الفصل السادس والثلاثون

حارس الأمير

كان للقائد تيودور شقيق نيقتاس أمير الديار المصرية من قبل هرقل جانب من القصر الكبير في الإسكندرية يشغله من يوم أن فتحها أخوه في سنة ٦١٠ ولكنه كان على اتصاله بالقصر مستقلًّا عنه، وكان له باب كبير لم يفتح منذ سافر تيودور على رأس الجيش الذي أرسله نيقتاس مددًا لجيوش هرقل في الشام، وآخر صغير في خلفه يحرسه جندي مُسنّ اسمه لوكاس كان في خدمة القصر منذ كان يسكنه والي مصر تيودور بن ميناس في عهد الإمبراطور موريقوس المقتول حتى أصبح الباب يعرف بسم الحارس نفسه، فيقال: باب لوكاس، لا القصر الصغير ولا منزل تيودور، وإنما بقي لوكاس هناك حتى في أيام فوقاس رعيًا من الوالي لرجل خدم القصر مدة طويلة بأمانة وإخلاص، ولما جاء نيقتاس أقره من جديد في عمله بعد ما كبر وشاخ، ولكنه أمر أن يعزز بواحد من حرس القصر، وسمح للوكاس أن يقيم في الغرف المجاورة للباب بعد وفاة زوجته وقتل أولاده في الحروب والثورات، وإن كان قد بقي له حفدة كانوا يزورونه من آن لآن.

بلغت العربة بهيلانة وورقة عند هذا الباب فترجّلت وترجّل، وكان لوكاس جالسًا على كرسي هناك يحادث حفيدًا جاءه زائرًا على العادة فمستنزفًا ما يكون معه من النقود؛ لأنه كان من الممثلين الذين يعملون في دار التمثيل، وهي إذ ذاك معطلة بسبب الحرب وأخبارها السيئة، وركود الحياة في المدينة، وكان الجد يحبه؛ لظرفه ومبالغة الفتى في رعايته وتعمد تألفه، ولذلك كان في ذلك الوقت يعطيه معه؛ ليسعده جزاء إسعاده وزيارته إياه، ولذلك لم يلتفت إلى العربة ولا إلى من نزل منها، حتى إنه لما لفت إليها استمر ينظر إليهما، وإلى ملابسهما الغريبة وهو على حاله من انشغال القلب بحفيده المحبوب فلم يتبين هيلانة، ولم يعرفها حتى نادته باسمه فتنبه، ولكنه مع ذلك استمر جالسًا، وقال: كأني بمولاتي هيلانة تناديني! قالت: نعم يا لوكاس، قال وقد نهض: يا رحمة الله! أنت هنا! قالت: نعم. قال: معذرة إليك يا مولاتي ما ترقبت حضورك، والواقع أنه كان قد سمع بقتل زوجها وبلغه مقتلها هي وولدها، ولكنه لم يشأ أن يثير هذه الذكرى المؤلمة ساعة اللقاء فتظاهر بجهله، وعمل على مداراة عواطفه التي ثارت لدن رؤية سيدته، وقال لحفيده: اذهب يا أنطونيوس ونبه الخصي الذي في خدمة القهرمانة إلى مقدم مولاتك فانصرف أنطونيوس مسرعًا، ونهض لوكاس إلى سيدته يدلف نحوها متجلدًا، ويقول: مرحبًا بسيدتي، ولكن ما هذه الثياب التي أنت فيها؟ قالت مجارية الرجل في مظاهره: ثياب الصحراء! تركت كل متاعي من الدنيا في بيت القدس، وجئت فارة بنفسي من القتل في حماية هذا السيد العربي إنه يعرف الرومية كأهلها. فحيّاه لوكاس بإكرام، ورد ورقة التحية بمثلها، وقالت هيلانة: أنزله عندك أكرم مكان، واجعله في رفقته أحد أولادك. أليس هذا أنطونيوس حفيدك؟ قال: بلى يا سيدتي. قالت: لقد كبر! ليكن في رفقة السيد ورقة يريه المدينة ويعنى به. قال: سيكون كولدي يا سيدتي. مرحبًا بك في دارك.

