الفصل التاسع والثلاثون

تدبير الله

غلب النوم على لمياء في تلك الساعة مما هد قواها من الهم؛ فحمدت أمها وجدها لله هذا الفضل، ونهضا؛ ليعاودا الحديث في شأنها، ويدبرا الخطة لإعلان نيفرت بما استقر عليه رأيهما في أمر لمياء، وكانت عمدتهما في ذلك أن الحارث لم يقر هذا الزواج، وأن هرميون اشترطت لإنفاذه أن ينال موافقته. نعم، إن عمتها دعت البطريق، وأعدت كل شيء، ولكنها تصرفت في ذلك من تلقاء نفسها، وإذا ثارت عمّتها وزمجرت وغضب زوجها لهذا، واستاء فلا يصح أن تأبه هرميون لذلك، بل يجب أن تجابهها إذا اقتضى الحال بأنها لا تغضب زوجها في مرضاتها، وإذا أمعنت نيفرت في تأنيبها لم يعد أمامها إلا أن تعلنها بما عرف أبوها من أهل الإسكندرية، وهو أن ولدها ذو خدينة وذو ولد، وأن العمة تعلم ذلك، وأرادت أن تضحي بابنتها من أجل ولدها، وما كان يليق بها هذا.

على هذا اتفقا وتركا للظروف تدبير التفاصيل، وما كانت هرميون في حاجة إلى من يقويها أو يشد أزرها؛ لأنها ستتكلم بلسان الأم التي رأت ابنتها الوحيدة منذ دقائق على وشك الجنون، وهي الآن نائمة كالملك المطهر على وعد من أمها وجدها أن ينقذاها من الهاوية البعيدة الغور التي كانت على وشك أن تتردى فيها، ولكنها رأت أن يسبقها أبوها إلى غرف عمتها؛ ليحضر هذا المشهد، ويحول دون عوارض الأمور، وأقرها قوزمان على هذا الرأي.

نهض الجد يلتمس غرف أخته، وقد استعد هو أيضًا للنضال معها، وكان يعلم ما هي عليه من الشدة، حتى لقد تلجأ إلى التواقح والإساءة البالغة لأهون سبب، ولكنه ما دخل عليها حتى رآها مكتئبة اكتئابًا شديدًا، وخشي أن تكون قد سمعت بما جرى قبل أن تسمعه من هرميون، وأنها توشك أن تنفجر فأخذته الشفقة على ابنته، وقال: خير أن أتلقى أنا أول صدماتها من أن تتلقاها هرميون المسكينة، وعزم أن يتولى النضال عنها. فلما حياها ليفتح الحديث، ولم ترد عليه التحية؛ لأنها كانت مشغولة بالتفكير في أمل جلل، وجد في ذلك الفرصة الصالحة فقال: ما بالك يا أختاه لا تريدين تحية أخيك! هل هانت كرامتي لديك بعد أن شفي زوجك ولم يعد في حاجة إليّ؟ قالت وقد تنبهت: معاذ الله يا أخي. فقاطعها: عذت بمعاذ يا أختاه! ولكني وحقك، وحق أبي وأمي لا أبقى في بيتك بعد يومي لا أنا ولا ابنتي! أكذا تعامليني وأنا ضيفك؟ أم ترين أني بعض من يلتمسون برك. ثم دار على أعقابه يريد الرجوع إلى غرفه ليعدَّ حموله. فنهضت أخته هلعة فزعة مما سمعت وأمسكت بأردانه تقول له: وحق القديسين جميعًا ما سمعتك ولا رأيتك، قال: أيمكن أن يكون ذلك؟ قالت: هذا هو الواقع وربي، ولو تمهلت لعذرتني وأيقنت أني صادقة. اجلس بربك، فلم يجلس. قالت: قدِّر حالتي يا أخي، لقد أعددت كل شيء لحفلة العرس، فأرسلت أدعو جميع الحكام ووكلاءهم، وأرسلت في طلب الذبائح، وفي طلب الطحين، والفاكهة وكل شيء على أثر ما رضي مولانا البطريق أن يتولى الإكليل لدميان ولمياء، ولكني علمت الآن قبل مقدمك بدقائق أن البطريق مات أول أمس في دير الهانطون؛ فانظر أي هم وقع عليّ وأي خسارة، ولقد اعتراني دوار شديد وضيق حازب؛ لأنه لا بد لنا أن نلتزم الحداد عليه هنا ثلاثة أشهر وعشرة أيام، فهو كما تعلم من أدنى أقارب زوجي. قال قوزمان: هذا حادث كبير حقًّا، فلا تؤاخذيني بما بدا مني، ولكن لعله من الخير أن وقع. قالت: لماذا؟ قال: لأن الحارث أبا لمياء لم يوافق على هذا الزواج، ولا يصح أن يجري أمر هكذا بغير رضاه. قالت متهكمة: الحارث! من هو ذا الحارث؟ قال قوزمان: هو زوج ابنتي وأبو لمياء! صاحب الحق عليهما ولو كان اليوم بعيدًا! ولقد كنت أؤمل أن يجيء رده بالقبول، ولذلك لم أتدخل، ولا سيما حين علقت هرميون إنفاذ الأمر على مشيئته. أما الآن فلم يعد لها أن تجيزه ولا لي أن أغضي الطرف عنه. قالت: وهرميون ما رأيها؟ قال: لا رأي لها عندي بعد ما جاء رأي الرجل الذي يثق بي وبمروءتي، ولذلك فإني راحل على كل حال في الغد، وسأرسل في طلب الحارث، وأجيء به إليك لعلك تقنعينه بصواب رأيك، فإن أمامك الآن متسعًا من الوقت. فصمتت العمة هنيهة، ثم قالت: لا بأس، ولكن هرميون، أهي مرتاحة إلى رفض زوجها؟ لا أظن ذلك. قال قوزمان: كانت بالطبع تتمنى أن يوافق، ولذلك قبلت ما عرضت عليها على الفور، قالت: عدني أن تكون معنا قال: لا أعدك بشيء يا أختاه. إني أكره أن يذكرني الناس بالشر في شرهم، وبالنكران في خيرهم. لن أتردد في إبداء رأيي في المصلحة. قالت: وأنت ترى المصلحة في هذا الزواج على ما أعتقد. قال قوزمان مراوغًا: إن فتًى نبيلًا عفيفًا من صلب جرجيس هو خير زوج للمياء الوديعة الجميلة. زعمت الأم أنه يعني ابنها فشكرته على ذلك.

