صور المجتمع الإسلامي في كتب الصوفية

صدق الصوفية في الوصف

أشرنا من قبل إلى الألفاظ الصوفية، وقلنا: إنها ثروة لغوية أنشأها التصوف، فلنشر الآن إلى أن هذه الناحية تستحق الدرس، ولكنا لن نفصل ذلك؛ لأن القدماء من علماء المسلمين اهتموا بها اهتمامًا شديدًا، وتركوا فيها مباحث تقرأ؛١ ولأن المستشرقين أطالوا فيها القول، ولا سيما المسيو ماسينيون في كتابه المعروف: Essai sur les Origines du Lexique Technique de la Mystique Musuhanane.

فلنفترع نحن مبحثًا بكرًا لم يمسه أحد من قبل، وهو استخراج صور المجتمع الإسلامي من كتب الصوفية.

صور الطبقات والحكومات في كتب الصوفية

ولكن ما هو الجديد في ذلك؟ إن جميع الآثار الأدبية هي في صميمها وصف للمجتمع الذي تنشأ فيه، فكيف يكون الالتفات إلى هذه الناحية من المبتكرات!

والجواب أن المؤلفات الصوفية لها صبغة تميزها عن سائر الآثار الأدبية؛ لأن الصوفية في الأغلب يكتبون للعوام، ويكتبون بلغة سهلة لا تكلف فيها ولا افتعال، فهم يصورون المجتمع من نواحيه الخلقية واللغوية تصويرًا صادقًا لا مداورة فيه ولا احتيال، ويساعدهم على صدق الوصف أنهم في الأغلب يبغضون التزوير، ولا يتحدثون إلا عما يشيع من المناقب والمثالب والمحاسن والعيوب.

المجتمع المصري في القرن العاشر

وأول ما ينبغي تقييده هو وجود هذه الطوائف الصوفية في صلب المجتمع الإسلامي، فهم شراذم من الصالحين ومن الأدعياء يملئون المساجد والأسواق، ولهم على الجمهور سلطان رهيب. وكتب التصوف تدلنا على أنظمتهم الدينية، ومنازلهم الاجتماعية، وتشهد بما كانوا عليه في المطاعم والملابس والسمات.٢

وتحدثنا أيضًا كتب التصوف أن المجتمع الإسلامي كانت تتنازع السيطرة عليه طائفتان تقتتلان: وهما أهل الحقيقة وأهل الشريعة، وكان لكل طائفة أنصار وأشياع، وهذا النزاع كانت له مظاهر مختلفة، وكان له أثر في تلوين الأذاق والعقول.

وتحدثنا كذلك أن الناس كانوا يثورون على الحكومات الإسلامية لأسباب عقلية وروحية، أكثر مما يثورون عليها لأسباب اقتصادية؛ فالحاكم كان يبغض لأنه ينصر هذا المذهب أو ذاك، قبل أن يبغض لأنه قصر في تدبير أمور المعاش لجماهير المحكومين، ومن أجل ذلك كان الساسة المهرة يصلحون ما بينهم وبين الصوفية ليستخدموهم في بث الدعاية ونشر ما يحبون أن يوصفوا به من بغض الظلم، وإيثار العدل، وحب الكرم والجود — والشعراني نفسه استخدمه حكام عصره في تجميل سمعتهم بين الناس، ودفعوا ثمن ذلك بالسكوت عن أوقاف زاويته وكانت تحيط بها شبهات.٣

وأهم ما تحدثنا به كتب الصوفية هو وصف ما كان عليه المجتمع من الأخلاق؛ لأنهم لا يتحدثون إلا عن فضائل تشهاها المجتمع، أو فريق من المجتمع، ولا يصفون من الرذائل إلا ما تألم منه المجتمع، أو بعض المجتمع، فهم الوصافون الصادقون لما كان في المجتمع من خير وما كان فيه من فساد.

تحريم شرب القهوة

وما نريد في هذا الفصل أن نتحدث عن جميع المجتمعات الإسلامية، فإن هذا عبء ثقيل، وإنما نريد أن نذكر ملامح من المجتمع المصري؛ لأننا نعرفه أكثر من سواه. وهذه الملامح نأخذها من مؤلف واحد هو الشعراني في كتب ثلاثة هي: لطائف المنن ولواقح الأنوار والبحر المورود.

شيوع النفاق

فالمصريون في القرن العاشر كانوا ينفرون من شرب القهوة ويرون ذلك من الهنوات. وقد غمز الشعراني معاصريه فذكر أنهم «يفعلون الأمور المحرمة بالإجماع كالغيبة والنميمة وأكل الحرام من بيوت المكاسين ونحوهم ولا يجدون في نفوسهم شدة قبح من ذلك كما تنفر نفوسهم من شرب القهوة مثلًا»؛ وذلك لأنهم يشهدون الناس لا يفسقونهم بالغيبة وأكل الحرام لكثرة وقوع الناس في ذلك، بخلاف شرب القهوة بين الفقهاء؛ فلذلك نفرت النفوس من شرب قليل القهوة ولم تنفر من كثير الغيبة والنميمة وأكل الحرام.٤
وحدثنا في لطائف المنن:٥ أن شخصًا كان يغتاب الناس ليلًا ونهارًا ويمزق أعراض العلماء والصالحين، فقال له صديق: اشتر لي بهذا العثماني قهوة أشربها، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لو ضربت بالسيف ما دخلت بيت القهوة! وهذان النصان صريحان في أن شرب القهوة كان من الفسوق.

غرام المصريين بالألقاب

وكان المصريون في القرن العاشر يحبون الألقاب، أكثر مما يحبونها اليوم، يدل على ذلك أن الشعراني قال: (أخذ علينا العهد أن لا نتكدر قط ممن نادانا باسمنا مجردًا من غير لفظ سيادة أو ولاية أو مشيخة ونحو ذلك من الألفاظ المفخمة)؛٦ وكلمة (يتكدر) تدل على أنهم كانوا يغتمون حين يجردون من الألقاب. ومن الشعراني عرفنا كيف كان يكثر تلقيب العلماء بأمثال قطب الدين، وشمس الدين، ونور الدين، وهي ألقاب لا يكاد الشخص يصدق فيها إلا بتأويل.

اللحية علامة الرجولة

وكانت اللحية في ذلك العهد من علائم الرجولة، بدليل قول الشعراني: «وكيف يليق بمن له لحية أن ينام كالجيفة وأم قونق أو الناموسة مستيقظة».٧

ولعل الحلف بالذقن جاء من هذا المعنى.

النظافة

وكان المصريون حينذاك لا يراعون النظافة فكانت الحكومات تقهرهم على نزح الخرارات. ولعل ما كتبه في ذلك خاص بطبقات الفقراء.

خروج النساء إلى الحمامات

وكان النساء في ذلك الزمن «يكثرن من الذهاب إلى الحمامات العمومية، ويخرجن للأسواق والزيارات للأصحاب والأعراس التي لا انضباط فيها على القوانين الشرعية والعزومات والمتفرجات التي يقع فيها اختلاط الرجال بالنساء».٨
وهنا ينطلق الشعراني فيشرح ما في خروج النساء من المفاسد، وكلامه في هذه النقطة يدل على بصر ثاقب ويشهد بأنه كان من أهل الخبرة بتقلب القلوب، وعنده أن الرجل قد يكون شيخًا طعن في السن أو قبيح المنظر وزوجته شابة حسناء فترجع من السوق أو من الزيارة وهي لا تشتهي أن تنظر إلى زوجها، ولا تقبل أن يقبلها، أو يلامسها، وحدثنا أن امرأة متدينة «مصلية» قالت له: إني أكره الخروج إلى السوق. فقال: لماذا؟ فقالت: لأني أنظر إلى الأشكال الحسنة فتميل إليها نفسي، فأرجع لا أقدر أنظر في وجه زوجي. قالت: وقد دخلت مرة سوق الوراقين فرأيت شابًّا فأخذ بمجامع قلبي فرجعت، فوالله ما رأيت زوجي في عيني إلا كالقطرب أو كالغول أو كالعفريت أو كالبقرة، وكما أن الرجل إذا رأى المرأة الحسناء مالت إليها نفسه فكذلك المرأة إذا رأت الشاب الأمرد الجميل تروح نفسها إليه. قالت: رأيت مرة إنسانًا من الطاق وزوجي عندي وصرت أنظر إلى حسن شكل ذلك الإنسان وحسن لحيته ووجهه وعيونه وأنظر إلى زوجي وإلى تشعيث شعر لحيته وكبر أسنانه وأنفه وعمش عينيه وخشونة جلده وملبسه وفظاظته وتغير رائحة فمه وإبطه وقبح كلامه، فما كنت إلا فتنت بذلك الإنسان. قالت: ثم إني تبت إلى الله تعالى عن الخروج مطلقًا، لا لحمام ولا لزيارة ولا لغيرها فصار زوجي في عيني كالعروس.٩

ونقل هذا الكلام بهذه الحماسة يدل على أن خروج النساء في ذلك العهد كان كثيرًا، وكان مما يشوك أهل العفاف.

وسكوته عن فتن الشواطئ يدل على أن النساء لم يكن يعرفنها في تلك الأيام، وإن كان خصوم ابن خلدون من قبل عابوا عليه زيارة الشواطئ في أيام الاصطياف.

وفي كلام هذه «المصلية» ما يريب؛ لأن المعروف أن النساء يغلب عليهن الحذر والكتمان، فكيف أمكن أن تبوح امرأة مثل هذا البوح؟ وكيف جاز أن تكشف امرأة عن سريرتها الشهوانية هذا الكشف؟

إن صحت رواية الشعراني فهي صورة جديدة من المجتمع المصري لذلك العهد، ويمكننا أن نسجل أن «الأولياء» كان يسهل عليهم أن يصلوا إلى أسرار البيوت بفضل ما عرف عنهم من التقى والصلاح، فهم أشبه بالقسيسين الذين يدخلون المنازل بلا استئذان، ويحدثهم النساء عن أزماتهن الوجدانية بلا تحرج ولا استحياء، وهذا لا يزال يقع شيء منه في الريف، والشعراني نفسه حدثنا أن الله «كسر قفص طبعه» حتى صار لا يستحيي من تعليم النساء الأجانب آداب الجماع، فضلًا عن الرجال،١٠ وحدثنا أن جماعة من الأحمدية كانوا يتصلون بالنساء فيقول أحدهم للجارية الكبيرة: يا أمي، ولمثله يا أختي، ولدونه يا بنتي، ويجتمعون كلهم على السماط من غير احتجاب.١١

وحدثنا بعض من ترجموا للشعراني أنه كان يحمل الحملات عمن يعطف عليهم من المذنبين، و(حمل الحملات) الذي كان يقوم به الشعراني هو نفس الغفران الذي يقوم به القسيس. والصوفية والرهبان يرجعون إلى أصل واحد، وإن اختلفت الصور والأشكال.