figure

أدركت هيلانة من دموع تترقرق في عيني الرجل أنه عالم بما وقع لها، وأدركت كذلك سر سكوته عن السؤال عن زوجها وابنها، واقتضابه القول في الحديث معها، وكانت هي تتجلد كذلك تفاديًا من موقف لا يجمل بها، فأمعنت في الاهتمام بشأن صديقها، والتفتت إلى الحوذي وهو حامل جوالقه، وأفسحت له الطريق ليدخل، وأشارت له بذلك، وتقدمه لوكاس فدخلت وراءهما؛ لتطمئن على منزل ورقة، وأشارت إليه ليدخل معها، وإذ رأت غرفة مفروشة وسريرًا ومقعدًا واستحبتها قالت: لا بأس بهذه الغرفة مؤقتًا. ثم سألت الحارس عن رفيقه في الحراسة فقال: إن أهل القصر لم يعودوا يستطيعون تعزيزه بآخر كعهدهم قبل سفرها؛ لشدة الحاجة إلى الجند في الشام. قالت: لتكن هذه الغرفة غرفة السيد ورقة حتى حين.

وكان أنطونيوس قد عاد يخبر جده بأنه فعل كما أراد. فقالت هيلانة: فلنصعد إذن. ثم التفتت إلى أنطونيوس وقالت وهي تحاول كتمان عواطف قلبها المحترق: لقد كبرت يا أنطونيوس وصرت رجلًا همامًا كجدك كيف حالك؟ فانحنى أنطونيوس وقبل يدها وشكرها، والتفتت إلى ورقة تودّعه وبها من الشعور المتضارب ما لا يستطاع تحليله، ولكنها كان على فرط ما يلذع قلبها من لهب الوجد والحسرة؛ لعودتها إلى دار لا تجد فيها من كانت الدار به جنة ودارًا، تستشعر نوعًا من الفجيعة؛ لاضطرارها إلى ترك ورقة الذي أصبحت ترى أن مرآه، وحديثها معه، واجتماعها به — هو الخيط الذي يربطها بالدنيا، ولذلك كانت عندما همت بالصعود إلى غرفتها يتقدمها الحارس لوكاس الشيخ، كأنما هي تقاد بالرغم منها إلى حكم ينفذ عليها، وبودها لو بقيت مع ورقة عند الحارس، أو أنها أصعدته معها، ولكنّ هذه الأمنية الأخيرة كانت أبعد الأمنيتين عن نفسها، لا لأنها لا تملك ذلك أو أنه لا يليق بها، بل لأنها تكره أن يكون وعاء ما تستشعره لورقة من العواطف المبهمة — هذه الغرف. عواطفها كانت تجنح إلى جو من الصحراء والوحدة والجبال، والشدة والمغارات؛ لتنعم بعطف هذا الفتى الذي لم تجد له شبيهًا فيمن رأت من الناس أو سمعت أو وهمت، وهي تصعد الآن باختيارها لتحبس وتدفن، وتحرم نور الشمس التي كانت تغمرها من ورقة بأشعتها المدفئة المسعدة: أستودعك الله يا ورقة إلى حين قريب جدًّا، ولكن حياة القصور غير حياة الصحاري، ومع ذلك فلن يطول فراقنا، ولا احتجابي عنك ولا مكثك هنا، ولكن قبل أن أصعد إلى غرفتي التي ما جئتها إلا لأسارع إلى أمر انتويته، وإلا لكسرت الأبواب ودخلت بيت أبي، أرجو أن تتقبل شكري. قال ورقة: سيدتي! إنك لتؤلمينني بهذا المقال. قالت: لن أطيل الكلام في هذا. لست مدينة لك بحياتي التي عملت على إنقاذها فهي أبخس شيء عندي، بل أنا مدينة لك بما لا أعرف ما هو، ولكني أعرف من أثره أني لا أطيق الغيبة عنك، أشعر أنك أصبحت لي في شقوتي التي تعرف كالنسيم للصدر، وكالنور للعين. أستودعك الله إلى لقاء قريب.

بكى الحارس عند ذلك بكاء غمر وجهه ولحيته، ولكنه لم يفصح عن حزنه؛ لكيلا يفجِّر في قلب سيدته مرجل حزنها الذي كان باديًا له من وراء حديثها، ولذلك تقدمها في سكوت، وصعد درج السلم معها إلى مستقر عزها الراحل، وشقائها المقيم.

•••

لا نطيل فيما لقيت هيلانة من الوجد في دارها، ولا كيف لقيت من جئنها من نساء القصر للتعزية، ولا ما حدث حين وقف الأمير الخيِّر نيقتاس يذكر سماحة أخيه، وما يلقى من الفجيعة فيه، وكيف أنه بالغ في إكرامها كما بالغ في عتابها على ما أبدت من الرغبة في الانتقال إلى بيت أبيها، ولا أنه أمر القهرمانة بإعداد بطانة لها من خير جواريها فهذا ما جرى.

