أخبار الصوفية

مطالعات من الأدب الطريف

في اللغة العربية نوع طريف من الأدب الذي يشوق العقول، ويرهف العزائم، ويحيي الوجدان، وهو أخبار الصوفية.

وهذا النوع من الأدب له نماذج كثيرة في اللغة العربية، ويرتاح إليه أهل الجد كما يرتاح أهل الهزل إلى أخبار الماجنين.

وكان لهذا النوع من الأدب تأثير شديد في توجيه القلوب والعقول إلى الخير والسداد، وكان له في مجالس الوعظ جاذبية قوية تحول تلك المجالس إلى أندية أدبية خفيفة الظل والروح.

ويمتاز هذا النوع من الأدب بما فيه من روعة الخيال، فأكثر أخبار الصوفية موشاة بالمبتكر الطريف من صور الحياة والناس، وما فيها من المغالاة والإغراب ليس إلا شاهدًا على قوة التزويق والتلوين.

وتشهد هذه الأخبار بأن «المجاذيب» كان لهم شأن في تربية المجتمع، وكان فيهم رجال يسوسون العقول والنفوس، ويضربون لمريديهم أحسن الأمثال.

حياة فاتح بن عثمان

figure
جامع أبي المعاطي في دمياط، وكان خلوة صوفية.
ومن شواهد ذلك أخبار فاتح بن عثمان التكروري، وهو رجل قدم من مراكش إلى دمياط على قدم التجريد، وسقى بها الماء في الأسواق احتسابًا من غير أن يتناول من أحد شيئًا، ونزل في ظاهر الثغر ولزم الصلاة مع الجماعة وترك الناس جميعًا، ثم أقام بناحية تونة من بحيرة تنيس، ورمَّ مسجدها، ثم انتقل من تونة إلى جامع دمياط وأقام في وكر بأسفل المنارة من غير أن يخالط أحدًا إلا عند الصلاة، وقد اهتم بترميم جامع دمياط وتنظيفه بنفسه وساق الماء إلى صهاريجه، وبلط صحنه، وسبك سطحه بالجبس، ورتب فيه إمامًا يصلي الخمس، وسكن في بيت الخطابة، وواظب على إقامة الأوراد به، وجعل فيه قراء يتلون القرآن بكرة وأصيلًا، وكان يقول:

لو علمت بدمياط مكانًا أفضل من الجامع لأقمت به، ولو علمت في الأرض بلدًا يكون فيه الفقير أخمل من دمياط لرحلت إليه وأقمت به.

وكان إذا ورد عليه أحد من الفقراء ولا يجد ما يطعمه باع من أثوابه ما يضيفه به، وكان يبيت ويصبح وليس له معلوم ولا ما تقع عليه العين أو تسمعه الأذن، وكان يؤثر في السر الفقراء والأرامل، ولا يسأل أحدًا شيئًا، ولا يقبل غالبًا، وإذ قبل ما يفتح الله عليه آثر به، وكان يبذل جهده في كتم حاله والله تعالى يظهر خيره وبركته من غير قصد منه لذلك. وكان سلوكه على طريق السلف من التمسك بالكتاب والسنة والنفور عن الفتنة وترك الدعاوى واطراحها وستر حاله والتحفظ في أقواله وأفعاله، وكان لا يرافق أحدًا في الليل، وأشير عليه بالزواج فتزوج في آخر عمره بامرأتين لم يدخل على واحدة منهما نهارًا، ولا أكل عندها ولا شرب قط، وكان ليله ظرفًا للعبادة لكنه يأتي إليهما أحيانًا وينقطع أحيانًا لاستغراق زمنه في القيام بوظائف العبادة وإيثار الخلوة، وكان خواص خدمه لا يعلمون صومه من فطره، وإنما يحمل إليه ما يأكل ويوضع عنده بالخلوة فلا يرى قط آكلًا، وكان يتواضع مع الفقراء ويتعاظم على العظماء والأغنياء، وكانت تلاوته لللقرآن بخشوع وتدبر، ولم يعمل له سجادة قط، ولا لبس طاقية، ولا قال: أنا شيخ ولا أنا فقير، ولا حضر قط سماعًا، ولا أنكر على من يحضره. وكان يقول: ما أقول لأحد: افعل أو لا تفعل، من أراد السلوك يكفيه أن ينظر إلى أفعاله فإن من لم يتسلك بنظره لا يتسلك بسمعه.١ وقال له شخص من خواصه: يا سيدي، ادع الله لنا أن يفتح علينا فنحن فقراء. فقال: إن أردتم فتح الله فلا تبقوا في البيت شيئًا ثم اطلبوا فتح الله بعد ذلك. فقد جاء: لا تسأل الله ولك خاتم من حديد. ومن كلامه:

الفقير بحال البكر، فإذا سأل زالت بكارته.

