الفصل السادس والأربعون

نقض الصحيفة

لم يجد رسول نيقتاس أبا لمياء في جدة، وخبَّره أهل الميناء أنهم شاهدوه يركب سفينة مصرية إلى عيذاب منذ أربعة أشهر، وإذ كان الرسول معروفًا لهم بأنه بريد، فقد أشاروا عليه أن يسلم الرسالة إلى ولده النضر، ويفرغ من أمرها ما دام راحلًا إلى مكة؛ لتسليم رسائل أخرى إلى بعض أهلها، وقالوا له: لعل النضر يستطيع أن يجيب عليها بما يرتاح إليه فؤاد المرسل، أو يدله على مكانه، أو يفيده بما ينتفع به المرسل من الأخبار.

على هذا رحل البريد إلى مكة، وقصد إلى بيت النضر، فلما استأذن عليه ودخل وجده في جماعة من أعيان مكة تبدو عليهم سيماء الكآبة والغيظ، وكأنهم كانوا يتحدثون في أمر جلل قطعه عليهم البريد بدخوله، فنظروا إليه جامدين وهو يحييهم، ثم رد النضر تحيته مقتضبًا ولم يدعه إلى الجلوس. فجثا الرجل على ركبتيه وأخذ يقول: إني رسول سمو حاكم مصر، جئت إلى السيد الحارث بن كلدة برسالة من عنده، ولكني لم أجده في جدة كما قيل لي. قال النضر: هات الرسالة فأعطاه الرجل إياها واستمر جاثيًا ينتظر جوابًا: فلما نشرها النضر ليقرأها وجدها بالرومية فطواها، ونظر إلى البريد مغضبًا، وقال: أنا لا أعرف الرومية. تتركها الآن حتى نجد من يقرؤها لنا ويترجمها. قال أحد الجلوس: لعله يعرف القراءة بالرومية أتعرفها يا فتى؟ قال: لا. إني عربي الأصل وإن كنت أتكلم الرومية، قال: فهل تدري فيم كتبت؟ قال: خبر سار؛ إن مولاي الأمير نيقتاس يخبر سيدي الحارث بزواج ابنته حفيدة العالم قوزمان من كبير حراس قصره، وهو فتًى من أصل عربي شريف، عظيم الهمة، أصبح لفضله وأمانته وبره بمولاه صاحب الكلمة العليا في قصره، قال: ما اسمه يا ترى؟ قال: اسمه ورقة بن صليح، قال النضر مشدوهًا ونهض من مجلسه قليلًا: ما اسمه؟! قال البريد: ورقة بن صليح! قال: ابن الجارية والنجار القبطي! أهذا هو الخبر السار الذي جئت به. إنه لأسوأ خبر. فأُخذ الرجل بما رأى من استيائهم ولم يجب، وأخذ يقلب وجهه من الجالسين من طرف إلى طرف، فرأى النضر قد استطال وجهه وفمه، وجمدت أصابعه على الطومار، وحاول أن يتكلم فانعقد لسانه، وخشي أحد الحاضرين أن يخرج الوجد بالنضر؛ لما رأى من فرط ما دهاه لدن سماع هذا النبأ، فيؤذي الرسول.

figure
فأشار إلى الرسول بعينه أن يتراجع ويحاذر، ثم مال على النضر ومد يده؛ ليأخذ منه الطومار الذي كتبت عليه الرسالة، ولكن يد النضر كانت قد شلَّت فلم يقو صاحبه على استلال الرسالة من قبضته إلا بعلاج طويل كاد يتلفها. كان هذا حليفه في الشر والفساد وأذى المسلمين: عقبة بن أبي معيط. جاءه منذ هنيهة يبلِّغه خبر سوء عظيم، فاجتمع السوءان على النضر في وقت معًا، ولذلك أصبت بشيء من الفالج.١

أدرك ابن معيط ذلك فأرسل من فوره إلى حجام؛ ليحجم النضر، وجاء وحجمه، وحملوه إلى داره.