ذهب قوزمان إلى ابنته وهو يعتقد أن الله الذي يحب لمياء هو المدبر لذلك، ويعتقد كذلك أنه لولا خطؤه، وما بدا منه من الشدة في مقابلة أخته؛ لعدت عليه رأيه الذي أبداه في نصرة الحارث جريمة يستحق عليها أن تفرغ على رأسه غضبها لكلامه، وما كان في قلبها من الهمّ لحادث موت البطريق الذي أفسد كل شيء.

ألفى قوزمان ابنته في غرفة لمياء، وخبرها بما جرى بالحرف تلو الحرف وهو سعيد بهذه الرواية. فرأى ابنته تجثو على ركبتيها شكرًا لله، ورأى لمياء قد أفاقت من نومها ونهضت تقبله وتشكره وتبكي من شدة فرحها، وهي تقول له: كنت أعلم يا جدي أنك منقذي، وإن لم يبدُ لي منك إلا وجه متألم لما يعدّون لي. فأخذتها هرميون من صدر أبيها وضمتها إلى صدرها، وأخذت تبكي وتحاول الاعتذار إليها فلم تستطع أن تبين … وكان على لمياء عند هذا أن تطلق شمس السعادة في الغرفة وفي الدنيا برمتها. فنهضت مرحة تقول لهما: إن علينا أن نعد الحمول للرحيل، وسأعين جدي على ذلك على أن يعينني هو أيضًا قبل أن يذهب إلى غرفه. قال وهو يبتسم: ما هذا يا لمياء؟ ما أراك فعلت شيئًا. قالت: بل فعلت كل شيء. أبقيتك في جواري هنا وهناك. لن أفارقك بعد الآن. فأخذها وقبلها وقال: ولا أنا، ولكن علينا أن نكتب رسالة إلى أبيك نطمئنه فيها عليك، ونعلنه بأننا نزلنا على رأيه، ونسلم الرسالة إلى رسول حاكم عيذاب. انهضي أنت يا هرميون، فابدئي بخطابك. قالت: لقد أعددته وأنت مع عمتي، ودعوته إلينا فادعه أنت أيضًا، وادعيه يا لمياء. قالت: هذا ما كنت عازمة عليه.

