الشجاعة الأدبية

حب الدنيا هو أصل الجبن

الشجاعة من أشرف مناقب الرجال، وهي من أظهر شمائل الصوفية، وإنما كان الصوفية من الشجعان لأنهم استهانوا بالدنيا، وزهدوا في طيبات العيش. وحب الدنيا والعيش أصل الجبن والخضوع، وما أحب رجل الدنيا إلا ذل، ورأى السلامة في التلمق والرياء.

وكيف لا يشجع من يتخلق بأدب أبي حازم إذ يقول: إنما بيني وبين الملوك يوم واحد، أما أمس فلا يجدون لذته، وأنا وهم من غدٍ على وجل، وإنما هو اليوم، فما عسى أن يكون اليوم؟١

شجاعة بنان الحمال

ولولا الشجاعة ما استطاع بنان الحمال أن يقدم على ما فعل يوم قام إلى وزير خمارويه فأنزله عن دابته، وكان نصرانيًا، وقال: لا تركب الخيل ويلزمك ما هو مأخوذ عليكم في ملتكم.٢

أعرابي ينصح سليمان بن عبد الملك

ولولا الاستهانة بالعواقب ما استطاع رجل أن يقول لسليمان بن عبد الملك:
سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن، تأدية لحق الله تعالى، إنه قد اكتنف رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، وخافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة، وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعًا، والأمة كسفًا وخسفًا، وأنت مسئول عما اجترموا، وليسوا مسئولين عما اجترمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس عند الله غبنًا من باع آخرته بدنيا غيره.٣

شعيب بن حرب والرشيد

وكان الصوفية يحسبون أنفسهم مسئولين عن تذكير الملوك، يدل على ذلك قول شعيب بن حرب:
بينا أنا في طريق مكنة إذ رأيت هارون الرشيد فقلت لنفسي: قد وجب عليك الأمر والنهي، فقالت لي: لا تفعل، فإن هذا رجل جبار، ومتى أمرته ضرب عنقك، فقلت لنفسي: لا بد من ذلك، فلما دنا مني صحت: يا هارون! قد أتعبت الأمة، وأتعبت البهائم! فقال: خذوه! فأدخلت عليه وهو على كرسي وبيده عمود يلعب به، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من أفناء الناس، فقال: ممن؟ ثكلتك أمك! قلت: من الأبناء، قال: فما حملك على أن تدعوني باسمي؟ قال شعيب: فورد على قلبي كلمة ما خطرت لي قط على بال. فقلت له: أنا أدعو الله باسمه فأقول: يا الله، يا رحمن، ولا أدعوك باسمك؟ وما تنكر من دعائي باسمك؟ وقد رأيت الله سمّى في كتابه أحب الخلق إليه محمدًا، وكنى أبغض الخلق إليه أبا لهب فقال: تبت يدا أبي لهب! فقال هارون: أخرجوه، فأخرجوني.٤

وشعيب هذا صادق فيما حدث به، وهذا الصدق يرشدنا إلى ما كان يعرف عن الصوفية أحيانًا من الحذلقة والتكلف، وإلا فما معنى هذه التهمة الجوفاء: يا هارون، قد أتعبت الأمة، وأتعبت البهائم!

وقد اتفق أن خطب المنصور فحمد الله ومضى في كلامه، فلما انتهى إلى (أشهد أن لا إله إلا الله) وثب رجل من أقصى المسجد، فقال: أذكرك من تذكر! فقال المنصور: سمعًا لمن فهم عن الله وذكّر به، وأعوذ بالله أن أكون جبارًا عصيًا، وأن تأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، وأنت والله أيها القائل ما أردت بها الله، ولكن حاولت أن يقال قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بقائلها لو هممت، فاهتبلها ويلك إذا عفوت، وإياكم معشر الناس وأختها، فإن الموعظة علينا نزلت، ومن عندنا انبثت، فردوا الأمر إلى أهله يصدروه كما أوردوه.٥

وهذا الخبر يفهمنا أنه كانت هناك وثبات للواعظين، وأن الخلفاء كانوا يعرفون ذلك، وأنه كان من لذات بعض الناس أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر.

والحق أنه يعسر الاطمئنان إلى صدق الشجاعة الأدبية في جميع الأحوال، فهي في بعض الأحيان زهو وخيلاء، والإثم فيها أكبر من النفع، وهي كسائر الفضائل عرضة للرياء، والرياء يمحق جلائل الأعمال.