ولشد ما كان إعجاب الأمير بورقة ونبله؛ إذ كانت تروي هيلانة له قصته معها حين كان يغسل جرحها وينزع عنها ملابسها، وأكبره الإكبار كله حينما روت له ما كان منه في الغار، ورده الخاتم، واحتفاظه بتنكرها حتى بعد أن لم يعد في الكتمان من مصلحة، وكيف كان يبيت في مواهن الليل في الصحراء يقظًا؛ ليحرسها من أذى أشرار القافلة، ولا ينام إلا وهو سائر بها في الضحى أو في المقيل، وذكرت له من أخباره ما علمت من سبب هجرته من مكة ويثرب، وما كان يبدو منه في معاملته لصوص القافلة من الحزم والشدة التي تبيّنوها منه فهابوه، وهو فتى لا تزيد سنه عن الثانية والعشرين.

وكان نيقتاس في أيامه الأخيرة قد بدأ يشعر أن هناك ازورارًا عنه من الناس، كأنما أوجسوا أن الدنيا توشك أن ينقلب حالها، فلم يعودوا في حاجة إلى دوام التظاهر بالولاء له، وكان قد علم بأن الفرس أعدوا عدتهم لغزو مصر١ ولا بد أن تتجه نفوس اللؤماء إلى التقرب إلى الغزاة، ويفكر بعضهم في أن يعجل لهم برهان ولائه، ولا غرو أن يعملوا على أذاه كما عملوا مع كل من تقدموه من الولاة؛ إذ كانوا يأتمرون بالحكام ليقدموا رقابهم إلى الأعداء عربونًا على الطاعة والولاء، وزاده شعورًا بذلك ما رآه في المدينة من قيام الثورات في حي اليهود في الشرق، وفي حي رقودة المصري الصراح على من بقي من جند الروم في الإسكندرية بل وعلى كل رومي تسلفا لليوم الذي لا يرون فيه ظلًّا لمذهب الروم. فما إن ذكرت هيلانة له ما ذكرت عن ورقة حتى خطر له أن يجعله حارسه الخاص، وعززه في هذه الرغبة أن ورقة غريب عن الجانبين المصري والرومي. نعم إن المصريين كلهم عرب قدامى جاءوا في إثر عرب أقدم، ولكن الدين قطع صلتهم بأرومتهم حتى جهلوها، فلا ضير إذن من استخلاصه لنفسه، ولذلك أعلن هيلانة برغبته في رؤيته. فلما جاء رأى فتى أقل مظاهره ما ذكرت هيلانة، بل بدا لعينه منه صورة الفتى المقدوني الذي أعطاهم ملك مصر، إلا أنه في ثياب عربية، فتلقاه الأمير بتحية خالصة أملاها عليه إعجابه بالفتى؛ إذ وقف أمامه يحادثه بكلام متزن، ووقار ليس فيه أثر من آثار الادعاء أو الغرور، أو الجهل بالفروق، أو الشعور بما كان له من الفضل، ولا فيه مظهر من مظاهر الرهبة التي تعتري صغار الناس لدن لقاء الأمراء، وإن يكن يلقى الآن أميرًا يملك مصر، وتدين له الدنيا من ربوع الشام إلى برقة إلى بلاد النوبة، فهو أعز من كل ملك، وأدعى أن تهتز النفس بحضرته، وحادثة نيقتاس يقول له: علمت يا فتى بما كان منك من البر بالأميرة والعناية بها، فلا أملك لقاء هذا إلا شكرك. قال شكرًا للأمير، إن من نعم الله على الإنسان أن يمكنه من أداء حق الناس عليه. قال الأمير: وهل كان للأميرة عليك حق في شيء؟ قال: إن للناس في مروءة الناس حقًّا مشاعًا من يقصر عن أدائه وهو قادر عليه سقطت مروءته وهزل. قال الأمير: ولكن من المجزي عن التقصير؟ قال: الله. قال الأمير: في الآخرة. قال ورقة: في الدنيا قبل الآخرة قال: كيف ذلك؟ قال: تتضع نفسه لدن كل حادثة قدرًا، حتى إذا تلفت يرى نفسه لم يجد شيئًا. جزاء الإنسان من مروءته النبل، ومن كان للناس، غير مسئول ولا متدخِّل فقد بلغ غاية المجد وإن لم يكن أميرًا. قال الأمير: ولكن هذا قد يقتضيه دمه وحياته. قال: من يمت في مكرمة فقد عاش.

