الفصل الثاني والثلاثون

حديث الغار

جلس ورقة على أثر انصراف الجمالة متكئًا على جوالقه في الخيمة يتأمل الدنيا، ويذكر ما مر بالبقاع التي هو فيها من أحداث الزمان، ويعجب لصنع الإنسان وتكالب الأمم. نظر إلى ما خلفته الحوادث من الآثار في معابد معان فذكر النبطيين الذين جعلوا من صحرائها جنة، ومن مضارب خيامها قصورًا، وامتلكوا ما بين العراق وخليج القلزم (السويس) ودمشق، ويثرب كيف دالوا واختفوا حتى لم يعد يذكرهم أحد أو يعرف عنهم شيئًا، حين أنهم كانوا سادة الأرض أبد قرون، وإليهم يرجع الفضل فيما نال الإسكندر الذي يسمى بالكبير من المجد الواسع والملك العظيم؛ إذ حالفهم واستعداهم ففتحوا له بجنودهم العراق وفارس والهند ومصر، وأقاموا بسيوفهم ملك ذلك الغلام المقدوني الذي لم يكن بلغ السابعة عشرة من العمر حين كان على رأس هذه الجيوش العربية وهي تغزو تلك الأقطار، ثم كان جزاؤهم بعد ذلك أن حاول خلفاؤه كسر شوكتهم، وتبديد دولتهم، فلما عجزوا عن تحقيق ذلك بالسيف حاولوا بالخديعة؛ فإذا دولتهم الزاهرة في الصحراء تعود في القرن الثاني من المسيح كما وجدوها، خرابًا يبابًا، فيما قبل المسيح ببضعة قرون.

ضحك ورقة في نفسه ضحكة عجيبة صامتة، قال في نفسه: أيمكن أن يكون لهذه الأمة العربية التي تقيم لغيرها ممالك وعزًّا — عزًّا خاصًّا بها؟ ومجدًا مؤثلًا لا يأتي عيه غير الدهر؟ صمت وإذا هو يعود به الفكر إلى مكة وإلى رسول الله يتأمل وجهه كأنما ينتظر أن يسمع منه جوابًا، وإذا هو يرى وجه الرسول تفتر شفتاه عن ابتسامته الحلوة الخلابة، وإذا هو يتخيل كأنه يقول له: نعم يا ورقة، لم يرسلني الله في هذه الأمة إلا لهدايتها إلى الرشد، وتوحيد كلمتها، ولجمعها على الحق، وإعدادها للمجد، وإبعادها عن الخنا والرذيلة، فهي على وثنيتها وفساد معتقدها الآن أشرف أمة وأنبل شعب. ستؤمن بما أنزل عليّ، وسيكون لها فوق ذلك منعة في الأرض حتى تأتي في الشرق إلى جبال البامير عند الصين فتعلوها، وفي الغرب إلى بحر الظلمات فتنيره، وتنتشر إلى الشمال وتنحدر إلى الجنوب، ولن يكونوا ظلمة ولا قساة. سيكونون رحمة للناس وأخوة للناس، وسيرى الناس أن الله أراد بهم الخير، وسيبقى هذا الملك لهم، ولكل من لف لفهم، واتبع دينهم ما بقوا على أمر الله، وعملوا بما هداهم في قرءانه، وأعدوا لكل عدو عدة التنكيل والتدمير، وما عرف كل مسلم أن الأمر فرضٌ عليه لا يتعلق بسواه، ولا يقلل منه قعود غيره عنه. فإن غضوا الطرف عنه، أو فرطوا في شيء منه — انحل ملكهم وذهبت دولتهم.