الفضيل بن عياض

ومن المؤكد أن الصوفية لم يكونوا جميعًا مرائين، فلأكثرهم مقامات جمعت بين الشجاعة والصدق، ومن شواهد ذلك ما صنع الفضيل بن عياض مع الرشيد، فقد ذهب الرشيد لزيارته ليلًا مع الفضل بن الربيع، فلما وصلا إلى بابه سمعاه يقرأ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ فقال الرشيد للفضل: إن انتفعنا بشيء فبهذا. فناداه الفضل: أجب أمير المؤمنين. فقال: وما يعمل عندي أمير المؤمنين؟ قال الفضل فقلت: سبحان الله! أما له عليك طاعة؟ فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت، فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف أمير المؤمنين قبلي إليه. فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله عز وجل! فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام من قلب تقي. فقال له: خذ فيما جئناك له رحمك الله! فقال له: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة. فقال له سالم ابن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن فطرك منها الموت. وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبًا، وأوسطهم عندك أخًا، وأصغرهم عندك ابنًا، فوقِّر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك. وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت.

وإني أقول لك يا هارون: إني أخاف عليك أشد الخوف يومًا تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاء شديدًا حتى غشي عليه.

قال الفضل فقلت: ارفق بأمير المؤمنين! فقال: تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا؟

ثم أفاق. فقال له: زدني رحمك الله. فقال له: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملًا لعمر ابن عبد العزيز شكا إليه، فكتب إليه: يا أخي، أذكرك بسهر أهل النار في النار مع خلود الأبد. وإياك أن يُنصرف بك من عند الله عز وجل فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء. فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل.

قال: فبكى هارون بكاءًا شديدًا ثم قال له: زدني يرحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، أمِّرني على إمارة، فقال له: يا عم، إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرًا فافعل.

فبكى هارون بكاء شديدًا، وقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه فافعل، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك.

فبكى هارون وقال له: هل عليك دَين؟ فقال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي. قال الرشيد: إنما أعنى دَين العباد. فقال الفضيل: إن ربي لم يأمرني بهذا، وقد قال عز وجل: إن الله هو الرزاق. فقال له الرشيد: هذه ألف دينار خذها وأنفقها على عيالك، وتقوَّ بها على عبادتك، فقال: سبحان الله! أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا؟٦

العمري

ومن طريف المواقف ما حدث به سعيد بن سليمان قال:

كنت بمكة وإلى جانبي عبد الله بن عبد العزيز العمري، وقد حج هارون الرشيد وقال له إنسان: يا أبا عبد الله، هو ذا أمير المؤمنين يسعى، وقد أُخليَ له المسعى، قال العمري للرجل: لا جزاك الله عني خيرًا، كلفتني أمرًا كنت عنه غنيًا. ثم قام فتبعه، فأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا، فصاح به: هارون! فلما نظر إليه قال: لبيك يا عمري! قال: ارق الصفا، فلما رقاهًا قال: ارم بطرفك إلى البيت، قال هارون: قد فعلت. قال: كم هم؟ قال: ومن يحصيهم؟ قال: فكم في الناس مثلهم؟ قال: خلق لا يحصيهم إلا الله! قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يُسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون! — فبكى هارون — فقال العمري: وأخرى أقولها. قال: قل يا عم! قال: والله إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين!

قال البغوي: فبلغني أن هارون الرشيد كان يقول: إني لأحب أن أحج كل سنة ما يمنعني إلا رجل من ولد عمر يسمعني ما أكره.٧
وقريب من هذا المقام في الخشونة والصدق ما كان بين أبي حازم وسليمان بن عبد الملك، فقد حج سليمان وبعث إلى أبي حازم حين قدم المدينة للزيارة، فلما دخل قال: تكلم، يا أبا حازم، قال: فيم أتكلم، يا أمير المؤمنين؟ قال: في المخرج من هذا الأمر. قال: يسير، إن فعلته! قال: وما ذاك؟ قال: لا تأخذ الأشياء إلا من حلها، ولا تضعها إلا في أهلها. قال: ومن يقوى ذلك؟ قال: من قلده الله من أمر الرعية ما قلدك! قال: عظني يا أبا حازم. قال: اعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا بموت من كان قبلك، وهو خارج من يديك، بمثل ما صار إليك. قال: يا أبا حازم، أشر عليّ، قال: إنما أنت سوق، فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر، فاختر أيهما شئت! قال: ما لك لا تأتينا؟ قال: وما أصنع بإتيانك يا أمير المؤمنين، إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني أخزيتني، وليس عندك ما أرجوك له، ولا عندي ما أخافك عليه! قال: فارفع إلينا حاجتك. قال: قد رفعتها إلى من هو أقدر منك عليها، فما أعطاني منها قبلت، وما منعني منها رضيت.٨

