أشواق ابن الفارض

حياة ابن الفارض

ولد أبو حفص عمر بن الفارض بالقاهرة في الرابع من ذي القعدة سنة ٥٧٦، وتوفي بها في اليوم الثاني من جمادى الأولى سنة ٦٣٢ وهو في الأصل من أسرة حموية، ولهذا الأصل أهمية في طبع ذلك الشاعر؛ فأهل الشام في الأدب القديم تغلب عليهم رقة الطبع، ولهم شغف بصور الجمال، ونزعتهم الغزلية فيها لين يندر مثله في مصر والعراق، وهذا الذي نقول به استوحيناه مما قرأنا لشعراء الشام في المعاني الحسية والوجدانية، وقد سبقنا إلى هذا الحكم أبو بكر الخوارزمي إذ قال منذ عشرة قرون:
ما فَتق قلبي، وشحذ فهمي، وصقل ذهني، وأرهف حد لساني، وبلغ بي هذا المبلغ؛ إلا تلك الطرائف الشامية، واللطائف الحلبية، التي علقت بحفظي وامتزجت بأجزاء نفسي.١

والحق أن ابن الفارض شخصية فريدة بين شعراء مصر، وقد اشتركت في تكوينه ثلاث بقاع: الشام وفيها أصله، والحجاز وإليه حنينه، ومصر وفيها مقامه. فهو شاعر مصر والشام والحجاز، وله في هذه الأقطار الثلاثة محبون يرونه مترجمًا لأدق ما يضمرون من نوازع القلب والوجدان.

غرامه

وابن الفارض مدين بخلود شعره إلى نزعته الصوفية، ولولا التصوف لانطمس ذكره منذ زمان؛ لأن له في فنون الشعرية أساتذة لا يشق لهم غبار: فله في الخمريات منازع خطير هو أبو نواس، وله في الحنين إلى الحجاز إمام لا نظير له ولا مثيل: هو الشريف الرضي،٢ وله في الصبابة سيد هو العباس بن الأحنف، وما يكاد شعر ابن الفارض يخرج عن الصبابة والحنين والخمريات.

فالمعاني الرمزية عند ابن الفارض هي السر في إقبال الناس على شعره، ولولا ذلك لانصرفوا عنه، ورأوه أخف من أن ينصب له ميزان.

وفي رأيي أن العناية بشعر ابن الفارض كانت فاتحة جديدة في وزن المعاني بعد أن ظل الناس أزمانًا طوالًا يحرصون قبل كل شيء على وزن الألفاظ، وهو من وجهة الديباجة وقوة السبك شاعر ضعيف، ولكنه من حيث المعاني فحل من الفحول؛ لأنه استطاع الجمع بين الحقيقة والخيال، والحقيقة عند هذا الشاعر هي الصورة الروحية، أما الخيال فهو الصورة الحسية التي رمز بها إلى المعنويات.

ويمتاز ابن الفارض بقوة الروح، وحسبنا أن نذكر أنه ألهم في منامه هذين البيتين:

وحياة أشواقي إليـ
ـك وحرمة الصبر الجميل
ما استحسنت عيني سوا
ك ولا صبوت إلى خليل

وهذان البيتان لا خطر لهما عند من يحفلون بجزالة الألفاظ، ولكنهما على جانب عظيم من القوة عند من يؤثرون المعاني، وهل في الحب أجل وأشرف من توحيد المحبوب؟ إن الشاعر يقسم بأشواقه وبحرمة الصبر الجميل — وهو قَسَمٌ لو تعلمون عظيم — يقسم أن عينه ما استحسنت سوى محبوبه، وأن قلبه ما صبا إلى محبوب سواه، وقوة المعنى والروح ظاهرة في هذين البيتين ظهورًا قويًّا.

والنفس قد تلهج في عالم الأحلام بمعان شتى، فليس من الكثير أن يلهج ابن الفارض في نومه بالمعاني الشعرية، ولكن الكثير أن يتفق لعقله الباطن ألا يتحدث بغير توحيد المحبوب، وتلك شارة الصدق، والصدق هو الدعامة الأولى لقوة الروح.

شغل ابن الفارض بالشعر نحو أربعين سنة، وذلك أمد طويل، فلا ينتظر مع هذا أن يصبغ شعره بصبغة واحدة، وإنما توجب طبيعة الأشياء أن يكون لشعر الصبِّا لون، ولشعر الكهولة لون، وقد كان الأمر كذلك: فلان الفارض قصائد تمثل الشباب، وله قصائد لا تصدر عن غير الكهول.

والوحي واحد في شعر ذينك العهدين: وهو الحب، وإن كان يختلف بعض الاختلاف؛ فالحب في العهد الأول كان حبًّا حسيًّا، ومن العسير أن نقول بغير ذلك، فقد كان ابن الفارض في صباه مضرب الأمثال في نضارة الجسم وملاحة التقاسيم وإشراق الجبين، وكان لا بد لمثله في جماله وشبابه من صبوات، وكان لا بد أن توحي إليه تلك الصبوات بأشعار فيها ثورة وفيها حنين، وإني لأعترف بأن من العسير أن نجد لذلك نماذج صريحة، ولكن ما حاجتنا إلى تلك النماذج وجمهرة شعره تؤيد هذا الرأي؟ إننا لو غضضنا النظر عن التائية الكبرى وما نحا نحوها من شعره لرأينا الروح السائد في الديوان يمثل شعر الشباب، ولو ألقيت جملة قصائده في ديوان آخر لما تنبه أحد إلى أنها تمثل الشوق إلى الذات الإلهية، فإن هذا الملحظ لم يخلقه إلا التفكير في شخصية ابن الفارض، وقد شاع في المشرقين أنها شخصية روحية.

