أشعار النابلسي

نشأته

هذه شخصية كان لها شأن في أواخر القرن الحادي عشر وصدر القرن الثاني عشر. كان لها شأن يوم كان التصوف يخلق لأصحابه ألوف الألوف من المريدين والأتباع، فكان عبد الغني النابلسي شغل الناس في مصر والشام والحجاز والعراق.

ولد النابلسي في دمشق سنة ١٠٥٠، وتوفي بها سنة ١١٤٣ وكان فيما يظهر من أخباره متفوقًا في اللغة والدين والتصوف، فترك فيما يقال نحو مئة مصنف، أكثرها في الفقه والتوحيد والحديث.

اتصاله بأسرة البكري في القاهرة

وكان النابلسي موصول العهد بأسرة البكري في القاهرة، فكان حين يزور مصر ينزل بأولئك الأشراف فيساقيهم كئوس المودة والصفاء. يدل على ذلك اهتمامه بتخميس وتشطير ما أثر من أبيات الشيخ محمد البكري، ولذلك شواهد في «ديوان الحقائق، ومجموع الرقائق»، ويصرح بهذه الصلة الوثيقة قوله في التمهيد لشرح القصيدة الطائية:

وقد طلب منا حبيبنا١ الشيخ زين العابدين البكري شرح هذه القصيدة الطائية فشرحناها شرحًا لطيفًا، وأكملنا الكلام في معانيها تحقيقًا وتعريفًا، على حسب وارد الفتوح، ينبسط له القلب وتنشرح به الروح، وسميناه (نفخة الصور، ونفحة الزهور، في الكلام على أبيات قبضة النور) وأتممناه في مصر المحروسة في بيت الشيخ زين العابدين المذكور … إلخ.٢

أناشيده ومواويله

واتصاله بأسرة البكري في القاهرة يفسر لنا جانبًا من حياته الأدبية فإن المواليا «المواويل» عنده تغلب عليها الصبغة المصرية، وقد لا يبعد أن تكون بقيت بقية من مواويله ينشدها المنشدون في الأذكار وهم لا يعرفون الناظم الأصيل، وإليكم هذا الموال:

يا أمة العشق فزتم بالبصر والسمع
قوموا اتركوا الفرق عنكم واقبلوا للجمع
نور الشموع الذي يلمع عليكم لمع
من حرقة القلب قد سالت دموع الشمع

وهذا الموال:

قوموا بنا كلنا نخرق حجاب الطبع
ونتبع يا جماعة ما أتى في الشرع
حتى نشاهد جمال الله يلمع لمع
ولا جود لنا وهو الوجود الجمع

وهذا الموال:

حبيبنا في بديع الحسن حيرنا
بين الحياة وبين الموت خيرنا
حكم علينا وبالهجران غيرنا
وبعد هذا بسوء الحال عيرنا

فهذه المواويل تأخذ وقودها من التعابير المصرية، ومن المؤكد أنها عاشت في القاهرة حينًا من الزمان.

figure
مقام الشيخ عبد الغني النابلسي في دمشق.

مجموعة أشعاره

وبمناسبة هذه الأناشيد نذكر أن النابلسي كان يغذي حلقات الأذكار بمنظومات خفيفة الروح، فكان له فضل في إذاعة المعاني الطريفة بين المريدين، وهو صاحب الأنشودة الرائعة، أنشودة الساقي، وانظروا كيف تلطف الحركة وتقوى النبرات الموسيقية في هذا النشيد:

ساقي يا ساقي
اسقيني من خمرة الباقي
واكشف لي عن قيد إطلاقي
آه يا ساقي، آه يا ساقي
أستاره راحت
عن عيني والزهرة فاحت
والسكرة بالأسرار باحت
آه يا ساقي، آه يا ساقي
اكشف لي عنك
في ذاتي وافتح لي دنك
واجعلني يا حبي أنك
آه يا ساقي، آه يا ساقي
افتح لي باب الحان
واسمعني من طيب الألحان
وارشفني من كاسي الملآن
آه يا ساقي، آه يا ساقي
من يشرب يسكر
من خمري لما يتفكر
والمغرور في علمه أنكر
آه يا ساقي، آه يا ساقي
لا يعرف أمري
إلا من يشرب خمري
أحشاؤه تصلَى في جمري
آه يا ساقي، آه يا ساقي

وقوة الروح في هذا النشيد لا تخفى على أصحاب الأذواق.

إخوانياته

وأهم الآثار الباقية من أدب النابلسي هو المجموع الضخم الذي يحوي ما نظمه في المواجيد الذوقية والمدائح النبوية، والأحاجي الشعرية، والغزليات.

