الفصل السابع والأربعون

باب القمر

طال وقوف الجيوش الفارسية وراء أسوار الإسكندرية يحاولون تهديمها بالمجانيق ومدافع النار الإغريقية فلا يستطيعون أن يزعزعوا منها حجرًا، وكلما دنوا من الأسوار بدباباتهم المصفحة بالحديد يحاولون اعتلاء الأسوار بما يلقون عليها من غلالات من النار؛ ليزحزحوا عنها حماتها انصب عليهم من أبراجها شواظ نيران مثلها تفني راكبي تلك الدبّابات من جنود الفرس والعرب الذين اقتحموا أسوار القدس منذ عهد قريب، وجيء بهم لينالوا مجدًا آخر على الروم بفتح الإسكندرية، ووقف السلار شاهين أما فسطاطه القائم على تبَّة في تلال نيكر وبوليس١ ينظر إلى بابها الغربي — باب القمر — نظرة الغيظ والحنق بأن هذا الباب شهد هزيمة جنوده وفناء جموعه، ويعجب كيف تقوى الأخشاب — ولو كان مصفحة — على مقاومة الألوف من الجنود، والألوف من الأحجار التي كانت مجانيقه ترميه بها؛ لتكسر مصاريعه أبد الأشهر الثمانية التي قضاها حتى الآن في محاولته فتحه، وأخذ يتخيَّل في عجزه وضيقه أخيلة لفتح الباب ليس تحقيقها في مقدور إنسان، ولكنها أخيلة مما يزيد به العقل يأس اليائس؛ فيقول: لو كان في الطاقة أن يكون في قدرة المجانيق رمي قذائفها فوق الباب والسور، وتنعطف هذه القذائف وتلتوي في سيرها، ثم تجري بعد ذلك راجعة في خط مستقيم؛ لتضرب الباب من الداخل حين تضربه قذائف أخرى من الخارج لأمكن دقه وتهشيمه، ولكنه كان لا يقف عند هذه الأمنية ليتأملها؛ بل ينتقل إلى أمنية أخرى فيقول: لو كانت الزلازل تأتي فتهز الأرض هزة تتشقق على أثرها جدران السور أو تندك؛ لوجد الإنسان إلى الإسكندرية ألف باب يدخل منها، ولكنه كان يقف عند هذه الأمنية مدةً أطول من وقوفه عند الأولى فقد قال له بعض القساوسة اليعقوبيين الذين بكَّروا إليه يرفعون آيات ولاء اليعقوبية لممثل ناصرها الأعظم كسرى أبرويز زوج مارية التقية النقية التي عرفت دين الحق فأعلنته، وأخذوا يتبارون عنده بالعلم بتاريخ البطارقة والأديار: إنّ جزيرة أنتررود٢ وأخواتها من الجزيرات التي كانت عليها قصور البطالسة قد هبطت في البحر هي وبعض الشاطئ القريب بفعل الزلازل. فقال السلار في نفسه: لماذا لا تهبط الأسوار كذلك بفعل زلزال شديد، أو غير شديد ما دام يشقق السور ولو قليلًا، حتى إذا ضرب الشقوق بالمجانيق تناثرت أحجارها، وهيأت له طريقًا؛ بل طرقًا ينصب منها ألوف الجنود في المدينة، ويغرقون حاميتها القليلة العدد!
والواقع أن هرقل كان منذ سنوات قد استنفد جُلّ من كان في الإسكندرية من جيوش الروم التي كانت تحميها؛ طلبها لتساعده على حماية القسطنطينية من شاه ورز قائد الفرس هناك فأرسلت إليه، وكان يظن أنه إذا قدّر أن تتغلب الفرس على أسوار القدس وينصرفوا إلى الإسكندرية، وهذا ما لم يكن يظن هرقل إمكانه — فقد يكون لديه متسع من الوقت؛ لإعادة جنودها إليها ليحموها، وإرسال نجدات من عنده تلو نجدات، ولكن سوء حظه لم يمكنه من تنفيذ هذا التدبير؛ لأن قائد الفرس شاه ورز الذي اكتسح الروم عن الأناضول برمّتها يحاول العبور٣ إليها، فلم يكن في طاقة هرقل أن يردَّ جنديًّا واحدًا إلى الإسكندرية، بل إنه على العكس من ذلك أرسل إلى نيقتاس يستنجده ويستقيته، ويطلب إليه أن يرسل إليه بعض المسترزقة الذين جمعهم من صحراء لوبيا وسينا للدفاع عن الإسكندرية، ما دامت الإسكندرية آمنة وراء حصونها التي أعجزت بونوسوس نفسه، وأعجزت حتى الآن السلار شاهين نفسه، وهو الذي دكَّ حصون أورشليم، ولكنَّ نيقتاس لم يستطيع إجابة سؤل مولاه ورد معتذرًا٤ بأن سبيل التطوع قد قطع عليه، ولم يبق لحماية قصره إلا حرسه من الزنوج٥ وأرسل ورقة وأورست برسالة وبيانات فذهبا إليه — كما قد رأينا — وعادا بوعود لم يتحقق منها شيء، أو بالأحرى لم ينفذ منها إلا ما أباح الإمبراطور لنيقتاس عمله إذا أخذ اليأس يتولاه.