والحب الحسي عند ابن الفارض كان أساس الحب الروحي، وقد هدتنا التجارب إلى أن المحبين في العوالم الروحية كانوا في بدايتهم محبين في الأودية الحسية، والهيام بالجمال الإلهي لا يقع إلا بعد الهيام بالجمال الحسي، ولو شئت لضربت المثل بقصة إبراهيم حين رأى القمر فقال: هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الآفلين، والمحبون في الأودية الحسية لا يتجهون إلى العوالم الروحية إلا بعد أن تدلهم الدنيا على أن الجمال الإنساني كالظل يتحول ويزول. وأشعار ابن الفارض في جملتها تمثل معاني حسية، وهي في بعض الأحوال رمز للمعاني الروحية، وهذا الرمز تفرضه سيرة ابن الفارض وقد ذاق الكأسين فعرف الحب الحسي والحب الروحي، ويكاد يكون من اليقين عندنا أن حبه الأول هو السر في وقدة حبه الثاني؛ لأننا نعرف الله أول ما نعرف عن طريق المحسوسات، وكل جمال في عالم الحس هو إغراء بالجمال المكنون في عالم الروح، والمحسوسات نفسها لا توحي الشعر إلا حين تستعد النفس لفهم ما فيها من الدلالات الوجدانية. وأساس الحب هو التفاهم، فالتمثال من المرمر قد يوحي الإعجاب ولكنه لا يوحي العشق إلا إن تمثلنا ما يرمز إليه من الروح، والصورة الجميلة الحية قد تمر بلا حب ولا وجد حين تحرم التفاهم مع الشعراء، ألا تذكرون ما يسمونه لغة العيون؟ إن بعض العيون تتكلم بلا صوت فتوحي ما توحي من الهدى والضلال.

وابن الفارض على هذا مَدِين بمجده إلى حبه الأول، وهو مدين إلى الصور الجميلة التي ألهبت حواسه وهو يغدو ويروح في ميادين القاهرة، وأكاد أرى بعيني أشباحًا تختال في قصائده الصوفية، وهو نفسه استغل الأساليب والصيغ التي اصطنعها شعراء الحب الحسي من أمثال ابن الأحنف وابن زيدون.

أليس من العجب أن تعجز جماهير الصوفية في طوال الأزمان عن خلق لغة للحب الإلهي تستقل عن لغة الحب الحسي كل الاستقلال؟ ولم كان ذلك؟ لأن الحب الإلهي يغزو القلوب بعد أن تكون انطبعت علي لغة العوام أصحاب الصبوات الحسية، فيمضي الشاعر إلى العالم الروحي ومعه من عالم المادة أدوات وأخيلة هي عُدَّته في تصوير عالمه الجديد، ومثلهم في ذلك مثل ابن الجهم حين غلبت عليه أخيلة البادية وهو يخاطب الخليفة في بغداد.

ومهما يكن من شيء فابن الفارض شاعر عاشق توزعت عواطفه بين عالم المادة وعالم الروح، وهو في أكثر شعره يعبر عن نفس صافية استطاعت السيطرة على طوائف من الناس زمنًا غير قليل.٣

منزلته الأدبية والروحية

وشعر ابن الفارض يتراوح بين الفطرة والتكلف، ومن المحتمل أن يكون ما صنع ابن بنته بشعره هو سبب ذلك التكلف، فقد سمعت أستاذنا المهدي — رحمه الله — يقول في محاضراته بالجامعة المصرية: إن ذلك السبط كان يضيف أبياتًا إلى بعض القصائد؛ غير أنه يجب أن نفرق بين التكلف والضعف؛ لأن التكلف كان يغلب على أكثر الشعراء في عصر ابن الفارض، فما وُسم من شعره بذلك الطابع لا يمكن أن يُشَك فيه كله، وإنما يتطرق الشك إلى ما يطهر عليه الضعف، كالذي وقع في الهمزية التي مطلعها:

أرج النسيم سرى من الزوراء
سحرًا فأحيا ميت الأحياء

ففيها كثير من التكلف، ولكنها لا تخلو من قوة، ولننظر هذه الأبيات:

يا ساكني البطحاء هل من عودة
أحيا بها يا ساكني البطحاء
إن ينقضي صبري فليس بمنقض
وجدي القديم بكم ولا برحاني
ولئن جفا الوسمي ما حل تربكم
فمدامعي تربي على الأنواء
وا حسرتى ضاع الزمان ولم أفز
منكم أهيل مودتي بلقاء
ومتى يؤمل راحة من عمره
يومان يوم قلى ويوم تناء
وحياتكم يا أهل مكة وهي لي
قسم لقد كلفت بكم أحشائي
حبيكم في الناس أضحى مذهبي
وهواكم ديني وعقد ولائي
يا لائمي في حب من من أجله
قد جد بي وجدي وعز عزائي
هلا نَهاك نُهاك عن لوم امرئ
لم يُلف غير منعَّم بشقاء
لو تدر فيم عذلتني لعذرتني
خفِّض عليك وخلِّني وبلائي٤

وهذا من الشعر المقبول، ولكن هذه القصيدة ختمت بأبيات أرجِّح أنها من وضع ذلك السبط الذي أراد أن يزيد ثروة جده فأساء، ولنقرأ هذه الأبيات:

واهًا على ذاك الزمان وما حوى
طيب المكان بغفلة الرقباء
أيام أرتع في ميادين المنى
جذلًا وأرفل في ذيول حباء
ما أعجب الأيام توجب للفتى
منحًا وتمنحه بسلب عطاء
يا هل لماضي عيشنا من عودة
يومًا وأسمح بعده ببقاء
هيهات خاب السعي وانفصمت عرى
حبل المنى وانحل عقد رجائي
وكفى غرامًا أن أبيت متيمًا
شوقي أمامي والقضاء ورائي

والديباجة واحدة أو متقاربة، ولكن النفس يختلف اختلافًا شديدًا يدركه الذوق، وأخشى أن يكون تدخل ذلك السبط هو العلة في أكثر ما وقع في ديوان ابن الفارض من الإسفاف.