شيوع الرشوة في مصر

ويظهر أن الرشوة كانت شائعة في ذلك الحين، فقد تحدث الشعراني عنها غير مرة وعرفنا منه أن الولاة كانوا يرشون من ولوهم ليأمنوا العزل.١٢

موازنة بين حال الصوفي وحال القسيس في المجتمع

وزي الصالحين أو أدعياء الصلاح لعهد الشعراني كان شبيهًا بما تراه اليوم عند الدراويش، فقد نهى المريدين أن يلبسوا لباس الصالحين، ويفعلوا فعل الجاهلين «وذلك كالذي يلبس جبة من صوف، ويرخي لعمامته عذبة، ويأخذ بيده سبحة».١٣
وعرفنا من كلامه أن من الصوفية من كان يلبس المرقعات الملونة من رقع خضر وصفر وحمر وسود، ومن يلبسون بشتًا من ليف وخوص أو حلفاء، أو جلودًا منزوعة الشعر أو طرطور جلد أو خوص مكشوفًا بغير عمامة أو شملة حمراء أو خضراء.١٤

ولبس الصوف كان لا يزال إلى القرن العاشر مما يختار الصوفية، وهو يدل على أن نسج الصوف بالطرق التي تصل به إلى الرقة والنعومة وتجعله من ملابس المترفين كان لا يزال بعيدًا عن العامة من أهل ذلك الزمان.

واصطفاء الصوفية للبس الصوف مدة عشرة قرون يؤكد ما اخترناه من اشتقاق التصوف من الصوف.

وقد أشرنا غير مرة إلى أن لبس الصوف نقله الصوفية عن الرهبان، وقد عثرنا على أبيات صريحة في أنه كان مفهومًا أن لبس الصوف كان من تقاليد المسيح، وأن المسيح كان يعرف المرقعات الملفقة من القطع البيض والسود، قال أبو الحسن المخزومي:

ليس التصوف أن يلاقيك الفتى
وعليه من نسج المسيح مرقع١٥
بطرائق بيض وسود لفقت
فكأنه فيها غراب أبقع
إن التصوف ملبس متعارف
فيه لموجده المهيمن يخشع

سوء الظن بالناس

وكان المصريون في تلك الأيام يسيئون الظن بعضهم ببعض، ويبالغون في التحرز من الفن الخلقية، فقد حدث الشعراني أن الرجل الصالح محمد بن عراق كان لا يمكن ابنه عليًّا من الخروج إلى السوق حين كان أمرد إلا ببرقع خوفًا عليه من السوء وخوفًا على الناس من الفتنة،١٦ وحدثنا أن الشيخ أبا الفضل بن أبي الوفا كان إذا طلب أولاده دخول الحمام أنزلهم بالليل في زورق من الروضة إلى مصر العتيقة «ويقذف بهم وحده، ثم يطلع بهم إلى الحمام، فيدخله قبلهم ويفتش في جميع عطفه من المستوقد والسطوح ثم يخرج من يكون هناك ويغلق باب الحمام ويجلس على بابه حتى يقضين حاجتهن،١٧ وكان الشيخ أبو السعود لا يمكن أحدًا من دخول بيته، لا في مرض ولا في غيره».١٨

وهذه الحوادث رواها الشعراني لينص على ما عند أصحابها من شرف العفاف فهي تدل على أن مصر كسائر البلاد كانت تعرف طائفتين من الخلق: أهل الفضيلة وأصحاب المجون، وإن كانت هذه الوسوسة الخلقية تشهد بأن الفساد كان بغى واستطال.

صور التعذيب

وكان لطرق التعذيب في القرن العاشر صور مخيفة بشعة قاساها المصريون نعرفها من كلام الشعراني إذ يقول:

خذ علينا العهد أن لا نحضر قتل إنسان أو ضربه أو معاقبته ظلمًا … فلا ينبغي لأحد أن يحضر مع الأطفال مواطن الظلم أو يخرج من بيته حتى ينظر من شنقه الولادة، أو شَنْكلُوه، أو خَوزَقُوه، أو وسَّطوه، أو خَزَمُوه في أنفه، أو سمَّروا أذنه في حائط، أو جرَّسوه على ثور، أو شحطُوه في أذناب الخيل أو ضربُوه في قطع الخليج …

وقد أخبرني سيدي علي الخواص قال: رأيت الشيخ عز الدين المظلوم المدفون في كوم الريش بين مصر ومنية الأمير وهو (مخشب) هو وجماعته على جمال وهو يضحك. فقلت له: إيش هذا الحال؟ فقال: ما أراد أن نقدم عيله إلا هكذا.١٩

وهذه الألوان من العقوبات أكثرها انقرض، ولم يبق إلا الشنق، وفيه الكفاية!

ومن غريب ما حدث الشعراني أن الناس كان من عاداتهم في الأعراس أن يلبسوا العرائس لباس الرجال من جندي وقاض وغيرها، «وذلك حرام لا يفعله في داره من له مروءة أهل الإيمان».٢٠

والشعراني يذكر أن الذين كانوا يلبسون العرائس ملابس الرجال هم المغنون.

وصل شعور النساء

وكان النساء في القرن العاشر يصلن شعورهن — وكنت أحسب ذلك من بدع هذه الأيام — وكن يخططن أبدانهن بالوشم، وكن يأخذن شعر الوجوه بالتحفيف، ومن هذا يقول أهل الريف لعهدنا هذا: «خرجت فلانة متحففة» وكن يفلحن أسنانهن بالمبرد.٢١

إقامة الولائم في المقابر

وكان من عادة المصريين في القرن العاشر أن يقيموا ولائم كبيرة في المقابر يدعون إليها الأقارب والمعارف والأصدقاء، ولم تكن المقابر في ذلك الزمن إلا منازل خلوية لا تقام فيها مراحيض، فكان المدعوون يقضون حاجتهم في الخلاء فيحولون المقابر إلى مقاذر تزكم الأنوف، نأخذ هذا من الشعراني إذ يقول:
خذ علينا العهد أن لا نجيب إلى حضور الولائم الكبيرة على مقابر المسلمين لا سيما إن عملت في القرافتين بمصر المحروسة، وذلك لكثرة تنجيس قبور المسلمين من الأولياء والشهداء وغيرهم بالبول والغائط وروث الحمير والبغال عليه غالبًا، وقد عجزوا أن يجدوا الآن قدر موضع قبر واحد في القرافتين من غير ميت حتى في الطرقات، وغالب خدام قبور الأولياء الآن يرفعون شواهد قبور المسلمين التي هي تجاه ذلك الولي ليقف عليها حمير الزوار وبغالهم لأجل جديد٢٢ أو كسرة خبز يعطونها لهم فاعلم ذلك، وإياك أن تجازف في الحضور فيحزقك بولك وغائطك فتفعله هناك ضرورة لازمة، وإن كان ولا بد من الحضور فاترك الأكل والشرب قبل ذلك بيوم أو يومين حتى تعلم من نفسك أنك لا تحتاج إلى بول ولا غائط هناك. وقد عد العلماء أمورًا يسقط بها طلب الحضور للوليمة أهون من الجلوس على القبر والبول عليه.٢٣

وإقامة الولائم في المقابر ظلت حية إلى عهد قريب، وكنا نسمع عنها أخبارًا قبيحة، وكانت في الأغلب تقام في ليالي الأعياد، ولكن ظهر أخيرًا أنها تنتج بليتين: الأولى ما يقع في المقابر من الرجس، والثانية تعدد حوادث السرقة عند من يتركون بيوتهم ليبيتوا في القبور، وكانت النتيجة أن حرمت الحكومة المصرية هذه العادة الشائنة، واستراح الأموات من عبث الأحياء!

الإيمان بسلطان الجن والعفاريت

وكان المصريون في تلك الأيام يؤمنون جميعًا إيمانًا مطلقًا لا شك فيه بوجود الجن والعفاريت؛ ودليل ذلك لأن الشعراني يتحدث عن الجن حديث من لا يخاف أبدًا أن يقال له: كذبت مع أنه كذاب! ولنتركه «يتبحبح» قليلًا فيحدثنا عن بعض أخباره مع الجن والعفاريت:

«كان في بيتي امرأة من الجن فكانت إذا قربت مني قامت كل شعرة في جسدي، فكنت أذكر الله فتبعد من وقتها، ثم كانت تقف في طريقي إلى المسجد في الظلام فما فزعت منها قط، بل كنت أمر عليها في المجاز المظلم فأقول لها: السلام عليكم، وما نفر خاطري منها قط، مع أن طباع الإنس تنفر من الجن! وسكن عندي مرة أخرى جماعة من الجن أيام الغلاء فكنت أقول لهم: كلوا من الخبز والطعام بالمعروف، ولا تضروا بإخوانكم المسلمين، فأسمعهم يقولون سمعًا وطاعة! وسكن جني في بيتي مرة أخرى فكان يأتي كل ليلة في صورة جدي كبير فيطفئ السراج أولًا ثم يصير يجري في البيت فكان العيال يحصل لهم فزع فكمنت له تحت رف وقبضت على رجله فزلق وصار يستغيث فقلت له: تتوب؟ فقال: نعم! فلا يزال يدق في يدي حتى صارت رجله كالشعرة الواحدة. وخرج، فمن ذلك اليوم ما جاءنا. ونمت ليلة في بيت على الخليج الحاكمي ضيفًا عند إنسان في قاعة وحدي فغلق علي فدخل جماعة من الجن فأطفأوا السراج وداروا حولي يجرون كالخيل. فقلت لهم: وعزة الله كل من دارت يدي عليه ما أطلقته إلا ميتًا، ونمت بينهم فما زالوا يجرون حولي إلى الصباح ودخلت مرة الميضأة بجامع الغمري بالقاهرة أتوضأ؛ وكانت ليلة شتاء مظلمة، فدخل علي عفريت كالفحل الجاموس، فهبط في المغطس وصعد الماء فوق الإفريز نحو نصف ذراع، فقلت له: ابعد عني حتى أتوضأ، فلم يرض فجعلت في وسطي مئزرًا وهبطت عليه فزهق من تحتي وخرج هاربًا. ووقع لي مع الجن وقائع كثيرة، وإنما ذكرت لك ذلك لتعلم أن من قرأ الأوراد الواردة في عمل اليوم والليلة فليس للجن ولا للإنس عليه سبيل.٢٤
وحدثنا في كتاب لطائف المنن أنه ألف كتابًا في أسئلة الجان، وهي نيف وسبعون سؤالًا في التوحيد سأله عنها علماء الجان.٢٥

والإيمان بوجود الجن والعفاريت ليس خاصًّا بأهل القرن العاشر، ولكن الشاهد هنا أنه كان إيمانًا عامًّا بحيث جاز لمثل الشعراني أن يعتمد عليه فيختلق أمثال هذه الأقاصيص.