وسأله بعض خواصه أن يدعو له بسعة وشكا إليه الضيق؛ فقال: أنا ما أدعو لك بسعة بل أطلب لك الأفضل والأكمل. وكان على استغراق أوقاته في العبادة لا يغفل عن صاحبه ولا ينسى حاجته ويلازم الوفاء لأصحابه ويحسن معاشرتهم ويعرف أحوال الناس على اختلاف طبقاتهم، ويعظم أهل العلم، ويكرم الأيتام ويشفق على الضعفاء والأرامل، ويبذل شفاعته في قضاء حوائج الخاص والعام من غير أن يمل أو يتبرم بذلك، ويكثر من الإيثار في السر ولا يمسك لنفسه شيئًا، ويستقل ما يعطي مع كثرة إحسانه، ويستكثر ما يدفع إليه وإن كان يسيرًا ويكافئ عليه بأحسن منه، ولم يصطحب قط أميرًا ولا وزيرًا، ومن دعائه لنفسه ولمن يسأل له الدعاء:

اللهم بعدنا عن الدنيا وأهلها وبعدها عنا.

وما زال على ذلك إلى أن مات في صباح اليوم الثامن من ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وست مئة، وترك ولدين ليس لهما قوت ليلة، وعليه مبلغ ألفي درهم دينًا.

وقد لخصنا سيرة هذا الرجل من الخطط المقريزية،٢ وهي تشهد بأنه كان من القائمين بخدمة المجتمع، وتصوره بعيدًا كل البعد من الفضول.

وما نقول: بأن سيرته نموذج يحتذى في جميع الأحوال، وإنما يهمنا أن ننص على هذه «الفاعلية» في حياة رجل يزاوج بين الدنيا والدين، ويترك ما يتسم به المتصوفون من الشارات والتقاليد.

ويروقنا من حياة هذا الرجل فراره من التدخل في شئون الناس، فما كان يحضر السماع ولا ينكر على من يحضر السماع، وكان ينتظر أن يفقه الناس بأبصارهم لا بأسماعهم، وكان ينكر أن يتوجه الرجل إلى ربه بالسؤال وعنده شيء.

وقد صارت شخصية هذا الرجل شخصية شعبية فدخلت كنيته «أبو المعاطي» في الأشعار التي تغنى على الربابة حين تحتاج القصة إلى حيلة في الجمع بين الحبيب والمحبوب.٣

محاضرة الأبرار

وقد كثر التأليف في أخبار الصوفية ونوادرهم وأطايبهم، ويكفي أن نذكر بعض الشواهد من كتاب ابن عربي الذي سماه «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار»، وهو كتاب طريف لم يقف فيه المؤلف عند أخبار الصوفية وإنما جعله مرجعًا للنوادر التي يحسن أن يطلع عليها الصوفية.

وفي هذا الكتاب حوار بين أتباع الإسلام وأتباع النصرانية،٤ وهو حوار يقوم على أساس العقل والمنطق ويشهد بأن واضعه كان من حكماء المسلمين، وهو يمثل ميل الصوفية إلى نقد المذاهب الدينية، وقد جاء فيه:

إن كنتم عبدتم عيسى بن مريم؛ لأنه لا أب له فضموا آدم مع عيسى حتى يكون لكم إلهان اثنان؛ وإن كنتم عبدتموه لأنه أحيا الموتى فهذا حزقيل مر بميت تجدونه في الإنجيل لا تنكرونه فدعا الله عز وجل حتى أحياه له فكلمه؛ فضعوا حزقيل مع عيسى وآدم حتى يكون لكم ثلاثة آلهة؛ وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه أراكم المعجزات فهذا يوشع بن نون قاتل قومه حتى غربت الشمس فقال لها: ارجعي بإذن الله فرجعت اثني عشر برجًا؛ فضموا يوشع أيضًا إلى عيسى فيكون رابع أربعة؛ وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه عُرج به إلى السماء فمن ملائكة الله عز وجل مع كل نفس اثنان بالليل واثنان بالنهار يعرجون إلى السماء.