ذهبت تلك الأخيلة مع الريح، ولكنها زادت في غيظ السلار وضيقه ساعة كان جماعة كبيرة من قساوسة أديار اليعقوبية على رأسهم تيوناس وكيل البطريق يسيرون إليه في جبابهم الكهنوتية الفضفاضة يرفع بعضهم صلبانًا من الفضة وأخرى من الذهب، ويحمل بعضهم نسخًا غالية من الكتاب المقدس مما بذل الرهبان وقتًا طويلًا في تزيينه بماء الذهب المشرق الجميل، وبالرسوم الملوّنة التي تشرح الصدر. جاءوا إليه ليدعوا الرب عنده أن يفتح عليه ويعطيه النصر الذي طال انتظاره، وهم يقدمون لهذه الصلاة في الطريق إلى السلار بإنشاد الأناشيد وترتيل التراتيل ليثبتوا له ولاءهم باستعجال الثالوث المقدس؛ لتحقيق ما يجب عليه تحقيقه من أجل عيونهم لاكتساح دين الكفر الرومي الذي يقول بأن جسد المسيح عليه السلام لا يفنى! ويرون أن هذا القول كبير جدًّا وكفر جدًّا، ويجب لتطهير البلاد منه، أن يعطوا الفرس — الذين لا يعترفون بشيء من دينهم حتى ولا بأن المسيح وجد — بلادهم كلها وأعناقهم حتى التراقي أملًا أن يتمكنوا في ظلال نارهم من نشر الدين الحق الذي لا يمكن إلا أن يكون دينهم، ويرى غيرهم أنهم إنما يقدمون المثل من حيث لا يشعرون على أن الدنيا ما شقيت بشيء شقوتها بأمثال حضراتهم؛ إذ يبيعون أوطان الشعوب، ويسلمون للفاتحين رقاب الناس وأعراضهم من أجل أن يحتفظوا هم بأوطانهم الخاصة — الأديار والمعابد والضياع والمزارع — وتتحمل الشعوب بعد ذلك وزر عملهم وسوء آرائهم، وفضيحة التاريخ لهم ظلمًا وتعجلًا من الكاتبين في الحكم. فالواقع أن كهنوت كل أمة كان هو المسيطر على شعبها المتصرف في شئونها يسوقهم في كل سبيل، ويقضي في حاضرها ومستقبلها بما لا يتفق إلا مع مصلحة القساوسة الخاصة، ولا تملك الشعوب أن تعصي لهم أمرًا، أو تعرف وجهًا لدفع آذاهم عنها؛ لأن طاعتهم فيما وقر في قلوب الشعب، من طاعة الرب الذي أسلمهم أسواط الحرمان والطرد، وأعطاهم باسم كل ما اختلقوا من القوانين والشرائع حق الحيلولة بين الرجل وامرأته والوالد وأولاده. على أن الشعب المصري لم يشترك مع هؤلاء القساوسة في شيء اللهم إلا خدم الأديار ومن كانوا يحيطون بهم من جيرة الحي. أما الفلاحون والصناع فلن يكونوا يرون معنى لهذه الوفود، ولا هذه الصلوات والتراتيل، وإذا كانوا قد تراءوا باغتباطهم فهو تراء لدفع الأذى الناتج عن أنفسهم أو هو مشايعة منهم لقساوستهم الذين يدعون لأنفسهم في كل زمان الرشد والإخلاص، وحق الولاية على الناس، ويتبجحون بأنهم أعرف بالواجب.