وقد ظلت جماهير العوام على هذه العقيدة إلى اليوم، والأمهات في الريف يقلن للطفل: «اسم الله عليك وعلى أختك». وأخته هي الجنية؛ وفي طفولتي كنت أسمع أهل بلدنا ينهون عن جر العصا على الأرض بالليل لئلا تبطح «سكان» الأرض، وما أدري كيف حالهم اليوم فقد انقطعت عن الاتصال بهم منذ أمد بعيد. وقصة الملك شمهورش «ملك الجن» قريبة العهد، وقد فضحته جريدة الأهرام فلم ينبس بحرف! وحدثنا الأستاذ أنطون الجميل أنه تلقى من الدجالين خطابات تهديد، ومعنى ذلك أن أناسًا يعيشون بفضل غفلة الجمهور واعتقادهم في الجان.

والإيمان بالجن كان له فضل في تلوين الأخيلة الأدبية، ولو أقدم كاتب فاستنطق العوام وكتب ما عندهم من حكايات الجن لأخرج مجموعة كبيرة من طرائف الأقاصيص.

والبيت «المسكون» لا يزال له وجود في الحواضر والأقاليم، وقد سمعت أن بعض المنازل في القاهرة تعطل سكناه لهذا السبب فيظل خاليًا بضع سنين.

وأستاذنا الشيخ فلان، وهو من جماعة كبار العلماء، يصدق حكايات العفاريت، وقد قرأت منذ أشهر كلمة نشرها الأستاذ مصطفى عبد الرازق في مجلة الصاوي روي فيها أن جماعة من علماء الأزهر فزعوا حين رأوا نعلًا ترتفع وتنخفض؛ وإنما فزعوا لأنهم توهموها محمولة على قرن عفريت، ثم ظهر أنها كانت جحرًا يسكنه فأر خبيث. وبنو آدم بلا عقول!

وقد حاولت غير مرة أن أرى العفاريت، ولكني لم أفلح بالرغم مما بذلت من جهود، ولعل السبب في حرماني من رؤيتهم أن الجن لا يظهر بعضهم لبضع. وهو تعليل مقبول!

البحث عن الكنوز

وكان المصريون في ذلك الحين يؤمنون بالمغيب المدخر من كنوز الأرض وهو في لغتهم اسمه «المطلب»، ومن أمثالهم: «كلب أجرب، ولقي مطلب» وفي كلام الشعراني ما يدل صراحة على أنه كان من المألوف أن يحرق الناس البخور في سبيل المطلب. ولننظر كيف يقول:
قلت لشخص من أبناء الدنيا: تعال اسهر معنا هذه الليلة، وكانت ليلة العيد الأصغر، فتعلل بأن السهر يضره، فقلت: بالله عليك، أصدقني، إذا أردت أن تفتح مطلبًا وأبطأ عليك البخور الذي تطلقه من العشاء إلى الفجر، هل كنت تسهر إلى الصباح تترقب مجيئه؟ فقال: نعم! فقلت له: فإذا أبطأ من بعد الفجر إلى المغرب، هل كنت تترقبه ولا تنام؟ فقال: نعم! فدرجته إلى تسعة أيام وهو يجد أنه يقدر على السهر من غير وضع جنبه إلى الأرض، فقلت له: في اليوم العاشر؟ فقال: لا أقدر. فقلت له: يا أخي فإذًا أنت تؤثر الدنيا على الآخرة. فقال: نعم!٢٦
ولا يزال هذا الوهم حيًّا إلى اليوم في بعض الطبقات. ولكن وروده في كلام الشعراني على هذا الوضع يدل أنه كان من المألوف بين جميع الناس.٢٧ وكانت عقلية الشعراني عقلية عامية. وبفضل غفلته وغفلة أمثاله من العلماء والواعظين ظلت صورة المطلب حية في أنفس السواد، ولها حوادث تقع في مصر من حين إلى حين.

ولهذه الأسطورة أصل: فقد كان القدماء يدفنون أموالهم في الأرض خوفًا من اللصوص، وكان يتفق أن يعثر بعض الأهالي على دفائن نفيسة من وقت إلى وقت، وغاب عنهم السبب الأصيل فظنوها من ذخائر الجن، والجن فيما يظهر يستهويهم البخور العطر فيجودون بدخائرهم حين ينتشون!

وإحراق البخور لا يحسنه كل إنسان، وإنما هو فن يجيده «المغربي» وحده؛ ولهذا كان للمغاربة سوق رائجة في هذه البلاد، ومنهم وحدهم تطلب الكنوز، وعليهم المعتمد في كتابة الأحجبة لجذب الأليف إلى الأليف، وفي «العباءة البيضاء» أسرار لا يدركها إلا الراسخون في علم الغيب!

تكالب المصريين على الوظائف

ويفهم صراحة من كلام الشعراني أن المصريين كانوا يتكالبون على الوظائف في القرن العاشر، فقد نهى عن التطلع إلى الوظائف الشاغرة إلا لضرورة،٢٨ وحدثنا أن الناس كان يدس بعضهم لبعض ليأخذ هذا وظيفة ذاك «وهذا الأمر قد حدث في جنس طائفة أهل القرآن وهو في غاية القبح منهم حتى رأيت من يسعى على شيخه الذي علمه العلم»،٢٩ وحدثنا أن من الناس من يأخذ «معلوم» الوظائف الدينية ولا يباشرها «وربما جمع بين إمامتين أو خطابتين مع أنه يفتي غيره بتحريم أكل ذلك المعلوم».٣٠
وحدثنا أن من المدرسين من كان يهمل فريضة الحج؛ لئلا ينتهز أحد إخوانه فرصة غيبته في الحجاز فينتهب منه وظيفة التدريس،٣١ وأن من الناس من كان يساعد أخاه بالعمل في وظيفته وهو غائب ثم يخونه «ويتقرر فيها»،٣٢ وحدثنا أن المتزاحمين على الوظائف يغتاب بعضهم بعضًا ويرجو أحدهم أن يقع في عرض أخيه لتسوء سمعته فيخلو له الطريق،٣٣ وأنه رأى من برطل حتى وصل إلى غيبة في شخص عند أمير.٣٤

وما أحسب هذه الأخلاق انقرضت بفضل ما توهمناه من تقدم المجتمع المصري، فلا يزال أهل مصر على ما كانوا عليه، بل زادت شمائلهم قبحًا إلى قبح، وفسادًا إلى فساد، وصارت الصلاحية للوظائف الرسمية لا تقوم إلا على أساس واحد وهو الرياء، والفائز اليوم هو من يعرف أخلاق رئيسه فيسوسه كما يسوس الدابة الحمقاء: فإن كان الرئيس رجلًا يحب الوقوع في أعراض الناس كان على المرءوس الشاطر أن يقدم لأذنيه كفايتهما من الغذاء في كل صباح، وإن كان للرئيس أعداء اجتهد المرءوس في إيذائهم باختلاق المساوي والعيوب، وإن كان الرئيس من أدعياء الأدب كان من الفروض على المرءوس أن يزعم أنه أشعر من المتنبي، وأكتب من الجاحظ، وأخطب من سحبان. ولا يكفي أن يقول هذا في المجلس، بل تجب عليه المبادرة بنشر هذا الكذب في الصحف والمجلات، وليس للمرءوس في هذا الزمن أن يقول: «أنا» فإن فعل فهو غير مصقول، وليس له أن يتحدث عن مواهبه، إن كتب الله أن تكون له مواهب، فإن فعل فهو في نظر رئيسه مهرج على الطريقة الأمريكانية!

ومهما يفعل الرئيس فهو دائمًا في حدود المنطق والصواب، والويل للمرءوس إن مر بخاطره طيف اعتراض. إن الصَّغار الذي عاناه الشعراني كان أهون وأيسر؛ لأن الوظائف لم تكن كل شيء في المصاير الاجتماعية، أما الصَّغار الذي يعانيه أهل هذا الزمان فهو نهاية البلاء؛ لأن أحرارهم يعيشون تحت رحمة طائفة من الجهلة جن لهم الزمان فصاروا يرفعون ويخفضون بلا تحرج ولا استحياء، ولذلك أقبح الأثر في مصاير الناس.

ويستطيع الرئيس الأحمق فيما سمعت أن يكيد لمرءوسه كيف شاء بلا رقيب ولا حسيب، فإن نوقش الحساب اعتصم باللفظ الذي صنعه الدجالون في العصر الحديث وهو لفظ (الضمير) فتراه يقول بلا حياء: «ضميري لا يسم بصحبة هذا الموظف» ولو كان لكلمة الضمير مدلول لوجب أن يستقبل أكثر الرؤساء؛ لأنهم في الأغلب من الكسالى الذين لا ينفعون الدولة بكثير ولا قليل. والإقدام على إيذاء الناس هو وحده دليل على مرض الذمة واعتلال الوجدان

ما أحوج مصر الحديثة إلى شعراني جديد يفضح ما يقع بين الرؤساء والمرءوسين في المعاهد والدواوين!

إن هذا العصر أقبح عصر عرفته هذه البلاد، فقد سمعت أن الفضل الحق صار ذنب من لا ذنب له. ولو أنك ملأت طباق الأرض علمًا، وألفت من الكتب ما يعجز عن مثله أرسططاليس، وبرعت الملائكة في نقاء النفس، وكان لك أبلغ قلم وأفصح لسان، لو كنت أفضل الناس جميعًا وحرمت نعمة الرياء لظللت حيث أنت محرومًا من كل شيء، حتى حسن السمعة بين الناس، وكنت خليقًا بأن يتقدمك من لا خلاق له في علم ولا أدب ولا دين، ما دام يعرف كيف يتملق الرئيس، وكيف يشهد بأن رئيسه أطهر الرجال، وأن بيته أمنع البيوت وإن كان من زجاج

كذلك سمعت أن الأمر صار إلى هذا الحال في هذه الأيام، والعهدة على راوي الحديث!

ولأمر ما تخلفنا وتقدم الناس.

