خاتمة الجزء الأول

بقلم  زكي مبارك
نريد بالخاتمة ما يسميه الفرنسيون Conclusion.

ولم يكن بدٌّ من أن نقف عند خاتمة هذا الجزء وقفة قصيرة، بعد إذ تعرف القارئ إلينا وتعرفنا إليه، وبعد إذ أنس بنا بعض الأنس، وأنسنا به كل الأنس، فلعله كان في حيرة وهو يقرأ فاتحة الكتاب، وكيف لا يحار وهو يرانا نتوعر في شعاب وأدغال لم يسلكها أحد من قبل، ولعل حيرته زادت وهو ينظر فيرى المؤلف ينتقل من الصعب إلى الأصعب في اقتحام المضايق الصوفية، ولكنا نرجو وقد صبر القارئ على مطالعة المئات من الصفحات أن يكون اطمأن إلى أن الصوفية كان لهم أدب خاص يستحق الدرس، ويوجب على الباحثين أن ينفقوا فيه الأعوام الطوال.

ونستطيع أن نحكم بأن القارئ قد وثق بأن الأدب الصوفي له لون خاص، فهو أدب الفكرة، هو الأدب المحمل بالمعاني الفلسفية، هو أدب قوم كانوا لا يخطون خطوة إلا بوحي من الفكرة الأخلاقية، ولم يكن الأدب عندهم صناعة، وإنما كان وسيلة من وسائل التعبير عن أزمات النفوس وخواطر القلوب.

وهذا الفن من الأدب لا يصلح لكل قارئ، وإنما يصلح للقارئ الذي يدخل إليه بنية كما يدخل إلى المحراب، هو كالطعام الدسم الذي لا تحتمله غير أمعاء الأقوياء، هو كالنور الذي تعجز عنه العيون الرمد، ولا يستطيع مواجهته غير أصحاء البصائر والأبصار.

وآية ذلك أن القارئ يشعر بعد الصفحات الماضية أنه خلق خلقًا جديدًا، وأنه اطلع على آفاق من الفكر والبيان لم يكن له بها عهد، وأنه أصبح يؤمن بأن بينه وبين ألوان الوجود صلة روحية وعقلية لم يتنبه إليها قبل اليوم.

ومن المؤكد أن الصفحات الماضية أقنعت القارئ بأن الأدب لم يكن دائمًا مادة لهو وفتنة وعبث ومجون، وإنما كان في بعض نواحيه مادة فكر وعقل ووجدان.

ولا بد أن يكون عرف أن القارئ مسئول عن نقد ما يقرأ، وأن من المفروض عليه أن يتزود بثقافة علمية ولغوية وعقلية قبل أن يواجه آثار الرجال.

ولا بد أن يكون تنبه إلى أنه من الجهل أن تقصر الآثار الأدبية على ما يفتن الحواس من أقوال الكتاب والخطباء والشعراء، وأنه من العار أن يخلو تاريخ الأدب العربي من الحديث عن الكتاب والشعراء والخطباء الذين قصروا أعمارهم على الدراسات الفلسفية والأخلاقية، فالأدب في الأصل هو صورة العقل والقلب والوجدان، وإن قصره ناس على الأوصاف والتشبيهات والمجازات والنسيب ومأثور الحكم والأمثال.

وإذا كان الصوفية شغلوا في أدبهم عن الزخرف والبريق فلهم عذر مقبول، فقد كانت لهم مسالك تبغض الزخرف، وتنفر من البريق؛ لأنهم أرادوا أن يسجلوا ثورات الخواطر والنفوس والقلوب تسجيلًا أمينًا، وذلك لا يتم لمن يشغل بغير المعاني.

ونحن لم نفتر على التاريخ حين قررنا أن الصوفية كان لهم أدب رائع، فقد كان أسلافنا يعرفون ذلك منذ الصدر الأول، وكانت كتب الأدب تزخر بما أثر عنهم من فقرات وأسجاع، ولم يسكت المؤلفون عن أقوال الصوفية إلا حين شاع الفساد، واصطلح الناس على أن الأدب هو المأثور من النثر والشعر في ميادين التشبيهات والأوصاف وأخبار المغنين والظرفاء.