وفيما هو في هذا البحران قال ورقة في نفسه: واحسرتاه لنفسي كيف حرمتني المقادير أن أكون مع رسول الله وله فيما هو فيه! ثم حرمتني أن أبقى في يثرب؛ لأكون مع خئولته وأبناء أعمامهم أعمل على تعجيل يوم هداهم إلى الله! ثم حرمتني أن أكون في جوار أحبائي الذين أشم ريح السعادة في أردانهم! أعيش متنقلًا في الصحراء من جوز إلى جوز، ولا أدري أين مستقري، ولا كيف يكون حالي! أمقدر علي أن أعيش في الدنيا مبعدًا عن كل أمل! حرمت آباء لي ما كان لأحد في الناس مثلهم برًّا ومحبة ونعمة؛ أبي وباقوم وابن نوفل والحارث وسيدي وملاذي محمد رسول الله، وحرمت نعمة الأمومة المباركة من خديجة أم المؤمنين، وأمي تماضر وهرميون! وحرمت الأخوة زيد بن حارثة وبلالًا وإياسًا، ومنهم كنت أستمد القوة والأمل، وحرمت الأخت لا أخت سواها: لمياء، التي تحبني وأحبها، وكان جوارها النعمة والمسرة، والقلب السعيد، ولكن واحسرتاه، لقد افترقنا وهي تحسبني صلب القلب خشن النفس، جامد الحس، فهي إلى اليوم في مكة لا تذكرني إلا وهي منقبضة النفس عني، تود لو ترسل إليّ كلمة الغضب في طيات ما يهب علينا من النسائم لولا ما تكون قد أدركته من سري المكنون.

figure

ثم أخذ يتذكر جمال وجهها وإشراقها ببسمات المحبة حين كانت تلقاه وما يعروها من نشاط السعادة لمرآه، وتمنى لو كانت إلى جواره كعهده بهدى، وتمنى لو يتناولها بين ذراعيه ويدنيها من قلبه المحترق بالشوق إليها، ويقبلها ويعتذر إليها، ويفيض على ترائبها نبع حبِّه المطهر المكتوم. فلما لم يجدها ألقى رأسه على جوالقه، وخبأه في طياته، وأخذ يذرف الدمع مدرارًا، ويتأوه ملتاعًا، وإذا هو يحس على كتفه أنامل رقيقة تلمسه، وصوتًا حنونًا يكلمه. فالتفت في غشيته فإذا هو يرى في سحاب ما ألقاه على الدنيا من فيض دمعه وجهًا مجللًا بالغيوم، نسي أنه وجه الأمير الصغير الراقد في فراشه جريحًا في الغار، ويزعمه لفرط ملاحته ودعته حين ارتدت العافية إليه، وجه لمياء قد توارد إليه شبحه حقيقة ماثلة فمد ذراعيه إليها يقول في ضراعة القلب المتفطر: لمياء! تعالي! لمياء! إلي! ولشدّ ما كان ذعر الأمير وحزنه؛ إذ رأى الفتى فيما هو فيه، وأدرك أنه وجد قد دلهه، وتمعن في محياه فوجد فيه مع الملاحة معالم قلب كريم، وطلعة شاغف مشغوف. فرق للفتى، وقال له: لا بأس عليك يا صاحبي! وكانت عينا ورقة قد خلتا آخر ما كان فيهما من قطرات الدمع فاستطاع أن يرى وجه الأمير عيانًا، ويدرك أنه في بحران، وسرعان ما رد ذراعيه إلى عطفيه، واستوى في مجلسه يعتذر إلى الأمير في ذلة المريض، ولكن الأمير لم يدعه يتم اعتذاره فأعاد عليه القول: لا بأس عليك يا صاحبي. سمعت نحيبك فأخذتني عليك رقة، ورأيتني أنهض بقوة الله لأرى ما بك عسى أن أخفف عنك، ولكني أشعر … أشعر … ثم لم يستطع أن يتم جملته بل سقط على ورقة، وهو مطرق، من أثر دوار أصابه؛ لما أنفق من الجهد في النهوض، وفي الوقوف حياله، وأدرك ورقة ذلك من صفرة علت وجه الأمير فنهض وأرقده مكانه. ثم أخذ يحل أربطة لفاعته من أعلى؛ ليرد عليه الهواء فينعشه، وما كان أشد دهشته؛ إذ لاح له من وراء الأزرار نحر عليه عقد من اللؤلؤ الكبير متدلٍّ فوق قميص من الزرد يعلو قميصًا من الحرير الأبيض برز منه فوق الترائب نتوءان أيقظا في نفسه أن تحتهما ثديين، وأن الأمير أميرة، وثبت عنده ذلك عندما اتجهت عينه إلى وجهها فبدا له منه وجه أنثى في الثلاثين من عمرها، أذناها قد خرمت شحمتاهما؛ لتحملا قرطًا لم يكن إذ ذاك موجودًا. أيقن أنه كما أوجس، وأنها إنما تنكرت؛ لتصرف عنها من الأذى، وهي فارة ما لا يقع للرجال. على أن دهشة ورقة لم تعقه لحظة عن أن يبحث عن سقاء الماء؛ ليرش منه على وجهها نطلًا ينبهها، ثم يحملها وهي على هذه الحالة؛ ليرقدها في فراشها في الغار، ويبعدها عن عيون من معه من الرجال إذا هم جاءوا وهو مشغول بأمرها، وكانت الأمير قد تنبهت إذ ذاك، ورأت صدرها مكشوفًا ومبللًا بالماء، فنظرت إليه وإلى نفسها وهو واقف أمامها، نظرة ذعر وتفحص آملة أن لا يكون قد كشف عن أمرها فقال لها: لا بأس عليك يا سيدتي. اطمئني. ستظلين على ما كنت عليه من التنكر، وسأكون لك على الدنيا.