طبقة الصوفية وطبقة الفقهاء

والطبقة المعروفة بالترف وسوء الأدب في القرن العاشر كانت طبقة التجار، فقد حدثنا الشعراني أنهم كانوا يحضرون المساجد قبل الصلوات في مثل الجامع الأزهر وغيره فيجلسون محدثين في لغو وغفلة، بل وغيبة٣٥ وحدثنا مرة ثانية أن التجار استرقتهم شهوات النساء فلا يقدر أحدهم على مخالفة زوجته أبدًا،٣٦ ودعانا إلى الإكثار من التواضع في الحج بلبس الثياب اللائقة بالخدمة لا كما يفعل التجار،٣٧ ونهانا عن الإكثار من شراء الشاشات والأزر والحبر كما يفعل التجار،٣٨ وأوصانا أن نكثر من الصلاة في مسجد مكة والمدينة راجيًا أن نخل بهذا العهد كما يخل به كثير من التجار الذين يبيعون في الموسم القماش فلا يتهنأ أحدهم بطواف، بل ولا بصلاة جماعة فيصير في النهار غافلًا وبالليل نائمًا.٣٩

ويظهر أن التجار في ذلك العهد كان إليهم زمام المنافع الدنيوية: فكانوا من المياسير، وكانوا يسيطرون على الناس. والشاب المدلل في أقاصيص ألف ليلة وليلة يسمى في أكثر الأحوال «ابن التاجر» ومن هنا صح للشعراني أن يحكم بأن التجار ما كانوا يملكون أزمة نسائهم: لأن المرأة التي تنشأ في بحبوحة النعيم تبغي وتستطيل، فلا يصدها أدب ولا يحدها استحياء، إلا من عصم الله من أهل الأحساب.

طبقة التجار

ومن الشعراني نعرف طبقات المصريين في القرن العاشر: فطبقة التجار كانت تسيطر على الثروة، وطبقة الحكام كانت معروفة بالاستبداد، بدليل أنه نهى عن مقاومتهم مرات كثيرة،٤٠ وطبقة الموظفين كانت تقتتل على الوظائف، وطبقة الفقهاء كان لها سلطان، وكان الشعراني يتهيبها ويضع الآداب المختلفة لمن يتصل بها في الفتاوى والدروس.

نظام الزوايا

وهناك طبقة مهمة وهي طبقة سكان الزوايا، والزاوية كان لها شأن عظيم في القرن العاشر، وكان لها وجود اجتماعي، بدليل قول الشعراني: «وأعظم طريق إلى دفع البلاء النازل على الناس في حارة أو قرية أو زاوية مصالحة بعضهم بعضًا حتى لا يبقى بينهم شحناء»٤١ فقد جعل الزاوية مجتمعًا يقرن إلى الحارة وإلى القرية، وكانت مشيخة الزاوية من المناصب التي تتطلع إليها العيون، فقد اتفق للشعراني مرة أن يقول: «إذا رفعك الله فصرت عالمًا أو شيخ زاوية»، وقد رجعنا إلى خطط علي مبارك باشا فرأينا زوايا القاهرة تعد بالعشرات، مع أنه لم يتحدث عنها إلا بعد أن اندثرت معالمها الاجتماعية، ولم تعد إلا مساجد لا يعرفها الناس إلا في أوقات الصلوات.
كانت الزاوية مأوى لطوائف من المريدين يقيمون فيها ليلهم ونهارهم، وكان لها لواحق من المطابخ والأفران والطواحين، بدليل قول الشعراني: «أراد الفقراء المقيمون عندنا في الزاوية أن يعلموا القصع الخشب الكبار التي اشتريتها لسماط الفقراء، فقالوا: أي شيء نكتبه عليهم؟ فقلت لهم: أكتبوا: كبر القصع، من قلة الورع».٤٢ وكانت أيضًا ملجأ لأصحاب العاهات من الزمنى والعميان،٤٣ وهي فيما أعتقد صورة من صور الديارات والمعابد عند النصارى واليهود، والفرق بين الزاوية والدير أن الزاوية قد يقيم فيها الرجل مع زوجته وأولاده، وأن الدير لا يقيم فيه غير الرهبان المحرم عليهم الزواج.٤٤
ولكن من أين كان يستطيع مثل الشعراني أن يطعم جميع من كانوا يقيمون عنده من الفقراء، وقد حدثنا مرة أن زكاة الفطر لم تجب عليه؟ إن تعليل ذلك سهل: فقد كان لأكثر الزوايا أوقاف،٤٥ وكان سكان الزوايا ممن تقدم إليهم الهدايا والصدقات على نحو ما يصير في النجف إلى اليوم، وكان المحسنون يعهدون إلى شيخ الزاوية توزيع ما تجود به نفوسهم على المريدين، وذلك عمل كان يتولاه عن الشيخ شخص يلقب بالنقيب. نفهم هذا من قول الشعراني:
وينبغي للشيخ إذا وقع على يديه قسمة دنيا بين الفقراء أن لا يخص أحدًا منهم بشيء زائد على غيره إلا أن تكون حاجته ظاهرة للفقراء كلهم بحيث يحنون عليه ويرقون لحالته … وليحذر أن يأخذ لنفسه أو ولده نصيبًا مع الفقراء فيكون كأحدهم في دناءة المروءة والأخلاق وتذهب رياسته عليهم، بل يفرق كل ما وقع على يديه على الفقراء والمساكين وأولادهم وعيالهم، ولا يلحس منه لحسة، ولا يأخذ منه فلسًا، ولا يدخله في بيته أبدًا، بل يضعه في الزاوية حتى يفرقه النقيب.٤٦
figure
منظر زاوية يعيش فيها طلبة العلم ويأوي إليها الصوفية.
ونظام الزوايا لا يزال حيًّا في بلاد المغرب، وكان سكان الزوايا ممن تتحدث عنهم البرقيات في الحرب الطرابلسية والمراكشية، والسنوسيون الذين أضجروا المستعمرين حينًا من الزمن كانوا من سكان الزوايا، ولكن هذا النظام انقرض من مصر ولم يبق له في المجتمع أثر محسوس.٤٧

ويظهر من كلام الشعراني في مواطن مختلفة أن الزوايا كان لها عصبية طائفية، وكان المريد الذي ينتقل من صحبة شيخ إلى شيخ يتهم بأنه أراد الدنيا ولم يرد الدين، ومعنى ذلك أن الزوايا كانت تختلف في ليونة العيش باختلاف أقدار الأشياخ، فبعض الزوايا يهدى لأهلها الخبز القفار. وبعض الزوايا تحمل إلى أهلها أطايب اللحوم وأسفاط العنب والتين!

وما نقول هذا ساخرين، فقد افتخر الشعراني بزاويته فذكر أن الفقراء كانوا يجدون فيها ما يحتاجون إليه من طعام ولباس، وأن الحق جل وعلا كان يرسل إليه كل سنة من عسل النحل نحو عشرة قناطير، ومن عسل القصب نحو خمسة عشر قنطارًا، ومن القمح ثلاث مئة أردب، وكان يرسل إليه كل سنة نحو ألفي بطيخة من البطيخ الهندي يأكلون منها طول السنة حتى يطلع البطيخ الجديد،٤٨ وقد صرح في البحر المورود٤٩ أنه ينبغي للشيخ أن يخرج من الزاوية كل من غير وبدل عهود الفقراء التي دخل الزاوية على نيتها، كما إذا دخل في العهد مع الشيخ على أن يرضى باللقمة والخلقة ثم طلب زيادة على ذلك. ثم قال: «وجلوس مثل هذا في الزاوية ضرر بلا نفع. ومن شرط رهبان الكنائس فضلًا عن المسلمين أن كل راهب أحب الدنيا أخرجوه من كنيستهم، وقد صارت الزوايا الآن مصيدة للدنيا لا غير».٥٠
وبعض ما سلف قاطع في الدلالة على ما كان للزوايا من القيمة المعاشية والاجتماعية.٥١

طبقة الفلاحين

بقيت طبقة الفلاحين، وهي طبقة كانت محتقرة في القرن العاشر، بدليل أن الشعراني يرى الفلاح كالزبال، وبدليل أنه جعل من نعم الله مهاجرته من بلاد الريف إلى مصر ونقله «من أرض الجفاء والجهل إلى بلد اللطف والعلم».٥٢ وهذه النزعة لا تزال حية إلى اليوم. ولا يزال الفلاحون يرون أنفسهم منحطين، وفيهم من يرى البواب في القاهرة أرفع مقامًا من الفلاح في الريف، ومن أغانيهم:

ليلتك سعيدة وسعيدة يا رايح مصر.

ومن أمثالهم: «الذوق لم يخرج من باب الحديد»، أي: أنه مقصور على القاهريين، كأن أهل القاهرة عندهم ذوق!

وذكر الشعراني أن أحد علماء الأزهر تزوج من مصرية، أي: قاهرية، وقدمت أمه من الريف لزيارته، فتنكر لها لئلا تعرف زوجته أن أمه فلاحة، وهددها بالضرب إن علم أحد أنها أمه وأنه ابنها الغالي!

ومن الشعراني نعرف أن الفلاحين كانوا مستضعفين، كان يتحكم فيهم الولاة ومشايخ العرب، أما الولاة فهم الحكام، وأما مشايخ العرب فهم جماعة من الأعيان كان لهم في مصر مقام مهيب، و«شيخ العرب» لقب فخم يذكره الشعراني في مواطن كثيرة بالتعظيم والتبجيل، كأن يقول: «أخذ علينا العهد إذا حصل لنا جاه عند حاكم من محتسب أو قاض أو شيخ عرب أن لا نغفل عن نصحه ولا عن قضاء حوائج الناس عنده».٥٣ وقد ظل هذا اللقب حيًّا إلى عهد قريب، وبفضله ضاعت أملاك آبائي وأجدادي، فقد كان منهم من إذا قيل له: «يا شيخ العرب» ثارت نخوته وأعطى باليمين وبالشمال. وعلى الله العوض!

وكان أهل الريف ينقسمون إلى طبقتين: عرب وفلاحين، فالعرب هم أحفاد المسلمين الذين وفدوا مع عمرو بن العاص، والفلاحون هم الأقباط الذين أسلموا، وكان بين هاتين الطبقتين عداوات وأحقاد، وكان العرب لا يصاهرون الفلاحين إلا متفضلين.