وابن عربي له في المسيح رأي عرضناه في هذا الكتاب من قبل، وهو لا يسوق القصة بما يخالف أو يوافق ذلك الرأي، وإنما يسوقها وهو يفهم أنها لون من الثقافة الأدبية.٥

سراج الملوك

ومن نوادر ذلك الكتاب ما حدث المؤلف بسنده قال: سمعت أبا يحيى مالك بن دينار يقول:

أتيت القبور فناديتها
فأين المعظم والمحتقر
وأين المدل بسلطانه
وأين العزيز إذا ما قدر
وأين الملبَّى إذا ما دعا
وأين العزيز إذا ما افتخر

قال: فهتف بي هاتف يقول:

تفانوا جميعًا فما مخبر
وبادوا جميعًا وباد الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى
فتمحو محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا
أما لك فيما مضى معتبر!

قيمة الأقاصيص الصوفية من الوجهة الأدبية

وقال ابن عربي: غضب السلطان على جماعة من العلماء خرجوا عليه ووقعوا فيه، فلما ظفر بهم أمر بقتلهم، فبلغ الخبر شيخنا أبا مدين — رحمه الله — وكان مرعي الجانب عند السلطان والخاصة والعامة فأخذ عصاه وخرج، فلما جاء دار السلطان أبصر القوم على تلك الحالة فبكى، وأخبر السلطان بمكانه فتلقاه وقال: ما جاءنا بالشيخ في هذا الوقت؟ فقال: الشفاعة في هؤلاء. فقال السلطان: أوَما تعرف يا شيخ إساءتهم؟ فقال: وهل على المحسنين من سبيل؟ وهل الشفاعة إلا في أهل الكبائر من المسيئين؟ فاستعبر السلطان وعفا عن الجميع.٦

ما كتب في تجريح الصوفية

وحدث أن الأصمعي قال: بينما أطوف بالبيت إذ بجارية متعلقة بأستار الكعبة وهي تنشد:

يا رب إنك ذو منٍّ ومغفرة
دارِكْ بعفوك أرواحَ المحبينا
الذاكرين الهوى ليلًا إذا هجعوا
والنائمين على الأيدي مكبينا
يا رب كن لهم عونًا إذا ظلموا
واعطف بقلب الذي يَهْوَوْنَ آمينا
قال: فقلت: يا جارية؟ أفي هذا المقام وحول هذا البيت الحرام تذكرين الهوى؟ قالت: أوَ تعرف الهوى؟ قلت: وأنت تعرفينه؟ قالت: بُليت به صغيرة وأحطت به خبرًا كبيرة. قلت: صفيه لي. قالت: جل أن يخفى، ودق أن يرى، فهو كامن كمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى.٧

كيف اهتدى الصوفية إلى أكل الحشيش

وقد يروي ابن عربي بعض أشعاره، وأكثرها من طراز المنظومات التي تحدثنا عنها من قبل، ولكن قد تظهر عليه النفحة الشعرية كأن يقول:

أطارح كل هاتفة بأيْكٍ
على فنن بأفنان الشجون
فتبكي إلفها من غير دمع
ودمع العين يهمل من جفوني
أقول لها وقد سمحت جفوني
بأدمعها تخبر عن شئوني
أعندك بالذي أهواه علم
وهل قالوا٨ بأفياء الغصون٩

وكأن يقول:

بأبي من ذبت فيه كمدًا
بأبي من مت منه فرقا
حمرة الخجلة في وجنته
وضح الصبح يناغي الشفقا
كلما صنت تباريح الهوى
فضح الدمع الجوى والأرقا

