الفصل الخامس

القرضاب

ذر قرن الغزالة على ورقة بعد مسيرة ست ساعات لم يقطعها عليه إلا الذئب في قليل من الوقت. وكان صباحًا بهيجًا يملأ النفس روعة واغتباطًا بالحياة، وكانت الناقة تسير على سجية واحدة من الهمة والنشاط، لا يعتورها فتور ولا تراخٍ في المسير، وكأنما كانت معوَّدة هذه الطرق، فهي عارفة بالدروب بصيرة بالمجازات، ولذلك لم يكن ورقة في كبير حاجة إلى تسييرها فلقد حدث له أنها صرفته غير مرة عما يعلم أنه طريق نجران، ويحاول ردها فأبت أولًا، ثم أطاعت، فوجد أنه كان في ضلال، فعاد بها إلى حيث اختلفا، ومن ثم ترك لها العنان. فكانت تسير فيما كانت تغالبه عليه، وكثيرًا ما كان يدعها تسير على هواها فيراها تأخذ سمتًا يجهله. تدخل دربًا لا عهد له به، وتخرج منه إلى وادٍ ملتو، أو ترقى مصعدًا في جبل، ثم تنخرط منه إلى سفحٍ فوادٍ وهكذا؛ فإذا هو قد قصر الطريق بقدر ما يقصر الوتر من القوس، والواقع أن هذه الناقة لم تكن مما يسير في القوافل، فإن القوافل تلتمس أهون السبل وإن كان أطولها التماسًا للسهولة والراحة، بل كانت راحلة من رواحل الرسل والبرد بين اليمن والعراق ومدائن كسرى، وهؤلاء لا يلتزمون طريق القافلة وإن هان، إذا عرفوا ما هو أقصر منه ولو كان شاقًا، ومن ثم كانت الشملالة أدرى من راكبها بحاجته وأضرى بالطريق، ولذلك أذعن في آخر الأمر لها وسلّمها قياده، وشغل نفسه بتأمل الأصقاع التي كانت ترودها.

ولقد كان من بين تلك المرائي الجديدة خميلة من شجرات مورقة، ونخيل متعثكل، قائمة في منبسط عند مقطع أكمة من جبل قائم في مواجهة شمس الصباح، كانت الناقة تسايره قرابة الساعة، ولقد كانت الأكمة قبل أن يدنو منها غبراء، وفي بعض الأحيان سوداء داكنة كغيرها من الأحقاف التي مرَّ بها، فإذا هي الآن تتألق بما كان ينحدر عليها من ماء لم يره من قبل. فتعجب كيف لم يره والناقة قادمة عليه، ولكنه عزا ذلك إلى التواء في صفحة الأكمة ردَّ أشعة الشمس إلى غير جهته، وإن كان الواقع غير ذلك، وبهذا التعليل سار حتى دخل الخميلة واحتواه الشجر شاكرًا للناقة فعلها. هناك رأى الماء يسقط متراخيًّا عن يساره على صفحة الجبل، وإذا هذه الصفحة قائمة أو تكاد. كاللوح المنصوب أو الجدار القائم والماء ينصب من بين صخرتين رابضتين على ناصية الجبل كما يربض الوحش أو يرخم العقاب، ثم يتدلى مستعرضًا على جبهة الجبل كأنه غلالة منشورة، ثم ينزل عنه متجمعًا في مسارب منحدرة إلى رقيعة؛ بل نقرة يخرج منها فلج يسير فيه ما يفيض من الماء.

ولكن كل شيء في هذا المكان كان غريبًا، فليس على الماء حيّ ولا أثارة من حيّ، والماء داعية الإنسان والحيوان إلى التعمير إلا ما كان من أثاف قليلةٍ، وبعرات متناثرة، وبقية من عظام كانت كأنها بقايا سفر نزل به من قبل.

