضع مناة في النار أحد غيرهما، وكانت النار قد أوقدت، فنهض كل منهما بإلهه الذي كان منذ ساعة عزيزًا ومكرمًا فرماه محقرًا في الرقيد، وأخذا ينظران إليهما وهما يشتعلان، ويسخنان اللبن في وعائه فوق الأثافي، وورقة يراقبهما ويضحك لما يبديان من آثار التشفي، وما يلوح على غلام إياس من الذعر. حتى رآه بعض أحوال تعجبه يدفع النار بمحراك في يده؛ ليقلب الإلهين في النار، فضحك ضحكة عالية لفتت إليه ثالوثهم، فنهض الرجلان عائدين إليه يقولان بعدًا لمناة وعبادة مناة! خبرنا كيف نفعل لنكون مسلمين؟ قال: اشهدا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فشهدا. فقال: وأن محمدًا عبده ورسوله، فنطقا بأن محمدًا عبده ورسوله. عند ذلك نهض ورقة ونهضا معه فقبَّلهما واحدًا بعد آخر وقبلاه كذلك، ثم أمرهما أن ينصرفا ليملأا سقائيهما من ماء بئر عينها لهما كان قد رأى الناس عندها، وأعطاهما سقاءه ليملأاه له، وقال لهما: لا بد لكما من الوضوء والصلاة لله شكرًا على الإيمان فارتاحا إلى ذلك، وذهبا ليحضرا الماء.

في تلك الأثناء كان الغلام الأشهلي قد جاء بماعون اللبن فوضعه بين يدي ورقة، ثم عاد ليأتي بجفنة من جوالقه، وكان ورقة قد شاهد في رحل الأمير طاسًا من الخزف الجميل فنهض يستأذنه أن يأخذها؛ ليأتي له فيها بطعام، ولكنه وجده نائمًا فجاء بالطاس بغير استئذان، وجاء بسقائه كذلك، وغسل الطاس، وصب فيها شيئًا من اللبن، وأخرج كسرة مما زوَّده به صديقه الأشهلي، ودخل على الأمير فوجده مغمض العين على حاله، ولكنه كان يتمتم بصلاة بالرومية، وينادي مريم أن تصونه في غربته من الأذى حتى تواريه التراب، ويشكرها على أن هيأت لها في سفرتها الطويلة كل هذه العناية وهذا الصون من قوم أغراب ليسوا من جنسها ولا دينها. ثم شرع جفنه فإذا هو يجد ورقة أمامه واللبن في يده فسرَّه أن يراه، وامتلأ قلبه بالشكر لمريم على أن أجابت دعاءه. ثم استمر فيما كان فيه فشكر ورقة بالرومية، ودعا له، فرد ورقة شكره ودعاءه بالرومية كذلك، وطلب إليه أن يسمح له بإطعامه هذا اللبن.

وكأنما تنبه الأمير إلى أن ورقة يكمله بالرومية فسأله بها: أكنت تكلمني بالرومية يا فتى؟ قال: نعم. أعرفها من صغري. إن لي في الروم أهلًا وأحبابًا، وكان يتذكر لمياء وقتئذ وأمها، فعلا الوجد وجهه وشفتيه، ولكن الأمير لم يدرك من ذلك شيئًا ولم يهمَّه، ولكنه رأى وسامة ورقة وما فيها من صباحة الخير وطيب القلب فعاد يشكر مريم على أنها أرسلت إليه من يأنس به، وينزل شيئًا من الطمأنينة في قلبه، وإن لم يجد في مسلك اليثربيين إلا ما يستوجب الحمد لله طول الدهر على ما أنعم عليه بتوفيقه الجندي إلى مضربهما. قال ورقة: أتستطيع أن تنهض أيها الأمير؟ فابتسم الأمير وقال: أستطيع بألم شديد. قال ورقة: فاسمح لي أن أنهضك، ثم مد يده اليسرى وأنهضه، فكان كمن ينهض طفلًا؛ لأنه وجده صغير الجسم هزيلًا، ثم قدم له طاس اللبن فتناولهما بين يديه، ووضع ورقة كسرة الخبز في حجره، وأخذ الأمير يشرب ويأكل قطعة الخبز وهو ملفف في ردائه، وورقة يتعجب من دقة يديه وصغر أصابعه، حتى إذا فرغت الطاس وأخذها ورقة عرض أن يأتيه بقدر آخر من اللبن، فأبى الأمير وقال: إن هذا اللبن أول ما أكل منذ غادر بيته في القدس، ولكنه لم يشته الطعام حتى نزل بهذا المكان، وكان هذا الآن لا قبله. فقال ورقة: علامة طيبة بإذن الله. قال الأمير: لقد رد الله إليّ شيئًا من العافية لمرآك، وإني لأرى العافية تسري في بدني كله؛ إذ وجدت أنك تعرف الرومية، وأن لك من أهلها أهلًا وأحبابًا. ثم طلب إليه أن يرقده فأرقده، وكان الرجلان قد عادا بالماء فاستأذن وخرج للقائهما، وسار بهما؛ ليعلِّمهما الوضوء، وتوضأ الأشهلي معهما، ثم أمهم ورقة، واتجه إلى بيت المقدس؛ إذ كانت قبلة المسلمين يومئذ، وطلب إليهم أن يقلدوه في لفظه وعمله؛ فنوى، واتجه وركع وسجد، وصلى ركعتي الشكر، وصنعوا مثله ونهضوا جميعًا يحمدون الله على الهدى، والرجلان يشكران لورقة صنيعه، ويحمدان الله على اجتماعهما به. قال: هكذا تفعلون في كل ضحى وكل عصر وأنتم متوضئون، لا أسألكما على ذلك أجرًا إلا أن تهدوا إخوانكم من موالي المدينة — خزرج وأوس — إلى ما اهتديتم إليه، وكان الرجلان قد اشتريا من سوق معان قطعة كبيرة من اللحم، فطرحاها في النار فوق قطع من حجر؛ لتنضج وفاحت رائحتها فجرى إليها أحدهما وقلبها، وجاء بها يقول: لقد سئمنا أكل اللبن في يومينا الماضيين، فجئنا بهذا. دعوا اللبن للأمير، ولنأكل نحن هذا. قال ورقة: لا بأس، وانصرفوا يأكلون جميعًا باسم الله وهم يتحدثون بنعم الله عليهم، ويعدون ورقة أن ينشروا دين ابن عبد الله بين الموالي جميعًا.