وهو يسمى القسم الأول (ديوان الحقائق، ومجموع الرقائق، في صريح المواجيد الإلهية، والتجليات الربانية، والفتوحات الأقدسية).

ويسمى القسم الثاني (نفحة القبول، في مدحة الرسول).

ويسمى القسم الثالث (رياض المدائح، وحياض المنائح، ونفحات المراسلات، ونسمات المساجلات).

ويسمى القسم الرابع (خمرة بابل، وغناء البلابل).

ولهذا المجموع الضخم مقدمة طويلة مسجوعة يغلب عليها التكلف، لم يعجبنا منها إلا تعابير قليلة، كأن يقول: «وهدى إليه قومًا بضلالهم فيه».

وكأن يقول: «والخارجين من مكة النفوس قبل الفتح».

وكأن يقول: «وتأملوا ظهوره للعقول بأنواع المعاني، وتجلياته للحواس الخمس بالصور المختلفة كالماء المطلق في قيود صبغة القناني».

الألفاظ الحسية

ويعد النابلسي من أقطاب شعراء الصوفية، وإن كان لا يستطيع اللحاق بابن الفارض، وهو في أغراضه أوضح من ابن عربي، وهو كذلك أقرب منه إلى البيئات الشعبية، وهو لا يخرج في أشعاره عن دائرة التصوف إلا قليلًا، كأن يقول في الإخوانيات:

أخٌ لي يظهر الغيب أرعى وداده
ويرعى ودادي يا رعى الله من يرعى
أهيم به في الحب وهو يهيم بي
فيا خيبة الواشي إذا رام أن يسعى

وكأن يقول في الحساد والأعداء:

من لعبدٍ بجسمه السقم بادي
بين أيدي حواسد وأعادي
وعيون قد أحدقت بازورار
وخزنتي مثل السيوف الحداد
وقلوب كأنما البغض فيها
جمر نار تبدو من الأجساد
صاعدات أنفاسها كدخان
منه يعلو الوجوه صبغ السواد

إنكار وحدة الوجود والحلول والاتحاد

وللنابلسي ألفاظ لا ندري كيف استساغها معاصروه، ألفاظ حسية أدارها في معارض معنوية، كأن يقول في خطاب المريدين:

يا ذوي الاعتقاد فينا ويا من
أسسونا على أتم أساس
أحصنوا بالتقى فروج قلوب
طاهرات ممن سواكم يقاسي
من زناة لهم ذكور كلام
نطف الغي منه والوسواس
جامعوه يلقون فيه شكوكًا
تنتج الريب في أمور الناس

وقد سلك هذا المسلك في العينية وهي من قصائده الطوال، وانظروا كيف يقول:

وجاءت بأنواع الشهادة أمة
على الحق زكتها صفات بوارع
وهذا نكاح الأم عقد محقق
ومن كل شيء خلق زوجين بادع
شهدنا على إيجابنا وقبولنا
وكانت لنا في الحضرتين وقائع
وزفت عروس القرب ليلة قدرنا
وفي ذكر الذكر استلذ المجامع
وإنزاله القرآن قد حملت به
فروج قلوب بالعلوم تدافع
وبت طلاق الصبر زوج فتى الهوى
ثلاثًا على سلمي فكيف يراجع
ولو دفعت كل الذي هو ملكها
على طلقة ما كان قلبي يخالع

وهذه الألفاظ لها عنده تأويل، فهو يقول بعد أبيات:

كلام على حكم العيان مفصل
به الغيث من سحب الحقيقة هامع٣

منزلته الشعرية

والنابلسي ينكر وحدة الوجود وينكر الحلول والاتحاد، فيصف الله في مقدمة ديوانه بأنه «الظاهر من حيث صفاته وأسماؤه في صورة كل أحد، من غير أن يحل في شيء أو يكون بشيء اتحد، والباطن من حيث ذاته العلية، عن معرفة أحد من البرية، فكل ما يخطر في بالك فهو من حيث أسماؤه وصفاته كذلك، وهو من حيث ذاته العلية بخلاف ذلك».

ويقول في الرد على من يعتقد وحدة الوجود:

ولا تقل: أنت هو ما أنت هو أبدًا
لا شيء كيف يساوي الشيء واعجبي

ويقول في نفي الاتحاد والحلول:

لا تقل: حل ولا
تقل: الحق اتحد
figure
ضريح سعد الدين الجباوي بضواحي دمشق ويرى الناظر جماعة من الصوفية يذكرون وينشدون.