ويعز علينا أن نصرح بأن الصلة بيننا وبين ماضينا كادت تنقطع كل الانقطاع، فمن الذي يقرأ كتب الغزالي ويعرف من سفيان حين ينقل الغزالي عن سفيان؟

وسفيان الذي يجهله أهل هذا العصر هو سفيان الذي حكم ياقوت بأن اسمه حي إلى يوم القيامة، فمن هو؟ وفي أي موطن تكلم عليه ياقوت؟

هو سفيان بن سعيد الثوري الذي اهتم به الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الورع، والذي قال فيه علي بن ثابت: لو أن معك فلسين تريد أن تتصدق بهما ثم رأيت سفيان وأنت لا تعرفه لظننت أنك لا تمتنع من أن تضعهما في يده، وما رأيت سفيان في صدر مجلس قط، كان يقعد إلى جانب الحائط ويجمع بين ركبتيه. ورأيت سفيان في طريق مكة فقومت كل ما عليه بدرهم وأربعة دوانيق.

وسفيان هذا عظيم وإن جهله أبناء هذا الجيل.

وأمه كانت عظيمة، فقد قالت له: يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي.

وكان سفيان شديد الجزع على مصاير الناس، وكان يبول الدم حين يرى ما ينكره على بني آدم؛ حدث سعيد بن صدقة بن المهلهل قال: اليوم الذي كنت أرى فيه سفيان الثوري كنت قرير العين، فأبطأت عنه أيامًا ثم أتيته فقال لي: يا أبا مهلهل، ما أبطأ بك عنا؟ ثم أخذ يدي فأخرجني إلى الجبانة فاعتزلنا ناحية عن طريق الناس فبكى ثم قال: يا أبا مهلهل، قد كنت قبل اليوم أكره الموت، فقلبي اليوم يتمنى الموت وإن لم ينطق به لساني. فقلت: ولم ذلك؟ فقال: لتغير الناس وفسادهم، ثم قال لي: إن استطعت أن لا تخالط في زمانك هذا أحدًا فافعل، وليكن همك مرمة جهازك، واحذر إتيان هؤلاء الأمراء، وارغب إلى الله في حوائجك إليه، وافزع إليه فيما ينوبك، وعليك بالاستغناء عن جميع الناس. وارفع حوائجك إلى من لا تعظم عنده الحوائج، فوالله ما أعلم اليوم بالكوفة أحدًا لو فزعت إليه في قرض عشرة دارهم أقرضني ثم كتمها علي، يذهب ويجيء ويقول: جاءني سفيان فاستقرضني فأقرضته!

وهذا الحديث الخالي من الزخرف والبريق هو غاية الغايات في عذوبة البيان فقد فضح بني آدم، عفا الله عنهم، ورماهم بما هم له أهل، فمن ذا الذي تثق به وتعتمد عليه ثم يعفيك من المن والاستطالة والكبرياء.

وأدباء الصوفية هم الذين رحموا تاريخ الأدب العربي من تلك الوصمة وصمة التزلف بالمديح إلى الملوك والرؤساء والأمراء والوزراء، هم الذين استطاعوا أن يكدروا الحياة على المتحكمين والمسيطرين فكان الخلفاء والملوك يحسبون لهم ألف حساب، وكان من الخلفاء من يزهد في الحج حتى لا يتعرض له بعض الواعظين. وسيرى القارئ شواهد ذلك حين نتكلم في الجزء الثاني عن الشجاعة الأدبية.

أدباء الصوفية هم الذين جعلوا السلامة من باب السلطان كالسلامة من باب الطبيب، فكانت عندهم سلامة الأرواح فوق سلامة الأبدان.