ابن السماك

وكان في الزهاد من يغرب في الوعظ حتى يصل إلى الإسفاف في الصورة واللفظ، فقد قال الرشيد لابن السماك: عظني — وأتى بماء ليشربه — فقال: يا أمير المؤمنين! لو حبست عنك هذه الشربة، أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم! قال: فلو حبس عنك خروجها أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم! قال: فما خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة.٩
وهذه الغلظة أعقبت بكلمات أطيب من المسك، فقد قال الرشيد: يا ابن السماك، ما أحسن ما بلغني عنك! فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي عيوبًا لو اطَّلع الناس منها على عيب واحد ما ثبتت لي في قلب واحد مودّة، وإني لخائف في الكلام الفتنة، وفي السر الغرة، وإني لخائف على نفسي من قلة خوفي عليها.١٠

صالح بن عبد الجليل

والواقع أن مقامات الزهاد عند الخلفاء والملوك تدل على أمرين: الأول: شجاعة أولئك الزهاد، وقدرتهم على الجهر بكلمة الحق، والثاني: صلاحية بعض الخلفاء والملوك لاستماع نصح الناصحين من أهل البر والتقوى، وإقبالهم على من ينهاهم عن المنكر ويأمرهم بالمعروف، يدل على ذلك قول صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي:
إنه لما سهل علينا ما توعَّر على غيرنا من الوصول إليك، قمنا مقام الأداء عنهم، وعن رسول الله بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهى عند انقطاع عذر الكتمان، ولا سيما حين اتسمت بميسم التواضع، ووعدت الله وحملة كتابه إيثار الحق على ما سواه، فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التمحيص ليتم مؤدينا على موعود الأداء، وقابلنا على موعود القبول، أو يزيدنا تمحيص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية ويحلّينا حلية الكذابين، فقد كان أصحاب رسول الله يقولون: من حجب الله عنه العلم عذبه على الجهل، وأشد منه عذابًا من أقبل إليه العلم وأدبر عنه. ومن أهدى الله إليه علمًا فلم يعمل به فقد رغب عن هدية الله وقصر بها، فاقبل ما أهدى الله إليك من ألسنتنا قبول تحقيق، وعمل لا قبول سمعة ورياء، فإنه لا يعدمك منا إعلام لما تجهل، أو مواطأة على ما تعلم، أو تذكير من غفلة … أطلع الله على قلبك ما ينوره من إيثار الحق ومنابذة الأهواء.١١

وكلام صالح هذا فيه تصريح بأن الزهاد كان يسهل عليهم ما يتوعر على غيرهم من الوصول إلى الخلفاء، وفيه كذلك تصريح بأن من المواعظ ما كان يقبله الخلفاء قبول سمعة ورياء، ومعنى هذا أن تقريب الزهاد كان من السياسة قبل أن يكون من الدين، أو هو مزاج من السياسة والدين، وهذا الملحظ قد يحط من شجاعة الزهاد وإخلاص الخلفاء، ولكن لا ريب في أن هذه المظاهر فيها خير ملموس، والزهاد لا يصلون إلى هذه المواطن إلا بعد أن يكونوا استطاعوا تثبيت سلطتهم الروحية، والخلفاء لا يستقدمون الزهاد ليسمعوا مواعظهم إلا وفي قلوبهم شيء من عناصر الرشد وأصول الاهتداء.

عمرو بن عبيد

غير أن هذه الوصولية السياسية لم تطَّرد في جميع المقامات، فقد كان المنصور يعرف عمرو بن عبيد قبل أن يتولى الخلافة، وكان يعتقد أنه على جانب عظيم من الصدق والإخلاص، فكان يستقدمه لينتفع برأيه، وإن كان ذلك لا يمنع أنه كان يسرُّ بأن يقال إنه انتفع بمواعظ عمرو بن عبيد، والضمائر لا يعرفها إلا علام الغيوب.