وكان مشايخ العرب في القرن العاشر يملكون من السيطرة ما يملك الحكام فقد حدثنا الشعراني أن الله حماه من الأكل من ضحايا الولاة ومشايخ العرب التي يرسلونها إلى الزوايا؛ لأنه علم «أن الكشاف ومشايخ العرب يأخذون هذه الضحايا التي يفرقونها من أهل البلد غصبًا».٥٤
وكان ظلم الولاة للفلاح أقبح من ظلم مشايخ العرب، فقد دعا الشعراني إلى الزهد في ولاية أمور الناس؛ لأن الوالي يقع في أمور كثيرة، منها: «إلزامه بتخليص الخراج للمستحقين من الفقهاء وأرباب الشعائر مع ضيق حال الفلاح وخراب بلده وإلزامه بخراج العاطل والبور لجهة أقوى منه حتى لا يتركوا له أردب قمح لأولاده الصغار. فإن سلك هذا الناظر الفقيه أو الفقير مسلك الولاة والأمناء والملتزمين وباع قوت الفلاح وبقرته التي يأكل لبنها خرج عن سياج علمه وفقره إلى سياج الظلمة، وإن لم يسلك ذلك قام عليه المستحقون وقالوا له: أنت لا تصلح لهذه الوظيفة، فيصير هو وإياهم في نزاع وخصام ويقولون له: أنت مفرط في تخليص الخراج فليزمك كل شيء فضل عند الفلاح».٥٥

وهذا الكلام صريح في أن الفلاح كان يقاسي مصاعب كثيرة في دفع الخراج، وكانت الأرض لا تعاين، بل يدفع خراجها ولو كانت بائرة، فلا يبقى عنده شيء، حتى البقرة والقوت.

أيمان الطلاق

وكان الحلف بالطلاق يكثر في القرن العاشر، نعرف ذلك من قول الشعراني فيمن ينقل أخبار السوء: «فإذا قيل له: سمعت ذلك من أي شخص؟ فيقول: من واحد لا ينبغي ذكره، أو من واحد حلفني بالطلاق أني لا أذكره»، ومن قوله: «كان لي صاحب من طلبة العلم ضرير أطالع معه العلم ويفيدني الفوائد الحسنة، فتخاصم مع بعض الطلبة فقال له: أنت لا تجيء إلى فلان إلا بقصد الغداء والعشاء، فحملت ذلك الصاحب المروءة فحلف بالطلاق من زوجته ما عاد يأكل عندي في تلك السنة».٥٦

ونذكر من باب الفكاهة أن القرية التي نشأ فيها الشعراني — وهي ساقية أبو شعرة — لا يزال أهلها معروفين بالإكثار من أيمان الطلاق، وقد تقف حمارة أحدهم عن عبور الماء، فيحلف عليها بالطلاق أن تمر، وقد لا تفهم المسكينة خطر اليمين فيضربها حتى تسقط في الماء.

وأهل بدلنا يعيرونهم بذلك ويروون عنهم نوادر تضحك المحزون.

إقامة الموالد والمآتم والأعراس

وفي كلام الشعراني شواهد صريحة على أن إقامة الموالد كانت مما ابتلي به المصريون في القرن العاشر، وإنما عددناها من البلاء؛ لأنها كانت وصلت إلى التبذل والإسفاف، وبيان ذلك أن الصوفية كانوا يقيمون الموالد وينفقون عليها الأموال ليطعموا الفقراء والمساكين، ولكن أولئك الصوفية لم تكن لهم مكاسب، فكانوا يجمعون الأموال للموالد بسيف الحياء، وما زالوا يلحون حتى ضج الأغنياء، وقد تحدث الشعراني عن هذه البلايا الأخلاقية فقال:
ومما من الله تبارك وتعالى به عليَّ عدم أكلي طعام من يأكل بدينه من فقراء هذا الزمان، ويجرح الناس ويسلقهم إذا لم يبروه بألسنة حداد، ولا سيما إذا عمل مولدًا كبيرًا فإنه لا يكاد يحلل فيه ولا يحرم، أي: لا يحلل الحلال ويكتفي به، ولا يحرم الحرام ويجتنبه؛ فالورع ترك الأكل من طعام هؤلاء؛ لأنه لولا اعتقاد الناس فيهم الصلاح لم يعطوهم شيئًا؛ ومعلوم أن من يأكل الدنيا بدينه أقبح ممن يأكلها بدنياه.٥٧

وحدثنا أن شخصًا من الأمراء سأل الخواص أن يعمل له مولدًا فأبى، وقال: «والله إن كسبي من هذا الخوص لا يعجبني، فكيف آكل من كسب الأمراء وأدعو الناس إلى الأكل منه».

قال الشعراني: وقد أخبرني شخص من جماعة الباشا علي الوزير فقال: قد سئمت نفوسنا من كثرة سؤال هؤلاء المشايخ الذين يعملون لهم موالد، فلم يتركوا عندنا عسلًا ولا أرزًا ولا عدسًا ولا بسلة، وإيش قام على هؤلاء أن يشحذوا ويعملوا لهم موالد.٥٨ وقد عرض لهذه المسألة في البحر المورود بكلام أصرح فقال:
أخذ علينا العهد ما دمنا فقراء من المال أن لا نعمل قط مولدًا حافلًا ولا طهورًا ولا سبوعًا ولا وليمة واسعة ولا عزومة كبيرة ولا غير ذلك، حفظًا لديننا ورحمة بإخواننا من التجار الذين لا يهون على أحدهم كسرة ليتيم، فإنهم إذا رأونا في مهم ربما تجونوا في مساعدتنا رياءً وسمعةً أو غصبًا في عمل الطعام أو في النقوط للمداحين ونحو ذلك، وأكثر إخوان الفقير في هذا الزمان على علالة في صحبته لأمور يطول شرحها من جانبه ومن جانبهم، وربما يقولون: بلغنا أن سيدي الشيخ ناوي يعمل مولدًا أو طهورًا أو عرسًا لولده، وما نعرف والله نساعده بإيش، وإيش قام على الفقير يعمل له مولدًا أو غيره ويكلف الناس. فإذا قال بعضهم: أنا ناوي لا أساعده ولا أحضره، يقول له بعضهم: فضيحة من الشيخ، ويبقى الشيخ يعتبك وجماعته، فيحتاج أن يحضر بغير نية صافية خوفًا من العتب وإظهارًا للنخوة كالمكره، ثم إذا نقط مثلًا لا تسمح نفسه قط بأن يعطي النقود للمداح خفية بحيث لا يدري الشيخ ولا جماعته ولا أحد، وربما يحوش للمداح أيضًا العتامنة المقطعة والقشاقش تكثيرًا للفعل، ومصداق ذلك أنه لا يسمح بإعطائها جملة واحدة سرًّا كأنها عثماني واحد أبدًا، ثم ليحذر الشيخ أن يمكن جماعة من أن يدعوا أحدًا من الأكابر للحضور كالدفتر دار وقاضي العسكر وأمراء السناجق وأضرابهم فإن ذلك من سوء الأدب، ومن أين لأمثالنا من الضعفاء أن يستحق مشي الأكابر إلى داره لأجل لقمة عملت من أوساخ الناس يأنف من أكلها خدامهم فضلًا عنهم.٥٩

وفي هذه الكلمات صور كثيرة من المجتمع لذلك العهد، وحكاية النقوط لا تزال حية في مصر إلى اليوم، وتنقيط المداحين معروف، وهو يقع عند «قص شعر المطاهر» وعند «استحمام العريس»، وهو يستحم في الطشت علنًا بين الأهل والأصدقاء، ويقف المداح أو المزين ويقول: «شوبش يا حبايب» فيعطيه كل امرئ ما تجود به نفسه باسمه واسم أبيه وأبنائه وإخوته ويصيح المزين عند كل اسم بعبارات شعرية يعرفها أهل الريف، وكانت النقوط تدفع أيضًا ليلة «جلوة العروس»، ثم ماتت هذه العادة وبقي النقوط يدفع للعروسة في الصباحية، وهي تقاليد تنم عن ذوق ولطف: لأنها من التهادي المقبول، ولكن يقع كثيرًا أن تتغير بسببها النفوس؛ لأنها ديون عرفية يعسر قضاؤها في بعض الأحيان.

والمهم هو الكلام عن الموالد فقد حاربها الشعراني في مناسبات كثيرة؛ لأنها كانت تشبه الضرائب السنوية فكان كل رجل من أتباع «الشيخ» يقدم ما يستطيع من الأطعمة أو الذبائح، وكان المشايخ ينتظرون ذلك ويغضبون ويعتبون حين (تنقطع العادة)، وكان التفاضل بين المشايخ قائمًا على نسبة نجاحهم في جمع الهدايا؛ لإقامة الموالد التي تجمع ذخائرها من أوساخ الناس، كما قال الشعراني.

وقد عاش هذا التقليد في مصر إلى عهد قريب، وما أحسبه مات، فلشيخ الطريقة في ذمة كل مريد جدي أو خروف يقدمه عند المولد، وتجمع الجديان والخرفان ثم تساق إلى ساحة المولد فتذبح هناك، ويدعو شيخ الطريقة من شاء من الخواص، ويقبل عليه من شاء من العوام، وتكون مأكلة عظيمة يتحدث بأخبارها أصحاب البطون!

وللقارئ أن يضيف هذا إلى المظالم التي كان يعانيها الفلاحون في دفع الخراج ليرى كيف كانوا يقعون في بليتين: غطرسة الحكومة ودهاء المتصوفين.

وكان المصريون في القرن العاشر ممتحنين بالمآتم والأعراس، نعرف ذلك من قول الشعراني:
ومما من الله تبارك وتعالى به علي حمايتي من الأكل من طعام النذور والأعراس الواسعة وطعام العزاء والجمع وتمام الشهر فلا أستحضر أنني أكلت شيئًا من ذلك إلا مرة واحدة ثم تقيأته.٦٠
والمفهوم من هذا أن الشعراني يحارب عادات شاعت في عصره، وكان يقع فيها الصوفية والعلماء، وقد فصل ذلك فقال:
وأما أطعمة العرس الواسعة، فإن الغالب على صاحبه التكلف فيه فيطبخ ما ليس من عادته أن يطبخه مما هو فوق طاقته فترى أبا العريس وأم العروسة أو أم العريس يبيع أحدهم ثيابه في عمل الطعام أو يقترض غالب ذلك ولو بالربا، ويقول: قد تجونت في عمل هذا العرس وما بقي إلا عمله، فيعمل ذلك الطعام، متكرهًا له، متفاخرًا به، حتى إنه بعد ذلك ربما سمع بعض الناس يقول: كان طعام فلان أكثر من طعام فلان فيتأثر لذلك. وأما طعام العزاء والجمع وتمام الشهر٦١ فربما دخله المفاخرة كذلك، وربما عملوا ما عملوا من الفطير والعجمية والسَّنبُوسك والحلو والأرز متكلفين له خوفًا من عتب الناس الذين يعزون ويطلعون له التربة، وربما كان ذلك من مال الأيتام أو بعضهم، وليس لوليهم فعل مثل ذلك شرعًا: فالعاقل من فتش على كل لقمة دخلت بطنه قبل أن يضعها في فمه، وكذلك لا ينبغي لمتورع أن يشرب من الماء الذي يسلبونه عند الدفن إن كان أهل الميت يقيمون ذلك من التركة، اللهم إلا أن يكونوا بالغين رشداء.