لم يملك الأمير من إعجابه بورقة وفرحه بأن يجد فيه أمنية نفسه إلا أن يلتفت إلى هيلانة، وكانت إذ ذاك تلتمع عينيها ببريق الزهو بصاحبها، والإعجاب كذلك به، ويقول لها: أتقولين إنه فتى كريم! ما أعجزك يا أختي عن تقدير الرجال! إنه للفتى النبيل. قال ورقة: شكرًا للأمير وحمدًا لله على حسن ظنه بي. قال: إن شئت فإني جاعلك حارسي ورفيقي. قال ورقة: هذا بعض برك أيها الأمير، أرجو أن أحسن اقتباله، وأجزيك عنه بمثله. قال الأمير: أنت اليوم في خاصتي برتبة أمير مائة، وسيكون لك في مرقدي من القصر مرقب مهيأ. إني في حاجة إلى بطل نبيل مثلك، ولكي تبدأ حياتك في القصر كرصفائك سآمر لك بمائتي هرقلي لا ردًّا لما أنفقت، فإني لا أريد أن أفسد مروءتك، بل تحقيقًا لما قصدت، وسيجيئك الآن خائط القصر وخازن سلاحه؛ ليعدا لك ما يحتاج إليه شأنك في خدمتي من اللباس والسلاح، وأنت أيتها الأخت هيلانة، أكرمي فتاي فلم يعد فتاك، حتى تعد له غرفة بجواري. قالت: شكرًا لأخي، حمدًا لله. هذا ما أملته من فضلك لمن غمرني فضله، وسيرى الأمير من أمره أكثر مما رأى. قال نرجو الله أن يوفقه إلى الخير، والآن أستودعك الله يا أختاه إلى لقاء قريب، ثم التفت إلى ورقة فرأى في عينيه مقالة يريد أن يزجيها فقال له: هل من شيء تريد قوله يا ورقة؟ قال: رجاء يا مولاي الأمير. قال: ما هذا؟ قال: أن أتقلد سيفي العربي الذي صحبني منذ عركت مقابض السيوف، ففيه سرّ النصر، وأن أحتمل قوسي التي وهبني الله إياها إثر ما أنقذت الدنيا من شرور قرضاب، ولي فيها ذكريات أخرى. قال: لا بأس بما ترى، بل لعمري إن فيهما لعلمًا على فتاي النبيل، هل لك من أمنية أخرى؟ قال اثنتين ما أهونهما: ألا يؤبى عليَّ زيارة مولاتي هيلانة؛ لأنها صلتي بالصحراء التي أستمد منها الحياة والسعادة، وذكرى الأهل والأحباب. قال الأمير: وهذا لك يا ورقة، بل هذا خير لنا وأعود بالخير، فما الثانية؟ قال: الثانية ألا تحملني على مشاركتك إذ أنا من جندك، في حضور صلاتكم في الكنائس؛ لأني أومن بغير دينها، وإن أكن أومن بالمسيح وبأمه مريم العذراء البتول. إني مسلم يا سيدي، أومن بواحد أحد لا شريك له. قال: هنيئًا لك دينك ولي. ثم ضحك، وقال: لا أريد أن يشتغل حارسي وقت صلاتي في الناس بصلاة. أليس كذلك يا هيلانة؟ قالت: بلى وربي. أنت على حق. قال الأمير: هل من أمنية أخرى يا ورقة؟ قل فهذا وقت لا أملك فيه رد سؤال. فضحكت هيلانة ضحكة كريمة وقالت: ما أشد شكري للأمير، ولكني لا أظن أن قد بقي لديه شيء. قال الأمير: إذن فعلى هذا، ثم انصرف مودعًا من هيلانة بأكرم مجالي الشكر والامتنان، وعادت إلى ورقة تهنئه وتشكره على تقاضيه من الأمير حق زيارتها، وكادت لفرحتها تتناول الفتى تقبله، ولكنها تنبهت فانحدرت إلى مجلسها، وفي فمها بقية من كلماتها التي كانت تسير بها عائدة من حيث ودعت نيقتاس.

١  خريف سنة ٦١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