•••

بعد أربعة أيام من ذلك اليوم المبارك كانت لمياء وأمها وجدها في البيت الذي قضت فيه طفولتها، وما كان أسعدها أن تروح وتجيء فيه، وتنزل البستان تشارك حارسه في تجميله، وبلابله في الغناء على أغصانه، ولكنها كانت حريصة ألا تغشاه في وقت يكون فيه بطرس في البيت، وإن كان مقامه منه في ناحية غير ناحية البستان، ولكنها مع ذلك كانت تراه واقفًا في ظل شجرة هناك، أو مختبئًا عند عطفة من البيت، أو عند أحد التماثيل. تجد في عينيه ذلك البريق الذي كان يخيفها، فيتمثل لها بعض النمور التي شاهدتها فيما مضى في أقفاصها في حديقة قصر الوالي أيام كانت تزور خالتها وهي طفلة، ولكنها ترى أحدها الآن سائبًا طليقًا يوشك أن ينقض عليها، ولذلك كانت تعجل إذا رأته بصعود درج السلم والدخول إلى البيت ممتقعة اللون، وفيما هي تصعد السلم ذات يوم رأت بطرس قد تبعها، ثم انفتل على حين بغتة خارجًا من باب البيت إلى الشارع، وذلك لأنه أحس خطوات آتية من الداخل فانصرف عما كان في نيته فعله وخرج معاجلًا، وكان القادم إذ ذاك هرميون أم لمياء. فلما رأتها كذلك هلعت، وسألتها عن سبب هلعها فقالت: لا أدري يا أماه، لماذا أخشى هذا الرجل الذي يكتب لجدي؟ إن في عينيه بريقًا يذعرني، كما أني لا أدري لماذا يقف تحت الأشجار ووراء التماثيل ينظر إليّ. يخيل إليّ حين تلمحه عيني وأنا غافلة عن وجوده معي أنه لص يريد أن يغافلني ليقتلني. لا أظن أن به حاجة للوقوف مني هذا الموقف إلا أن يكون في نفسه شر يريد أن يلحقه بي، وأقسم لك يا أمي أني كنت أرى كل الشر في عينيه حين كان يروي لي أخبار دميان في غرفة جدي حتى خيل إليَّ أنه كاذب، وأنه يريد أن يوقعني في شر لولا ذلك الخطاب الذي رأيته، ولما استحلفني ألا أبوح لأحد بأنه هو الذي أعلمني بكل خبره، خيل إلي أنه بعض تدبيره لأذاي. بل كنت ساعة يمنّ عليكما في السفينة بأنه هو الذي أطلعني على أخبار دميان حتى أنقذتموني منه — ويحلني من ذلك القسم الذي أقسمته — أرى في اعترافه هذا شرًّا يبيت لي، هو ما يدلُّ عليه اختباؤه وراء الأشجار والتماثيل والعطف. ألا يمكن يا والدتي أن يستغني عنه جدي ليفارقنا؟ قالت هرميون: لا أظن ذلك يا ابنتي، إنه منه كما كان ورقة من أبيك. فصمتت لمياء، وغابت في مكة وهدى ونجران هنيهة تمثل لها ورقة فيها وأدبه وظرفه وخلوص طويته، وقالت لأمها: أين هذا النمر المفترس من ورقة النبيل العفيف؟ أين يا أماه، ليته معنا هنا! إذن لكنا أسعد خلق الله! خيل إليّ يا أماه حين وصلنا إلى ميناء فيلاق أني رأيته بباب أحد الحوانيت، ولولا أنه كان في لباس عسكري وقبَّعة رومية ما اعتورني في أمره شك. ألا يجوز يا أماه! أن تكون رسالة الوداع التي أرسلتها إليه قد جاءت به إلى الإسكندرية؟ إنه يحبنا يا أماه حبًّا خالصًا، ويعلم أننا نحبه ونعرف قدره. منذ تلك الساعة لم يفارق شبحه عيني، بل إني وحقك أرى شبحه الآن يتردد أمام عيني وكأنه يلوح من وراء السور، ولكن العجب أني أراه في لباس الجند. ها هو ذا: انظري معي يا أماه. عجلي قبل أن تخفيه أغصان الياسمين، وي! لقد اختفى ومضى في طريقه. ذهب يا أمي. ليته يعود!

figure

هلعت هرميون لهذا الحديث، وظنت أن ابنتها أصيبت لوجدها بعارض من الجنون، فالتفتت إليها وتمعنت في عينيها، فوجدت فيهما دمعتين تتردَّدان في السقوط، فأخذتها إلى صدرها، وهي تقول: ماذا يا لمياء؟ أين ورقة منا الآن يا بنيتي!: قالت: خُيّل إليّ يا أمي، أني رأيته من وراء السور، وأنه كان ينظر إليّ … ثم نظرت مرة أخرى إلى السور فرأت ورقة قد عاد ينظر من بين القضبان، وإذ وقعت عينه عليها ابتسم لها فلم تشك لمياء في أنه هو، وأفلتت من ذراعي أمها، وصاحت: إلينا يا ورقة! إلينا! فازداد هلع هرميون، ولاسيما حين خلتها ابنتها وجرت نحو الباب فاتحة ذراعيها وليس هناك أحد.

خيل إلى هرميون أن ابنتها جُنت فعلًا، وأنها الآن شاردة في الطرقات شرود المجنون، ولكنها رأت الباب يفتح ويدخل منه فتى في لباس الجند، ورأت ابنتها تعانقه وتقبله، وهو يعانقها كذلك ويقبلها قبلة المحب الشيق، ثم يرى هرميون فيذهب إليها ويعانقها هي أيضًا ويبكي على كتفها بكاء الطفل المشوق.

كان هو ورقة بالطبع جاء يتنسّم الأخبار، ويستمدُّ قطرات السلوى من معالم الدار فإذا به يجد الأحباب بين الأشجار والأزهار، فدخل، ولم تقو نفوسهم على هذه المفاجأة السعيدة بعد كل ما لقوا من الشقاء، فأسقطوا كل عرف وأزاحوا كل ستار، وتركوا للقلوب هنيهة من الزمان تسعد فيها بالحق، وتؤدي أمانتها من غير تحفظ ولا رياء ما دامت مطهرة لا تلوِّثها لوثة من نفس سافلة.