على أن هذا الوفد المقدس لم يجئ هذه المرة باختيار أعضائه كلهم بل نزولًا على إرادة زائر كريم، وأسقف من أكبر أساقفة اليعقوبية هو أسقف نجران الهرم المريض. علم من الركبان بدخول الفرس مصر فوجد الهمة والصحة والشباب؛ لتحمل مشقة السفر في البيداء والجبال على ظهور الجمال، ثم في السفن؛ ليأتي من أقصى الأرض ليلقى أمير الفرس، ويقيم عنده أحرّ صلاة. كان وصوله إلى دير الهانطون على إثر خروج الحارث منه بقليل، وكان لمقدمه هو وقساوسته ضجة فرح عظيمة في الدير بلغ صداها مسامع الرهبان في الأديار المجاورة فجاءوا يسلمون على زميلهم القديم، وممثلهم الأعظم في بلاد العرب، ويصلون معه صلاة شكر حارة للرب على وصوله سالمًا، واجتماعهم به في يوم سعيد جدًّا هو يوم الأمل القريب بزوال مذهب الكفر الرومي الذي استولى على أكثر ما كان يجب أن يكون لهم وحدهم من الأرزاق والطيبات؛ ولذلك دعاهم الأسقف المحترم إلى تنظيم موكب كبير يسير إلى السلار في معسكره، ويقيم الصلاة أمامه، ويدعو بأدعيته الطيبة؛ لتعجيل يوم انتصاره على الروم، ويمهدوا لذلك بإنشاد أعذب التراتيل على مسمع من البحر والسماء.

صوت الغناء في أذن المحنق المغيظ يزيد في ألمه وغيظه، ولمع الذهب والفضة وإشراق الملابس الزاهية بألوانها يؤلم المحزون إيلامًا شديدًا؛ ولذلك كانت أصوات ذلك الوفد التقي، وألوان أرديته الرسمية، وبريق المعدنين الكريمين — مؤلمة لنفس السلار الأعظم، حتى لم يجد بُدًّا حين عرف من القادمون، وعرف غايتهم أن يعاجلهم برسول يقول لهم: اسكتوا! إن السلار لا يطيق سماع هذه الأصوات. فسكتوا وقطعوا بقية الطريق إليه كقطيع من التيوس المنعمة في زرائب الأغنياء.

وكان السلار قد اشتد به وجده إذ يجيء هؤلاء السادة؛ ليشكروا الرب على مجيئه، ويدعوه أن يفتح عليه بفتح الإسكندرية وقت أن كان قد استقر رأيه على تركها كما تركها بونوسوس، ولكنه كتم ما في نفسه، حتى إذا بلغ وفد الرهبان حظيرته وحيَّوه بأكرم الدعوات وأغلاها لم يرد عليهم؛ بل وقف صامتًا وهم صامتون، ولم يسمح لأحد منهم بالجلوس، وظل ينظر إليهم مفكرًا شارد الفكر يريد أن يجبههم بالحقيقة التي في نفسه ولكنه امتنع، وخُيّل إليه أنه كان يقول لهم: أيها القوم الذين بُليت بأمثالهم كل الشعوب في كل أرض، إني ما جئت أنصر دينًا على دين، وإنه لا يهمّ الفارسي الذي يدين بدين ميترا — وإن كنت لا أومن بميترا ولا بغيره — أن يعلو في مصر غير دين ميترا، ولن يكون منَّا يوم يتم لنا النصر إلا التسامح مع أرباب كل دين. فأمَّا أن يكون لكم ميزة خاصة فلا؛ إننا جئنا هنا لنتملك البلاد، وندخلها في سلطة ملك الملوك كسرى أبرويز، لا ليكون لنا بأدياركم وكنائسكم علاقة ما دمتم لا تحدثون ما يعرقل أعمال الملك. كل ما نطلبه إليكم أن تقبعوا فيها كما قبعتم حتى الآن. لا يكون لكم بأهل هذا البلد ومصالحه الدنيوية شأن بتاتًا. ما شأنكم أنتم بالملك وتدبيره! والحكومة وتصرفاتها! وأنتم بعيدون عن الدنيا بأدياركم، ثم طال سكوت السلار وسكوت الوفد في انتظار كلامه، وقد أخذ الذعر يعتريهم حتى نطق فقال: شكرًا لكم أيها الوفد الذي جاء لولائه لكسرى يصلي لربه ويدعو بنصر سيوفه على الروم. هذا يدل على كرهكم الروم، وبحقٍّ ما تكرهون؛ لأنهم ظلمة يتدخلون في أديان الناس، ويريدون حملهم على دينهم فإن لم يستطيعوا اضطهدوهم كما اضطهدوكم، وحرَّموا عليهم العيش مثلهم، وليس هذا من العدل، ولا من واجب الحكومة والسداد. فصاح الوفد مهللين لهذا الكلام الجميل، واستمر شاهين يقول: أما ملك الملوك كسرى العظيم العادل فإنه لا يميز دينًا على دين، بل الناس عنده سواء؛ لأنه لم يأتِ لذلك بل ليجلي الروم عن هذه البلاد، ويحكمها بما فيه الخير للناس جميعًا، وستزول بطرقتهم بزوالهم، ولو بقيت ما مَسَّهَا بسوء، ولكنها ستزول فافرحوا إذن. والآن، اذهبوا إلى أدياركم، وصلُّوا ما شئتم هناك، ورتِّلوا ما شئتم فأنتم في أمن، ولكن حذارِ أن يهزأ رهبانكم، ومن لجأوا من الشعب إلى الأديار مرة أخرى بجنودي، ويلقوا عليهم الأحجار والأوضار، وإلا رددت إلى الدنيا الأرض التي تقوم عليها أدياركم؛ ليزرعها الناس، ويأتوا للدنيا بالخيرات.