بكت المرأة إذ ذاك بكاءً صامتًا، وأرادت أن تتكلم، ولكنه قال لها: ثقي بالله يا سيدتي وبأخيك الذي جمعته بك الغربة، وجعلت لك عليه حقًّا؟ كلانا شقي محزون، ولنعم المؤاخي الحزن والشقاء. ثم استأذنها في أن يمسح لها نحرها مما نطل عليه من الماء، ويربط لها لفاعتها، فسمحت وفي نظراتها لمعات الشكر والحمد لله على أن أرسل إليها مؤاسيًا في ساعات حزنها وفرقها من أن تصاب في كرامتها بمكروه. ثم قالت والعين شكرى بدموعها: ما اسمك أيها الفتى الكريم لأصلي لك وأدعو؟ قال: شكرًا لك يا سيدتي. اسمي ورقة بن صليح وأنا من مكة. قالت: ليثبك القديسون على مروءتك، ثم أخذت تتمتم بالصلاة والدعاء، وهو مشغول بتجفيف الماء عن نحرها.

وفيما ورقة يسبل لفاعتها على بدنها تألمت ألمًا مفاجئًا تقلص له وجهها وصاحت: الجرح! الجرح! فرفع يده على الفور، ووقف هنيهة حتى زال أثر ألمها، وقال: معذرة إليك يا سيدتي. قالت: لا بأس. قال: ألا تسمحين لي يا سيدتي أن أرى جرحك؟ إني أعرف شيئًا من طب الجروح. قالت: بلى يا ورقة، لم يعد يريبني منك شيء، ولكن ماذا تستطيع الآن فعله للجرح ونحن كما ترى بعيدون عن الدنيا وعن الدواء. قال: لا تعجز حيلة الطبيب وإن لم أكن واسع العلم. قالت: لا بأس. اكشف وانظر إني واثقة بمروءتك، والله لا أدري عن جرحي شيئًا. فقد أغمي عليّ ساعة ضربني اليهودي بسيفه، ورأيتني في هذه الثياب محمولة على كتف خادم زوجي الوفي، ولا أدري من ألبسني إياها، وإن كنت أظن أنه هو الذي فعل هذا.