قلت: إن التكلف كان كثيرًا في الشعر لعهد ابن الفارض، وكذلك تراه مفتونًا بفنون البديع من توية وجناس وطباق، وإن لم يسرف في الشغف بتلك الفنون، وقد اتفق له مرة أن يمعن في التكلف، وذلك في قصيدته الذالية فإن قافية الذال صعبة جدًّا، ولا يقبل عليها الشعراء إلا متكلفين، والذي يراجع القوافي العربية يرى الشعراء لا يتخذون الذال قافية إلا في الأبيات والمقطوعات، ويراهم لا يقفون قصائدهم بالذال إلا في النادر القليل. أما ابن الفارض فقد بدا له أن يُغرب، وأن يدُل معاصريه على امتلاكه لناصية تلك القافية الشَّموس، فقال:

صدٌّ حَمَى ظمئي لماك لماذا
وهواك قلبي صار منه جذاذا
إن كان في تلفي رضاك صبابة
ولك البقاء وجدت فيه لذاذا
كبدي سلبت صحيحةً فامنن على
رمقي بها ممنونة أفلاذا٥
يا راميًا يرمي بسهم لحاظه
عن قوس حاجبه الحشا إنفاذا
أنَّى هجرت لهجر واش بي كمن
في لومه لؤم حكاه فهاذي٦
وعليَّ فيك من اعتدى في حجره
فقد اغتدى في حجره ملاذا
غير السلو تجده عندي لائمي
عمن حوى حسن الورى استحواذا
يا ما أُمَيلحه رشًا فيه حلا
تبديله حال الخلي بذاذا
أضحى بإحسان وحسن معطيًا
لنفائس ولأنفس أخاذا

وما نحب أن ننقل القصيدة كاملة، ويكفي أن نشير إلى أنها تجاوزت الخمسين بيتًا، فهي قصيدة طويلة، وطولها يشهد بما وقع فيها من التكلف. والشاعر حين يتخير قافية وعرة كقافية الذال يُشغل عن المعاني، ويتجه فكره إلى البحث عن الألفاظ، ونحن نعرف كيف تجني مثل هذه المحاولة على الشاعر، وتصرف روحه عن الأجواء الشعرية، وتحوله إلى صفوف «الفعلة» بعد أن كان من الفنانين.

ومن الاتجاهات الفنية التي غلبت على ابن الفارض ميله إلى «التصغير»، وقد غلب عليه هذا الميل غلبة قوية بحيث نجد آثاره في جميع القضائد، فأهل الحي وأهل الوُد هم غالبًا «أُهَيْل الحي وأُهَيْل الود»:

يا أهيل الود أنى تنكرو
نيَ كهلًا بعد عرفاني فتى

وفي هذا البيت وحده تصغيران.

والظبي عنده ظُبَيّ:

هل سمعتم أو رأيتم أسدًا
صاده لحظ مهاة أو ظبي

والهوى عنده هُوَيّ:

وضع الآسي بصدري كفه
قال ما لي حيلة في ذا الهوى

واللمى عنده لُميّ:

آه، وا شوقي لضاحي وجهها
وظما قلبي لذياك اللميّ

وفي هذا البيت تصغيران.

والأرى عنده أُريّ:

وأرى من ريحه الراح انتشت
وله من وله يعنو الأُرَيّ

وفي هذه القافية وحدها تصغيرات كثيرة، وكذلك الحال في أكثر القصائد، وربما كان ابن الفارض أكثر من اهتموا بالتصغير بين شعراء اللغة العربية، وعند درس تصغيراته نراها مالت به أحيانًا إلى التكلف أو الجناية على المعنى، كالذي وقع في تصغير الهوى والأرى، ولا يقف كلفه بالتصغير عند الأسماء، بل يتعداه إلى الإكثار من تصغير فعل التعجب، كقوله:

يا ما أميلح كل ما يرضى به
ورضابه يا ما أحيلاه بفي

وكما يكثر عنده التصغير تكثر عبارة «لعمرك» وهي عبارة جاهللية فتن بها عمر بن أبي ربيعة فتنة شديدة، وأنس بها ابن الفارض.

ومما شارك فيه ابن الفارض معاصريه الغرام بالألغاز، واللغز ليس من الشعر في شيء، إنما هو نظم يراد به اختبار الذكاء؛ ولذلك نرى اللغز بعيدًا عن فن ابن الفارض الذي يعتمد على الروح.

وألغازه من الوجهة النظمية منها الثقيل والمقبول، وقد راجعناها فلم نرض فيها عن شيء، ويكفي هذا الشاهد في الإلغاز بحلب:

ما بلدة في الشام قلب اسمها
تصحيفه أخرى بأرض العجم
وثلثه إن زال من قلبه
وجدته طيرًا شجي النغم
وثلثه نصف وربع له
وربعُهُ ثلثاه حين انقسم

ويمكن الرجوع في ديوانه إلى الصفحات ١١١–١١٥، ففيها ما يكفي لتصوير هذا الجانب من فنونه النظمية.