فانبرى بعض القساوسة يعتذرون مما فعل السفهاء، ويلتمسون منه الصفح، ولكن كلام السلار لم يعجب أسقف نجران بل خيب أمله الذي من أجله جاء من أقصى الأرض، فقال للسلار: ولكن مولانا كسرى أبرويز قد عقد مجمعًا٦ معجلًا منذ أيام في القدس؛ ليعرف أي مذاهب المسيحية هو الحق فوجد أن دين اليعقوبية هو الصحيح، ولذلك أعلن الناس بضرورة اعتناقه؛ ليكون دين الدولة لا دين سواه، وكلام السلار الأعظم ينافي رأي ملك الملوك.
فأدرك السلار ما في طي هذا الرد من الامتعاض والجراءة، ولكنه كظم غيظه، وقال: لقد أخطأ من بلَّغك أنه أمر في ذلك بشيء. قد يكون اتضح له أن دين اليعقوبية أقرب إلى العقل من سواه، ولكنه لم يأمر أن يكون دين الدولة، فإنه لا يريد أن يشغل نفسه بما لا يهمه، ولذلك أذن لمودسنوس وهو من بطارقة الروم أن يعود إلى القدس، ويعيد بناء الكنائس الرومية التي هدمتها الحرب وأعمال اليهود المزرية، ومد حمايته لكل دين٧ وسيحميكم أنتم أيضًا، ويكون لكم من الشأن بقدر ما لغيركم لا أكثر بذرة ولا أقل بذرة. أم تريدون يا حضرات القساوسة والرهبان أن يجعل كسرى جيوشه تحت أمركم توجهونها في مصلحتكم إكرامًا لذواتكم الطيبة. انصرفوا في إكرام وتحية.

انصرفت ذواتهم الطيبة حزانى لخيبة أملهم البالغة، ولكن أحدهم قال لهم: بل أنتم قد نلتم منه الأمان لأنفسكم ولدينكم؛ وإذ لن يبقى في مصر من أتباع مذهب الروم إلا نفر قليل فسيكون دينكم هو الأعلى، ومن الواجب أن تعودوا إلى الدير مغتبطين، وتتظاهروا بالمسرَّة والحبور حين تعودون إلى الدور؛ لئلا يشمت بكم من لم يروا رأي أسقف نجران في الخروج إلى السلار.

فوافق الجمع على هذا الرأي، ولكنهم لم يشرعوا في الترتيل والإنشاد حتى دنوا من الدير الأعظم، غير أنهم كانوا ينشزون «تنشيزًا» قبيحًا؟ من فرط ما كانوا فيه من الغمّ، ولذلك أقلعوا عن الترتيل قبل أن يصلوا إلى حظيرة الدير، وضاعت عليهم التقفيلة البديعة التي كانوا قد نظموا خطواتهم عليها؛ ليدخلوا بها الدير العظيم دخول الفاتح المنتصر!