أدباء الصوفية هم الذين عطروا الأدب العربي بأريج الكرامة والعزة والصيانة والعفاف، وهم الذين وصلوا المشرق بالمغرب وحفظوا الإسلام بإذاعة المعاني الروحية والذوقية، وهم الذين جعلوا الأدب ترجمان المنطق والعقل، ولم يقفوه على الحس والخيال كما صنع أكثر الأدباء في عصر بني العباس.

•••

بدأنا فحدثنا القارئ عما نريد من التصوف، وقلنا: إننا سنقف عند المعنى المصطلح عليه، وإن كنا نجزم بأن التصوف قد يكون في الحب والمودة والولاء والسياسة، وذكرنا لذلك شواهد من الأدب والتاريخ، ثم أشرنا إلى أن الزهد يكون في قلوب الأغنياء، كما يكون في قلوب الفقراء. وتحدثنا عن الشخصية الأدبية والشخصية الخلقية، وبينا كيف يكون التصوف في الأدب وكيف يكون في الأخلاق، ثم تكلمنا على المصادر ومنهج التأليف وأغراض الكتاب.

ومضينا فتحدثنا عن قدم التصوف في الجزيرة العربية، ودلالة الصوف على التواضع والخشونة وصورته في الأخيلة الشعبية، وبينا أن الصوفية نقلوا لبس الصوف عن المسيح والرهبان، وأشرنا إلى أن كلمة (راهب) كانت كلمة محترمة وذكرنا شواهد ذلك، ولو شئنا لأضفنا إلى ما ذكرناه هناك أنها وردت في كتاب الورع،١ فقد وصف حسين الجعفي بأنه كان يشبه الراهب، وقيل في عبد الله بن المبارك: إنه كان يقوم الليل حين ينام راهب الرهبان،٢ وبينا خطأ الرأي الذي يقول: برجع كلمة التصوف إلى كلمة (سوفيا) اليونانية، وافترضنا أن تكون كلمة (سوفيا) منقولة عن كلمة (صوف) وليس ذلك ببعيد.

ثم أخذنا في الكلام على التصوف في الأدب فذكرنا الفرق بين النظرة الأدبية والنظرة الخلقية، وأشرنا إلى اهتمام المؤلفين بأدب النساك وحرص الصوفية على الثقافة الأدبية، وعرضنا نماذج من اصطلاحات الصوفية وألفاظهم في التعبير عن بعض المعاني المعاشية والاجتماعية، ونصصنا على مذهبهم في إيثار الغموض، وفصلنا القول فيما اتهموا به من التجني على الشعر والشعراء، واهتممنا بتوجيه القارئ إلى فهم أدب الصوفية.

ثم نظرنا فرأينا الأدب الصوفي كانت له طلائع هي الزهديات، فتكلمنا على زهديات أبي نواس وأبي العتاهية والشريف الرضي بشيء من التفصيل، وانتقلنا فتكلمنا عما في الأدب الصوفي من الذخائر المنسية، وحكمنا بأن الأدب الصوفي هو أدب المعاني، وسقنا شواهد لما جاء في وصف الدنيا من الأخيلة الأدبية.

ثم أقبلنا على صميم الأدب الصوفي فدرسنا حكم ابن عطاء الله السكندري وبينا خصائصها الأدبية والصوفية، وانتقلنا إلى الحديث عن مكانة ابن عربي في الأدب والتصوف، وقد وقفنا عنده وقفة طويلة؛ لأنه من أشهر القائلين بوحدة الوجود.

وقد درسنا هذه النظرية من جميع نواحيها درسًا لم تعرفه اللغة العربية قبل اليوم، وكان في النية أن نعرض ما قاله فيها الشعراء والكتاب في غير اللغة العربية، ولكنا خشينا أن يكون في الإسهاب ما يوقع القارئ في أودية الضلال، وإنا لواثقون بأن القارئ سيجد فيما كتبناه ما يغنيه عن الرجوع إلى غيرنا من الباحثين، إلا إن أراد استقصاء ما قيل في هذه النظرية من المردود والمقبول.