غرام الشعراء بمدح الحشيش

وقد يحدثنا عن بعض ما رآه من أحوال القوم كأن يقول: كان عندنا بأشبيلية رجل عابد، حسن الصوت، كثير الاجتهاد، سريع الدمعة، دائم العبرة، كثير التفكر والتهجد، بت معه ليالي عدة فلم يكن يفتر، فربما أسمعه بعض الأحايين ينشد بصوت طيب غرد، ودموعه تتحدر على خديه:

قطع الليل رجال
ورجال وصلوه
رقدوا فيه أناس
وأناس سهروه
لا يميلون إلى النو
م ولا يستعذبوه
فكأن النوم شيء
لم يكونوا يعرفوه
لبسوا ثوبًا من الخد
مة حتى خلعوه
مع جلباب من الحز
ن فما إن نزعوه١٠
وقد ينقل بعض الدقائق الصوفية، كأن يروي أن أبا مدين سئل عن معنى الوصول فأجاب: إذا دلك به عليه كنت منه وإليه، وإذا أفناك عن الإحساس كنت في حضرة الإيناس، وإذا كاشفك بحبه لم تتلذذ إلا بقربه، وإذا غيبك عن شهودك تجلى لك من وجودك.١١

وقد اهتم ابن عربي برواية أخبار الجن، وكانت للجن أخبار كثيرة، فقد زعم العرب في جاهليتهم وإسلامهم أنهم عرفوهم وصادقوهم وحاربوهم وهذا باب من الأساطير كان له في الأدب أثر جميل.

حدث ابن عربي بسنده قال: كانت امرأة من الجن في الجاهلية تسكن ذا طوى،١٢ وكان لها ابن لم يكن لها ولد غيره، وكانت تحبه حبًّا شديدًا، وكان شريفًا في قومه، فتزوج وأتى زوجته، فلما كان يوم سابعه قال لأمه: يا أماه، إني أحب أن أطوف بالكعبة سبعًا نهارًا. فقالت له أمه: أي بني، إني أخاف عليك سفهاء قريش. فقال: لا، وأرجو السلامة. فأذنت له، فولى في صورة جان، فلما أدبر جعلت تعوذه وتقول:
أعيذه بالكعبة المستورهْ
ودعوات ابن أبي محذورهْ
وما تلا محمد من سورهْ
إني إلى حياته فقيرهْ
وإنني بعيشه مسرورهْ
فمضى الجان نحو الطواف فطاف بالبيت سبعًا، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم أقبل منقلبًا، حتى إذا كان ببعض دور بني سهم عرض له شاب من بني سهم أحمر أكشف أزرق أحول أعسر فقتله، فثارت بمكة غبرة لم تبصر لها الجبال؛ وإنما تثور تلك الغبرة عند موت عظيم من الجن، فأصبح من بني سهم على فرشهم موتى كثير من قبل الجن، فكان فيهم سبعون شيخًا أصلع سوى الشباب، فنهضت بنو سهم وحلفاؤهم ومواليها وعبيدها فركبوا الجبال والشعاب بالتثنية فما تركوا حية ولا عقربًا ولا خنفساء ولا شيئًا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه، وأقاموا على ذلك ثلاثًا، فسمع في الليلة الثالثة على أبي قبيس هاتف يهتف بصوت جهوري يسمع بين الجبلين: يا معشر قريش! الله! الله! فإن لكم أحلامًا وعقولًا، اعذرونا اعذرونا من بني سهم، فقد قتلوا منا أضعاف ما قتلنا منهم، ادخلوا بيننا وبينهم بصلح نعطهم ويعطونا العهد والميثاق ألا يعود بعضنا لبعض بسوء أبدًا، ففعلت ذلك قريش واستوثقوا لبعضهم من بعض. فسميت بنو سهم العياطلة قتلة الجن.١٣

والقصة كما رواها ابن عربي تشهد بأن الجنية تعوذت بما تلا محمد من سورة مع أنها كانت في الجاهلية.

والمهم هو أن ننص على أن ابن عربي يرى من واجب «الأخيار والأبرار» أن يطلعوا على كل شيء، حتى أخبار الجن والشياطين.

وكتاب ابن عربي هذا في غاية من النفاسة، من حيث تصويره لعقليات القدماء.

وهناك كتاب نفيس للطرطوشي اسمه «سراج الملوك» وهو يفيض بأخبار الزهاد والنساك، وما يجب أن يطلع عليه من يحرصون على صفاء القلوب.