وشارك معاصريه أيضًا في الإشارات النحوية، وإن لم يسرف في ذلك، وحسبنا هذا الشاهد:

نَصَبًا أكسبني الشوق كما
تكسب الأفعال نصبًا لام كي

وقد جانس في هذا البيت بين النَّصْب والنَّصَب فلم يصل بما تكلف إلا إلى معنى هزيل.

وابن الفارض كأكثر الشعراء لا يعيِّن اسم الحبيب، وإنما يدور حول طائفة من الأسماء، فهواه حينًا عند سعاد كأن يقول:

ما شممت البشام إلا وأهدى
لفؤادي تحية من سعاد٧

وحينًا عند رُقَيّ — مرخم رقية — كقوله في اليائية:

خاطب الخطب دع الدعوى فما
بالرُّقَي ترقى إلى وصل رقي

وقد جرى اسم «ليلى» في شعره مرات كثيرة، ولكن أرق الأسماء عنده اسم «نعم» وهو يدور حوله بحنان:

إذا أنعمت نُعمٌ علي بنظرة
فلا أسعدت سعدَى ولا أجملت جمل
ومن لم يجد في حب نعم بنفسه
ولو جاد بالدنيا إليه انتهى البخل

وقد ضرب بها المثل حين قال في وصف الراح:

ويطرب من لم يدرها عند ذكرها
كمشتاق نُعم كلما ذكرت نعم

ويتفق له أن يجمع أسماء مختلفة في بيت واحد، كما جمع بين نعم وسعدى وجمل في البيت الذي مر آنفًا، وكقوله في الجمع بين ريا وعتبة وسلمى:

عُتبُ لم تعتب وسلمى أسلمت
وحمى أهل الحمى رؤية ري

ومثل هذا البيت يدل على أن الأسماء ليست عنده إلا إشارات مبهمة لما يرمز إليه في عالم الروح.

ولقب ابن الفارض عند الصوفية لقب طريف، وهو: «سلطان العاشقين»، وقد شهد لنفسه بهذه السلطنة الوجدانية في مواضع كثيرة، فجعل نفسه إمام العشاق، ومحبوبه إمام الملاح، حين قال:

كل من في حماك يهواك لكن
أنا وحدي بكل من في حماكا٨
فقت أهل الجمال حسنا وحسنى
فبهم فاقة إلى معناكا
يحشر العاشقون تحت لوائي
وجميع الملاح تحت لواكا

وهو معنى جيد انتهبه أحد الزجالين في العصر الحاضر وهو عزت صقر فقال:

أنا في العشاق أمير
وأنت في الحلوين ملك

وجعل نفسه قدوة للأولين والآخرين حين قال:

قل للذين تقدموا قبلي ومن
بعدي ومن أضحى لأشجاني يرى
عني خذوا وبي اقتدوا ولي اسمعوا
وتحدثوا بصبابتي بين الورى

وجعل المحبين جنده حين قال:

نسخت بحبي آية العشق من قبلي
فأهل الهوى جندي وحكمي على الكل
وكل فتى يهوى فإني إمامه
وإني بريء من فتًى سامع العذل

وهو في هذا المعنى بصوره المختلفة مسبوق بالشاعر الذي ألهمه فن الحجازيات وهو الشريف الرضيُّ حين قال:

وإني لمجلوب لي الشوق كلما
تنفس شاك أو تألم ذو وجد
تعرَّض رسل الشوق والركب هاجد
فتوقظني من بين نوامهم وحدي
وما شرب العشاق إلَّا بقيتي
ولا وردوا في الحب إلا على وردي

ولابن الفارض معان كلف بها كلفًا شديدًا، ودار حولها طويلًا، وأظهر ما اهتم به وصف النحول، وقد عرض له بصور كثيرة منها المتكلف والمقبول، فتارة يحدثنا أنه ضني حتى خفي عن العواد فيقول:

خفيت ضنى حتى لقد ضل عائدي
وكيف ترى العواد من لا له ظل
وما عثرت عين على أثري ولم
تدع لي رسمًا في الهوى الأعين النجل

وتارة يحدثنا بأنه كان يخفي عن نفسه فيقول:

أخفيت حبكمو فأخفاني أسًى
حتى لعمري كدت عني أختفي

وحينًا يترفق فيذكر أن جسمه ضني حتى كاد يشف عما يضمر من أسرار الهوى، وأنه ما زال يضني بالنحول حتى خفي عن برء الأسقام وبرد الأوام، فيقول:

يشف عن الأسرار جسمي من الضنى
فيغدو بها معنى نحول عظامي
صريح هوى جاريت من لُطفي الهوا
سحيرًا فأنفاس النسيم لمامي٩
صحيح عليل فاطلبوني من الصبا
ففيها كما شاء النحول مقامي
خفيت ضنًى حتى خفيت عن الضنى
وعن برء أسقامي وبرد أوامي
ولم يبق مني الحب غير كآبة
وحزن وتبريح وفرط سقام
ولم أدر من يدري مكاني سوى الهوى
وكتمان أسراري ورَعى ذمامي
لينج خليٌّ من هواي بنفسه
سليمًا ويا نفس اذهبي بسلام

والكلام عن الضنى والنحول كثير جدًّا في قصائد الشعراء، ولكن إمعان ابن الفارض في هذا المعنى جعله من خواصه الشعرية، وافتنانه فيه افتنان طريف تظهر طرافته لمن يتأمل كيف قصر الهوى على تعرف جسمه النحيل … وليتذكر القارئ أن أكثر الشعر في النحول ليس إلا مظهرًا من مظاهر الذكاء، وحظ العاطفة فيه قليل، فالحسين بن مطير يجعل جسمه أضعف من أن يهتز له عود الثمام فيقول:

فلو أن ما أبقيت مني معلق
بعود ثمام ما تأود عودها

والمتنبي يزعم أن جسمه لم يبق من آثاره غير الصوت فيقول:

كفى بجسمي نحولًا أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم ترني

وقد بلغ أحد المولدين غاية الظرف حين قال:

عادني مُمرضي فلم ير مني
فوق فرش السقام شيئًا يراه
قال لي: أين أنت قلت: التمسني
فبكى حين لم تجدني يداه١٠

أما ابن الفارض فيجمع بين العاطفة والذكاء حين يتكلم عن النحول، ومن التجني أن نقول: إن قطعته الأخيرة ليست إلا براعة فنية في تلوين الخيال.

