مقدمة

بقلم حضرة صاحب العزة الأستاذ الكبير محمد جاد المولى بك المفتش الأول للغة العربية بوزارة المعارف

 القاهرة:  ٢١ شعبان سنة ١٣٥٧ / ٢٥ أكتوبر سنة ١٩٣٨

(١)

ما وقع بصري على الأستاذ الدكتور زكي مبارك إلا تذكرت هجومي عليه في سنة ١٩٢٤ إذ انتدبتني وزارة المعارف عضوًا باللجنة التي أدى أمامها امتحان الدكتوراه بالجامعة المصرية أول مرة، كما انتدبت المغفور له الأستاذ أحمد عبده خير الدين وكيل دار العلوم الذي انتاشه منَّا الموت منذ شهور فمضى مأسوفًا عليه من جميع من عرفوا قلبه الطيب وأخلاقه العالية.

كنت في تلك الأيام لا أعرف الدكتور زكي مبارك معرفة شخصية، وإنما كنت أعرفه عن طريق ما يكتب في الصحف والمجلات، فكنت أتصوره شابًّا بعيد الهمة كَلِفًا بنقد الشعراء والكتاب والمؤلفين محبًّا للظهور بمظهر السيطرة والاستعلاء.

ولما اطلعت على رسالته التي قدَّمها لامتحان الدكتوراه في تلك الأيام وهي (الأخلاق عند الغزالي) رأيت فيها ما صدق ظني فيه: رأيته يهجم على حجة الإسلام الغزالي ويقسو عليه، فلم أجد بدًّا من أن أتشدد في حسابه لأعجم عوده وأسبر غوره.

ولكن امتحانات الدكتوراه علنية يحضرها من يشاء، وكان من الحاضرين يومئذ حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد اللبان وجمهور من أفاضل العلماء بالأزهر الشريف، فلما أخذت في محاسبة الدكتور زكي مبارك على ما صنع في نقد الغزالي تكشفت جوانب أثارت فضيلة العالم الجليل الشيخ اللبان فتدخل وتدخل معه جماعة من جلة العلماء، وكاد الجمهور يموج من الغيظ، ولولا حكمة رئيس اللجنة يومئذ، وهو حضرة صاحب العزة الأستاذ الدكتور منصور فهمي بك، لاضطرب النظام وانفرط عقد الامتحان.

وحين خلت اللجنة للمداولة أسفر نقاشها عن منح زكي مبارك إجازة الدكتوراه بدرجة «جيد جدا» واقترحت أن ينص في محضر الجلسة على أن اللجنة غير مسئولة عما في الرسالة من الشطط والجموح، ولكن الأستاذ الدكتور منصور فهمي بك أقنعنا بأن من المفهوم أن امتحان الدكتوراه هو محاولة عقلية يخطئ الطالب فيها ويصيب، وأن الرسالة لن تخرج إلا ممحصة، وكان ذلك مفهوما عندي وإنما قصدت الاحتياط لنفسي ولزملائي.

(٢)

وكنت أظن المشكلة انتهت عند هذا الحد، ولكني تبينت مع الأسف أن هجومي على الدكتور زكي مبارك كانت له عواقب، فقد حمل عليه جماعة من العلماء في جريدة المقطم وجريدة الأخبار، يحمل لواءهم حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ يوسف الدجوي أمد الله في حياته النافعة، والأستاذ الشيخ أحمد مكي تغمده الله برحمته.

وعند ذلك عرفت أن الدكتور زكي مبارك قد يقضي حياته في المضاولة والمجادلة لما استقر في النفوس من أنه باحث متعسف مشاغب.

كان ذلك الحادث كافيا لأن يوجه نظري إلى هذه الشخصية الجديدة وإلى تعقب ما تؤدي من النفع أو الضر للدراسات الأدبية والفلسفية، ولكن مَن الذي يستطيع أن يتعقب الدكتور زكي مبارك؟

وكيف يمكن ذلك وهو لا يسكت أبدا، ولا يترك فرصة لمن يريد أن يحكم له أو عليه؟

تراه حينا يجادل في الدقائق الفقهية كما صنع حين حقق نسب كتاب الأم فتضيفه إلى الفقهاء، وحينا تراه يجادل في المعضلات النحوية فتضيفه إلى النحويين وتنظر إلى كتاب «النثر الفني» أو كتاب «الموازنة بين الشعراء» فتحسبه رجلا لا يحسن غير النقد الأدبي.

وتقرأ رسائله الغرامية ودراساته الطريفة للعشاق من الشعراء فيخيل إليك أنه شاب لا يعرف غير الاصطباح والاغتباق بهوى الغيد الرعابيب.

وتنظر رسالة «اللغة والدين والتقاليد» فتعده من كبار المصلحين وتنظر مقالاته في التربية والتعليم فتراه من أقطاب المربين، وتقرأ هجومه على الكتاب والشعراء والمؤلفين فتخاله من الهدامين وتسمع عن أخباره في الأندية والمجالس وأحاديث رحلاته إلى البلاد الشرقية والغربية وانتقاله من العمامة إلى الطربوش ثم إلى القبعة والسدارة فتعتقد أنه من المولعين بدرس أخلاق الأمم والشعوب.