وقد جاء فيه أن وهب بن منبه قال: صحب رجل بعض الرهبان سبعة أيام ليستفيد منه شيئًا فوجده مشغولًا عنه بذكر الله تعالى، والفكر لا يفتر، ثم التفت إليه في اليوم السابع فقال: يا هذا، قد علمت ما تريد، حب الدنيا رأس كل خطيئة، والزهد في الدنيا رأس كل خير، والتوفيق نتاج كل خير؛ فاحذر رأس كل خطيئة، وارغب في رأس كل خير، وتضرع إلى ربك أن يهب لك نتاج كل خير. قال: فكيف أعرف ذلك؟ قال: كان جدي رجلًا من الحكماء قد شبه الدنيا بسبعة أشياء: شبهها بالماء الملح يغر ولا يروي، ويضر ولا ينفع،١٤ وبسحاب الصيف يغر ولا ينفع، وبظل الغمام يغر ويخذل، وبزهر الربيع ينضر ثم يصفر فتراه هشيمًا، وبأحلام النائم يرى السرور في منامه فإذا استيقظ لم يكن في يده إلا الحسرة، وبالعسل المشوب بالسم الزعاف يغر ويقتل. فتدبرت هذه الأحرف سبعين سنة ثم زدت حرفًا واحدًا فشبهتها بالغول التي تهلك من أجابها وتترك من أعرض عنها.١٥
وحدث أن علي بن الفضيل بكى يومًا فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي على من ظلمني إذا وقف غدًا بين يدي الله تعالى ولم يكن له حجة.١٦
وحدث أن مالك بن دينار قال: قرأت في بعض الكتب:
يا معشر الظلمة! لا تجالسوا أهل الذكر فإنهم إذا ذكروني ذكرتهم برحمتي، وإذا ذكرتموني ذكرتكم بلعنتي.١٧
وحدث أن أبا سليمان الداراني قال: لما دخل إخوة يوسف عليه عرفهم ولم يعرفوه، وكان على وجهه برقع، فخلا بكبيرهم وكان ابن خالته فقال له: بم أوصاك أبوك؟ قال: بأربع. قال: وما هن؟ قال: يا بني لا تتبع هواك فتفارق إيمانك، فإن الإيمان يدعو إلى الجنة، والهوى يدعو إلى النار، ولا تكثر منطقك بما لا يعنيك فتسقط من عينه، ولا تسئ بربك الظن فلا يستجيب لك، ولا تكن ظالمًا فإن الجنة لم تخلق للظالمين.١٨
وحدث أن بعض الجزارين بالقيروان أضجع كبشًا ليذبحه فتخبط بين يديه وأفلت منه وذهب، فقام الجزار يطلبه وجعل يمشي إلى أن دخل خربة فإذا فيها رجل مذبوح يتخبط في دمه ففزع وخرج هاربًا وإذا الشرطة عندهم خبر القتيل وجعلوا يطلبون خير القاتل والمقتول، فأصابوا بيده السكين وهو ملوث بالدم والرجل مقتول بالخربة، فقبضوا عليه وحملوه إلى السلطان، فقال له: أنت قتلته الرجل؟ قال: نعم! فما زالوا يستنطقونه وهو يعترف اعترافًا لا إشكال فيه، فأمر السلطان بقتله، واجتمع الناس ليروا مصير الجزار، فلما هموا بقتله اندفع رجل من المجتمعين وقال: لا تقتلوه، أنا قاتل القتيل. فقبض عليه وحمل إلى السلطان فاعترف وقال: أنا قتلته. فقال له السلطان: كنت معافًى من هذا، فما حملك على الاعتراف؟ قال: رأيت هذا الرجل يقتل ظلمًا؛ فكرهت أن ألقى الله تعالى بدم رجلين! فأمر به السلطان فقتل، ثم قال للمتهم: أيها الرجل، ما دعاك إلى الاعتراف بالقتل وأنت بريء؟ فقال الجزار: ما حيلتي؟ رجل مقتول بالخربة وأخذوني وأنا خارج من الخربة وبيدي السكين ملطخة بالدم، فإن أنكرت فمن يقيلني؟ وإن اعتذرت فمن يعذرني؟ فخلى سبيله وانصرف مكرمًا.١٩

شراب الشاي في البيئات الصوفية

والغرض من اهتمامنا بالنص على قيمة هذه الأخبار هو التنبيه إلى قيمتها الأدبية، ففيها صور وأخيلة وتعابير لا تصدر إلا عن أقلام الفحول.