كان هذا المنظر يجري تحت أعين رجلين يختلفان كل مختلف: أحدهما: قوزمان، وكان يطل من شرفة بيته على بستان داره بعد ما تناول طعام صباحه، ويعجب لبنتيه كيف تلقيان أجنبيًّا عنهما هذا اللقاء الرائع، وإن كان قد أحس عند رؤيته كأنما شع في قلبه نور يملؤه متعة ونعمة؛ لأنه لم يستطع أن يسعدهما بشيء منذ جاءاه، فلم يتمهل حتى يعلماه من القادم، بل نادى لمياء يسائلها: من هذا الذي أسعدتك رؤيته يا لمياء وأسعدتني معك! فالتفتت إليه في شرفته تقول: جدي. أنت ترى! هذا ورقة يا جدي! كأنما يجب أن يعرف الناس كلهم ورقة ولو لم يروه أو يسمعوا به، ويعلموا كذلك أنها تحبه، والحقيقة أنه يعرف عنه شيئًا كثيرًا من ابنته، فقد خبَّرته عنه في ليالي مقامهم الطويلة في منف ما جعل الفتى في عينه قديسًا مباركًا. فقال: مرحبًا بولدنا الكريم اصعدوا إليّ جميعًا. فأخذته لمياء من يده وصعدت به درجات السلم الرخامية هي وأمها.

أما الرجل الثاني: فكان بطرس البحريني. كان قد دار حول البيت دورة، ودخل البستان من الباب الخلفي المعد للمكتبة ساعة دخل ورقة، وعاد فوقف تحت شجرة التين الكبيرة تستره أوراقها المهدلة، وما كان في طريق الناظر إليها من أغصان شجرة ليمون فتية. هناك وقف يتسمع ويرى ويتميز من الغيظ: شاهد كل شيء وسمع كل شيء، ورأى القبلات والمعانقات وقطرات دموع المحبة الخالصة، وسمع الجد يحيي ويرحب فثبت له أن الغاية التي كان يؤمل تحقيقها والتي حفزته في منف إلى الوشاية بدميان قد عادت فبعدت الآن بعدًا سحيقًا. فهذا فتًى اجتمعت لمياء وأمها وجدها على محبته والاحتفاء به، فتى متزن القسمات، حسن التقويم، نبيل الطلعة خلاب البسمات، عظيم القدر في الجندية؛ إذ هو أمير مائة وهو لم يعد العشرين بكثير، وليس في حركاته ولا إشارته ولا نظراته ما يدل على أنها مران تعمِّل، أو اعتياد مراء، وإذ أدرك من بعض عباراته معهما أنه عربي، فقد استنتج بغير ما حاجة إلى ذكاء أنه هو الفتى الذي قيل جاء به الأمير نيقتاس من مكة؛ ليكون حارسه الخاص. حارسه الذي قيل كذلك لا يطيش له سهم، ولا يفلت من سيفه مسايف. إذن فقد انقطع الأمل، ولكن الشيطان لم يرض أن يسلِّم بالخيبة حتى يعرف من هذا. فقد يكون أخاها أو يكون ممن لا مطمع لهم في زواجها، أو يكون من عشَّاق أمها، أو صاحب زوجة وأولاد. فمن الواجب أن ينتظر ليرى ويعرف، ولعله — حتى ولو خاب ما حدثته به نفسه — يستطيع أن يعاود المسير في الطريق المؤدي إلى لمياء. إن الحيل لا تنفد ما دامت كل الحيل عنده مشروعة حسنها وسيئها، بل الوشاية جائزة، وسجن ورقة جائز، وقتله كذلك جائز، ولكن يجب أن يعرف من هو؟ ويتفحَّصه من جميع جهاته، ولماذا هو في لباس عسكري رومي؟ ولماذا يتقلد سيفًا عربيًّا؟ أما هذا فقد جاءه به العلم عرضًا من عشرائه وأصحابه في حيِّ رقودة ليلة أمس فقد بلغهم أن الوالي استقدم من بلاد العرب فتًى من رماة النبل الذي لا يخطئون، والمسايفين الذين لا يغلبون، وجعله حارسًا له في الليل، وأن هذا الحارس لم يشأ أن يتقلد سيوفهم الرومية، واستأذن من سيده في حمل سلاحه الخاص فسمح له بذلك، وأن الوالي علم بأنه يعشق امرأة أخيه الذي قتل في القدس، وأنها هي أيضًا تحبه، ولذلك لزمت القصر ولم تعد إلى بيت أبيها. ثم حاكوا حول هيلانة المسكينة أقاصيص نشرها الأوغاد والسفلة فقالوا: إنه يقصد إليها في موهن الليل وهم يظنونه قائمًا على حراسة الوالي، متسللًا إليها من باب إلى باب، بل إن الحارس لوكاس الشيخ هو الذي يمهد هذا اللقاء … وغير ذلك مما يفتريه السفلة الأنذال في كل زمان، ويلقونه زورًا وبهتانًا على من يخصهم الله بفضله في الحكم أو الرياسة أو الثروة، وكان بطرس أحد هؤلاء المتخرِّصين، وإن لم يمض على عودته إلى الإسكندرية أيام كثيرة يكون قد عرف فيها كل هذه الخبايا، ولم يتورع أن يفتري كل هذا الفرى على أيِّم سيئة الحظ هي هيلانة ابنة أستاذه الذي يؤويه، وكان أقل ما يجب عليه ألا يسمح لأحد بتناول عرضها بمثل ذلك، بَلْه أن يمتنع هو ويعف عن الافتراء، ومع أنه سمع هذا الخبر فعلم بأن هناك على الأقل إشاعة بعودة بنت سيده من القدس، وهو لا يعلم بعودتها، لم يُطلع أستاذه على ما سمع؛ لأنه لم يكن يهمه من أستاذه هذا إلا ما يستفيد هو منه. فأما أن يفيده بشيء ولو كان تافهًا أو كان مما لا يضيره بشيء بتاتًا فلا. لا لأنه يتعمد ألا يفيده، بل لأنه لا يفكر فيه بتاتًا. حسبه أن يأخذ منه مرتبه ويأكل من طعامه، ويكتب له ما يريد كتابته، أو ينسخ لنفسه من مكتبته ما يبيعه لطلاب العلم، ثم يغادر بيته في العصر؛ ليقضي بقية اليوم في الحانات بعد أن يغير لباسه، الذي ارتضاه لنفسه مع قوزمان ذلك الملبس الخليط بين جبة القساوسة، ودرَّاعة الناس؛ ليكون في بيت قوزمان قريب الشبه بالكرام، بملبسه الآخر ليكون في المدينة على حقيقته مع الناس في الحانات والمواخير، وأندية المقامرين والصعاليك، فلينتظر بطرس إذن ما تهيئه له الظروف من الوسائل، ولننتظر نحن كذلك لنرى ماذا يريد هذا الشمَّاس المنوفي الآبق أن يفعل بالأبرياء.