أخذ ورقة يزيح اللفافة والدراعة الفضفاضة عن بدنها، وإذا هو يرى الزرد والقميص الذي تحته مقدودين قدًّا طويلًا بادئًا من جانب الثدي الأيسر، ومنتهيًا في أسفر الخاصرة، ويرى على استطالة هذا جرحًا لاصقًا بالزرد نفسه من أثر ما علقه به من الدماء، ورأى بعض حلقات الزرد مشتبكًا في الجلد أو غائرًا، وبعضها مكسورًا بأهداب من اللحم، والجرح كله قائحًا تخالطه دماء ومصول. فهاله ما رأى، ولكنه دارى عواطفه، ثم أخذ يرد كل شيء إلى ما كان عليه، وهو يقول: احمدي الله يا سيدتي، وصلي له صلاة الشكر مضاعفة كل يوم، لقد أنقذ حياتك الزرد الذي لبسته. قالت ألف حمد لله على كل حال — كيف ذلك؟ قال لقد عاق الزرد السلاح عن أن يغير عليك. قطع السيف حلقات الحديد فلم يبلغ إلى ما وراء الجلد بكثير، والجرح على كبره يسير في طريف الشفاء، ولكنه يحتاج إلى تنظيف. لقد وهبك الله قوةً في البدن ستعجل لك العافية. قالت: ليتني مت يا صاحبي، ولم أعش بعد زوجي وولدي. ثم خنقتها العبرات فسكتت، وتحدرت الدموع على خديها متداركة كقطرات السقاء المخلخل، ولم يستطع ورقة أن يحبس دمعه لدن هذا المنظر المؤلم فبكى لبكائها، ثم تمالك نفسه يقول: هوِّني عيك يا سيدتي، لا تضعفي نفسك بهذا الوجد. أنت شابة وسرية كما أرى، وستشرق عليك شمس حياة طيبة جديدة يوم تعودين إلى الإسكندرية، وسيكون لك أولاد وزوج تحبينه. إن الله واسع الرحمة. ما أرجو منك إن كنت تأخذين بالرشد، أو كنت ممن يقرون الحق إلا أن تضعي أمور الدنيا أمامك كما تضعين الكتاب وتقرئي. فستجدين في هذا الكتاب مخطوطًا بقلم عريض كبير: لا تنظري إلى الوراء: انظري إلى الأمام. إذا ورد عليك فكر مؤلم فرديه بيدك وسيري إلى الأمام؛ لتبلغي ما تعده الدنيا لشبابك وجمالك من النعمة والمتعة التي تنسين بهما كل ما مضى. أما وأنت تبكين الآن فذاك؛ لأنك شاكة في المستقبل، وفي رحمة الله. لا يا سيدتي، شبابك وجمالك وجاهك ضمين لك برد سعادتك. إني سأحملك إلى أهلك في الإسكندرية؛ لتقربي من هذه السعادة. نعم إني كنت ذاهبًا إلى القدس وإن كان صديق لي قد أوصاني أن أقصد إلى يوحنا أمير أيلة، ولكني أكره المكث في الدنيا بلا عمل، وكذلك كنت في طريقي إلى الرقيم التي تسمونها بطرة،١ ولكن لم يكن لي غاية خاصة من ذلك، فلأعد معك إلى أيلة، وأسلك بك أقرب الطرق إلى القلزم، طريق الشعوى، وهو مملوء على قصره بالعشب والماء.٢ بيد أن القوافل لا تطرقه كثيرًا؛ لأنه ليس طريق تجارة بعدما دالت عمان وبطرة.

سأصرف الرجلين من هنا، وسأدفع لهما أجرهما، وإن كانا لا يريدان أجرًا، فقد أعطياني الخاتم الذي أعطيتهما إياه لأرده إليك، إنهما ليسا من جمَّالة النقل، بل هما من موالي سادة كرام أعرفهم في يثرب، وقد ملكتهما عليك شفقة. ها هو ذا. ثم أخرج الخاتم من جيبه، وتناول يدها ووضعه في الإصبع التي بدا عليها أثر نزعه، والمرأة غارفة في دموعها، لا تتكلم فقد كانت هذه المروءة فوق كل ما علمت أو وهمت، أو تجد له لفظًا يفيه شكرًا، ولكنه استمر يكلمها فقال: أما جرحك يا سيدتي فسأعالجه بعد قليل عندما يعود غلامي، ولا بد من نزع الزرد عنك، ونزع القميص كذلك، وسأتولى أنا هذا الأمر وحدي حتى لا يعرف أحد خفيَّ أمرك، بيد أني أريد ماءً ساخنًا، ولا بأس أن يعده الغلام. هل معك ثياب؟ فابتسمت ابتسامة محزون ولم ترد. قال: لا بأس، عندي أنا شيء من ذلك للطريق، والسوق على كل حالٍ قريبة.