والظاهر أن الطمع في طعام العزاء كان رذيلة فاشية، بدليل قول الشعراني «وقد حمى الله تبارك وتعالى بعض إخواننا من الأكل من طعام العزاء فالله يديم عليهم ذلك».

ولا يمكن أن يكون التورع عن طعام العزاء فضيلة إلا إن كان الطمع فيه قد عم وشاع.

وهذه العادات لا تزال حية في أكثر البيئات المصرية، فقد يعيش بعض أهالي البلاد مدينين أثقل الدين؛ لأنهم يقيمون الولائم الكبيرة في حفلات الطهور والزواج، ويدعون إليها أكثر أهالي البلد ومن يعرفون من البلاد المجاورة، ثم تكون مطاعم كثيرة تنهب ما تنهب من المال المدَّخر والمقترض، وتكون أحيانًا من أسباب الخراب.

والظاهر أن التهالك على أطعمة العزاء هو الذي أنطق الفلاحين بهذا المثل الظريف:
موت وخراب ديار.

وكلام الشعراني في هذا الموضوع خليق بالدرس، فأكثر المآتم تؤخذ نفقاتها من أموال الأيتام، وتكاد المآتم في مصر تضاف إلى الأعراس من حيث الإسراف في النفقات، وأكثر أهل مصر لا يعقلون.

أزياء الصوفية

ونفهم من كلام الشعراني أن صناعة النسج كانت وصلت إلى أبعد الحدود في القرن العاشر، فقد كان نساء مصر يعرفن من الثياب ما يسمى بالرقيق، ويقول الشعراني عن النهي عن تلك الثياب:
أخذ علينا العهد من رسول الله أن لا نكسو عيالنا من الثياب التي تصف البشرة، ولا نقرها أن تشتري لنفسها ذلك، مبالغة في سترها عن عيون الأجانب الذين يدخلون الدار من الرجال الأجانب والنساء. فربما نظرت الأجانب إلى فرج المرأة من تحت الثياب الرقيقة كما تنظره من تحت الزجاج الصافي.٦٢

وكلمة «عيال» في كلام الشعراني ترد غالبًا بمعنى الفتيات والنساء، وربما أريد بها المفرد وهي جمع. ومن الواضح أن الشعراني لا يتكلم عن جميع الطبقات، وإنما يشير إلى ما كان يقع في بيوت المترفين.

لبس الحرير والتحلي بالذهب

ويظهر من كلام الشعراني أيضًا أن الحكام كان يؤخذ عليهم لبس الحرير والجلوس عليه والتحلي بالذهب، وهو يحدثنا أن علماء عصره كانوا يسكتون عن لبس الظلمة الحرير، أو ينكرون عليهم مع طمعهم فيما بأيديهم وقبولهم هداياهم وترددهم إليهم من أجل ذلك.٦٣ ونفهم من كلامه أيضًا أن بعض الصالحين كان ينكر عليهم، ولكن كانت تعوزه السياسة فكانوا لا يصغون إلى إنكاره، بل يزدرونه ويضحكون عليه.

ومعنى هذا أن لبس الحرير والجلوس عليه والتحلي بالذهب كان من المشكلات الاجتماعية، وكانت توضع للنهي عنه قواعد وآداب، ومن أجل هذا كان الصوفية من جانبهم يبالغون في التخشُّن، ويؤثرون لبس الصوف والمرقَّع من الثياب، فكانت ملابس الرجل هي الدليل على ما يصطنع من الأخلاق.

وهذا لا ينافي ما قرره الشعراني من وجوب مداواة النفوس في بعض الأوقات بأكل المطاعم اللذيذة، ولبس الثياب النفيسة؛ لأنه اشترط أن يكون ذلك من وجه حلال بعيدًا عن الحرام والشبهات،٦٤ وهو يريد الكسب الحلال ولم ينص على حِلِّ الاستعمال؛ لأن ذلك معروف.

تحاسد العلماء

وكان علماء مصر في القرن العاشر يتحاسدون ويتباغضون، وكان الرجل منهم يكره أن يَعرف تلميذُه رجلًا غيره، وكان كل عالم يوهم تلاميذه أنه هو وحده العالم وأن من سواه جهلاء. وقد فشا هذا العيب في أهل ذلك العصر بدليل ما نرى في كتب الشعراني من حَرْبه، فقد نَدَّدَ به أكثر من عشرين مرة، وروى لنا كثيرًا من الطرائف نكتفي منها بشاهدين اثنين:
معت شخصًا ضعيفًا مثلي يقول: والله العظيم لا أعلم الآن في مصر كلها أعلم مني، ولو أنني علمت لمشيت إليه واستفدت منه؛ ومثل هذا مجنون، وأقل جزائه أنه حرم بركة علماء زمانه، ومات بجهله. ورأيت شخصًا يدعي القطبية يقول: أطلعني الله على دائرة الأولياء كلهم فلم أر فلانًا — وأشار إلى شخص من صالحي عصره — فقال له شخص في المجلس: إن كنت صادقًا فقل لي: كم في لحيتك من شعرة؟ فما دري ما يقول وخجل بين الناس.٦٥
وكانت «المعارضة» في القرن العاشر تتمثل في اغتياب الحكام والوزراء في المنازل وفوق المصاطب، فقد حدثنا الشعراني أن من الناس من يكون الخير في أن لا يجدونا في المنازل عند الزيارة، وهم الذين يأتون «للغو والهذيانات وذكر أخبار الدولة وحكاية أخبار الناس».٦٦

وكان الشعراني يكره اغتياب الحكام ولا يحب أن يتصل بأعداء الدولة، وله في ذلك سياسة بسطناها عند الكلام عما وضع من الآداب لمعاملة الحكام.

ظلم الولاة للفلاح

وكان من أصحاب الجاه في القرن العاشر من يقضي مصالح الناس طمعًا في هداياهم «وذلك حرام بنص الشريعة وبيع للدين بالدنيا، وذلك أن الشفاعة عليك واجبة إن تعينت عليك، وفعل الواجب لا يجوز أخذ العوض الدنيوي عليه».٦٧

وهذا عيب قديم عرفه أهل المشرقين، وهو لا يزال حيًّا في مصر، وفي القاهرة فيما يقال جماعات لتنظيم هذه «الشئون»، وكانت لها فضائح عرفتها المحاكم، وسمعت فيها شهادة أحد الوزراء. وأثمان الشفاعات والوساطات تضج بأخبارها الأندية، ولو جاز لكاتب أن يدون ما يسمع وما يعرف من أخبار الأسواق التي تباع فيها الوظائف لانكشفت من الحياة الرسمية جوانب تزكم الأنوف.

وقد فزع بعض الأطهار من شيوع هذا الرجس فوضعوا قواعد للتعيينات والترقيات، وقد كتبت هذه القواعد فيما علمت بماء الزعفران على جلد الغزال، بحيث لا تلحس ولا تمزق! فلا تصدقوا من يقول: إنها قواعد صورية لم توضع إلا لتزيد تعقيد الأمور في أوجه من لا عم لهم في الحكومة ولا خال.

شيوع الظلم والفسق

والشعراني كثير السخط على أهل زمانه، ولو صدقناه لجزمنا بأن مصر في القرن العاشر كانت مباءة لجنود إبليس، لعنة الله عليه وعليهم! وهو ينص بالذات على خيانة الجار للجار، ويراها من أكبر الموبقات. وفي كلام الشعراني أن الزنا كان رذيلة شائعة لم يسلم منها أحد من الناس «حتى وقع أن جماعة من الأكابر اجتمعوا في مجلس فقال شخص منهم: من سلم منكم من الزنا فليحلف لنا بالله تعالى أنه ما زنى، فما تجرأ أحد منهم على الحلف، واعترفوا جميعًا بأنهم وقعوا في ذلك في شبابهم».٦٨

و«الأكابر» في كلام الشعراني هم الصوفية، لا الوزراء، وهل يسأل الوزراء هذا السؤال؟!

وشيوع الفسق لا يقع في أمة إلا في أزمنة الانحطاط؛ لأن الناس لا يفسقون إلا حين يحرمون من الشواغل الجدية، أي: حين لا يجدون من أعمال الشرف ما يلهيهم عن أعمال الدنس.

وقد ظل الشعراني حافظًا للعنجهية الريفية، وهي عنجهية تقوم على الترفع والإباء، وهو من أجل ذلك يسيء الظن بأبناء الحواضر ويرى صحبتهم بابًا إلى الفسوق، ويقول في ذلك:
وقد فسد جماعة من كثرة أكل الشهوات وخلطة من لا يصلح من أولاد مصر.٦٩

و«أولاد مصر» هم شبان القاهرة، وقد سمعت أنهم صلحوا في هذه الأيام!