أما السلار شاهين فأخذ يحاسب نفسه على تلك الكلمات المرة، ويقول: تراني أسأت في هذا اللقاء، وقلت لهم ما كان يجب أن أقول سواه؟ ولكن هل كان يجمل بي أن أكرمهم، وأنا أمقت هؤلاء الناس وأمثالهم في كل أمة، وأعتقد أنهم أفسدوا العقائد الطيبة وأفسدوا الشعوب، وأسلموهم للأذى المستمر! ثم هل كان لي أن أقول ما ليس في نيَّة كسرى السير عليه في حكم هذه البلاد! إنه تسامح مع جميع الأديان، وأذن لأهلها أن يعيدوا كنائسهم وبيعهم، وضرب على أيدي اليهود ضربة ردَّت كيدهم في معاهم.٨ هذه هي السياسة الحكيمة، وسأجري عليها في مصر إذا قُدّر لي فتح هذا الباب المستعصي، وبقيت واليًا عليها، وإذا قدر لي أن أستقل بملك مصر — وهو ما أؤمله — فأول ما يجب عليّ أن أريح هذا الشعب المهيأ لكل عظيم من سلطة رجال الدين عليه، وثاني أمر أفعله أن أدله على أن الكرامة الصحيحة هي كرامة العقل. فما دام العقل حرًّا يفكر تفكير الراشدين، ويحكم حكم المنطق ويلتزمه ولا يقبل سواه من أحد — فلن يغلب، ولن يفرط في أوطانه كما رأيت، ولن يفرحه أن يجيء ظالم جديد محل ظالم قديم. كل ما في هذه البلاد من ضعف الهمة، وقلة الشعور بالكرامة الوطنية — مرجعه أولئك المرتلون، وما يوقِّرون في عقول الناس من ساعة أن يولدوا، بل من قبل أن يولدوا: وهم في أصلاب آبائهم، وأرحام أمهاتهم إلى حين يوارون القبور؛ من عقائد تنبو بهم عن الدنيا، وتهوّن عليهم ذلة الحياة وظلم الحكام، ويوقرونها في نفوسهم في كل ظرف، ويوقرون معها الذعر من تحكيم العقل والمنطق والتفكير الصحيح فيها، ولذلك ينشأون أبعد ما يكونون عن الكرامتين؛ كرامة العقل، وكرامة الفعل.

إذا أصبحت ملكًا على مصر فسأعيد دار الحكمة التي أوصى ببنائها أستاذنا أستاذ الراشدين أرسطو، وكان لمصر بفضلها فضل أعظم على العالمين؛ فإن إسقاطه نظرية الروح أم الشرور والأراجيف لم يترك مجالًا لفلسفة ما وراء الطبيعة الكاذبة المدلسة، ولم يمكن الذئاب من أن يدعوا العلم بها، ويقيموا أنفسهم ولاة وكهنوتًا وقساوسة، ولكن وا حسرتاه جرى عليها ما جرى على كل شعب يترك كرامة العقل ليعلق بالأراجيف والأوهام فهدمها الذئاب ليقيموا بدلها حظائر للشياه. سأعيدها وأصونها، وأمنع أيدي العبث عنها وعن ديار مصر بلا أقل تسامح. سأعمل على نشر عقيدته الراشدة؛ لأرد إلى هذا الشعب كرامة الأرومة العربية التي أفسدتها القساوسة والكهنة في هذه الأرض.

ثم التفت إلى أسور الإسكندرية وإلى مجانيقه تدقها وترتد عنها. فقال: هيهات أن يتحقق هذا الحلم، وهذه الأسوار تهزأ بقواي منذ حاصرتها، وهم لا يشعرون بحبس الطعام عنهم والخبز ما دام البحر معهم يأتيهم بخيرات ما وراءهم من بلاد الروم، وفيه غذاء لا يفنى، وها هي ذي سفائن الصيادين مجدة في اصطياد خيرات البحر بالشباك فتمونها، وتلك تأتي إليها بما تريد من غلال. أما الخُضر ففي كل بيت بستان، وتحت كل بيت صهريج قدر البيت نفسه، بيد أن مطر هذه البقاع غزير فهي في غير حاجة قصوى إلى مياه النيل؛ سيطول الحصار إذن وستطول آلامي. ثم تأوه ودار على عقبه يلتمس خيمته، والهمّ يملكه من كل جانب، وإذا هو يرى على مدى غير بعيد منه رجلًا في زي الصيادين يتسلق الصخرة التي كان فسطاط السلار منصوبًا على ساحتها ويعلوها.