أما المصري فخرج يبحث عن بيت باقوم؛ ليسلم إليه رسالة ورقة، وكان منذ دخل مكة يرى على قرب منه غلامًا فرهًا يسايره وهو يتطلع إليه، فلم يهمَّه أمره، وحسبه فضوليًّا يتعجَّب لملبسه، فابتسم وسأله عن بيت الحارث بن كلدة فتطوع الغلام ليدله عليه، وسار أمامه حتى إذا بلغه، ودخله الرسول — وقف الغلام بالقرب من الباب ينتظر خروجه. فلما خرج عاد يسايره. فقال الرسول: ألا تزال هنا؟ قال: أنا في انتظارك يا سيد، هل لك في مروءة؟ قال فيم؟ قال: تأخذ هذه الدراهم، وتشتري لي لحمًا وخبزًا؛ إن أبي جائع، وأمي تكاد تموت من المسغبة. قال: وما يمنعك من أن تشتري أنت بمالك ما تشاء! قال: إني من موالي بيت رسول الله. قال: وهل لا يليق بموالي بيت الرسول أن يشتروا كما يشتري موالي غيرهم؟ أم إنهم يتنزلون للشراء بأيديهم! قال الغلام: ليتهم كموالي أخسّ الناس في مكة. إنه محظور عليهم أن يشتروا لسادتهم شيئًا من أسواقها. إنَّ النضر بن الحارث وصحبه الذين رأيتهم معه وسائر قريش قد أجمعوا على مقاطعتهم، وهم يعرفوننا نحن موالي بيت بني هاشم جميعًا فلا يبيعوننا شيئًا ولا يعاملوننا، ولذلك فإني أخرج كل يوم إلى باب العمرة٢ في انتظار الأجانب عن المدينة فأساعدهم فيما يلتمسون، وأرجو منهم في مقابل صنيعي أن يشتروا لي بنقودي طعامًا لسادتي من سوق حزورة هذه فآخذه إليهم، قال المصري: إذا لم يكن في ذلك بأس فهيا. هات دراهمك. ماذا تريد؟ قال الغلام: لحمًا وخبزًا وسمنًا، ولكني لا أستطيع أن أقف بجانبك؛ لئلا يعرفوا أنك تشتري لي. سأنتظرك عند باب الصفا الذي يُرى في آخر هذا الدرب فإذا اشتريت وعدت فسر في الدرب حتى تلقاني أو ألقاك، وهناك سأسير أمامك فتتبعني حتى آخذ منك ما تشتري. قال المصري: هذه مهمة شاقة. فقال الفتى: إلا على مروءتك. إني أراك كريم النفس. قال: شكرًا لك، ولكني أريدك لأمر آخر. قال: ما هو؟ قال: أتعرف بيت رجل رومي اسمه باقوم. قال الغلام: نعم، بل أنا من أهل بيته عينًا فماذا تريد منه؟ قال: عندي له رسالة من ولده. قال الغلام: ورقة؟ قال نعم. قال: أهو حيٌّ يا سيدي؟ قال: حي يرزق، وهو اليوم أمير كبير، وهو الذي كتب هذه الرسالة. قال: هو سيدي ومولاي. أهو عائدٌ إلى مكة؟ قال: يعود إلى مكة! لا لن يترك ما هو فيه من العزِّ والنعيم في الإسكندرية ويأتي هنا إلى بلد ليس فيها طعام ولا شراب. قال الغلام: سأركض يا سيدي أخبر والده وأمه بقدومك ريثما تشتري الطعام، وأعود إليك، قال: افعل. سأنتظرك حتى تجيء. قال: بل سأنتظرك.

كان هذا الغلام رؤبة غلام القرضاب الذي أنقذه ورقة، أغرى أمه بالحج؛ ليأتي معها إلى مكة، ويرى سيّده وصديقه الذي تعلق به قلبه، فجاءا ونزلا في بيت باقوم، ثم أغراها بالبقاء في مكة فقبلت، ورأت العفيفة في وجودهما في بيتها شيئًا من السلوى، فعرضت عليها أن يبقيا معها فقبلا ذلك شاكرين، وعاشا معها منذ ذلك الحين يعملان في خدمتها، وفي خدمة مولاتها أم المؤمنين.

عاد رؤبة إلى دار باقوم؛ ليخبره خبر مجيء رسول من عند ورقة بكتاب، وأبلغه ما سمعه من الرسول من أمر ورقة، وأنه صار أميرًا في قصر الملك في الإسكندرية فزغردت تماضر وأم رؤبة فرحًا بما سمعتا ونهضتا لإعداد مكان للضيف البشير، وخرج رؤبة للقائه كما اتفق معه، وإذا به يسمع زئاطًا كبيرًا وجلبة واردة من أندية المشركين حول الكعبة، ورأى قومًا يتراكضون نحو شعب أبي طالب وهم يهللون فرحين، فاستوقف اللطيم منهم قائلًا: مهلًا! مهلًا! لن تكون الأسبق بعد ما فاتتك الكرائم فكن الأول في إخباري بما لديك. فضحك المحادث، وكان يعرف أنه من أهل الشعب مثله، وقال له: إن المشركين اختلفوا فيما بينهم على أمر المقاطعة، وذلك على أثر الآية العظيمة التي أظهرت صدق رسول الله. قال: ما هذا؟ قال: إن أبا طالب خرج من الشعب إلى الحرم فاجتمع الملأ من قريش، وقال لهم: إن ابن أخي أخبرني أن الله أرسل الأرضة على صحيفتكم التي كتبتموها فيما بينكم لمقاطعتنا، فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم٣ وتركت اسم الله تعالى لم يُمس فأحضروها، فإن كان ابن أخي صادقًا علمتم أنكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا، وإن كان كاذبًا علمنا أنكم على حق وأنا على باطل. فقاموا سراعًا وأحضروها من جوف الكعبة حيث كانوا علقوها؛ لتكون حجة على المشركين فيما بينهم، فوجدوا الأمر كله كما قال رسول الله. فقويت نفس أبي طالب واشتد صوته، وقال: قد تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة. فنكسوا رءوسهم، ثم قالوا: إنما تأتوننا بالسحر والبهتان، وأرادوا أن يتملصوا من هذا البرهان العظيم، ولكن قام من بين المشركين نفر من أجوادهم منهم هشام بن عمرو، وزهير بن أمية، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأعلنوا نقض الصحيفة٤ ونادوا في مكة يقولون: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم؟ ألا لتفتح الأسواق لهم، ويكن لهم فيها ما لنا، وكنا ذاهبين لنخبر مولاتنا أم المؤمنين بهذا الخبر، وكنت أرجو أن أكون أسبقهم إلى ذلك فإذا أنت تمنعني، قال رؤبة: يجب علينا أن نحمد الله على برهانه، وعلى انتهاء ضائقة المسلمين، ثمَّ ودعه وانصرف في طريق صاحبه.