على أن هذه الوقيعة لم تكن كغيرها من المستنقعات، فهي لم تكن مبللة الجوانب، بل كان ثراها ترابًا جافًّا، وكان الفلج أشبه بالأخدود لجفافه، كأن لم يكن لهذا ولا لذاك عهد بالماء إلا الآن، وإن لاح بالفلج أثر قديم منه ولكنه لم يعر ذلك التفاتًا ومضى، فما كاد يتوسط الخميلة على صغرها حتى رأى نفسه يكاد يصطدم بعوارض من أعجاز النخل علقت بين الأشجار على قامة من الأرض أو بعض ذلك فسرعان ما لوى عنان راحلته ليقيها ويقي نفسه أثر الصدمة وكذلك نجا. ثم أوقفها ليتبين طريقًا يمر منه، ولكنه وجد أن الحائل ممتد إلى اليمين ومنعطف وإلى اليسار ومتصل بجدار الجبل، فقدر أنها حظيرة صنعتها قافلة سابقة، ثم تركتها ومضت، وحمد الله على أنه رأى الحائل قبل أن تصطدم به الناقة، وفيما هو يلوي عنانها ليخرج من حيث أتى ويلتمس الطريق اخترق سكون المكان صوت أجش مزعج يقول له في إنذارٍ ووعيد: قف: إنك في رحاب النسر فلا تمل وإلا هلكت. أنخ واعقل.

ذعر ورقة لهذا الصوت ذعرًا شديدًا، لأنه جاء فجأة وزاده ذعرًا أنه لم يعرف من أين أتى. ولا كيف يتبينه، وشعر أنه وقع في أحبولة لص من قطَّاع الطرق، ولكنه لم يكن يملك إلا أن يقف، فوقف متهيبًا وأخذ يتأمل المكان ليرى من أين ينصب عليه الأذى، وقد زعم أن صاحب الصوت مختبئ بين أغصان ما كان تحته من الأشجار فتطلع وتمعن ولكنه لم ير أحدًا، وحدثته نفسه أن يعود من حيث أتى، ولكنه وجد من العبث أن يخرج؛ لأنه لو حاول ذلك، وكان صاحب الصوت يريد به سوءًا، فما كانت محاولته الخروج بمنجية له من الموت؛ إذ يرديه بسهامه وهو مكشوف، فبقي على حاله ولم يشأ أن ينيخ كما أراد الصوت، وكان صاحب الصوت في أثناء ذلك يراقبه ويراقب الناقة ويعجب بها، فلما استبطأه ناداه: أنخ واعقلها وتوكل.

فتوجس ورقة من ذلك خيفة ورد مستنكرًا، وقد ارتد إليه شيء من الجراءة على إثر ما تملكه إذ ذاك من القنوط: أنيخ، وأعقلها، وأتوكل!! على من أتوكل؟

– على النسر الأعلى، أخي يغوث١ ويعوق٢ وأبي اللات٣ والعزّى ومناة.٤

أوجس ورقة أن القائل من اللصوص الذين يحتالون على الناس برطازات الكهان في بلاد العرب، وإذ كان العرب يعبدون أوثانًا متعددة فقد حشرها في صعيدٍ واحد ليحدث جوًّا أغبر يتصيد فيه فريسته، وجعل بينهم لحمة ونسبًا؛ ليكون حديثه أشمل، وتأثيره بهم أبلغ، ولكن ورقة لم يأبه لحديثه؛ لأنه لم يعبد الأصنام في حياته، بل ولد في كنف الحنفاء الذين نهضوا في مكة؛ ليصرفوا الناس عنها، ثم ثبته الإسلام على ذلك، ولكنه كان في خوفٍ من اللص، وزاده خوفًا أنه لا يدري أين مكانه ليتدبَّر، وكان عليه أن يجيب فلم يجد ما يجيب به في هذا الظرف مما ينفي السوء، فأجاب على سجيته: يا عجبًا! أتوكل على صخرات لا تشعر ولا تعي.

– ويحك يا كافر، إني أنا النسر الإله الأعلى — هلم إليّ في العراء، واجثُ على ركبتيك ضارعًا ومنيبًا.