وفي وسط هذا الضجيج قرأت في الصحف أنه سيؤدي امتحان الدكتوراه في جامعة فؤاد الأول فأرجأت ما كان عندي من الأعمال الحافزة وقصدت إليها لأشاهد الدكتوراه الثالثة؛ لأنه كان قد نقل ميدان مشاغباته إلى جامعة باريس وكذلك حضرت مع النظارة لأرى «هذا التلميذ» الذي اشتركت في امتحانه منذ ثلاثة عشر عاما وكونت فيه رأيه قد لا يرضيه لو اطلع عليه فماذا رأيت؟ وماذا لاحظت؟

رأيت طالب الدكتوراه في سنة ١٩٢٤ غير طالب الدكتوراه في سنة ١٩٣٧ كان الطالب الأول يجادل لجنة الامتحان بلا تهيب ولا تلطف ولا أقول بلا تأدب أما الطالب الجديد فكان آية من آيات الأدب والذوق، وكان مثالا من أمثلة التواضع والاستحياء: يستمع السؤال بهدوء، ويجيب عليه بذكاء مقرون بالتحفظ والاحتراس، فماذا صنعت الثلاثة عشر عاما بالدكتور زكي مبارك؟

لقد تغير تغيرا تاما وانقطعت الصلة بين حاضره وماضيه أشد انقطاع، وكذلك يصنع العلم بأبنائه الأوفياء فهو يجعلهم متواضعين مهذبين لا يعرفون العنف ولا الغطرسة ولا الكبرياء.

(٣)

وبالغ الدكتور في الأدب والذوق فعرض عليّ رسالته الجديدة لأقدم إليه بعض الملاحظات، بوصف أني من المشتغلين بدراسة فلسفة الأخلاق وقد نظرت في الرسالة الجديدة فرأيت الدكتور زكي مبارك لم يتغير ولم يتبدل، فمؤلف كتاب «التصوف الإسلامي» هو عينه مؤلف كتاب «الأخلاق عند الغزالي» بل هو في كتابه الجديد أخطر وأفتك، ولكن ماذا أملك في مقاومته هذه المرة؟

إن جامعة فؤاد الأول منحته درجة الدكتوراه في الفلسفة برتبة الشرف وهي شديدة الضن بالألقاب إلا على المستحقين، ولا سيما أن اللجنة التي أدى امتحانه أمامها قد ضمت نخبة من أكابر العلماء من بينهم معالي الأستاذ مصطفى عبد الرازق بك والدكتور منصور فهمي بك والدكتور عبد الوهاب عزام والأستاذ شفيق غربال.

ومن واجبي أن أحترس في الثناء فأصرح بأني لا أتفق والدكتور زكي مبارك في كل ما عرضه من الآراء في كتاب التصوف الإسلامي، ولا غرو في ذلك فالباحثون قلما اتفقوا على رأي واحد، إن المهم عندي وعند جميع المنصفين أن يكون الباحث حسن النية مستقلا في آرائه الفلسفية، والدكتور مبارك من هذه الناحية متفوق كل التفوق: فهو في كتابه هذا يدرس التصوف دراسة من يفهم أسرار التصوف.

والعقل الفلسفي ظاهر كل الظهور في هذا الكتاب، فالمؤلف أثابه الله يدرس الوجوه المختلفة للرأي الواحد، وقد يصل حاله إلى الغرابة في بعض الأحايين حين يعرض عليك عدة صور لرأي من الآراء ثم تراه متشيعا لكل صورة كأنها رأيه الوحيد وكأنه أشخاص يتحاورون لا شخص واحد.

وذلك هو العقل الفلسفي فيما أعرف، وهو لا يتوفر للباحث إلا حين تنضج مواهبه ويكبر عن التعصب لرأي من الآراء.

لقد ألف المسلمون مئات أو ألوفا من المصنفات في التصوف، وما كنا في حاجة إلى كتاب جديد.

فالمزية الصحيحة للدكتور زكي مبارك هي أنه لم يؤلف كتابه في الدعوة إلى التصوف، أو الهجوم على التصوف، وإنما ألف كتابه في نقد التصوف فبيَّن ما فيه من محاسن وعيوب، وكشف عما فيه من ضعف وقوة، بصراحة فائقة وحماسة رائعة، وأسلوب متين.

وأصرح مرة ثانية بأني قد أخالف هذا المؤلف في كثير من الآراء التي عرضها في كتاب التصوف الإسلامي، ولكني أتمنى أن يكون قدوة لسائر المؤلفين، فما ينقصنا اليوم غير الابتكار، وهو أول شرط في جودة التأليف.

(٤)

وأنا بعد هذا التحفظ أشهد أن هذا الكتاب يفيض بقوة الروح، وأعتقد أنه يغرس الشعور بالتبعة الخلقية ويوجه القارئ إلى فهم أسرار المعاني، وتسجيل هذا الرأي يريحني من الإحساس الذي أرقني منذ سنة ١٩٢٤ حين حرضت الجمهور علنا على الشك في آراء الدكتور زكي مبارك، الرجل الفاضل المخلص الذي أنفق شبابه في الدراسات الأدبية والفلسفية.

كتب الله له دوام التوفيق، ونفع بمؤلفاته، وأطال في حياته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