figure
ولمحه الحارس فجرى نحوه رافعًا سيفه وهو يقول: مكانك يا رجل! من أنت؟ فأجاب الرجل صديق للسلار، ثم رفع يديه برهانًا على أنه لا يريد أذًى، وكان السلار قد رآه فوقف ليتفحص حاله، ولما رآه مأمون الجانب قال للحارس: أطلقه، ثم كلمه بالرومية إذ كان السلار يعرفها، يسائله عن نفسه وفيم جاء؟ فرد عليه الرجل: إنه جاء ليسدي إليه خيرًا، قال: لا خير تسديه إلا أن يفتح لي هذا الباب. قال: وأنا جئت لذلك. قال شاهين: لخدمة دينك؟ قال: لخدمة دنياي. ما لي وللدين. أنا رجل يا سيدي مثلك ومثل كل ذي مطمع في الحياة. قال حسبتك قسيسًا فإن هذه الملابس ملابس الذين كانوا عندي الآن يرتلون وينشدون، يريدون أن يقنعوني أن الترتيل يفتح الأسوار. لا. لا يفتحها إلا تراتيل المجانيق بأصواتها المنكرة، أو همس الهامسين بأنفاسهم المخبرة، فبأي هذه الآلات تؤمن؟ قال: لكل عهد إيمان، وأنا أومن اليوم بالثانية، هي أفعل وأسرع وأنجع. قال: هات. هات، واطلب ما تشاء. ما اسمك يا صاحبي أولًا؟ قال: اسمي بطرس البحريني؛ كنت شماسًا، وتركت هذه الحرفة، ولكني رجل أخدم العلم، ولقد كنت أعمل من قبل أن تجيئوا على تهوين الفتح عليكم، فقد لقيت إسحاق بن مرداس اليمني حين جاء هو والحبر لتدبير ثورة في الداخل تعينكم على فتح الأبواب من الخارج، ولكن تدبيرنا لم يكلل بالنجاح. قال السلار: أعرف كل شيء فكيف تخدمني؟ قال: أفتح لك «باب القمر». قال السلار مشدوها وبه نهزة الفرح: تفتحه! قال بطرس: أفتحه بلا كبير عناء. قال: لعمري لو فعلت لأملأن زورقك مالًا. كيف يكون ذلك؟ قال: أما المال وإن كان عصب الحياة فلا يهمني. أمر آخر لا يكلفك شيئًا مطلقًا وهو كل شيء عندي. قال السلار: امرأة وربي. قال بطرس: أجل وربي امرأة، تعطى لي سبية؛ لتكون لي زوجة بالحلال. أنا لا أريد أن أسيء إلى من أحب. قال السلار: ليكن ذلك يا بطرس، ومعها ملء جيوبك وقلنسوتك دنانير. هذا عهد السلار شاهين يقطعه على نفسه باسمه واسم كسرى ملك الملوك، وإذا فتحت الباب فخذ من تشاء من جندي؛ ليكونوا تحت أمرك، وليستولوا لك على بيتها وعليها، وعلى من تشاء فيه. قال: شكرًا لمولاي السلار، وهاك المفتاح: أنت تعلم أن للإسكندرية غير أبوابها أبوابًا على البحر، منها باب ميناء قصر الحاكم الرومي، ومنها باب ميناء الخليج الذي يأتي من النيل ويدخل الإسكندرية من جنوبيها. قال: نعم، قال بطرس: هذا الباب يخرج منه الصيادون، ويعودون بالسمك؛ لبيعه في حلقة عند ملتقى الخليج بشارع كانوب الذي يقطعه آتيًا من باب القمر هذا إلى باب الشمس ذاك في شرقي المدينة. قال السلار: علمت ذلك، قال بطرس: وهذه الحلقة قريبة من باب القمر لا تبعد عنه إلا مرمى السهم أو أكثر قليلًا. قال السلار: أعرف ذلك. قال بطرس: ولكن الصيادين إذا خرجوا بمراكبهم لا يملكون أن يعودوا في الفحر إلا إذا أعطوا الحراس هذا الباب كلمة السِّر، وكلمة السر هذه كما يعلم مولاي السلار تجدد كل ليلة. قال السلار: هل عرفتها؟ قال بطرس: أعرفها اليوم يا سيدي، وبها تستطيع أن تدخل الميناء الليلة عينًا إذا شئت أن تنتهز فرصة مرض صاحب المركب، فإني لا أضمن أن يظل على مرضه في الغد، ولا أضمن أن أتمكن من المجيء إليك كما جئت اليوم. قال السلار: وماذا تريد مني أن أفعل؟ قال بطرس: تعد أربعين رجلًا من رجالك الأشداء في زي صيادين يحلون محل رجالي الذين صرفتهم الليلة عن الصيد بدعوى مرض رئيسهم، حتى أدخلهم الميناء وأمرَّ بهم إلى الحلقة. من هناك يذهبون أشتاتًا إلى باب القمر فيقتلون حراسه ويفتحونه، وتكون قد أعددت جيوشك للدخول فيدخلون بلا أقل عناء.٩