وانطلقنا فتحدثنا عن الحلاج، وهو أشهر من استشهدوا في سبيل هذه النظرية، ولم نتحدث عن الحلاج من جميع نواحيه، فقد سبقنا إلى ذلك أستاذنا ماسينيون، وإنما اكتفينا بتصوير مذهبه، وما كان له من أصول في النظريات النصرانية، وعرضنا مصرعه الأليم بأسلوب حزين هو صورة من التوجع لما صار إليه ذلك الفيلسوف الشهيد.

وكتبنا فصلًا عن الجيلاني عبد الكريم الذي اهتدى إلى سر النظرية وهو الحكم بأن العاصي والمطيع أمام الحق سواء، وقد بينا ما له وما عليه بطريقة بريئة من التحامل والإسراف.

•••

ثم رجعنا إلى صميم الأدب الصوفي مرة ثانية فتكلمنا على المنظومات الصوفية، أمثال منظومات ابن عربي ومنظومات اليافعي وأشعار النابلسي ومنظومات حسن رضوان، وعقدنا فصلًا للكلام على المدائح النبوية بينا فيه أسرار الغلو في مدح الرسول، وهو فصل يعد من عيون هذا الكتاب.

ومضينا فتكلمنا على الهيام في حب الله، وخصصنا أشواق ابن الفارض بحديث مستفيض؛ لأنه من أشهر الهائمين، ومن أصدق القائلين: بوحدة الوجود.

ثم رأينا أن نبين كيف نتخذ كتب التصوف أساسًا لفهم المجتمعات الإسلامية، واللهجات العربية، فكتبنا في ذلك فصلين نرجو أن يقعا من القارئ موقع القبول.

وختمنا الجزء الأول بفصل بينا فيه أثر التصوف في الفنون، وهو فصل وجيز، ولكن فيه توجيه سينتفع به بعض الناس.

•••

أما بعد فهذه خلاصة الجزء الأول وهي تذييل للفصل الذي سبق في عرض أغراض الكتاب، وهي تغني بعض الإغناء عن الفهرس المفصل الذي يبين عناصر الكتاب قطعة قطعة كما صنعنا حين فهرسنا كتاب النثر الفني.

والواقع أن القارئ لن يتعرف إلى مؤلف هذا الكتاب إلا إن مشى معه خطوة خطوة من البداية إلى النهاية، فموضوع هذا الكتاب لا يستوعب في أسبوعين ولا في شهرين، ومن العسير أن تهضم هذه النظريات إلا إن أعد لها القارئ عدة كافية من الفهم والعقل والذوق.

والمؤلف يعترف بأنه قضى سنين في الاستعداد لتأليف هذا الكتاب، وهو لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بمعونة الله، ومعونة الصبر، ومعونة أساتذته في الجامعة المصرية وجامعة باريس، جزاهم الله عنه خير الجزاء.

ولا بد من النص على أن مؤلف هذا الكتاب آثر الرمز والإيماء في كثير من الأحيان؛ لأنه خاض في موضوعات قد تجره إلى متاعب لو فطن إليها الأغبياء.

فليفهم القارئ ذلك، وليعرف أن موضوعات هذا الكتاب بما فيها من تصريح وتلميح لا تصلح لأن تكون مما يمضغه أحلاس الأندية والقهوات من أدعياء العلم والأدب والبيان.

ومعاذ الذوق والعقل أن نتهم أهل هذا العصر بضيق الذهن والجمود، ولكنا نرجوهم أن يتقوا الله فينا، فما كنا باغين ولا عادين ولا آثمين، وقد كفانا ما قاسينا منذ ظهور كتاب (الأخلاق عند الغزالي) إلى اليوم، فما رحمنا حاسد ولا حاقد من تهمة الإثم والبغي والعدوان:

على أنني راض بأن أحمل الهوى
وأخرج منه لا عليَّ ولا ليا
١  ص٧٦.
٢  ٧٥ وكانوا يسمون الحسن البصري (القس).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