ولم يكن الفسق كل ما يشكو الشعراني من عصره، بل كان يعتقد أن زمانه قل فيه الحلال «حتى إنه لا يكاد يوجد منه شيء في يد شيخ من شيوخ الفقراء فضلًا عن آحاد الناس».٧٠

تقاطع الأهل والجيران

وكان التعاطف والتراحم مما يعسر وجوده بين الأقرباء «فكان الناس يسألهم قريبهم ثوبًا أو طعامًا أو دراهم فلا يعطونهم شيئًا، ويسألهم شخص لا قرابة بينهم وبينه فيعطونه، ولعل العلة في ذلك أن القريب يأخذ ولا يشكر أصلًا، أو يشكر ولا يبالغ في الشكر، ويقول: لا جميلة في ذلك لقريبي بخلاف الأجنبي، فإنه إذا أخذ من أحد شيئًا يشكر صاحبه في المجالس ويبالغ في الثناء عليه، والنفس من شأنها أن تحب ذلك».٧١ ومعنى هذا أن المعروف كان لا يقدم إلا في انتظار ثمنه من الشكران.
وللشعراني في ذلك كلمة محزنة تصور تقاطع الأهل والجيران في عصره، وتبين كيف كان الفلاحون في الريف يقاسون بلايا الشحناء:
أُخِذ علينا العهد أن نعلم كل من رأيناه في بلاء في هذا الزمان طريق الخلاص منه، لا سيما أهل القرى من الفلاحين لغلبة الجهل عليهم، وأعظم طريق إلى رفع البلاء النازل على الناس في حارة أو قرية أو زاوية مصالحة بعضهم بعضًا حتى لا يبقى بينهم شحناء ولا عداوة … وقد علَّمت ذلك لبعض أهل القرى وكان بينهم العداوة والقتل والنهب والخروج من الأوطان فاصطلحوا وتعاطفوا فارتفع البلاء من بلدهم، وذلك أن البلاء لا ينزل قط على قوم وهم على قلب رجل واحد … وقد قال شخص مرة لسيدي علي الخواص: يا سيدي، ما بقي قلب مع قلب في هذا الزمان، فما سبب ذلك؟ فقال الشيخ: سبب ذلك عدم برهم لبعضهم؛ لأن الحسنة هي التي تربط القلوب بعضها مع بعض. قلت: وهذا الأمر قد أيسنا من وقوعه ما بقيت الدنيا، وقد قلت مرة لجماعة من الإخوة الأشقاء: بالله أيكم يعتقد في أخيه أنه إذا مات عن أطفال فقراء أنه ينفق عليهم ويطعمهم ويكسوهم حتى يعينهم الله من فضله أو يموتوا، فقال كل منهم: والله ما منا أحد يظن في أخيه ذلك. فإذا كان هذا بالإخوة فكيف بغيرهم! فما بقي أحد يعطف على أحد. وانظر يا أخي إلى صاحبك وجارك الغنيّ كيف تمكث السنة والسنتين وأكثر لا تنظر منه قط لقمة ولا خرقة ولا حسنة من حسنات الدنيا إلى أن يموت، وإن وقع لك ذلك من جار أو صاحب فهو من غلطات الزمان، وقد صار الأمر روايات وأخبارًا كأنه قط لم يكن في الوجود.٧٢

ومن هذا الكلام نعرف أن الفلاحين كان يبغي بعضهم على بعض بالنهب والقتل، وكان فيهم من يخرج من بلده لينجو من أذى العداوات، ونعرف أن الإخوة والجيران كانوا لا يعرفون التعاطف والتراحم، ولا يقيمون وزنًا لأواصر القرابة والجوار.

وهذه الأخلاق لم تنقرض من مصر، وكيف تنقرض وهي رذائل إنسانية عرفها الناس في كل بلد، وفي كل جيل؟ ولعل الناس في عصر الشعراني كانوا أرحم من ناس هذا الزمان، ففي عصر الشعراني كان الرجل القوي يعتمد على الرمح والسيف، أما الرجل القوي في هذا الزمن فيعتمد على أسلحة وضيعة أشرفها الدس والكيد والبهتان.

في عصر الشعراني كان أهل البغي يجدون من يحذِّرهم عواقب البغي، أما في عصرنا فيعيش الباغون عيش الشرفاء؛ لأن الانتقام صار شريعة مرضيَّة لها قواعد وأصول.

في عصر الشعراني كنت تجد عصبة من أهل الخير تدفع عنك عنف الباغين أما في هذا العصر فيقف كرام الناس على الحياد، ويتركون الظالم ينتاشك، ويفتري عليك، ويذيع من حولك الأراجيف، ولا يتقدم رجل شهم فيقفه عند حده، على نحو ما كان يفعل الرجال، أيام كان في الدنيا رجال.

أعوان الظلمة

والشعراني يتحدث عن الظلمة وأعوان الظلمة في كل كتاب، بل في كل صفحة من كتاب، وهذا يدل على أن مصر في القرن العاشر كانت تشقى بآثام الظالمين، وقد بقي ظل هذه المآثم على ألسنة العوام، فتجد كل أم في الريف تدعو لابنها بهذا الدعاء: «الله يكفيك شر الحاكم الظالم»، فالحاكم الظالم كان الشبح المخيف الذي يستعيذ منه الناس.

والحاكم الظالم انقرض من مصر، وشعر الجمهور بالأمان؛ لأن الرجل في الأعصر الخالية كان لا يأمن في كل لحظة أن ينقض عليه أحد الظلمة، فيسلب ماله أو يسخره أو يضطهده بلا سبب مبين.

أما في هذه الأيام فلا يستطيع أمير ولا وزير أن يعتدي على ملكية أحد، ولو كان من الصعاليك، وفي مقدور كل امرئ أن يغدو إلى شأنه آمنًا مطمئنًا، ولا يتعرض المرء للشر في هذه الأيام إلا إذا اشترك في الحياة العمومية، فإن فعل فهو عرضة للظلم المصقول الذي ابتدعته المدنية.

وأريد أن أقول: إن الرجل لا يتعرض للشر إلا إذا تسامت نفسه إلى أن يكون من الشخصيات المرموقة في المجتمع؛ فإن قنع بأن يكون فلاحًا أو نجارًا أو حدادًا فهو آمن كل الأمن ولا رقيب عليه ولا حسيب.

كان يستطيع الملوك في الأيام السوالف أن يستصفوا أموال من يغضبون عليهم من الوزراء؛ أما في هذا العهد فلا يستطيع أكبر ملك أن يأخذ قرشًا واحدًا من أصغر مخلوق إلا بحكم القضاء، والقضاء في هذه الأيام تضرب بعدالته الأمثال.

إن عصرنا لا يعرف الظلم إلا في باب واحد: هو تظالم الجماعات والأحزاب، فمن اشترك في جمعية أو حزب فهو مباح العرض، ينتاشه من شاء كيف شاء، وهذا شر تمكن السلامة منه بتجنب التحزب والإقبال على الأعمال البعيدة من معسكرات الأحزاب؛ أما في عصر الشعراني فكان الشر ينتظر الرجل في كل مكان، ومن أجل هذا نراه يستعيذ من الظالمين وأعوان الظالمين.

بقي أن ننص على خصيصة أصيلة من خصائص المصريين في القرن العاشر، تلك هي الإحساس بقيمة الأخلاق، والحرص على إقامة شعائر الدين، فقد كانت الحواضر والأقاليم تعج عجيجًا بمواكب الصوفية، وكان للفقهاء سلطان ملحوظ يتهيبه الأمراء والوزراء، ولو قام في مصر لهذا العهد رجل مثل الشعراني ونهى الناس عما انغمسوا فيه من الرذائل والشهوات لعدوه من المخبولين.

في عصر الشعراني كان الناس جميعًا يعرفون الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكان المفرط في دينه يكاد يتوارى من الخزي؛ أما في هذا الزمن فالأخلاق كلام في كلام، ولا يجوز لعاقل أن يعامل أحدًا إلا بسند مكتوب.

كان الشعراني يقول:

رأيت جماعة يلبسون الصوف، ويأخذون في أيديهم السبحة، وألسنتهم كالعقارب، وأفواههم كأفواه التماسيح، وبطونهم كالسفن، وهم مع ذلك يدعون الطريق.

وهذه الحال توجد في مصر، ولكن بشكل أبشع، والفرق بين الناس في العصرين: أن المرائين في القرن العاشر كانوا يعرفون بحمل السبح ولبس الصوف، أما المراءون في هذا العصر فيتحدثون كثيرًا عن «الضمير»، ويطوفون طواف الخشوع حول كلمة «الأخلاق» ويلوذون باسم «الوطنية» في أكثر الظروف.

وإذا كان الشعراني شبه ألسنة معاصريه بالعقارب وأفواههم بأفواه التماسيح وبطونهم بالسفن، فإنا نرى ألسنة معاصرينا أمضى حدًّا من عقود الشركات، ونرى أفواههم أخطر من أفواه المدافع، ونرى بطونهم أوسع من المحيط. والله المستعان على أهل هذا الزمان.

أما بعد فقد صورنا المجتمع المصري في القرن العاشر كما رأيناه في كتب الشعراني، وانزلق القلم فصور بعض ملامح المجتمع في العصر الحاضر، وكنا نود أن يسلم القلم من هذا الانزلاق، ولكن واجب البحث قضى بالموازنة بين عهدين عانتهما مصر وشقي بهما المصريون.

وقد جهدت في صرف القلم عن هذه الموازنة، فلم أصل في صده إلى ما كنت أريد، ولعل هذه الوخزات تنفع في تذكير من ظنوا أن المقادير سكتت عنهم فلوثوا المجتمع المصري أقبح تلويث.

فإذا كان القارئ يتشوف إلى كلمة فاصلة في ختام هذا البحث، فإني أذكر أن المصريين في القرن العاشر كانوا يشجعون من يبصرهم بعواقب ما يصنعون. أما المصريون في هذا العصر فلا يسرهم أبدًا أن يذكرهم باحث بواجب الرجال في رعاية العدل.

ألا ترونني أمشي على الشوك وأنا أسطر هذه الكلمات؟

غفرانكم يا أهل «الضمائر» في العصر الحديث!