كان فرحة السلار بهذا التدبير عظيمة جدًّا، ولكنه صمت يفكر ويتأمل بطرس متفحصًا ومقلبًا الأمر على ألف وجه، ورأى أنه أمام رجل كل ما فيه يدل على الخيانة، وخشي أن تكون روايته إحدى مكائد الحروب قصد بها أذاه فأخذ يسائله؛ ليتبين أمره، فقال له: وما كلمة السر الليلة؟ قال بطرس: «الأمانة». هي كلمة رهيبة يا مولاي، ولكن انظر هل لي حق في خيانة أمانة هؤلاء الناس، أم لا؟ على أثر وصولي الإسكندرية في طلب العلم ودخولي معهدها رأيت أحد أساتذته الروم يتألفني تألفًا لم يكن له في نظري مبرر يومئذ، ولكني عرفت أن السبب في ذلك ما نمى إليه من أني من أسرة غنية في منوف، وأن أبي يرسل إليّ كل شهر مقدارًا كبيرًا من المال. فخطر له أن يرتزق من ورائي، وكذلك كان يبدي اهتمامًا بدراستي، ويدعوني إلى منزله، وقدمني إلى زوجته وابنته، وكان يسمح لي بالاختلاء إلى ابنته؛ لكي يثير فينا أمنية الشباب، والواقع أنه تمكن بهذه الواسطة من إيقاظ حب شديد في قلبي لهذه الفتاة حتى أوشكت أن أجن بها فعرضت عليها أن أتزوجها فقبلت، وذكرت الأمر لأبويها فقبلا، ولكنهما أجلا التنفيذ إلى مدى. ثم أعلنني أبوها بأنه يخشى أن أترك ابنته وأعود إلى بلدي في جزيرة منوف، وأنه لكي يضمن بقائي في الإسكندرية يجب علي أن أبيع أرضي وعقاري هناك، وأشتري بدلهما من أرض مريوط وأملاك الإسكندرية، وأن أكتب العقد باسمها ففعلت لفرط حبي لها، ولكنه أخذ يماطلني، ورأيت منه عين الغدر ومن الفتاة عين الرغبة في الخلاص مني؛ لأنها اشتهت أن تتزوج بمالي رجلًا من كبار رجال القصر، وعبثًا ما حاولته لإتمام الزواج، وفي يوم من الأيام دعاني إليه ضابط المخفر، وقال لي: إنه محرم علي أن أطرق بيت الرومي؛ لأنه لا يريدني، ولأن ابنته مخطوبة لضابط مثله، وأنه إذا رآني في الحي الذي تسكن فيه خطيبتي فهو لا يكتفي من الأمر بحبسي، وعبثًا ما حاولته لإقناعه بهذا الظلم فقد أغرى الضابط بي جنوده فتعاوروني وضربوني، وساقوني إلى منزلي لآخذ منها ملابسي، وأخرجوني بها من الإسكندرية، وأنذروني بالقتل إذا هم رأوني فيها بعد ذلك اليوم.

خرجت، ولكني لم أطق البقاء خارج الإسكندرية، بل أخذت أفكر في طريقة للانتقام، وأخذ خطيبتي، التي أعلم حق العلم أنها تحبني لولا سلطان أبيها عليها، ولذلك احتلت حتى عدت، ولا أطيل عليك القول — فقد كان اضطراري للاختفاء سببًا في الالتقاء بجماعة من أهل كنيسة الإنجيليون اليعقوبية وفئة من اليهود، والاشتراك معهم في العمل؛ لإقامة ثورة في المدينة تساعدك على الدخول، واجتمعنا في بيت قديم.