وكان قد سبق لمن نقضوا الصحيفة أن اجتمعوا في بيت النضر بإخوانهم من المشركين، وتذاكروا في شأن نقضها مع أبي جهل والنضر وابن أبي معيط عندما علموا بقدوم أبي طالب، وما لقي إخوانهم بنو هاشم من الأذى طوال السنوات الثلاث التي قضوها في الشعب، وأعلنوهم بعزمهم على نقض الصحيفة. فرماهم هؤلاء بالنكوص والخيانة، وحدث بينهم في بيت النضر ما حدث من التشاتم والتنابذ قبل مقدم رسول نيقتاس. فلما خبَّره خبر زواج لمياء من ورقة كان في خبره الصدمة الكبرى لفؤاده فأصابه ما أصابه.

علت الزغاريد في حي بني هاشم، وتوارد الموالي على الأسواق يشترون ويستبضعون وهم آمنون، وشهد رسول نيقتاس هذا فسره الأمر، ولكنه كان قد اشترى حاجة الغلام وخرج بها فلقيه قادمًا عليه وهو مطمئن فهنأه بما كان، وشكره رؤبة على فضله، وأبلغه أن باقوم في انتظاره.

قضى المصري يومين في مكة كان فيهما محل الرعاية من باقوم وتماضر وبلال وزيد بن حارثة، وذكر فيهما زواج ورقة من لمياء بنت الحارث بفضل الأمير، فزغردوا فرحًا وسرورًا، وذكر ما يلقى من رعاية الأمير، وما بلغ إليه من العزة والمكانة، وخبرهم أن في نية ورقة أن يأتي بأهله إليه عندما تستقر الأمور في الإسكندرية، وطمأنهم عليه قولًا بأن الفرس يوشكون أن يتركوا المدينة يأسًا من حصارها، وأيده باقوم في هذا الرأي، وكان بلال يسائله: هل رآه يصلي؟ قال: إنه لم يره يصلي، ولكنه علم من الجنود الذين تحت أمره أنه يصلي مرتين في اليوم بعد أن يغتسل اغتسالًا خاصًا لهذه الصلاة، والأمير يحبه لهذا حتى لقد قيل إن الأمير يصلي معه.

لم يكن هذا صدقًا فيما يختص بالأمير، ولكن حب الجنود لورقة، وتأثرهم بما يروى عنه، وما يعلمون من تمام صلاحه، وارتياح الوالي إليه — جعلهم يتقولون أشياء مما ينسجم فيما يعلمون، وعند ذلك عن لبلال — رضي الله عنه — أن يهدى القبطي رسول نيقتاس إلى الإسلام؛ لأنه عربي من مواليد الإسكندرية اليعقوبيين، ولذلك لم يغادر رسول نيقتاس مكة حتى كان قد أسلم وصلى، وأخاله لقي رسول الله مبايعًا ومتمليًا من نوره، ومعاهدًا له على التوحيد والأمانة لله.

وكان رؤبة قد هامت نفسه شوقًا إلى صديقه وسيده ورقة، واشتهى أن يراه، وألحَّ على أمه في ذلك، ولكنها لم تكن تستطيع أن تجيب هذا الرجاء على الفور حتى ترى رأي من معها، وكان الجمع قد سمعوا قصته فوافقوا على سفره مع الرسول تحقيقًا لرغبة الغلام الوفيّ، وليكون في خدمة ورقة في وحشته.

ولذلك زوَّدوه بما يجب للطريق من المال، وحمله كل منهم رسالة إلى سيده ورقة، وخرج به الرسول عائدًا إلى الإسكندرية من طريق الصحراء فالبحر فميناء لوكياس، ومنها دخل إلى القصر بفضل ما معه من جواز المرور، وبأنه من برد القصر المعروفين.

١  ورد في كتب السيرة أن الله جزى النضر بكتابته صحيفة مقاطعة بني هاشم شللًا أصابه في أصابعه.
٢  هو صوب جدة.
٣  كتب السيرة.
٤  ابن الأسير، وكتب السيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