وفيها كذلك معان سامية، وهي تصور كثيرًا من الجوانب في المجتمع الإسلامي.

وإذا صح أن النزعة العامية تغلب على أكثر تلك الأخبار فذلك لا يغض من قيمتها الأدبية؛ لأنها في الأغلب تصدر عن الفطرة، وما توحي به الفطرة أعمق أثرًا مما يخلق التنميق والتحبير والتزيين.

وقد تفرد الأدب العربي أو كاد بالوقوف عند آثار الأدباء الذين اتخذوا الأدب صناعة، فليكن في هذا الفصل تذكير بأدب الفطرة، وهو أحيانًا أقوى من أدب الذكاء.

هذا جانب من أخبار الصوفية يراد به الترغيب في طيبات الأعمال، وهناك جانب آخر أراد به كاتبوه أن يغضوا من أقدار الصوفية، وهو جانب مهم من الوجهة الأدبية؛ لأنه اهتم بتقييد ما رمي به الصوفية من المآثم والعيوب، والذين كتبوا في ذم الصوفية أتوا بالغرائب والأعاجيب؛ لأن السخرية من الصالحين والزاهدين أو أدعياء الصلاح والزهد تجد مجالًا إلى أنفس القارئين والسامعين، وتصوير مآثم المتخشعين له مذاق خاص؛ لأنه يزاوج بين وجهين مختلفين من وجوه السلوك.

والطعن في الصوفية يرجع إلى أصلين: الأول الهجوم عليهم من الوجهة النظرية، وهذا عمل قام به رجال الشريعة، ولهم فيه أبحاث طوال تعد ثروة عقلية وفقهية، والثاني الهجوم عليهم من الوجهة العملية، وهذا عمل قام به رجال الأخلاق ومن لف لفهم من الأدباء الساخرين، وسنجد لهذا الأصل شواهد حين نتكلم عن «الحب» في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

ونكتفي في هذا الفصل بإيراد شواهد من كلام الأدباء في غمز الصوفية واتهامهم بالسبق إلى كشف «فضائل» الحشيش.

والصورة التي أذيعت بها طريقة ذلك الكشف صورة فنية رائعة؛ لأنها تبين أثر «الذوق» في حياة الصوفية، فقد حدثوا أن الشيخ حيدر كان يقيم في نشاور من بلاد خراسان، وأقام له زاوية في الجبل مكث بها أكثر من عشر سنين، ثم طلع ذات يوم وقد اشتد الحر منفردًا بنفسه إلى الصحراء، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور بخلاف ما كان يعهده عليه أصحابه من قبل، وأذن لأصحابه بالدخول عليه وأخذ يحادثهم، فلما رأوه على حال من المؤانسة لم يعهدوها فيه بعد إقامته تلك المدة الطويلة في خلوة وعزلة سألوه عن ذلك فقال: بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي الخروج إلى الصحراء منفردًا، فخرجت فوجدت كل شيء من النباتات ساكنًا لا يتحرك لعدم الريح وشدة القيظ، ومررت بنبات له ورق فرأيته في تلك الحال يميس بلطف، ويتحرك من غير عنف، كالثمل النشوان، فجعلت أقطف منه أوراقًا وآكلها فحدث عندي من الارتياح ما شاهدتموه.٢٠

تلك هي الصورة، وهي باب من الفتون، فذلك الصوفي لم يفته أن يراقب النبات وقت القيظ، ولم يغب عن ذهنه المتوقد أن ذلك النبات لم يتفرد بالحركة وقت الخمود إلا وفيه سر خاص.

وقد هدى أصحابه إلى تلك «الحشيشة» وأوصاهم بكتمان سرها عن العوام، وقال:

إن الله تعالى قد خصكم بسر هذا الورق ليذهب بأكله همومكم الكثيفة، ويجلو بفعله أفكاركم الشريفة، فراقبوه فيما أودعكم، وراعوه فيما استرعاكم.