ولنسق حديث ابن عبيد مع المنصور، فهو نموذج في الأدب وفي الأخلاق:

حدث إسحاق بن المفضل الهاشمي قال: إني لعلى باب المنصور يومًا وإلى جنبي عمارة بن حمزة إذ طلع عمرو بن عبيد على حمار، فنزل عن حماره ثم دفع البساط برجله وجلس دونه، فالتفت إلي عمارة وقال: لا تزال بصرتكم ترمينا منها بأحمق! فما فصل كلامه من فيه حتى خرج الربيع، وهو يقول: أبو عثمان عمرو بن عبيد، قال: فوالله ما دل على نفسه حتى أرشد إليه، فأتكأه يده، ثم قال له: أجب أمير المؤمنين، جعلت فداك! فمرمتكئًا عليه، فالتفت إلى عمارة فقلت له: إن الرجل الذي استحمقته قد أدخل وتُركنا، فقال: كثيرًا ما يكون ذلك، فأطال اللبث، ثم خرج الربيع وهو متوكئ عليه والربيع يقول: يا غلام، حمار أبي عثمان، فما برح حتى أتى بالحمار، فأقره على سرجه، وضم إليه نشر ثوبه، واستودعه الله. فأقبل عمارة على الربيع، فقال: لقد فعلتم اليوم بهذا الرجل ما لو فعلتموه بولي عهدكم لقضيتم ذمامه! قال: فما غاب عنك مما فُعل به أكثر وأعجب! قال عمارة: فإن اتسع لك الحديث فحدثنا، فقال الربيع: ما هو إلا أن سمع الخليفة بمكانه فما أمهل حتى أمر بمجلس ففرش لبودًا، ثم انتقل إليه والمهدي معه عليه سواده وسيفه، ثم إذن له. فلما دخل عليه سلَّم بالخلافة فرد عليه، وما زال يدنيه حتى أتكأه فخذه وتحفى به، ثم سأله عن نفسه وعن عياله يسميهم رجلًا رجلًا وامرأة امرأة، ثم قال: يا أبا عثمان، عظنا. فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ومر فيها إلى آخرها وقال: إن ربك يا أبا جعفر لبالمرصاد. قال: فبكى المنصور بكاءً شديدًا كأنه لم يسمع تلك الآيات إلا تلك الساعة، ثم قال: زدني. فقال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها، واعلم أن هذا الأمر الذي صار إليك إنما كان في يد من كان قبلك ثم أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إلى من هو بعدك، وإني أحذرك ليلة تمخض صبيحتها عن يوم القيامة. قال: فبكى أشد من بكائه الأول حتى رجف جنباه. وفي رواية أخرى أنه لما انتهى إلى آخر السورة قال: يا أمير المؤمنين، إن ربك لبالمرصاد لمن عمل مثل عملهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم، فاتق الله فإن من وراء بابك نيرانًا تأجج من الجور، ما يعمل فيها بكتاب الله، ولا بسنة رسوله، فقال: يا أبا عثمان، إنا لنكتب إليهم في الطوامير نأمرهم بالعمل بالكتاب، فإن لم يفعلوا فما عسى أن أصنع؟ فقال له: مثل أذن الفأرة يجزيك من الطوامير، الله، أتكتب إليهم في حاجة نفسك فينفذونها وتكتب إليهم في حاجة الله فلا ينفذونها؟ والله لو لم ترض من عمالك إلا رضا الله إذن لتقرب إليك من لا نية له فيه.

وكان في المجلس سليمان بن مجالد فقال: رفقًا بأمير المؤمنين؛ فقد أتعبته منذ اليوم.

فقال له عمرو بن عبيد: بمثلك ضاع الأمر وانتشر، لا أبا لك، وماذا على أمير المؤمنين أن بكى من خشية الله!

وفي رواية أخرى أن سليمان بن مجالد لما قال له ذلك رفع عمرو رأسه فقال له: من أنت؟ فقال أبو جعفر: أولا تعرفه، يا أبا عثمان؟ قال: لا، ولا أبالي أن لا أعرفه! فقال له: هذا أخوك سليمان بن مجالد. فقال: هذا أخو الشيطان! ويلك، يا ابن مجالد، خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين، ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد نصيحته. يا أمير المؤمنين، إن هؤلاء اتخذوك سلمًا لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب! فاتق الله فإنك ميت وحدك، ومحاسب وحدك، ومبعوث وحدك، ولن يغني عنك هؤلاء من ربك شيئًا.

فقال له المنصور: يا أبا عثمان، أعنِّى بأصحابك أستغن بهم. فقال له: أظهر الحق يتبعك أهله.