عقل ورقة راحلته على عجل، وإذ علم أن صاحب الصوت خارج الخميلة عمد إلى الرحل فانتزع قوسه وسهامه في خفةٍ وعجل، ووقف وراء جذوع النخل يتأمل الجبل؛ لعله يرى صاحب الصوت فيرميه حيث يكون، ولكنه لم يشهد شيئًا غير صخرٍ أسود قبيح المنظر، ليس فيه من مظاهر الحياة إلا ما يبدو للعين من الصخرتين، فقد كانت إحداهما قائمة على ناصية الجبل كقتب البعير، صوّرها لنفسه طيرًا، على أثر ما ذكر الصوت عن النسر الإله الأعلى، ولكنها كانت صورة شوهاء لا جمال لها، ولا روعة، ولولا تقاسيم عارضة ميزت أعلاها عن أسفلها، وما فصل بينهما من شبه عنق أحدثته الأعاصير أو حاولته اليد ما خطر على القلب أنها صورة شيء، ولكن إيعاز الصوت صوَّرها كذلك لورقة، وكذلك كانت آلهة الوثنية الأولى في كل أرض وكل زمان على مثل هذا من دلائل طفولة الإنسان في عقله وفي يده، ولعل هذا النقص والتشوه، وما يجده الناظر إليها من الحيرة في محاولة اكتناهها، ومن الجبن في الشك فيما يروي الشيوخ والعجائز من أمرها — كان من أوسع موارد الخيال والتدليس والتلبيس والإذعار التي حكمت الدنيا ألوفًا تلو ألوف من السنين ولا يزال أثرها كامنًا حتى اليوم في النفوس.

ولقد كان ورقة من مكة بلد النُّصب والأصنام، وملتقى الرطازات والأوهام، ومستقر ثلثمائة وستين من هذه الأحجار الشوهاء، وكم سمع صلاة القبائل العربية من حولها، وسمع العجائز والشيوخ يعزون إليها الصمدانية والقدرة العليا، ويروون عن شياطينها الأعاجيب وإن لم يكن يصدقها قط منذ سمع سميّه ورقة بن نوفل يقول: إنها أضاليل بهتان، وأحابيل شيطان وجد فيها أقوياء العقول غنية عن قوة الذراع في التسلط على الناس فتمسكوا بها، وحملوا الناس على تصديقها، والنزول على حكمها، ولكنه الآن يسمع صوتًا ولا يرى صائنًا، ويرى نسرًا أيضًا يتكلم بلسان الآلهة في مكانٍ قصي خلقت من حوله جنة لم يرو عنها الركبان شيئًا، فغلبته غريزته القديمة التي توارثها من ألوف من سنين قضاها آباؤه في تصديق الأوهام. فقال في نفسه الحائرة: لعل شياطين تلك الأصنام تحدثني اليوم حقًّا، وهي مطمئنة في هذه الغلاة الموحشة. ألم يقل ورقة نفسه إن في الدنيا جنًّا وشياطين نرى أفعالهم، ولا نرى ذواتهم، ولكنه تذكر أن نسرًا قد ذهب بذهاب حمير من اليمن، وأنهم هدموه يوم تهوّدوا، ولم يبق له من أثر. فقال يرد على الصوت: لقد طوَّفت في بلاد حمير جميعًا، فلم أجد للنسر إلا أثرًا دارسًا، وشعفة مهشمة تُسلح عليها بغاث الطير في أرض بلخع.٥ فأجابه الصوت مرعدًا: ويحك يا كافر بالإله الأعلى! تقدم إليَّ، واملأ عينك في العراء منه. ها هو ذا جاثم على شعفة الجبل ينظر إليك مكذبًا.