فلما جاء ذكر هذه القصة التي يعرفها السلار تنبه، وأخذ الشك يزايله من ناحية الرجل، وقال له: قل. قل؛ فقال بطرس: اجتمعنا كلنا، ومعنا أحد ولاة اليمن اسمه إسحاق بن مرداس. قال السلار: نعم، ومن؟ وحبر من أحبار اليمن أيضًا. قال: صدقت، وكان معهما أموال وسلاح. قال: صدقت. قال: إذن لا أطيل عليك القول. علم بعضهم باجتماعنا وعرفني المُبلغ فأهدر الوالي دمي، وطلبوني في كل مكان فخرجت من المدينة هاربًا. ثم عدت واحتلت في الدخول لأنتقم … اشتغلت حمالًا، ثم صيادًا أملًا في أن أعرف كلمة السر لأستفيد منها، وأحسنت ثقة الرئيس بي؛ لكي أتمكن من أن أنوب عنه عند الحاجة، ولكن هذه الحاجة لم تبد على عجل. فقد بقيت في انتظارها خمسة أشهر، ومنذ أيام دعاني أستاذي صاحب مراكب الصيد الذي أشتغل معه، وعهد إلي رياسة الصيد والإمرة؛ لأنه مريض، ولأني محل ثقته دون سائر الصيادين، وعرفني إلى ضابط المرفأ والجند الموكلين بحراسة باب البحر وملأهم بي ثقة، وأبلغهم أني وكيله وصهره المنتظر، وإليّ تعطى كلمة السر كل ليلة وتقبل مني لذلك. فهل تراني على حق في خيانة أمانة أولئك اللصوص الكفرة؟ قال السلار: على الحق الأعلى، وأنا واثق بك الآن كل الثقة، وسأعطيك عشرة من رجالي توجههم في مصلحتك على هواك. قال بطرس: شكرًا لمولاي. هذا ما قدرته؛ ولذلك لم أتردد في أن أستعد للأمر من قبل أن أجيء إليك فاشتريت لك باسم أستاذي المريض قمصانًا وقلانس مما يلبسه الصيادون، وجئتك بخمس سفن من سفنه، وهي الآن على مدى مائتي خطوة منك مربوطة إلى الشاطئ في حراسة رجلين من أخلص رجالي وأشدهم رغبة في نوالك. فهل أنت مستعد لتنفيذ ذلك؟

قال السلار وكان يلهث من شدة سروره: مستعد! وددت لو أجعل هذه الضياء ظلامًا، وأشرع في العمل على الفور. سأعد العدة لذلك لتوي، وعلامة على شكري لك وللرجلين خذ هذا الكيس نصفه للرجلين ونصفه ثمن الملابس التي جئت بها. إن فيه مائتي دينار، وسيكون أجرك بعد هذا مضاعفًا عشرين مرة أو خمسين، وسيكون لك ما أردت؛ لتظفر بالفتاة على أي صورة شئت. ماذا أنت فاعل الان؟ قال: أعود إلى الإسكندرية؛ لأخرج ببقية رجالي إلى الصيد، وأتركهم يصطادون، ثم أجيء إليك في السحر في سفينة صغيرة؛ لأدخل جندك إلى الخليج.

هل أعدم حيلة وأنا في البحر على هواي؟ قال السلار وقد ضحك طربًا: لا وربي. من دبر كل هذا لا يعدم الحيلة. قال: إلى الملتقى إذن يا سيدي. قبل الفجر بساعة. ثم ودعه بتجلة، وشيعه السلار بفرط الإكرام والشكر.

١  ناحية المكس والقباري.
٢  كانت في المينا الشرقية من شرقيها، ويمكن رؤيتها تحت الماء في بعض أيام صفاء الجو واطمئنان البحر.
٣  كانت دولة بيزانطة تدفع جزية سنوية للترك في أيام الإمبراطور موريقوس؛ لحمايتهم من جيرانهم الفرس وغيرهم فلما قتل قوزمان فوقاس بدعوى أنه أذل بيزانطة للترك، وجد الفرس في ذلك فرصة للقضاء على الروم، ولم يستطع هرقل أن يعود إلى التماس حماية الترك خوف المعرة في شعبه حين كان الفرس يتألفون الترك. فاندحر الروم ولم يعودوا ليغلبوا سنة ٦٢٨ حتى لجأ هرقل إلى الترك يطلب حمايتهم كسلفه، وكان كسرى قد سرح جيشه العربي الذي أعطاه النصر.
٤  براشيا وبطلر وجيبون نقلًا عن سترابو وغيره.
٥  بطلر وجيبون.
٦  المجمع الكبير كان في سنة ٦١٨.
٧  بطلر وجيبون.
٨  جيبون وبطلر.
٩  بطلر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