وابن الفارض يشارك جمهور الشعراء في الحديث عن طيف الخيال، ولكن صوره الشعرية في هذا الباب تمتاز بألوان من القلق الروحاني؛ لأنه يستصغر زيارة الطيف، وكان البحتري والمتنبي يريانها من متع الوصال، ولننظر هذه الأبيات التي يصف فيها الخيال بالإرجاف:

يا مانعي طيب المنام ومانحي
ثوب السقام به ووجدى المتلف
عطفًا على رمقي وما أبقيت لي
من جسمي المضنى وقلبي المدنف
فالوجد باق والوصال مماطلي
والصبر فانٍ واللقاء مسوفي
لم أخل من حسد عليك فلا تضع
سهري بتشييع الخيال المرجف١١
واسأل نجوم الليل هل زار الكرى
جفني وكيف يزور من لم يعرف

فهو يرى الطيف لا يروي الغليل، وقد ذهب إلى أبعد غايات الشره الروحاني؛ إذ قال:

وإذا اكتفى غيري بطيف خياله
فأنا الذي بوصاله لا أكتفي

ونراه في مكان آخر لا ينتظر طيف الحبيب في النوم، وإنما يتصيده وهو يقظان، ولننظر هذه الأبيات:

لك قرب مني ببعدك عني
وحنو وجدته في جفاكا
علم الشوق مقلتي سهر الليـ
ـل فصارت من غير نوم تراكا
حبذا ليلة بها صدت إسرا
ك وكان السهاد لي إشراكا
بات بدر التمام طيف محيا
ك لطرفي بيقظتي إذ حكاكا
فتراءيت في سواك لعين
بك قرت وما رأيت سواكا

وهذا الطيف أظرف الأطياف، والشاعر يحدثنا بأنه يرى في البعد قربًا وفي الجفاء حنوًّا؛ لأن محبوبه يبعد ويجفو عن عمد، وتعمد الهجر صورة من صور الوصال، ثم يحدثنا بأنه يتخذ السهاد شَرَكًا يتصيد به طيف المحبوب، ثم ينظر إلى البدر فيرى فيه خيال محياه، ثم يهتف بهذا البيت:

فتراءيت في سواك لعينٍ
بك قرت وما رأيت سواكا

ومن طريف ما تلفت إليه تعلقه بطيف الملام، حين يعز عليه طيف المنام؛ إذ يقول:

أدر ذكر من أهوى ولو بملام
فإن أحاديث الحبيب مدامي
ليشهد سمعي من أحب وإن نأى
بطيف ملام لا بطيف منام
فلي ذكرها يحلو على كل صيغة
وإن مزجوه عذَّلي بخصام١٢
كأن عذولي بالوصال مبشري
وإن كنت لم أطمع برد سلام

فهو يتذوق اللوم ويتشهاه؛ لأنه يصله بصورة المحبوب، وهو في هذا مسبوق بقول دعبل:

أجد الملامة في هواك لذيذة
حبًّا لذكرك فليلمني اللوم

وهذا السبق لا يغض من فضل ابن الفارض؛ لأنه تناول المعنى بروح مغمور بصدق الإحساس، ودليل ذلك أنه يعود إلى هذا المعنى من حين إلى حين، كأن يقول في مخاطبة العذول:

أحسنت لي من حيث لا تدري وإن
كنت المسيء فأنت أعدل جائر
يدني الحبيب وإن تناءت داره
طيف الملام لطرف سمعي الساهر
فكأن عذلك عيس من أحببته
قدمت علي وكان سمعي ناظري

وهو في هذه الأبيات يجعل السمع نظرًا يرى به طيف الملام، والتكلف في هذه الصورة تكلف مقبول؛ ومن التكلف ما يقبل لأنه يمثل لنا أخص النواحي الوجدانية في ابن الفارض وهو شغفه باستحضار صورة المحبوب، ألسنا نراه يشطر وجوده شطرين يحسد أحدهما الآخر، ويجعل بصره يتمنى لو عاد سمعًا لينعم بأخبار الحبيب؛ إذ يقول:

بعضي يغار عليك من بعضي ويحـ
ـسد باطني — إذ أنت فيه — ظاهري١٣
ويود طرفي إن ذكرت بمجلس
لو عاد سمعًا مصغيًا لمسامري

واستحضار صورة المحبوب من أسرار العبقرية في شعر ابن الفارض فهو في أكثر شعره لا يشغلنا بنفسه كما يشغلنا بذلك الحبيب، وإنه ليرى روحه أصغر من أن تقدم هدية لمبشره بقدوم أهل هواه:

وحياتكم وحياتكم قسمًا وفي
عمري بغير حياتكم لم أحلف
لو أن روحي في يدي ووهبتها
لمبشري بقدومكم لم أنصف