وفيما هو يكلمها استطاعت أن تسأله: ممن تنتظر جزاءك على هذا الجميل يا صاحبي؟ قال: لا أنا أنتظر جزاءً ولا أنا أريده. قالت: ولا من الله؟ قال: من يفعل ما يراه الناس خيرًا ارتقابًا لجزاء من الله يتلف الخير نفسه. على أن الله أعطاني جزاء هذا العمل سلفًا بما أنا فيه من السعادة، وذلك أنك قبلت أن أتولى أمرك، ولكني ولا أكذبك إنما أرد جميلًا لم يكن لي قبل برده؛ لقد أكرمتني سيدة من بني جنسك إكرامًا ليس وراءه إكرام، وأنا اليوم أعيش في نعمة من برها، وأحيا في ذكراها، وأشعر الآن إذ أنا معك أني معها بجوار ابنتها التي أحبها وتحبني، ثم فرق الدهر بيننا فهي اليوم في مكة تطوي فؤادها على وجد يأكل جسمانها، وأنا هنا في حرق تأكل حياتي، وما كان بكائي الذي أيقظك وحملك على النهوض إليّ إلا لأن وجدي كان قد غلبني، وساعدته الوحدة والعزلة على الفتك بي فأطلق القلب مكنون سره. أشعر الآن أني أراهما إذ أراك، وأحادثهما كعهدي بهما في الأمس إذ أحادثك، وأني سعيد، وأن الدنيا بين يدي، وإذا قمت لك بما ترينه خيرًا فكأنما أقوم به لهما؛ بل أرى بينك يا سيدتي وبين منى النفس شبهًا قريبًا جدًّا. فتذكرت المرأة حاله عندما كان يبكي، وتذكرت أنه نطق باسم فتاة وهو في هواجس وجده ساعة أغمي عليها، وخُيل إليها أنه كان يقول لها لمياء. فنهضت قليلًا من مرقدها، وقالت: لمياء؟ قال ورقة: نعم. قالت وقد تذكرت أنه قال أنه يرد جميلًا إلى سيدة من بني جنسها: بنت هرميون؟ فارتد ورقة إلى الوراء يتأمل وجهها متعجبًا، وقدر أنها تعرفها من الإسكندرية، وقال: أجل يا سيدتي، بنت العالم قوزمان، وزوجة الحارث بن كلدة الطبيب، أتعرفينها؟ فعادت السيدة إلى فراشها منهوكة القوى من أثر هذه المفاجأة ولم تتكلم. فقال ورقة: أراك تعرفينها يا سيدتي! فأشارت بجفنيها وهزة من رأسها إيجابًا، وصمتت وأخذت تتمتم صلاة بالرومية، ثم تكلمت أخيرًا فقالت: هي أختي، ولمياء ابنتها تشبهني حقيقةً. أهما في مكة الآن؟ قال نعم يا سيدتي. قالت: ألم تذكر هرميون لك أن لها أختًا اسمها هيلانة؟ قال: بلى. قالت: أنا هي هيلانة. قال: يا رحمة الله، لقد كانوا جميعًا يذكرونك، ويسائلون الله عنك، ولقد أحببتك يا سيدتي؛ لكثرة ما ذكروا عنك، يا لله! أي نعمة هذه التي ألقاها! ثم جثا وتناول يدها وأخذ يقبلها ويغمرها بفيض دمعه، وهيلانة غارقة كذلك في دموعها، ولكنها لم تر من المروءة أن تحرمه تلك القبلات البريئة التي كان يروي في دمعها بعض وجده، وإذا هو في ذلك الوجد يقول: واحسرتاه! لقد كسرت قلب لمياء بجمودي، وها هو ذا اليوم قلبي يتفتت، ولكني لم أجد من المروءة ولا الوفاء ولا من حقي أن أفصح لها عن هيامي بها. إن أباها أستاذي وسيدي، وهو رجل عظيم في