أما ورقة فقد تلقاه قوزمان بذراعين مفتوحين، فلما دنا منه أخذه بينهما وقبله قبلات الأب يلقى ولده الغائب، وهو يقول له: لقد وصفت لي ابنتاي أعشارك يا بني، وأطلعتاني على كل حجرة من حجرات قلبك، فلما رأيتك عرفتك على الفور، ولو أني ما كنت أقدّر أن أرك، ولا كانتا تقدران ذلك. فأنت في مكة حبيس بين عربيتك وصحرائك، ونحن هنا طليقون على البحر، وإن كنا سنحتبس وشيكًا إذ جاءنا الفرس.

وأخذ الثلاثة يتعاورون الفتى بالأسئلة: كيف ترك مكة وكيف جاء؟ وكيف اتصل بخدمة القصر حتى لبس لباس الحرس؟ وكان يجيب على كل سؤال بجوابه، وهم دهشون لتوالي الأحداث في زمن قصير كالذي مرَّ على افتراقهما عنه، وكان هرميون تزعم أنه تسلَّم رسالة وداعها مكة، وأنه لذلك علم بأنهما قصدتا الإسكندرية فجاء إليها يحدوه حبه ووفاؤه فقالت: لقد كنت أخشى حين كتبت لك رسالة الوداع أن يحملك حبك لنا على متابعتنا، ولكني ما كنت أستطيع أن أتركها قبل أن أودعك فلما علمت منه أنه غادر مكة قبل أن يعلم برحيلها عنها، وأنه لم يتسلم رسالتها، وأنه كان يظن أنهما باقيتان بمكة حين كانتا في مصر، كما زعمتا أنه كان لا يزال في مكة حين أنه كان في يثرب ومعان والإسكندرية عادت تسائله في غضون ترحيبهم به وهم داخلون به الدار. فأخذ ورقة يذكرهم ما مر به من الأحداث أثر ما فضح من تدبير النضر لقتل رسول الله، وإهدار المشركين دمه؛ لقتله دسيستهم في تلك الليلة، وما جرى من إهدار اليهود دمه كذلك؛ لقتله عملاقهم وفارسهم، وكان على وشك أن يذكر حادثة التقائه بهيلانة في معان، ولكن لمياء قاطعته لحسن حظه سائلة: كيف عرفت بيت جدي؟ أم أنك رأيتنا مصادفة؟ قال وقد ارتاح إلى هذه المقاطعة: أما اللقاء فمصادفة من تدبير الله؛ لكيلا تطول وحشتي كنت أسير مع أنطونيوس بن لوكاس الحارس في المدينة لأتنظرها وأعرفها ومر بي في هذا الشارع، فما حاذينا هذا البيت، وكنت قد رأيته يوم جئت ونسيت موقعه، تذكرته فقلت لأنطونيوس: أليس هذا بيت العالم قوزمان قال: بلى. فوقفت أتأمله وبي حنين إلى رؤية سيدي، ولكني كنت أعلم أنه في مصر فمضيت متأسفًا، ولكني شعرت للبيت بحب عظيم أخذ يزداد عندي كل يوم حتى صار كعبتي في الإسكندرية، لا تهدأ نفسي في يومها إلا إذا زرته وملأت من منظره قلبي، وأنا على هذا الحال منذ عرفت الطريق إليه أجيء إليه كل يوم وأنظر من خلال السور إلى بابه وبستانه، ثم أمضي ملآن القلب بالذكريات، وها قد أثابني الله على هذا الحج: لقاء الأحباب والأصدقاء، وإنها وربي لأجمل نعمة. فارتاح قوزمان إلى حديث الفتى ونزل في قلبه منزلًا كريمًا. قالت لمياء: سمعتك تقول إنك رأيت هذا البيت يوم جئت ثم نسيت موقعه، وأنك علمت يومئذ بغيبة جدي؟ قال وقد ابتسم وأغمض عينيه كأنه يريد أن يخفي شيئًا: نعم، قالت كيف كان ذلك؟ هل جاء بك أحد إليه؟ قالت هرميون وقد رأت خجل الفتى في ابتسامته وإغماضه: لم هذا السؤال يا لمياء؟ أنت تعلمين أن ورقة أتى الإسكندرية فيمن يأتون من الغرباء؛ ولا بد أن يبحث الغريب عن أقرب الناس إليه فيها. فهل عجب أن يطلب إلى دليله أن يسير به إلى بيت جدك؟ قالت لمياء؟ صدقت يا أماه. معذرة إليك يا ورقة. لعلي أسأت في هذا السؤال. معذرة. قال: لا وربي لم تسيئي، ولو كنت وحيدًا حين جئت الإسكندرية غريبًا عنها ما ترددت في التماس بيت جدك الكريم. إني أراه كمولاي الحارث سواء بسواء، وإن كان لي فيها فيما روى لي أبي — رحمه الله — أبناء أعمام. نعم، إني بحثت عنهم فعلمت أنهم رحلوا إلى الصعيد، ولكني جئت الإسكندرية منذ شهر تقريبًا صحبة إنسان من أقرب الناس إليكم، وأحبهم لكم وإليكم. هو أو هي التي عرفتني إلى المقوقس فأخذني في حراسه مرفوع الدرجة بين رجال قصره. فنهضت هرميون تقول: من هي هذه القريبة المحبة التي جاءت بك هنا، والتي عرفتك إلى الوالي، أختي هيلانة؟ وكان ورقة يحاذر أن يلم بحديث هيلانة اتقاء لما وراء ذلك من ذكر مقتل زوجها وولدها، وانقلاب مجتمع المسرة محزنة، وإن كان قد شعر أنه كالذي لا يهمه من الناس إلا مصلحته منهم، ولذلك أجل الكلام عنها — وقصتها في المنتصف — حتى يهديه الله إلى مخرج لطيف المسلك، ولكن سؤال لمياء أحرجه فكان جوابه مترددًا بين الإفصاح والإبهام، وكان عليه أن يجيب الآن سؤال هرميون فاكتفى بأن قال: نعم. السيدة هيلانة. قالوا: جاءت؟ متى؟ فاستعد يتكلم بما يملك، ولكن القدر أسعده فقد رأى هيلانة نفسها قادمة نحو الغرفة التي كان فيها فقال: أدع لها هي أن تتكلم وتحدثكم حديثها. إني أراها قادمة.

وكانت هيلانة آتية نحوهم لم يرها سواه؛ إذ كان وجهه إلى الباب، جاءت لأن الحارث لوكاس خبَّرها أن ولده رأى نورًا في البيت ليلة أمس، وخُيل إليه أنه رأى الأستاذ نفسه وسيدته هرميون، وأنه أرسله مرة أخرى؛ ليستوثق فعاد يؤكد له عودة أهل البيت وسيدتيه هرميون وابنتها، ولذلك استأذنت هيلانة في الحضور لزيارة أبيها وأختها، وجاءت مع إحدى قهرمانات القصر لذلك.

التفت الجمع فرأوها ونهضوا للقائها، وعرف ورقة ما وراء ذلك، فانسحب إلى الردهة وهم مشغولون ونزل يلتمس الحديقة، ولشد ما كانت حرارة هذا اللقاء. فقد رأوها في ثياب الحداد السوداء على غير علم منهم بما حدث، ولم يروا معها ابنها فقدَّروا أنه سبب ذلك، ولكنهم ما عتموا أن علموا بالداهية المزدوجة فهلعوا وبكوا وأعولوا، وانتحى كل واحد منهم في الغرفة ناحية يذرف فيها دمعه، وبقيت هيلانة بين يدي أبيها تبكي وهو يساقط دموعه على رأس ابنته المسكينة حزنًا على زوجها وولدها، وأسى لها وإشفاقًا عليها، وهو في أثناء ذلك يحاول تعزيتها فلا يجد لفظًا يؤاتيه، فتركها وانصرف إلى الشرفة يطل على الحديقة؛ لعله يصرف بالنظر إليها وقع البلية عن نفسه. فما استقر بها لحظة حتى رأى المجاور بطرس البحريني يأتي من منعطف الدار مسرعًا ويصعد السلم الخارجية في حالة مريبة نبهته إليه. فنهض ليطل عليه، ثم لم تمرَّ لحظةٌ حتى سمع ورأى مشهدًا لم يخطر بباله أن يراه. ذلك أن ورقة كان قد رأى مقامه إذ ذاك نابيًا؛ إذ الحزن في بعض أمره عورة، وخطر له أن يترك الدار حتى يملكوا لقاءه فنزل يلتمس الطريق إلى القصر على أن يعود في وقت آخر.