ولكن ورقة لم يطاوعه فيخرج إلى العراء، فقد كان في نفسه أنَّه إنسان، وأن هذا الإنسان يريد أن يخرجه من وراء الشجر؛ ليكون هدفًا ظاهرًا لسهم يخترق فؤاده، ولذلك استمر يحادث صاحب الصوت، ويطاوله عسى أن يجد له بالحديث مخرجًا؛ فقال: لا أجرؤ أن أقف في حضرة الإله الأعلى من غير حجاب، وأنا فتى من مكة أعرف حق الآلهة عليَّ، وإن كنت قد استغضبتها منذ سنين. فقال الصوت: لا بأس عليك. أجب واقترب، وانحر دابتك قربانًا لي، وإن شئت فاتركها لي وتوكل، وليكن عملك هذا كفارة عمَّا سلف من أمرك. افعل كما تؤمر، وإلا لحقت بك في الطريق فأنشبت فيك مخالبي، وطرت بك في أجواز السماء، حتى ألقي بك في أجمة الأساود تلهو بك وتنهشك، در على عقبيك، وامش في طريقك مغمض العين، حتى تزول هذه الخميلة عن الأرض، وإذ أنك في سبيلك إلى نجران فستجد نفسك على أبوابها قبل الظهيرة، وهأنذا أبدأ بالماء فأوقفه عن الجريان. قف أيها الماء بأمري، وعد إلى معينك.

لم يعجب ورقة إذ علم أنه يقصد نجران، فقد كان الطريق طريقها، ولكنه مع ذلك ظل مشدوهًا مذعورًا، وزاد ذعره أنه رأى الماء قد وقف فعلًا، وانقطع سيله عن الجبل، وكاد يهم بالمضي فيما أراد الشيطان، لولا أنه سمع صوت لطمة جسمٍ صلب يأتي من أعلى الجبل، فتنبه والتفت فإذا هو يتبين شبح إنسان يخطو عَجِلًا نحو الصخرة ويطل من بين منحدر الماء بوجه ملفف في خرقة سوداء بلون الصخر لم يفت ورقة أنه وجه رجل. فزال شكه كله، وأدرك أنه كيد يكاد له، ولكنه لم يجرؤ أن يبينه قبل أن يتخذ له عدته، فقال وهو يتراجع في مسار النبل محتميًّا في جذوع النخل وقد حرص أن يجعلها بينه وبين صخرة النسر لتقيه أذى الرجل، وقال متظاهرًا بالامتثال: السمع والطاعة لك يا إله الآلهة، والمتاب إليك، ولكني لم أعد أريدها. سأنحرها لك لتغفر لي ما مضى من ذنبي وترضى عني. أمهلني حتى أعقرها. ثم وضع يده على خاصرته متظاهرًا أنه يخرج السكين حين كان في الواقع يخرج سهمًا من كنانته المعلقة على كتفه ليرمي به الرجل، وقد استهدف له في منحدر الماء من بين الصخرتين، ولكن الرجل كان قد سئم الانتظار وأذعره أن يهم الفتى بنحر هذه النجيبة الغالية، فتحول عن مكانه متراجعًا، وصرخ من جانب الصخرة يقول: أبق عليها، ولا تمسها. إني رادها إليك في الطريق لتحملك في بوادي العرب، ترفع اسمي، وتشيد بذكري. اتركها واذهب في طريقك مظاهرًا.

تظاهر ورقة بالامتثال لأمر هذا الإله، وقال لبيك ربي. هأنذا ذاهب ونازل على حكمك، ولكن ائذن لي أن آخذ عن الناقة زادي وثوبي.

فأجابه الرجل: لا تفعل، ولا تثقل كاهلك بغير سيفك، فإني مدركك بهما في الطريق قبل أن تعلو محجة نجران.

قال الفتى: لبيك إلهي طائعًا ومنيبًا.