وقد «تلطف» الشيخ حيدر فأوصى أصحابه عند وفاته باطلاع ظرفاء خراسان وكبرائهم على سر هذا العقار.

وقد أمرهم بزرع هذا الحشيش حول ضريحه بعد أن يموت، كأنه تذكر وصية من قال:

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
يروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها

وهنا تبدأ السخرية من الصوفية، فقد عبث الأدباء بتلك الحشيشة وسموها «مدامة حيدر»، وفي ذلك يقول محمد بن علي الدمشقي:

دع الخمر واشرب من مدامة حيدر
معنبرة خضراء مثل الزبرجد
يعاطيكها ظبيٌ من التُّرك أغيد
يميس على غصن من البان أملد
فتحسبها في كفه إذ يديرها
كرقم عذار فوق خد مورد
يرنحها أدنى نسيم تنسمت
فتهفو إلى برد النسيم المردد
وتشدو على أغصانها الورق في الضحى
فيطربها سجع الحمام المغرد
وفيها معان ليس في الخمر مثلها
فلا تستمع فيها مقال مفند
هي البكر لم تنكح بماء سحابة
ولا عصرت يومًا برجل ولا يد
ولا عبث القسيس يومًا بكأسها
ولا قربوا من دنها كف مقعد
ولا نص في تحريمها عند مالك
ولا حد عند الشافعي وأحمد
ولا أثبت النعمان تنجيس عينها
فخذها بحد المشرفي المهنَّد
وكف أكف الهم بالكف واسترح
ولا تطرح يوم السرور إلى غد

وسخر أحمد بن محمد الحلبي من «عصابة حيدر» فقال:

ومُهفهفٍ بادي النِّفار عهدته
لا ألتقيه قط غير معبس
فرأيته بعض اللياي ضاحكًا
سهل العريكة ريضًا في المجلس
فقضيت منه مآربي وشكرته
إذ صار من بعد التنافر مؤنسي
فأجابني لا تشكرن خلائقي
واشكر شفيعك فهو خمر المفلس
فحشيشة الأفراح٢١ تشفع عندنا
للعاشقين ببسطها للأنفس
وإذا هممت بصيد ظبي نافر
فاجهد بأن يرعى حشيش القنبس
واشكر «عصابة حيدر» إذ أظهروا
لذوي الخلاعة مذهب المتخمس
ودع المعطِّل للسرور وخلني
من حسن ظن الناس بالمتنمس

وقد أكثر الشعراء من وصف الحشيشة على نحو ما أكثروا من وصف الخمر حتى صح لعلي بن مكي أن يقول:

ألا فاكفف الأحزان عني مع الضر
بعذراء زفت في ملاحفها الخضر
تجلت لنا لما تحلت بسندس
فجلت عن التشبيه في النظم والنثر
بدت تملأ الأبصار نورًا بحسنها
فأخجل نور الروض والزهر بالزهر
عروس يسر النفس مكنون سرها
وتصبح في كل الحواس إذا تسرى
فللذوق منها مطعم الشهد رائقًا
وللشم منها فائق المسك بالنشر
وفي لونها للطرف أحسن نزهة
يميل إلى رؤياه من سائر الزهر
تركب من قان وأبيض فانثنت
تتيه على الأزهار عالية القدر
فتكسف نور الشمس حمرة لونها
وتخجل من مبيضه طلعة البدر
علت رتبة في حسنها وكأنها
زبرجد روض جاده وابل القطر
تبدت فأبدت ما أجن من الهوى
وجاءت فولت جند همي والفكر
جميلة أوصاف جليلة رتبة
تعالت فغالى في مدائحها شعري
فقم فانف جيش الهم واكفف يد العنا
بهندية أمضى من البيض والسمر
بهندية في أصل إظهار أكلها
إلى الناس لا هندية اللونكالسمر
تزيل لهيب الهم عنا بأكلها
وتهدي لنا الأفراح في السر والجهر
وهذا الشاعر يرد الفضل في الكشف عن الحشيشة إلى حكيم من حكماء الهند، ويظهر أن الأمر كذلك، فقد قال المقريزي: إنها كانت معروفة عند اليونان وتحدث عن خواصها ومنافعها ومضارها بقراط وجالينوس.٢٢

ولكن المهم هو النص على أنها كانت شاعت في البيئات الصوفية حتى سميت «حشيشة الفقراء».