وكل شيء في الوجود يمثل لروحه صورة الحبيب فهو يراه في ملامة العذال وفي لمع البرق، وفي نغمة العود والناي، وفي مسارح الظباء، وفي برد الصباح والأصيل، وفي مساقط الأنداء على بساط الأزهار، وفي أذيال النسيم، ويراه في ثغر الكأس وريق المدام، ولا قيمة للغربة ولا معنى للانزعاج ما دام في صحبة المحبوب:

تراه إن غاب عني كل جارحة
في كل معنى لطيف رائق بهج
في نغمة العود والناي الرخيم إذا
تألفًا بين ألحان من الهزج
وفي مسارح غزلان الخمائل في
برد الأصائل والإصباح في البلج
وفي مساقط أنداء الغمام على
بساط نور من الأزهار منتسج
وفي مساحب أذيال النسيم إذا
أهدى إلي سحيرًا أطيب الأرج
وفي التثامي ثغر الكأس مرتشفًا
ريق المدامة في مستنزه فرج١٤
لم أدر ما غربة الأوطان وهو معي
وخاطري أين كنا غير منزعج

وقد يقال: إن استحضار صورة المحبوب واضح في كل قصائد النسيب، وهذا صحيح، ولكنه في شعر ابن الفارض أوضح، والصبابة في تشبيبه تبلغ غاية القوة في كثير من الأحيان، ولا نغالي إذا قلنا: إن هذه الالتفاتة الوجدانية مما تفرد به ابن الفارض، أليس هو الذي يقول في قوة عاتية:

وقلت لرشدي والتنسك والتقى:
تخلوا وما بيني وبين الهوى خلوا
وفرغت قلبي عن وجودي مخلصًا
لعلي في شغلي بها معها أخلو

أرأيتم كيف يسعى الشاعر لتفريغ قلبه عن وجوده الذاتي، ويقصر خطراته النفسية على الشغل بالمحبوبة عساه يظفر من ذلك بخلوة روحية؟

وانظروا كيف يبهركم وجه تلك المحبوبة وهو يمثل لكم لآلأه بهذه الأبيات:

جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي
فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
فنافس ببذل النفس فيها أخا الهوى
فإن قبلتها منك يا حبذا البذل
فمن لم يجد في حب نعم بنفسه
ولو جاد بالدنيا إليه انتهى البخل
ولولا مراعاة الصيانة غيرة
ولو كثروا أهل الصيانة أو قلوا
لقلت لعشاق الملاحة: أقبلوا
إليها على رأيي ومن غيرها ولوا
وإن ذكرت يومًا فخروا لذكرها
سجودًا وإن لاحت إلى وجهها صلوا
وفي حبها بعت السعادة بالشقا
ضلالًا وعقلي عن هداي به عقل١٥
ومن أجلها أسعى لمن بيننا سعى
وأعدو ولا أغدو لمن دأبه العذل
فأرتاح للواشين بيني وبينها
لتعلم ما ألقى وما عندها جهل
وأصبو إلى العذال حبًّا لذكرها
كأنهم ما بيننا في الهوى رسل
فإن حدثوا عنها فكلي مسامع
وكلي إن حدثتهم ألسن تتلو
تخالفت الأقوال فينا تباينًا
برجم ظنون بيننا ما لها أصل
فشنع قوم بالوصال ولم تصل
وأرجف بالسلوان قوم ولم أسل
فما صدق التشنيع عنها لشقوتي
وقد كذبت عني الأراجيف والنقل
وكيف أرجي وصل من لو تصورت
حماها المنى وهمًا لضاقت بها السبل
وإن وعدت لم يلحق الفعل قولها
وإن أوعدت فالقول يسبقه الفعل
عديني بوصل وامطلي بنجازه
فعندي إذا صح الهوى حسن المطل
وحرمة عهد بيننا عنه لم أحل
وعقد بأيد بيننا ما له حل
لأنت علي غيظ النوى ورضا الهوى
لدي وقلبي ساعة منك ما يخلو

وهذه القطعة لا تحتاج إلى تعليق، وقد نقلناها على طولها لأهميتها في تأييد ما نقول به من غرام هذا الشاعر باستحضار صورة المحبوب، وهي في أنفسنا حية كل الحياة، ولا يرى فيها فتورًا أو ركاكة إلا من يقصر وجدانه عن إدراك ما فيها من معاني الشوق والحنان.

ولننظر لوعة الوجد في ختام هذا القصيد، وهي تمثل ذلك المعنى أصدق تمثيل:

ترى مقلتي يومًا ترى من أحبهم
ويعتبني دهري ويجتمع الشمل١٦
وما برحوا معنًى أراهم معي فإن
نأوا صورة في الذهن قام لهم شكل
فهم نصب عيني ظاهرًا حيثما سروا
وهم في فؤادي باطنًا أينما حلوا
لهم أبدًا مني حنو وإن جفوا
ولي أبدًا ميل إليهم وإن ملوا

والصبابة الصادقة تواجه من يقرأ ديوان ابن الفارض في مواضع كثيرة، برغم ما يقع فيه أحيانًا من التعمل والإسفاف، وأكثر الناس يعرفون الفائية التي يستهلها بهذا الابتهال:

قلبي يحدثني بأنك متلفي
روحي فداك عرفت أم لم تعرف
لم أقض حق هواك إن كنت الذي
لم أقض فيه أسى ومثلي من يفي
ما لي سوى روحي وباذل نفسه
في حب من يهواه ليس بمسرف
فلئن رضيت بها فقد أسعفتني
يا خيبة المسعى إذا لم تسعف

ومن هذا الباب قصيدته الميمية التي يشرح فيها كيف طاب له الافتضاح ولذ له الاطراح، وكيف رضي بالذلة بعد العزة، وحلا له التهتك وخلع العذار وارتكاب الآثام بعد النسك والتقوى، إلى أن يقول:

أصلي فأشدو حين أتلو بذكرها
وأطرب في المحراب وهي إمامي
وبالحج إن أحرمت لبيت باسمها
وعنها أرى الإمساك فطر صيامي
أروح بقلب بالصبابة هائم
وأغدو بطرف بالكآبة هام
وفي كل عضو في كل صبابة
إليها وشوق جاذب بزمامي
ولو بسطت جسمي رأت كل جوهر
به كل قلب فيه كل غرام
ولما تلاقينا عشاء وضمنا
سواء سبيلي دارها وخيامي
وملنا كذا شيئًا عن الحي حيث لا
رقيب ولا واش بزور كلام
فرشت لها خدي وطاء على الثرى
فقالت: لك البشرى بلثم لثامي
فما سمحت نفسي بذلك غيرة
على صونها مني لعز مرامي
وبتنا كما شاء اقتراحي على المنى
أرى الملك ملكي والزمان غلامي

وهذا المنظر بعينه مر في قصيدة للشريف الرضي، وكلا الشاعرين يتحدث عن العفاف. أما الشريف فيذكر أنه قضى الليل مع محبوبته في عناق عفيف:

بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى
يلفنا الشوق من فرع إلى قدم
وبيننا عفة بايعتها بيدي
على الوفاء بها والرعي للذمم١٧

أما ابن الفارض فقد اقترح أن يبيتا على المنى، وتلك أقصى غاية العفاف.

ومن أهم قصائد ابن الفارض قصيدة «شربنا على ذكر الحبيب»، وهي قصيدة رمزية بلا جدال، والخمر فيها خمر الحقيقة التي شغفت الصوفية، وملأت قلوبهم بألحان الوجد والحنين.

ومن أجل هذا نرى مبالغاته مقبولة كل القبول حين يصف تلك الخمر بالقدرة على كل شيء:

وإن خطرت يومًا على خاطري امرئ
أقامت به الأفراح وارتحل الهم
ولو نظر الندمان ختم إنائها
لأسكرهم من دونها ذلك الختم
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت
لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
ولو طرحوا في فيء حائط كرمها
عليلًا وقد أشفى لفارقه السقم
ولو قربوا من حانها مقعدًا مشى
وتنطق من ذكرى مذاقتها البكم
ولو عبقت في الشرق أنفاس طيبها
وفي الغرب مزكوم لعاد له الشم
ولو خضبت من كأسها كف لامس
لما ضل في ليل وفي يده النجم
ولو جليت سرًّا على أكمه غدا
بصيرًا ومن راووقها تسمع الصم
ولو أن راكبًا يمموا ترب أرضها
وفي الركب ملسوع لما ضره السم
ولو رسم الراقي حروف اسمها على
جبين مصاب جن أبرأه الرسم
وفوق لواء الجيش لو رقم اسمها
لأسكر من تحت اللوا ذلك الرسم

وهذه الخمر العالية هي خمر الحقيقة، هي الذات الإلهية التي تقول للشيء: كن فيكون.

يقولون لي: صفها فأنت بوصفها
خبير، أجل! عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوًا
ونور ولا نار وروح ولا جسم
تقدم كل الكائنات حديثها
قديمًا ولا شكل هناك ولا رسم

وهل في عالم المعاني أدق وأبره من هذا الالتفاف الطريف؛ إذ يقول هذا الشاعر النشوان:

وقالوا: شربت الإثم، كلا وإنما
شربت التي في تركها عندي الإثم
هنيئًا لأهل الدير كم سكروا بها
وما شربوا منها ولكنهم هموا

وهذا البيت يعين أنها خمر الحقيقة، ولو أراد خمر أبي نواس لما صح له أن ينكر شرب الرهبان من تلك الراح، وكيف والرهبان كانوا سادة الشاربين، وإلى دياراتهم كان يحج عشاق الرحيق!

والشاعر يحدثنا أن الرهبان هموا بشرب تلك الخمر، خمر الحقيقة، وهذا حق فقد كان الصوفية يرون الرهبان أئمة التنسك لو صح لهم دين، وقد وردت كلمة «راهب» في مقام التعظيم في قول الرشيد: «كان أبو العباس عيسى بن علي راهبنا وعالمنا أهل البيت».١٨

وابن الفارض يمضي فيقول:

وعندي منها نشوة قبل نشأتي
معي أبدًا تبقى وإن بلي العظم

وهذه النشوة التي سبقت الوجود ليست كتلك النشوة التي وقعت في قول أحد المتحذلقين:

أسكر بالأمس إن عزمت على الشر
ب غدًا إن ذا من العجب

وإنما هي نشوة من يؤمن بخلود الروح ويعتقد أن لها نشوات قدسية قبل الخلق وبعد الموت.

فلا عيش في الدنيا لمن عاش صاحيًا
ومن لم يمت سكرًا بها فاته الحزم
على نفسه فليبك من ضاع عمره
وليس له فيها نصيب ولا سهم١٩

ولا يسع من يهتم بدرس ابن الفارض أن يغفل التائية الكبرى، وهي في نحو ست مئة بيت، وقد نظمها تحت وحي التصوف، وهي قصيدة يغلب عليها التكلف، وفيها مع ذلك مواقف مضمَّخة بعبير الروح، كأن يقول:

وما ظفرت بالود روح مراحة
ولا بالود نفس صفا العيش ودت
وأين الصفا هيهات من عيش عاشق
وجنة عدن بالمكاره حفت

وكأن يقول في خطاب الحقيقة السرمدية:

وعن مذهبي في الحب ما لي مذهب
وإن ملت يومًا عنه فارقت ملتي
ولو خطرت لي في سواك إرادة
على خاطري سهوًا قضيت بردتي
لك الحكم في أمري فما شئت فاصنعي
فلم تك إلا فيك لا عنك رغبتي٢٠

والمتأمل في شعر ابن الفارض من الوجهة الفنية يراه تأثر بعض التأثر باللغة المصرية، فهو يجمع الفعل حين يكون الفاعل جمعًا، وذلك معروف عن المصريين في لغة التخاطب، وإن كان لا يفعل ذلك إلا حين تقهره ضرورة شعرية.