وانصرف ورقة يمشي قدمًا في استقامة محتميًّا بجذوع الشجر فيما بينه وبين الصخرتين كما كان ليوهم الرجل أنه ماضٍ في سبيله حتى يطمئن فينزل من وكره الذي اعتصم فيه، ولكن الرجل لم يكن بالحدث الغر، وقد رأى في حديث ورقة واحتمائه بالنخل ما رابه من أمره، وإن كان قد شاهده يعود إلى محجة المسافر بقدمٍ ثابتة. فخطر على باله ألا يستهدف لأذاه بنزوله من مكانه، وقد رآه يحمل سيفًا، وقوسًا، وخنجرًا كذلك، ورأى في الفتى شدة الرجال، وجراءة الشجعان، ورأى من الخير أن يريح نفسه منه بقتله. فما أن لاح له جانب من ورقة حتى صوب إليه السهم تلو السهم، ورمى عليه، ولكن السهام مرت من فوق رأسه ترن رنينًا ثم تخفت ساقطة في الرمال. فوجد ورقة في ذلك الفرصة المشتهاة. فما سمع الرنين حتى صرخ صرخةً عالية لم يدر أن صحبتها صرخةً أخرى صادقة واردة من مكانٍ بعيد، ولكن هذه ذهبت أو اشتجرت مع صرخته فكان الصوت بالغًا، وحرص ورقة أن يتظاهر بالموت، على أن يكون موتًا يدنيه من الحياة، فلم يقع على وجهه أو جنبه، بل ارتمى على ظهره، وأخذ يزيح الرمل برأسه ليزيغ لرأسه حفرة يستقر فيها اليافوخ متدليًّا، ويستطيع وهو على هذه الحالة أن يرى الرجل وهو على الجبل. هناك تأوه ورقة مرتين، وصرخ صرختين؛ ليوهم القرضاب أنه مات، وليرى ما وراء ذلك من فعله، فما كان يشك في أنه نازل من الجبل ليظفر بغنيمته، وصدق حدسه وصح تدبيره، فقد زعم اللص أنه قتل ورقة وأمن شره، فنهض حيث كان، وظاهر العراء ليتدلى من الشق الذي كان ينزل منه الماء، وأخذ يضع أقدامه على ما أبقت المياه والأعاصير من نوانئ. حتى إذا توسط صفحة الجبل، وأصبح لا يملك إلا أن ينزل أو يصعد في طريقه. نهض ورقة في خفة النمر، وشد قوسه، وأخذ يرميه بنباله رميًّا متداركًا حتى رأى اللص قد خارت يداه وقدماه وسقط يلتطم ببقية المهوى إلى أن تلقفته وقيعة الماء، فصب فيها بقية ما كان في جسمه من الدماء، واستقر فيها بلا حراك.

لم يدر ورقة ماذا يفعل بعد ذلك، ولكنه وجد أن من الخير أن يركب ويمضي. فذهب في فرحه إلى الناقة، وكانت في هذه الأثناء ترزم حنينًا إليه، وهو يقول لها. إيه يا أخيّة. هأنذا. أكنت ترين أن أخاك في خطر؟ لا. هأنذا فاحمدي الله معي.

figure
ود أن يحل عقالها ويركب، ولكنه كره أن يغادر المكان قبل أن يتأمل غريمه، فذهب إلى حيث كان، ووقف ينظر إليه فإذا هو أمام رجل كأنه الضبع العرفاء، طويل شعر الرأس والشاربين مسوده، وإن كان قد وخطه الشيب، ذو رقبة مرتصعة غليظة، وفكين كفكفي القرد الكبير، وذراعين كالأسطوانتين وساقين كذلك، وملأ ورقة عينه من الرجل فهابه في موته، بل تملكه الذعر، ثم تذكر أن الله وحده هو الذي أراد له النجاة وإلا فما كان يستطيع أن يغالب مثل هذا الوحش لو جادله، ولا أن يقاتله وهو في معتصمه بين الصخرتين. فلم يطق أن يطيل الوقوف عنده، وعزم على الانصراف عنه قبل أن يهديه خياله إلى سبب ترتاح إليه نفسه في مسيل الماء من بين الصخرتين وانقطاعه. ولكن هيبة الرجل كانت أعمق أثرًا في نفسه من عجبه، فسار عنه وهو ينظر إليه، ثم لكزه برجله لكزة ينتقم بها منه لما أنزل به من الذعر وهو واقف حياله، ولكن رجله لم تضرب في رقارق بطن الرجل بل التطمت بجسمٍ صلب ارتدت عنه قدمه. فسرعان ما جرد ورقة خنجره وشق ثوب القتيل، وإذا هو يكشف عن منطقة عريضة من الجلد، رأى من ظاهرها أنها مكتظة بالنقود فحلها عن وسط الرجل وانتزعها، وسار على عجل إلى الناقة فركبها وأنهضها، وعاد من حيث دخل الخميلة يلتمس محجة الطريق، ولكنه لم يتمهل حتى ينصرف عن المكان ليرى ما تحتويه المنطقة، بل حل أربطتها وأفرغ في حجره ما كان فيها فإذا هي تحوي من مسكوكات الذهب والفضة شيئًا كثيرًا دراهم فارسية بغلية، وأخرى رومية طبرية، ودنانير كذلك من أوزان مختلفة. كان منها ذو العشرة القراريط، وذو الإثنى عشر، بل وجد من بينها نوادر الدنانير الذهبية ذات العشرين قيراطًا، وعجائب الدنانير الفضية التي كانت بقدر راحة الغلام٦ عدّ الذهب على عجل فبلغت عدته ثلاثين ومائتي دينار ففرح بها فرحًا كبيرًا، وأعادها إلى جرابها على عجل، فاكتظ بها ولم يسعها كلها، فوضع بقيتها في جيبه، واحتال حتى تمنطق به تحت ثوبه، وسار في خفة الظافر الموفق السعيد يلتمس المحجة وهو غارق فيما هو فيه من الاغتباط.