١  من ذلك رسالة ابن عربي، وقد أشرنا إليها من قبل، ورسالة الشاطبي المسماة (النبذة الجلية، في الألفاظ المصطلح عليها عند الصوفية) ولم نطلع على الرسالة الثانية، ولكن أشار إليها كاتب في جريدة السياسة اليومية بالعدد ٤١٢١.
٢  في كتاب الواسطي المسمى قواعد التصوف — وهو مخطوط بدار الكتب المصرية — فقرات كلها تعريض بالصوفية المزيفين، وذلك تصوير لجوانب من المجتمع الصوفي، وكذلك يقال فيما هجم به الغزالي على أهل زمانه من رجال الصوفية.
٣  انظر ما نقله علي مبارك عن صاحب الدرر المنظمة في الخطط التوفيقية جزء ١٤ صفحة ١٠٩–١١٢.
٤  البحر المورود ص٢٦٦.
٥  جزء ٢ صفحة ٦.
٦  البحر المورود صفحة ٢٧٥.
٧  انظر البحر المورود صفحة ٢٨٣ و٢٨٤.
٨  انظر لواقح الأنوار ص٢٨٨.
٩  صفحة ٢٨٩.
١٠  انظر لطائف المنن ج٢ ص٦.
١١  لطائف المنن ج١ ص٢٣٩.
١٢  البحر المورود ص٣١٤.
١٣  البحر المورود ص٢٦٧.
١٤  اللواقح ص٣٣١ والأشكال التي أنكرها الشعراني على أهل القرن العاشر لا يزال أكثرها حيًّا إلى اليوم.
١٥  نقلنا هذه الأبيات عن كتاب «محاضرة الأبرار» لابن عربي ج٢ ص٢٥٧، ولكنا وجدنا في كتاب «روض الأخيار» ص٦٩ أن عبارة «نسج المسيح» رويت هكذا «لبس المجوس» وإحدى العبارتين محرفة، فإن عثرنا على هذه الأبيات في مكان ثالث استطعنا أن نعرف مكان التحريف.
١٦  لواقح الأنوار ص٢٥٩.
١٧  لواقح الأنوار ص٢٥٩.
١٨  لواقح الأنوار ص٣٤٩ و٣٥٠.
١٩  اللواقح ص٣٣١.
٢٠  اللواقح ص٣٣١.
٢١  انظر تفصيل ذلك في لواقح الأنوار ص٣٣٢.
٢٢  الجديد نوع من النقود وهي لفظة كانت حية إلى مدة قريبة.
٢٣  البحر المورود ص١٠٦.
٢٤  لواقح الأنوار ص١١٦.
٢٥  انظر لطائف المنن ج١ ص٤٢ و١٧٠ وفي صفحة ١٧١ قال: «وكذلك أرسلوا إلي قصة فيها خطبة غريبة في شدة الفصاحة واللغات يسألوني فيها أن أخلص ولد شرف الدين بن الموقع لما أسره جماعة من يهود الجان فأرسلت أقول لهم: اسألوا غيري، فقالوا: قد عجز غيرك عن تخليصه منهم، فكتبت له ورقة يحملها فرجعوا عنه».
ويظهر من هذا أن الخبث ليس خاصًّا باليهود من الأنس، ويظهر أيضًا أن عالم الجن تقع فيه عداوات بين المسلمين واليهود!
ومن الطريف أن نذكر أن الشعراني قال في مقدمة ذلك الكتاب: إن الجني الذي حمل إليه أسئلة الجان كان في صورة كلب أصفر.
والشعراني بلدينا، وأهل بلدنا لا يكذبون!
٢٦  لواقح الأنوار ص٩٨.
٢٧  ذكر الشعراني في لطائف المنن جزء ١ صفحة ٥٦ أن أصحاب الكنوز قد أخذوا العهود على جميع الخدام الموكلين بها أنهم لا يفتحون المطلب قط لمن تدين بدين الإسلام إلا إن كفر بالله. فإن صح أن أحدًا انفتح له ذلك المطلب فلا يكون إلا بعد كفر بالله. ونقل نوادر طريفة عما وقع لبعض حكام مصر في طلب الكنوز، وهي طرائف تقرأ في كتاب الشعراني ولكنها لا تروى في كتابنا؛ لأن ذوق العصر الحاضر لا يقبل كل ما استساغه ذوق القرن العاشر. واختصاص غير المسلمين بفتح الكنوز لم يكن إلا دسيسة أجنبية!
٢٨  البحر المورود ص٩٦.
٢٩  ص٩٥، وبني القراء بعضهم على بعض مرض قديم، أشار إليه الجاحظ في بعض مصنفاته وقال: إن شهادة بعضهم على بعض غير صالحة للقبول؛ وإنما كان ذلك لأنهم كانوا يكتسبون من قراءة القرآن بالألحان. وهم في هذا كالمغنين، فإن المغنين يحقد بعضهم على بعض حقدًا شديدًا، ويتقارضون مآثم الاغتياب بلا تورع ولا تهيب، وهذه البلية ليست خاصة بأهل الفنون، بل هي شائعة شيوعًا قبيحًا بين أهل العلم، وقد سجل الشعراني على علماء عصره أشياء من هذا القبيل، أما تحاسد أهل العلم في العصر الذي نعيش فيه فيشهد بأن الأبناء قد يفوقون الآباء في كثير من الأحيان!
٣٠  البحر المورود ص٥٤.
٣١  لواقح الأنوار ص٩٢.
٣٢  البحر المورود ص٥٧، ومعنى هذا أن الوظائف كانت تؤخذ بوضع اليد، وأنه لم تكن هناك قواعد ثابتة لحفظ المناسب.
٣٣  انظر لواقح الأنوار ص٣٧٨.
٣٤  البحر المورود ص٣٦٦.
٣٥  لواقح الأنوار ص١١٠.
٣٦  ص٢٨٨.
٣٧  ص٩٤.
٣٨  لواقح الأنوار ص١٠٥.
٣٩  ص١٠٦.
٤٠  انظر ما كتبناه عن أدب الشعراني مع الولاة والحكام في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
٤١  البحر المورود ص٣١٢.
٤٢  لواقح الأنوار ص٣٥٤.
٤٣  كان في زاوية الشعراني ثلاثون من العميان، انظر لطائف المنن ج١ ص ٣٣٨.
٤٤  لم يبق عندنا شك في أن الدير هو المثال الذي قامت عليه الزاوية، والتشابه عظيم بين سكان الديارات من الرهبان وسكان الزوايا من الصوفية، وقد زرت دير مار جيوارجيس في الموصل، واختبرت نظامه فرأيت له جناحًا تقيم فيه أسرة فيها رجال ونساء، وهو تجديد في نظام الدير يقربه من نظام الزاوية. والرهبان في الديارات يقومون أحيانًا بتدبير جانب من مصالحهم المعاشية ويعصرون الخمر بأيديهم، وفيهم رقة لا يعرفها الصوفية، وقد كتبنا عدة مقالات في جريدة البلاغ بينا فيها آثارهم في تلوين الأذواق، أذواق من كانوا يأوون إلى دياراتهم من الشعراء.
وكان في رباطات الصوفية ما يشبه أديرة الراهبات: فقد كان رباط البغدادية بالقاهرة تودع فيه النساء اللائي طلقن أو هجرن حتى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن صيانة لهن بفضل ما كان فيه من شدة الضبط وغاية الاحتراز، والمواظبة على وظائف العبادات حتى إن خادمة الفقيرات به كانت لا تمكن أحدًا من استعمال إبريق ببزبوز! وتؤدب من خرج عن الطريق بما تراه.
انظر خطط المقريزي ج٤ صفحة ٢٩٤.
٤٥  قال الشعراني في لطائف المنن ص١٨ ج١: «حمى الله جميع وقف زاويتنا من ظلمة الحكام في مصر والريف، فلا أحد يقف لنا في طريق، مع كوننا لا مرسوم معنا من جهة السلطان». أقول: وهذا الكلام هو في ذاته مريب، وهو على الأقل شاهد على شيوع العف في ذلك الزمان.
٤٦  البحر المورود ص٣٤٨.
٤٧  ظل نظام الزوايا قائمًا في مصر إلى عهد قريب، فقد كان في الزاوية التي يقم فيها الشيخ حسن رضوان ببلدة السريرية نحو خمس مئة من المريدين وكانوا يقيمون فيها ليلًا ونهارًا وكانت الأرزاق تجري عليهم مما يهدى إلى أساتذتهم، وذلك في سنة ١٢٩٥هـ، وحدثنا الأستاذ علي عبد الرازق أن بيت الشيخ القاياتي كان يشبه الزاوية، فكان المريدون يقيمون به وكانت تقدم لهم المطاعم بسخاء مما يساق إلى منزل الشيخ من هدايا المحبين.
وحدثني الأستاذ علي عبد الرازق أيضًا أن القاهرة نفسها لا يزال فيها زوايا السنوسية، ولعل هذا كان قبل السنين الأخيرة التي شغلت الجمهور كله بشواغل سياسية حلت محل الشواغل الصوفية؛ لأن عصبية السياسة جرفت عصبية التصوف، وسلكت المصريين والمتمصرين في نظام واحد: هو نظام الحزبية السياسية.
ويمكن الحكم بأن نظام الزوايا لن يعود؛ لأنه نظام يقوم على «التنبلة»، وإحساس الجمهور أصبح مرهفًا من هذه الناحية، وكل نظام يحاربه الذوق العام مصيره إلى الانقراض، وربما حل بالأديرة ما حل بالزوايا، فالثورة التي قامت في دير المحرق بنواحي أسيوط منذ حين قد تكون نذيرًا بهبوب عواصف تقهر الحكومة على مطاردة هذا النظام العتيق.
٤٨  لطائف المنن ج١ صفحة ١٨.
٤٩  صفحة ٣٥٤.
٥٠  ينبغي أن نشير في هذا الموطن إلى «الخوانق» جمع خانقاه، فقد كانت هي أيضًا مثابة للفقراء، وقد نهى الشعراني عن مزاحمة الفقراء في خبز الخوانق، إلا عند ضيق الرزق (انظر البحر المورود ص٣٠٩).
٥١  فإن سأل القارئ: أين كانت زاوية الشعراني بالقاهرة؟ فإنا نجيب بأن الجامع الذي يعرف باسم الشعراني هو نفسه زاوية الشعراني أنشأه القاضي عبد القادر الأرزبكي نسبة إلى الأمير أرزبك أحد أمراء الجراكسة وجعله مدرسة ووقف عليها أوقافًا كثيرة، ولهذه الأوقاف تفاصيل في خطط علي مبارك باشا ١٤ ص١٠٩–١١٢. والرجوع إلى هذا المصدر ينفع من يهمه أن يعرف كيف نشأ جامع الشعراني أو المدرسة القادرية. وانظر أيضًا ج٤ ص ١٢٧ من المصدر نفسه.
٥٢  لطائف المنن ج١ ص٣٢.
٥٣  البحر المورود ص٣١٤.
٥٤  لطائف المنن ص١٧٦؛ وقد تحدث عن هذه المسألة في لواقح الأنوار ص٩٠، فقال: «فليحذر الشيخ أو العالم من التضحية بما يرسله مشايخ العرب أو الكشاف من نهب غنم البلاد وبقرها، فإن ذلك يزيد في البلاء على أهل المنزل». والكشاف: جمع كاشف.
٥٥  البحر المورود صفحة ٦٨.
٥٦  لطائف المنن ج١ ص٢٠٢.
٥٧  لطائف المنن جزء ١ صفحة ٢٠٤.
٥٨  صفحة ١٦٦.
٥٩  البحر المورود صفحة ٤٠٤.
٦٠  لطائف المنن ج١ صفحة ١٦٧.
٦١  طعام الجمع سماه في البحر المورود: طعام الخميس، وتمام الشهر يقابله اليوم ما يعرف بالأربعين.
٦٢  لواقح الأنوار صفحة ٣٣٠.
٦٣  لواقح الأنوار صفحة ٣٣٠.
٦٤  انظر البحر المورود صفحة ٢٨١.
٦٥  لواقح الأنوار صفحة ٢٨٤.
٦٦  البحر المورود صفحة ٣٠٣.
٦٧  صفحة ٣١٥.
٦٨  لواقح الأنوار صفحة ٣٤٧.
٦٩  لواقح الأنوار صفحة ٣٤٨.
٧٠  صفحة ٣٥٤.
٧١  صفحة ٣٠٨.
٧٢  البحر المورود صفحة ٣١٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