الدنيا؛ بل لعله أعظم العرب من غير بني عبد المطلب، وما أنا إلا فتى قليل الشأن في مكة؛ كانت أمي سبية، وكان أبي نجارًا من الإسكندرية، ولذلك كتمت عنها هيامي بها، وعملت على أن تكرهني لتنساني، وزادني إصرارًا على دأبي هذا ما رأيت من سيدتي هرميون، فلقد كان أغلى أمانيها أن لا تزوجها إلا من أهلها في الإسكندرية، ومن بيت الأمير نيقتاس نفسه. فليلطف بي الله وبها، وليهبها كل ما ترجو لها وأرجو من النعمة والسعادة. فلما انتهى حديثه سمعها تقول: بل نذهب إلى مكة، خذني إلى مكة. لعلي أستطيع أن أجمع بينك وبين لمياء. فابتسم ورقة ابتسامة مكلوم يائس، ولكنها استمرت تقول: هل كبرت لمياء وصارت عروسًا، وصار لها قلب يحب ويهوى! لقد تركتها طفلة في السابعة من عمرها. قال: صارت ملكًا يا سيدتي. قالت: وأراها اختارت لهواها ملكًا كذلك يا أخيَّ. فتراجع الفتى قليلًا، وأخذ ينظر إليها وحاول الكلام فقاطعته وقالت: وحق ابن الله، لو كنت أمها ما زففتها إلا إليك أنت يا ورقة، إني لأراك آية من آيات الخير الذي يحدثنا عنه القديسون. قال وقد أخذه الحياء من كلامها: سيدتي! إنما ترينني كذلك؛ لأني في أحسن حالاتي: فتى ذليل النفس شريدًا طريدًا مقطوع الأمل في الحياة، واجدًا هائمًا، يجد في ظلمة اليأس والحزن نورًا وسعادة. قالت: خذني إلى مكة لأرد إليك جميلك، ولأهدي ابنة أختي نعمة. قال لا أستطيع يا سيدتي. إن أخاها لأبيها أهدر دمي؛ لأنه كره أن أكون ولدًا لأختك. قطع بيني وبينها في اليمن، وأهدر دمي في مكة هو والمشركون جميعًا؛ لأني قتلت عبدًا لهم كانوا قد أرسلوه في السحر ليقتل سيدي وملاذي رسول الله محمد بن عبد الله. فأنا شاكر لك فضلك يا سيدتي، وأرى ما أنا فيه اليوم أكبر عوض، وسأذهب بك إلى الإسكندرية، إن لي في حي رقودة أبناء أعمام أعرفهم بأسمائهم سأبحث عنهم، وسأشتغل هناك بما يشتغلون به. قالت هيلانة: لا بأس بذلك، ولكني سأدخلك خدمة نيقتاس والي الإسكندرية، وسيعرف لك جميلك. إني زوجة أخ له اسمه تيودور كان في الإسكندرية قبل أن يجيئها نيقتاس من أفريقية (تونس) بجيوش هرقل بعشرة أعوام، وتزوجني قبل فتحها على يديه بخمسة، ثم قضى لنا سوء الطالع أن نرحل إلى أذاسا؛ لنلقى جيوش الفرس، ولكن الروم دحروا؛ لأن الفرس استعانوا بألوف مؤلفة من العرب واليهود على الشام وتملكوها، ومنذ ثلاثة أشهر حاصروا القدس ودكوا حصونها، وانحدروا علينا كالسيل يقتلون ويحرقون، وكان زوجي على رأس بعض الجيش فقتل واحسرتاه وهو يدافع عن كنيسة القيامة، وكنت يومئذ في الدار فجاءني بعض جنده يخبرونني خبره، وليحملوني على الرحيل بولدي فرارًا من القتل، وألبسني أحدهم زردًا تحت ثوبي المسبل من قبيل الحيطة وهو هذا الذي