وفيما هو يسير متجهًا نحو الشرق عسى أن يعثر بالطريق الذي حادت عنه ناقته باختيارها أيقظه من غيبوبته السعيدة أنين وارد من جانب الطريق فتأثره فإذا هو ينبعث من غلامٍ في الثانية عشرة من العمر منطرح على الأرض والدم يسيل من خده وفمه. فوقف عليه ناقته وأخذ يتأمله. ثم سأله: ما بك يا غلام؟ فلم يحر الغلام جوابًا لشدة ما كان فيه من البرح، ولكنه شرَّع إليه جفنيه وبكى ثم أغمضها على الفور، وإذ لم يجد ورقة في الغلام ما يريبه أناخ بجواره ونزل ففحص عنه فوجد أنه مصاب في شدقه وفكه، وقدّر أنه أحد السهام الطائشة قد أصابه، وتذكر أنه سمع صوته صارخًا عندما صرخ هو أيضًا مدعيًّا أنه المصاب، ولكنه تعجب أن يسير الغلام وحده في هذه الناحية، وهي على ما رأى من مخاوفها، وود أن يسأله، ولكن الغلام لم يكن يستطيع الكلام. فانصرف إلى إسعافه بقدر ما يملك، وعمد إلى سقاء الماء، وأجلس الغلام، وغسل الدم عن فمه ووجهه. وتحسسه فلم يجد كسرًا فاطمأن وطمأنه، وهوَّن الأمر عليه؛ فتنشط الغلام، واستطاع أن ينطق، وكانت أولى كلماته شكرًا بالغًا. ثم قدّ ورقة من عمامته شقة لثم بها الفلاح، وفيما يده تمر بفمه مال عليها الغلام وقبلها شكرًا واعترافًا بالجميل. ثم طلب إليه شربة ماء فأعطاه زقه وتمضمض ولفظ ثم شرب ولم يكثر، وعاد إلى شكر ورقة وهو يقول له: الحمد لله الذي نجاك من القرضاب، ولكني أنصح لك أن تبعد عن هذا المكان على الفور، وإني أخشى أن يدركك.

دهش ورقة لهذا النبأ، فسأله: أتعرفه؟ قال: نعم. أنا غلامه. قتل أبي منذ ثلاث سنوات وأخذني سبيًّا لأني كنت معه، ولقد وقع في فخاخه كثيرون، وشهدت ما حاق بهم؛ قتلهم، واستلب أموالهم من نقود ومطايا كما فعل بأبي. بالله خبرني كيف نجوت؟ إنه يحسن الرماية فإذا كان السهم الأول قد طاش فما كان يطيش الثاني. قال ورقة ولم يرد أن يشرح ما جرى قبل أن يعرف ما عجز عن معرفته: أمّا كيف نجوت فبفضل الله، ولكن قل لي ما سر هذا الماء الذي يسير منحدرًا عن الجبل تراه العين من مدى بعيد، ثم لا تجد له الآن أثرًا؟