ولكنه في موطن آخر يحتال لتفسير وحدة الوجود فيقول:

لا تقل: وحدة الوجود إذا لم
تفن عن كل كائن موجود
ثم تفني ذوقًا بتحقيق حق
عنك حتى عن الغنى المقصود
ويصير الوجود عنك خفيًّا
لست تدري منه سوى فرط جود
وإذا لم تكن كذلك فاحذر
من تلابيس عقلك المعقود
واجتنب وحده الوجود ودعها
لرجال قاموا بحفظ العهود

وهو في هذا يتابع ابن عربي الذي لا يبيح لكل سالك أن يقول بوحدة الوجود.

بقي النص على منزلة النابلسي في الحياة الشعرية ونحن نراه شاعرًا وسطًا بين شعراء الصوفية، ولولا التصوف لما أضيف اسمه إلى الشعراء.٤

وهذا لا يمنع أن نحكم بأنه أجاد في بعض المواطن ولا سيما المواويل كأن يقول:

نوحي على فقدهم يا مقلتي نوحي
والدمع طوفان هل منه نجا نوحي
يا من إذا أبطأوا جئنا لهم نوحي
لأنبياء المحبة لم نزل نوحي
وفي هذا الموال جناس مقبول،٥ والجناس من الخصائص الأساسية في المواويل المصرية، وربما جاز أن نستجيد هذا الموشح الطريف:
تجلى وجه محبوبي
وهذا كل مطلوبي
فيا نار العدا ذوبي
بعيد عنك مشروبي

•••

جمال الأهيف الزاهي
وحسن الأغيد الباهي
به صبري هو الواهي
وموتي فيه مرغوبي

•••

رأينا نوره أشرق
فكنا برقه الأبرق
ولا نجد ولا أبرق
سوى الإبريق والكوب

•••

علينا الخمر قد دارت
بها ألبابنا حارت
وأطيار الهوى طارت
بترتيب وأسلوب

•••

مليح الكون وأفانا
وزاد الحسن إحسانا
وحيًا يوسف الآنا
فقرت عين يعقوب

هذا؛ ولا ينسى القارئ أن أهمية النابلسي ترجع إلى ما أثر في عصره من الدعوة إلى الحق. أما منزلته الشعرية فهي عندي ضعيفة كل الضعف، وقد قضيت ليالي في درس ديوانه فلم أجد له قطعة واحدة تلحقه بأكابر الشعراء.

وفي الناس من يحيا مرة واحدة ثم يموت، وأظن النابلسي أخذ حظه وهو يتنقل بين مصر والشام والحجاز والعراق، فإن جحدنا فضله اليوم فلا بأس فقد عاش حتى سئم العيش، ولعله ظفر بما كان يطمح إليه من الخلود في عالم الأرواح.

١  كلمة (الحبيب) معناها الصديق، ولا تزال مستعملة بهذا المعنى في لغة أهل تونس، فقد ذهبت مرة لزيارة جامع باريس ومعي صديق هولندي فرفضوا أن يأخذوا منه ثمن تذكرة الدخول، وقال قائلهم: (من جاء مع الحبيب فهو حبيب)، وربما كانت كلمة (الحبيب) كلمة اصطلاحية عند الصوفية لذلك العهد كما نرى كلمة (الأخ) عند الشاذلية في هذه الأيام، ولا يزال الشاذلية يقولون في نهاية الحضرة: (تذاكروا يا أحباب) أي: يا إخوان.
٢  ص٢٨٨ من ديوان الحقائق.
٣  هذه مناورات صوفية، والحق أن هؤلاء الناس تجري على أقلامهم وألسنتهم ألفاظ ليس لها شفيع من حسن الذوق، وألفاظ النابلسي هنا لها نظير في قول البكري في توسلاته: «إلهي. حل لنا إزار الأسرار، عن علوم الأنوار» و«حل الأزار» عبارة حسية لا تصلح لهذا المقام الجليل، ولكن القوم يشطحون أحيانًا وينطحون!
٤  إذا لاحظنا أن النابلسي ظهر في عصر من عصور الانحطاط أمكن أن نستكثر ما جاء به فقد كانت أشعاره ملء الأفواه في صدر القرن الثاني عشر وظل صداها يرن في الآفاق الصوفية إلى اليوم، ولهذا أهمية في تقويم شاعرية النابلسي: فإن بعد الصيت ولو بين العوام ينصب له في تقويم الأدب ميزان.
٥  وجه الجناس في هذا الموال أن كلمة (نوحي) تكررت مع اختلاف المعنى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