رأيت، ولكن اليهود أدركوهم فحاربوهم في بيتي وقتلوهم جميعًا إلا واحدًا فقد ظل يدافع عني وعن ولدي حتى ضربه أحدهم ضربة ألقته على الأرض مقطوع الساعد، وهجم بعضهم علي ليسبوني أنا وولدي حين كان أحدهم يضربني ليقتلني، ثم خنقتها العبرات واستمرت تقول: حتى رأيت ولدي قتيلًا بجواري، ولم أشعر بعد ذلك بشيء إلا أن الجندي الأبتر يحملني، ويسير بي مجدًّا في الجبال والأودية وراء بيت المقدس، والدم يقطر من ساعده، وضعني على كتفه كما تضع الأمر طفلها، حتى وجد مضربًا لهذين العربيين فألقاني بين أيديهما، وكلمهم في شأني بالعربية كلامًا لم أفهمه كله، ولكني أدركت القصد منه. ثم أخبرني بالجهد أنهم سينقلونني إلى أيلة عند أميرها، وأنه خبرهما أني أمير، ثم أسلم الروح وقضى وهو شاخص إليّ، وأنا كذلك شاخصة إليه هلعة لا أدري ماذا يجري في الدنيا؟ فقد زايلني أكثر صوابي، حتى تنبهت لنفسي بعد مسيرة يوم، فرأيتني في هذه الملابس فأدركت أنه هو الذي ألبسني إياها عندما عزم أن ينقلني. أراد أن يخفي حقيقتي عن الناس. فبكيت طول الطريق، وصليت لله أن يأخذني إليه. كل هذا وأنا لا أشعر أني جريحة، ولكني رأيت الدماء على ما ألبسني الجندي، وشعرت بالألم وتحسست بيدي فعرفت ما رأيت، ولقد كنت أتمنى أن أموت كما مات زوجي وولدي، ولكني واحسرتاه لم أمت، بل عشت لما هو شر من ذلك؛ للحزن والثكل، ولقد أحسن إليّ هذان العربيان بما لا أدري كيف أشكرهما عليه، وحملاني على بعيرهما كما رأيت. فلما أنزلاني ليلة أمس للمبيت، ولم أكن حملت نقودًا لم يسعني إلا أن أشكرهما من كل قلبي، وأعتذر إليهما من عجزي عن مكافأتهما، ثم قدمت لهما خاتم الزمرد الذي رداه إليك. قل لي: كيف أشكرهما؟ ولكنك ستتولى عني ذلك. أجزل بحقك عطاءهما ما استطعت، وعسى أن أتمكن من رده إليك في الإسكندرية، وإلا فالخاتم لك وعقد اللؤلؤ لك. قال ورقة: أمسكي عليك القول يا سيدتي، لا أريد مالًا قبح المال والراغبون فيه. أسقطي المال فيما بيننا يا سيدتي، فما يفسد عليّ نعمة الله إلا ذكر المال. إن معي ما يكفينا ويزيد.

فصمتت هيلانة فترة طويلة ذرفت فيها ذوب قلبها كله، ثم قالت: الحمد لله الذي وهبني على اليأس أخًا وصديقًا.

١  هي عاصمة الأدوميين، ثم النبطيين قديمًا، وسماها الرومان بعدهم بطرة؛ لأنها حجرية كلها إذ الكلمة تعريب لمعنى الحجر في الرومانية، ويسميها صاحب تاريخ سينا: بتراء، تعريبًا للاسم الروماني، وليست معه في ذلك فالرقيم اسمها العربي — أي المرقوم، وهو مشتق من كونها ذات نقوش وكتابات ترى على كهوفها الكثيرة التي يقال: إن منها الكهف الوارد ذكره في القرآن الكريم.
٢  عن تاريخ سينا لشقير بك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