الهيام في حب الله

قدم هذه النزعة في حياة المتبتلين

حب العبد ربه من صفات المتبتلين، وهذه النزعة الروحية سبقت الإسلام بأزمان، ويروون أن داود كان يقول:

اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد.

وقد ورد هذا المعنى في القرآن يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ.

وروي عن الرسول أنه قال:

من أحب الله فليحبني، ومن أحبني فليحب أصحابي، ومن أحب أصحابي فليحب القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد؛ فإنها أبنية أذن الله تعالى برفعها وتطهيرها، وبارك فيها فهي ميمونة ميمون أهلها، فهم في صلاتهم والله تعالى في حوائجهم، وهم في مساجدهم والله تعالى في نُجح مقاصدهم.

الفرق بين حب المؤمن وحب الصوفي

ولكن هذا الحب تغلب عليه الصفة النفعية؛ فالمؤمن يحب الله — أي: يطيعه — ليدخل الجنة ويسلم من النار، وقد رأى الصوفية أن يجردوا الحب من الصفة النفعية فيجعلوه خالصًا لذات الله، بغض النظر عن رجاء الثوب، والخوف من العقاب.

وهذا السمو الروحاني عاد على الأدب بأجزل النفع، فقد رُويت عن المحبين أبيات وفقرات على جانب عظيم من الجمال، وانظروا هذه الأبيات:

لما علمتُ بأن قلبيَ فارغٌ
مِمَّنْ سِوَاك مَلأتُهُ بهَوَاكَا
وملأت كُلِّيَ منك حتى لم أدع
مني مكانًا خاليًا لسِوَاكَا
فالقلب فيك هيامُهُ وغرامُهُ
والنطقُ لا ينفك عن ذِكْرَاكَا
والطرف حيث أجيله متلفتًا
في كل شيء يجتلي مَعْنَاكَا
والسمع لا يُصْغِي إلى متكلمٍ
إلا إذا ما حدثوه بحلاكَا

وحدثوا أن ذا النون قال: بينا أنا مارٌّ في شوارع مصر إذ رأيت جارية مسفرة بغير خمار، فقلت لها: يا جارية! أما تستحين أن تمشي بغير خمار؟ فقالت: يا ذا النون، ما يصنع الخمار، بوجه قد علاه الاصفرار؟ فقال ذو النون: ومن أي شيء علاه الاصفرار؟ قالت: من محنته. قلت: يا جارية! عساك تناولت شيئًا من شراب القوم! فقالت: اسكت يا بطال! شربت بكأس وده ونمتُ مسرورة، فأصبحت بحب مولاي مخمورة. فقلت: يا جارية! عسى فائدة أنتفع بها منك، أو وصية أرويها عنك؟ فقالت: يا ذا النون عليك بالسكوت، حتى يتوهموا أنك مبهوت، وارض من الله بالقوت، يبن لك بيتًا في الجنة من ياقوت، ثم أنشدت:

تهتك ولا تخش في الحب عارا
وإياك إياك تبدي استتارا
وبادر إلى الباب مع فتية
لهم في الظلام عيون سهارى
وإن خفت عند المسير الضلال
فوجه حبيبك يهدي الحيارى١

وورود اسم «الجنة» في هذا الحديث لا ينفي صدق الحب؛ لأن الجنة في أكثر كلامهم إنما هي رمز لمعنى الرضوان في الحب.

وأصرح من هذه القصة ما حدث ذو النون: بينما أسير في أنطاكية إذا أنا بجارية كأنها مجنونة، وعليها جبة صوف، فسلمت عليها فردت عليَّ السلام ثم قالت: ألست ذا النون المصري؟ فقلت: عافاك الله، كيف عرفتني؟ فقالت: عرفتك بمعرفة حب الحبيب! ثم قالت: أسألك عن مسألة. قلت: سلي. قالت: أي شيء السخاء؟ قلت: البذل والعطاء. قالت: هذا السخاء في الدنيا، فما السخاء في الدين؟ قلت: المسارعة في طاعة رب العالمين. قالت: إذا سارعت إلى طاعة المولى فهو أن يطلع على قلبك وأنت لا تريد منه شيئًا، ويحك يا ذا النون إني أريد أن أطلب منه شيئًا منذ عشرين سنة فأستحيي منه مخافة أن أكون كأجير السوء، إذا عمل طلب الأجرة، ولكن أعمل تعظيمًا لهيبته وعز جلاله.٢

فهذه المرأة الصالحة جعلت انتظار الثواب مما يقدح في أعمال الطائعين.

شواهد من أدب الحب

وقد تكلم الصوفية في الفرق بين المعرفة والمحبة، فقال قائل منهم: المحبة سكرٌ لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه. وقال المحققون: المحبة استهلاك في لذة، والمعرفة شهود في حيرة، وفناء في هيبة.٣
وجرت مسألة المحبة بمكة أيام الموسم فتكلم فيها الشيوخ، وكان الجنيد أصغرهم سنًّا فقالوا له: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفى شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه؛ فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله.٤

إشارة إلى أعلام المحبين

وقد صرح الصوفية بأن الغاية من الجنة هي القرب، فقال أبو يزيد: لو أن الله سبحانه حجب أهل الجنة عن رؤيته لاستغاثوا من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار.٥
وهم يرون أن الشوق لا نهاية له؛ لأن أمر الحق لا نهاية له، فما من حال يبلغها المحب إلا ويعلم أن وراء ذلك ما هو أوفى وأتم.٦
figure
قبة سلطان العاشقين عمر بن الفارض.

والواقع أن أهل الحقيقة تكلموا جميعًا في الحب؛ لأن هذه الحال هي الفيصل بينهم وبين أهل الشريعة الذين يعبدون الله طمعًا في الثواب وخوفًا من العقاب، ولا يستقيم حال المتصوف إلا إن خلص من دنياه وأخراه فلا يكون له مأرب غير لقاء الحبيب.

وأشهر من عرفوا بالحب رابعة العدوية، ولها أخبار طوال، وقد نشر عنها الأستاذ نصطفى عبد الرازق بحثًا في مجلة المعرفة منذ سنين، وهي التي تقول:

إني جعلتك في الفؤاد محدثي
وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

والتي تقول:

أحبك حبين حب الهوى
وحبًّا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

ومن أشهر من تكلموا في الحب سَمْنُون الذي سموه «سمنون الحب»، والذي حدثوا أن الطير كانت تسقط عن الشجر حين تسمع كلامه في الحب.

ومنهم ذو النون الذي كان يتكلم في الحب فيموج مجلسه بالصارخين والباكين.

وما نريد أن نستقصي أخبار من تكلموا في الحب أو نظموا في الحب من الصوفية فذلك باب يطول، ويكفي أن نتكلم عن الشاعر المحب عمر بن الفارض الذي سموه سلطان العاشقين:

كل من في حماك يهواك لكن
أنا وحدي بكل من في حماكا
١  الروض الفائق، صفحة ٢٧.
٢  نشر المحاسن الغالية، ج٢، ص٣٠ و٣١.
٣  نشر المحاسن، ج١، ص١٢٢.
٤  نشر المحاسن، ج١، ص١٢٣.
٥  ص٣٦٧.
٦  ص٣٦٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