ولقد رأى الرجلان إذ طعما أن يذهبا لإطعام المطايا فيما حول معان من المروج، واقترح غلامه الأشهلي أن يفعل فعلهما، فأذن لهم في ذلك على ألا يعتدو على ملك أحد، فإن اعترضهم معترض فليدفعوا له حقه، وأمر الغلام أن يبادر بذلك عنه وعن رفيقيه، ويدفع لصاحب الغيضة مما بقي معه من الدراهم. فأجاب الغلام بالطاعة، وذهبوا جميعًا في طلب الكلأ والماء للجمال.

١  يقول نيكولسون: الأنباط قوم من العرب، ولكنهم كانوا يكتبون بالآرامية، وذكر أنهم كانوا يسكنون المدن، وأنهم أنشأوا لهم مملكة عاصمتها مدينة بطرة، وبلغت شأوًا بعيدًا في المدنية والثقافة حتى غزاها تراجان إمبراطور روما في سنة ١٠٥ بعد الميلاد وألحقها بملكه، ويقول البتانوني: إنهم كانوا يعبدون ذا الشرى ومناة وقيس وهبل واللات وغيرها، ومنهم أخذ العرب وثنيتهم، وقال البتانوني عند الكلام على عاصمة ملكهم بطرة: إنها تبعد عن معان بخمسة وثلاثين كيلو مترًا، وتبعد عن العقبة بمائة وثلاثين، وكانت هذه المدينة عاصمة حكومة الأنباط وهي حكومة عربية كبيرة. نشأت في القرن الرابع قبل المسيح، وكانت لها مدنية عالية وجيوش قوية ساعدت الإسكندر الأكبر على فتح بلاد فارس ومصر، وأن أنتيغونوس خليفة الإسكندر حاربها فهزمته شر هزيمة، وحاصرها ديمتريوس وانقلب عنها خائبًا، وذكر أنها كانت في القرن الثاني قبل المسيح قوية جدًّا، ومن أكبر ملوكهم الحارث الذي ملك سنة ١٦٩ وامتد ملكه إلى دمشق شمالًا ووادي القرى جنوبًا (بقرب المدينة) وشرقًا إلى العراق وغربًا إلى سيناء، وكانت في أول القرن الثاني للمسيح مركز التجارة بين الشمال والجنوب والغرب، والعرب تسمى بطرة الرقيم، ولعل هذا لما وجدوا على آثارها من النقوش الكثيرة، ويرى بعضهم أن في بطرة الكهف الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، ويقال كذلك: إن فيها قبر هارون أخي موسى، وقد ابتنى الصليبيون بجواره قلعة.
على أن ما في هذه المدينة من الآثار مختلف الأشكال والدلالة؛ فمنها النبطي، والفلسطيني، والعربي، والروماني، والبطليموسي؛ وفي بطرة هيكل يسمى الآن خزنة فرعون منحوت في الصخر يرى بعضهم أنه روماني أقامه الرومان بعد تملكهم المدينة لمعبودهم إيزيس، وفي هذه المدينة وادٍ على جانبيه قبور منحوتة في الصخر، وفيها مدرج للتمثيل منقور في الجبل. مرزحة ومقاعدة، وفيه ٣٣ صفًّا يسع ثلاثة آلاف متفرج.
٢  أبو أيوب خالد النجاري هو الصحابي العظيم الذي نزل رسول الله في داره يوم ورد المدينة مهاجرًا، وهو من الخزرج، وقد شهد فتوح الشام فما وراءها حتى صفات مغازيًا في سنة ٥١ﻫ بالقرب من القسطنطينية، وله قبر هناك ومسجد عظيم.
٣  كانت مناة معبودة المدينة، كما كانت العزى معبودة مكة، واللات معبودة الطائف، وكما رأينا يعوق ويغوث معبودتي بعض نواحي اليمن.
٤  كان من عادتهم أن يحملوا تماثيل في رحالهم لآلهتهم كما يحمل بعض فرق النصارى صليبًا في أعناقهم أو في السلاسل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