فتح باب البيت ليخرج فإذا هو يلقى بطرس البطريني أمامه. رأى أمامه فتًى في الثلاثين من العمر في ملبس عجيب لا هو إلى ملبس أهل الدين ولا هو إلى ملبس عامة لاناس، ورأى وجهًا حسن التقاطيع، كل ما فيه جميل حقيقةً: بشرة سمراء صافية، وأنف مستدق العرنين، فوقه عينان نجلاوان كحيلتان، ودونه فم رقيق الشفتين ألعثهما، وذقن حسن الاستدارة يعلوه عارضان عليهما لحية لامعة الشعر في قِصَر فهي جميلة، ورأى في الرجل تأدبًا، ولكنه شعر أنه تأدب فيه شيء من الافتعال والاتضاع. كل ذلك رآه ورقة، ولكنه مع ذلك لم يستملح الفتى، ولم يمل إليه قلبه. بل الواقع أنه شعر حين وقعت عيناه على عينه برعدة مفاجئة، وذلك لأنه رأى بريق عينيه أكثر مما يجب للإنسان. بريقًا عزاه ورقة إلى ما انطوت عليه نفس المرئي من وفرة الحياة والقوة المضاعفة والجراءة مع الذكاء الشديد، وكان هذا في حكم ورقة أخطر أنواع البشر. فهو لهذه المواهب الخارقة يكون مفرطًا في الخبث والجراءة، وإن لم يخل لذكائه من الجبانة التي تزيد في حرصه ومكره. يرى جميع الناس صغارًا مهما كبروا، ضعافًا مهما قووا، حمقى مهما رشدوا، وأنه أحق منهم بكل ما في أيديهم من المتاع فإن لم ينزلوا عنه بالرضا وبالتسليم له بحقه فيجب أن يأخذه منهم غلابًا. نعم، إن القوانين تحمي الضعاف، وكل الناس في عينه ضعاف، ولكن لا شأن له بالقوانين، فقد وضعها الضعاف أنفسهم؛ لحماية أنفسهم من أمثاله أصحاب الحق الفطري على كل متاع، ومن الحمق أن يسلم لهم بها إلا رياءً ريثما يجد الوسيلة إلى الحصول عليه بما يسميه الضعفاء والقوانين إجرامًا، ولا يسميه هو إلا احتيالًا ألجأه إليه إنكار الضعفاء حقه.

لم يحيه ورقة تعمدًا، ولا ترك الباب الذي فتحه مفتوحًا لدخوله؛ لأنه رآه واقفًا ليس عليه أثر قدوم، فلا بأس عليه أن يستمر في وقوفه، ولذلك أقفل ورقة الباب وهو خارج. فغاظ هذا العمل بطرس غيظًا كبيرًا؛ لأنه كان يود أن يدخل البيت في غفلة أهله ليرى ويسمع، ولاح له وقد دخل ورقة ولمياء وأمها، ودخلت بعدهم خالتها والقهرمانة ما يدعو إلى التساؤل.وكان يمني نفسه أن يفتح أحدهم الباب ويتركه كذلك حين يراه فذهب ووقف على الصدفة التي أمام الباب في انتظار هذه الفرصة. فلما خرج ورقة وأقفل الباب وراءه غاظه هذا جدًّا، وكان مغيظًا منه من قبلُ غيرةً وحسدًا فقال له: حسبت القصر يعلِّم الناس الأدب فإذا أنا مخطئ فيما حسبت. فنظر إليه ورقة هنيهة صامتًا، ثم قال وقد رأى سوء أدب الرجل، وثبت له بعض ما توجس من أنه شرير شديد الاحتقار للناس، وأن خير ما يعالج به أمثاله دقهم على الناصية لأول حادث: أخطأت حقًّا يا سيدي كما أخطأت أنا له فإني ما كنت أحسب هذه العيون البراقة تعمى عن رؤية البديهيات؛ فذعر بطرس لهذا الجواب الصارم، ووقف يتأمل قائله فرآه على ما يبدو عليه من جنوح إلى الخير على شيء بعيد الغور من رباطة الجأش والمسارعة إلى القراع. فخشيه، ولكن غيظه منه كان متغلبًا عليه فردَّ يقول: إنكم معشر الحراس لا ترون في الناس إلا ما ترون في أنفسكم. قال ورقة: هنيئًا لك ذكاؤك الذي دلك على أني أراك سافلًا قليل الحياء. فاضطرب بطرس، ولكنه تمالك نفسه وقال: لقد تساوينا في السفالة إذن. قال ورقة: صدقت، ولكني لا أسمح أن تفوقني فيها! ولطمه على وجهه لطمة قاسية ردته إلى الدرج، وهوت قدمه فوقع على ظهره مدلى الرأس حتى بلغ أرض الحديقة، وخانته رجولته عند ذلك فظل على هذه الحال مدة، وأخذ يصرخ ويستعدي حتى نبَّه إليه الثكالى فنهضن ينظرن ما جرى، ورآهن في الشرفة فنهض يريد أن ينتقم من ورقة، ولكن ورقة ركله فارتد حيث كان.