وبمناسبة مصر نذكر أنها لا تمر في شعره إلا قليلًا، فقد كان هواه كله في الحجاز، وأظهر موضع مر فيه اسم مصر هو قوله في التشوق إلى أهل نجد:

يا أهل ودي هل لراجي وصلكم
طمع فينعم باله استرواحا
مذ غبتم عن ناظري ليَ أنَّةٌ
ملأت نواحي أرض مصر نواحا
وإذا ذكرتكم أميل كأنني
من طيب ذكركم سقيت الراحا
وإذا دعيت إلى تناسي عهدكم
ألفيت أحشائي بذاك شحاحا

ومؤرخو الأدب العربي لا يرون ابن الفارض من الفحول، وفي ظني أن سيفكر فيه ناس بعد قراءة هذا البحث؛ على أن ابن الفارض لا ينتظر أن يحييه المؤرخون، فقد حيي على ألسنة الجماهير حياة قوية، ولا أزال أذكر كيف كان يحتشد الناس في بيت الصواف بحي سيدنا الحسين؛ ليسمعوا الشيخ حسن الحويحي، وهو يتغنى بهذه الأبيات:

ما بين معترك الأحداق والمهج
أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
ودعت قبل الهوى روحي لما نظرت
عيناي من حسن ذاك المنظر البهج
لله أجفان عين فيك ساهرة
شوقًا إليك وقلب بالغرام شج
عذِّب بما شئت غير البعد عنك تجد
أو في محب بما يرضيك مبتهج
وخذ بقية ما أبقيت من رمق
لا خير في الحب إن أبقى على المهج

وقصيدة «ته دلالًا فأنت أهل لذاكا» يسمعها الجمهور في «أسطوانة» للشيخ علي محمود، ولا تزال قصائد ابن الفارض متعة السامرين في سهرات الصوفية.

وقد اهتم رجال من المؤلفين المشهورين بدرس ديوانه وشرحه، وفي ذلك الحياة كل الحياة.

كل شيء حي في ابن الفارض حتى قبره، وقد زرته مرة فرأيته مزدحمًا بأفواج المبتهلين، والمحبون لا تهجر قبورهم في جميع الأحيان.

١  يتيمة الدهر، ص٨، ج١.
٢  صح عندي أن ابن الفارض استوحى الشريف الرضي في قصائده الحجازيات.
٣  يقال: إن ابن الفارض صعد منارة المسجد فرأى امرأة جميلة فوق سطح بيت فاشتغل قلبه وهام مع الهائمين، ويقال: إن تلك المرأة كانت زوجة أحد القضاة، والله أعلم!
٤  جزم الفعل من غير جازم في «لو تدر»، ونظيره في القرآن «ذلك ما كنا نبغ».
٥  ممنونة: مقطوعة.
٦  في هذا البيت ركاكة ظاهرة، وكذلك البيت الذي يليه.
٧  سعاد اسم فتاة، وقد لاحظت أن أهل كركوك قد يسمون الفتى سعاد «عرفت ذلك من الشيخ حبيب الطالباني رئيس بلدية كركوك».
٨  أنشدني سماحة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء بالنجف هذا البيت حين علم أني مشغول بدرس التصوف فوقع البيت من نفسي أجمل وقع، وعرفت كيف تسري النفحات الوجدانية من النيل إلى الفرات.
٩  يريد أن أنفاس النسيم هي أنفاسه حين يلم بالأسحار.
١٠  أنشدني هذين البيتين الشيخ طاهر الصباغ رحمه الله ونحن في باريس.
١١  في نسخة الديوان «تشنيع» والذي أحفظه تشييع وهو عندي أنسب، وناشر الديوان فسر التشنيع بالتقريع، وقد يكون له وجه.
١٢  أسند ابن الفارض الفعل إلى واو الجماعة مع وجود الفاعل ظاهرًا، وقد وقع شيء في هذا في شعر الشريف الرضي.
١٣  ظاهري: هو فاعل «يحسد».
١٤  فرج: يصلح للفرجة؛ أي: النزهة.
١٥  العقل الثاني مصدر عقله إذا قيده، ومن العقال جاء العقل.
١٦  أعتبه: أزال أسباب عتبه وترضاه، فالهمزة للإزالة.
١٧  انظر تحليل هذه القصيدة في الجزء الثاني من كتاب «عبقرية الشريف الرضي».
١٨  تاريخ بغداد، ج١٠، ص٥٠.
١٩  كان لهذه الميمية صدى رنان، فتحدث عنها صاحب «تزيين الأسواق» وشرحها الحسين بن أحمد التبريزي، ومن هذا الشرح نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية «رقم ٥٨٦٤ أدب».
٢٠  تائية ابن الفارض من أهم الوثائق الصوفية، وقد أشرنا من قبل إلى أنه من القائلين بوحدة الوجود، والتكلف في هذه التائية لا يلمحه من يفتن بما فيها من دقائق الإشارات، وقد اهتم بها كثير من الشراح فزادت بها الثروة اللغوية والصوفية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