قال الغلام: هذا ما خدع به كل من جاءوا قبلك. كان بعضهم يلتمس مقيلًا في تلك الخميلة، أو ماءً لراحلته إن كانت قد أوشكت أن تموت عطشًا فيأتي إلى الجبل. فإن كان غرًّا صدق حكاية النسر، ومضى تاركًا راحلته بما عليها للإله، فنزل وأخذها ودار بها حول الجبل حتى يصعد بها. ثم ينحدر بها إلى الأسواق ويأخذني معه فيبيعها ويعود على راحلتي وأنا أرادفه، وإن لم يكن غرًّا رماه بالقوس فقتله، ولكني رأيتك تسير وحدك وقد تركت راحلتك، فلماذا رماك؟

قال ورقة: لأنه رأى أني لم أكن غرًّا وإن كنت قد تركت له هذه الشملالة. ثم ضحك والتفت إليها. لا. لم أكن لأفارقك حتى أموت. ثم عاد إلى الغلام يقول: ولكنك لم تخبرني عن الماء. ما اسمك يا غلام؟

قال: معذرةً إليك. اسمي رؤبة. لقد ألهاني ذعري من فعله عن إجابتك: هذا ماء محوَّل، وأنت ما اسمك؟ فقال: اسمي ورقة. قال رؤبة: إني أحب هذا الاسم لأن أبي كان يقول: إن ورقة هذا نبي ظهر في الحجاز كان يقول للناس إن عبادة الأصنام حمق وجهالة، وأنا على رأيه منذ رأيت هذا الرجل وإلهه الكاذب، ورأيت الناس يتركون أموالهم قربانًا لصخور وهم يتوهمون أنهم يتقربون إلى الله. إن الله في السماء. ألست على رأيي يا ورقة؟ قال: بلى. بلى، ولكنك لم تخبرني عن هذا الماء المحوّل. عجبي لك إنك تنصحني أن أعجل بالرحيل عن هذا المكان، ثم تطيل حديثك فيما لا أريد. كفاني ما قلت عن الماء. دعني أركب. ثم همَّ يمتطي، فقال رؤبة: امتط امتط. سأسير معك وأنا أحدثك.

فامتطى ورقة ناقته ولكنه لم ينهضها؛ لأنه لم يكن يخشى شيئًا بعد أن قتل الرجل، وظل على ظهر الناقة والغلام مستمر في حديثه قال: إن لديه فوق الجبل عينًا يسيل منها ماء قليل، وإذ أن له بيتًا من الناحية الأخرى من الرابية فمسيلها نحوه، ولكنه قد احتفر بجوارها حفرة عميقة وراء الصخرتين اللتين رأيت ليملأها من ماء العين. ثم خدَّ بين الصخرتين أخدودًا ليسيل منه الماء إذا أراد أن يحدّره على هذا الجانب، وذلك بأن يسد مجراها من ناحية بيته، وهو يسد هذا الشق كل ليلة بركام من التراب والحصا، فإذا طلع الصبح نهض وأطل من بين الصخرتين، أو أطللت له ليرقب الطريق. فإذا لاح له راكب منفرد مثلك في أي وقت من أوقات النهار، أزاح حشو الشق وأذن للماء أن يسيل على جدار الجبل رقراقًا، إذا واجهته أشعة الشمس تألق وشامه الراحل من بعيد فإما ورد إليه أو إلى ما دونه من الشجر، وكم للإنسان من حاجة بين الماء والشجر، وهنا يقع. ولكنه عمد منذ ليلتين إلى ربط أعجاز من النخل بجذوع الخميلة؛ ليعرقل السائرين ويوقفهم أو يتلف مطاياهم، وكدت تتعرقل لولا أن لويت عنانك. أنت ذاهب إلى نجران. قال ورقة: نعم. قال رؤبة: إن هنا طريقًا يقرب مسافة ما بيننا وبين نجران نصف مرحلة آه. ليتني أستطيع أن أدلك عليها! قال: وما يمنعك؟ قال: خوفي منه إنه الآن يراقبني، وسأقول له: إنني كنت أستمهلك حتى يعود إليك، ولكني أعرف أنه لا يجرؤ أن يلقى أحدًا وهو بعيد عن الجبل؛ لأنه يقول: إن الطريق للناس كلهم، أما الرابية فله وحده. فضحك ورقة، وقال: ألا تشعر أنك عوقتني كثيرًا؟ قال: بل وربي، يا لشديد جرمي، ولكني لا أطيق فراقك. أما وهو لم يأت فسر على بركة الله ألم أقل لك سر وأنا أتابعك! قال ورقة: لم يعد يملك سيدك أن يلقاني ولو صعدت إليه. عد الآن إلى بيته فخذ لنفسك ما فيه. إني قتلته، وهو الآن مسجّى في دمائه عند مسقط الماء.