على أن قوزمان كان قد سمع الحديث كله، ورأى ما حدث من ساعة استراب صعود كاتبه على الدرج معاجلًا، وهو لا شأن له ببيت أستاذه؛ إذ كان شأنه بالمكتبة، ولهذه باب مستقل خلف الحديقة. فترك الشرفة ونزل ليلقى الرجلين، ويحول دون ما قد يكون وراء ذلك. فلما فتح الباب ورآه بطرس جدد الصياح والشجار، وسأله الأستاذ متعجبًا لأمره قائلًا: لم هذا الصياح يا بطرس؟ قال: سل هذا الوحش يا سيدي، ماذا فعلت له حتى يشتمني ويلطمني ويلقيني على السلم كما رأيت؟ إنه رآني في هذا الثوب المتواضع، وهو في هذا اللباس الزاهي فظن أن الثوب يعطيه الحق في استخدام الناس، وتوجيههم في أغراضه السالفة، ويجيز له لطمهم إذا هم لم يجيبوه إلى أغراضه الدنيئة. أنا لا أتردد عن خدمة الناس في الأمر الكريم، ولكن لا يليق بكرامتي يا سيدي، وأنا بعدُ شماس في خدمة الكنيسة، وخدمة العلم والعلماء — أن أقف مع فاسق يسألني عن حي الراقصات والعواهر؟ إنه يريد مني أن أصحبه إليهن، وأدله على مكانهن أهذا ما وصلت إليه حالتي أنا المجاور المسكين؟ لا. لم يعد لي في هذه المدينة مقام. لا بد لي من العودة إلى صومعتي في الدير. ثم انفجر يبكي وينتحب!

figure

فدهش قوزمان لجراءة الرجل في الافتراء، وقال في نفسه: غير بعيد أن تكون رواياته الماضية عمن كان يتشاجر معهم افتراءات كهذه، وأني أخطأت في الانتصار له واستصدار العفو عنه من نيقتاس غير مرة، واشتدّت به دهشته حتى لم يجد ما يرد به على هذا البكاء. أما ورقة فوقف يتأمل الرجل بابتسامة الساخر؛ لأنه رأى منظرًا عجبًا شعر له بشيء من الارتياح في صدره، ذلك أن فراسته لم تخطئ حين وقعت عينه على الرجل أول وهلة، وعجب قوزمان لهدوء نفس ورقة في هذا الموقف، وابتسامته الساخرة حتى من الفضيحة، وشُغل قوزمان عن سؤاله فيما جرى — لا ليعلم بل ليستوثق — بتفحصه والإعجاب به. فلما همَّ ورقة يبدي شيئًا من تعجبه؛ لقدرة الرجل على الافتراء بمنتهى الطلاقة والذلاقة — خشي بطرس أن يؤثر كلام ورقة في قوزمان، فأخذ يقطع عليه كلماته بالصراخ والزئاط والذهاب والمجيء، ويكرر التهمة بالصوت العالي؛ ليسمع النساء على نحو ما اعتاد النجاح به في حوادث شجاره الكثيرة في حي المومسات، وقد نسي أنه لم يبد يومًا لأستاذه في خلق الصخابين المقاطعين المعتادين مثل هذه المآزق، ولذلك نبهه قوزمان أن يخفض صوته، وأن يخرج من بيته من فوره ولا يعود إليه، وأنذره أنه إذا عاد أو رئي في البيت بعد حينه فسيسلمه إلى الشرطة الذين أنقذه منهم غير مرة.

صعق بطرس لهذا الحكم القاتل، وأدرك أن ما جرى بينه وبين ورقة قد سمعه الأستاذ وشهده على حال ما، وإلا فما كان يقضي هذا القضاء الجازم الشديد. فلم يعقب على كلامه، والتفت نحو الباب وهو يتمتم بكلمات وعيد لم يأبه لها ورقة، وما كاد ورقة يلتفت إلى الأستاذ؛ ليعتذر إليه مما جرى حتى قاطعه هذا قائلًا: لقد رأيت قبل أن ترى ما رابني منه، وسمعت ما بدأ به كلامه معك وما رددت عليه، ولا وزر عليك، وأنا أولى أن أعتذر إليك من فرية هذا الرجل الذي خدعني ثلاث سنوات متوالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