والظاهر أنه يجب الاحتراس من الآفات الأخلاقية التي تنشأ من مصاحبة أصحاب الأذواق.

فالصوفية بلا شك كانت لهم «أياد» في نشر آفة الحشيش بين الجماهير الفارسية والعراقية والشامية والمصرية.

figure
جماعة من الصوفية يدرسون معاني الذوق في حديقة.

والصوفية هم الذين حببوا إلى الفلاحين المصريين شرب الشاي حتى صار آفة تطاردها الحكومة؛ لتمنع أذاها عن الناس.

وفي الثناء على الشاي يقول رجل من كبار الصوفية اليوم، وهو السيد عبد العظيم القاياتي:

وعسجد الشاي يجلي
في أكؤس من لُجَين
هذا يروق لقلبي
وذا يروق لعيني

والدروايش في حي الحسين بالقاهرة يهددون من يغضبون عليه بالأرق ثم يحتالون فيسقونه كأسًا من «الشاي الأسود» فيقضي الليل وهو مورق الجفون، فيتخيل ذلك «كرامة» وما علم لجهله أن نومه طار بفضل الوهم وبفضل السم المدوف في ذلك المنقوع!

ومن تلك الآفات ترهف الأذواق والأحاسيس فيحيا الأدب ويستطيل.

والأدب كالنار، والنار لا تتمرد إلا حين تجد الطعام المعطوب من الشجر والنبات!

١  من كلام ابن عطاء الله: «ليس شيخك من استمعت منه إنما شيخك من أخذت عنه. وليس شيخك من واجهتك عبارته إنما شيخك الذي سرت فيك إشارته. وليس شيخك من دعاك إلى الباب إنما شيخك من رفع بينك وبينه الحجاب. وليس شيخك من واجهك مقاله إنما شيخك من نهض بك حاله».
وقال أبو العباس المرسي: والله ما بيني وبين الرجل إلا أن أنظر إليه وقد أغنيته.
٢  ج١، ص٣٦٣ و٣٦٤.
٣  سمعت ذلك في سنتريس منذ نحو عشرين عامًا.
٤  ص١٣٧–١٤٠، ج١.
٥  أشرنا غير مرة إلى أن الصوفية يسايرون المسيح في مذاهبه الروحية، وقلنا: إنهم يلبسون الصوف متابعة للرهبان، ثم اطلعنا بعد ذلك على أبيات في محاضرة الأبرار — ج٢، ص٢٥٨ — وهي تشهد صراحة بأن الصوفية كانوا يحاكون المسيح في لبس الصوف:
ليس التصوف أن يلاقيك الفتى
وعليه من نسج المسيح مرقع
بطرائق بيض وسود لفقت
فكأنه فيها غراب أبقع
إن التصوف ملبس متعارف
فيه لموجده المهيمن يخشع
٦  ج٢، ص٩٣.
٧  ج١، ص١١٣.
٨  قالوا: من القيلولة.
٩  ج١، ص٨٥.
١٠  ج١، ص٣٠.
١١  ج٢، ص٣١.
١٢  ذو طوى: اسم واد بمكة.
١٣  ج٢، ص٣٤ و٣٥، والعياطلة جمع عيطل وهو الطويل الجميل.
١٤  سقط الموصوف من النسخة التي بأيدينا.
١٥  سراج الملوك، ص٢٠.
١٦  سراج الملوك، ص٢٨٤.
١٧  سراج الملوك، ص٢٨٤.
١٨  ص٢٨٣.
١٩  ص٣١١، وكان ذلك بالطبع قبل أن يهتدي الناس إلى تحليل الدماء.
٢٠  خطط المقريزي، ج٣، ص٢٠٥.
٢١  أغلب الظن أن كلمة «الأفراحۜ» محرفة عن «الفقراء»، فسنرى فيما بعد أنها تسمى «حشيشة الفقراء».
٢٢  خطط المقريزي، ج٣، ص٢٠٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