صات الغلام لدن سماعه هذا الكلام صوت مفجوء، ثم قال: قتلته يا سيدي! حقًّا. قال ورقة: نعم. فعاد رؤبة يسأله: أصبح جامدًا كهذه الأرض؟ ودب عليها بقدمه. قال ورقة: نعم، ميتًا. قال رؤبة: كما مات أبي! قال ورقة: وكما كنت سأموت. فاستمر الغلام في دهشته وفرحه وهو لا يكاد يصدق، وتقدم بيديه ضارعًا إلى ورقة يقول: بحق اللات والعزّى إلا ما أخذتني معك إنني من خولان٧ ولئن رددتني إليها لأنحرن ليعوق كل عام هَدْيًا ليبقيك ويقيك ويحميك. فقال ورقة: لقد عدت إلى ضلالك القديم يا صاحبي. ألم تقل لي إنك تنكر الأصنام. فكيف تقسم باللات والعزى ثم تترضاني بنحرك ليعوق ما تنوي نحره! لا يا رؤبة لا. ما هكذا يكون الوفاء لابن نوفل. فلطم رؤبة وجهه خجلًا من نفسه، وقال: لا أدري وحقك ماذا أصابني، ولكني أجد لنفسي في بعض أحوال اضطرابي ما أكرهه منها وانا هادئ، ولقد ذكرت أمي وما هي فيه من الشقاء؛ لفقدها الزوج والولد معًا ولم يكن لها سوانا. فاعذرني يا أخيّ.

فقال ورقة: وكيف تيسّر لك اليوم أن تترك الأكمة ولم تهرب. قال: إنه يرسلني في الصباح لأرد عليه النوق الجامحة من أثر عراكه مع فرائسه ويأخذ يراقبني، فإذا جمحت أنا أو شردت، أو خرجت فيما وراء هذه الشجرة بغير ما سبب، فالسهم في أثري يعلنني برأيه فيّ. إنه لا يحادثني إلا بلغة القوس والوتر، ولقد أصابني اليوم سهمه إلا أنه ما كان يعنيني، ولكني قدَّرت أنه راميك بغيره وغيره حتى يصيبك فيرديك. أما هو فهيهات أن يصاب. إنه معتصم وراء العقاب، وما عجبت لشيء قدر عجبي لأنك قتلته. أقتلته حقًّا يا سيدي ومات! وأصبح لا يستطيع أن يدركني! قال ورقة وهو يضحك: نعم. نعم، وربي قتلته بحيلة جازت عليه، وسأخبرك ماذا فعلت حتى أنزلته من معتصمه فرميته وقتلته. تعال اركب رديفًا. قال رؤبة وهو يركب: حييت يا بطل حييت، وإذ أصبح الطريق مأمونًا فمل بنا من وراء الخميلة؛ لنسير في الدرب القصير.

فلوى ورقة عنان الشملالة نحو الشمال؛ ليعطف وراء الخميلة، ويسير في رفقة الغلام.

١  صنم في الحجاز عند يثرب.
٢  صنم فوق أكمة في اليمن بالقرب من خيوان.
٣  صنم في الطائف.
٤  صنم بقرب يثرب.
٥  بلوغ الأرب.
٦  عن بلوغ الأرب.
٧  ناحية من بلاد اليمن بعد نجران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