ثم قال المنصور: بلغني أن محمد بن عبد الله بن الحسن كتب إليك كتابًا. فقال: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه. قال: فبماذا أجبته؟ قال: أولست قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا وأني لا أراه؟ قال: أجل. ولكن تحلف ليطمئن قلبي. قال: لئن كذبتك تقية لأحلفن لك تقية! فقال المنصور: أنت الصادق البار، وقد أمرت لك بعشرة آلاف درهم تستعين بها على زمانك. فقال: لا حاجة لي فيها، فقال المنصور: والله لتأخذنها، فقال عمرو: والله لا آخذنها، فقال له المهدي: يحلف أمير المؤمنين وتحلف؟ فأقبل عمرو على المنصور وقال: من هذا الفتى؟ فقال: هذا ابني محمد، وهو المهدي وليّ العهد، فقال: والله لقد سميته اسمًا ما استحقه بعمل وألبسته لبوسًا ما هو لَبوس الأبرار. ولقد مهدت له أمرًا أمتع ما يكون أشغل ما تكون عنه.

ثم قال المنصور: يا أبا عثمان، هل من حاجة؟ قال: نعم، يرفع هذا الطيلسان عني — وكان المنصور طرح عليه طيلسانًا حين دخل عليه.

ثم قال له المنصور: لا تدع إتياننا، يا أبا عثمان.

فقال: نعم، لا يضمني وإياك بلد إلا دخلت إليك، ولا بدت لي حاجة إلا سألتك، ولكن لا تعطني حتى أسألك، ولا تدعني حتى آتيك!

فقال المنصور: إذن لا تأتينا أبدًا!

ثم ودّع المنصور ونهض، فلما ولّى أتبعه بصره وأنشأ يقول:

كلكم طالب صيد
كلكم يمشي رويد
غير عمرو بن عبيد
ونحن مطمئنون إلى صدق ابن عبيد في النصح وصدق المنصور في الاستماع، وللملوك لحظات ينسون فيها الوصولية السياسية وينصتون إلى صوت الوجدان.١٢

أحزاب المعارضين وسياستهم في اختراع النصائح

والظاهر أن المنصور كان من الشخصيات المعروفة بالتسامح، فقد رأينا آنفًا كيف يقف رجل فيذكره بالله وهو يخطب، وقد ذكر ابن قتيبة أنه سمع وهو يطوف ليلًا قائلًا يقول: «اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع».

فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلى الرجل ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة فقال له المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فوالله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني.١٣

فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن أمّنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها، وإلا احتجزت منك واقتصرت على نفسي ففيها لي شاغل، فقال المنصور: أنت آمن فقل، فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين ما ظهر من البغي والفساد لأنت!

فقال المنصور: ويحك! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟

فقال الرجل: وهل دخل أحدًا من الطمع ما دخلك؟ إن الله تبارك وتعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجصّ والآجرّ، وأبوابًا من الحديد وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها عنهم، وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعها، وقويتهم بالرجال والسلاح والكراع، وأمرت بأن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم، ولا الملهوف ولا الجائع العاري، ولا الضعيف الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرت أن لا يحجبوا عنك، تجبي١٤ الأموال وتجمعها ولا تقسمها، قالوا: هذا قد خان الله، فما بالنا لا نخونه، وقد سجن لنا نفسه؟ فائتمروا بأن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا خونوه عندك، ونفوه حتى تسقط منزلته، ويصغر قدره. فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمتهم الناس وهابوهم فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك. ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيًا وفسادًا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل. فإن جاء متظلم حيل بينه وبين دخول مدينتك، وإن أراد رفع قصته إليك ن ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلًا ينظر في مظالمهم، فإن جاء الرجل فبلغ بطانتك خبره سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك، فإن المتظلم منه له بهم حرمة، فأجابهم خوفًا منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث، وهو يدفعه ويعتل عليه، فإذا أُجْهِد وأحرح وظهرت صرخ بين يديك فضرب ضربًا مبرحًا ليكون نكالًا لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر، فما بقاء الإسلام على هذا! وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكها بسمعه، فبكى يومًا بكاءً شديدًا، فحثه جلساؤه على الصبر فقال: أما إني لست أبكي للبلية النازلة بي، ولكني أبكي لمظلوم بالباب يصرخ ولا أسمع صوته، ثم قال: أما إذ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبًا أحمر إلا متظلم، ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره، وينظر: هل يرى مظلومًا؟ فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين شح نفسه، وأنت مؤمن بالله، ثم من أهل بيت النبي ولا تغلب رأفتك بالمسلمين على شح نفسك! فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله عِبرًا في الطفل يسقط من بطن أمه، وماله على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه. ولست بالذي تعطي، بل الله يعطي من يشاء ما يشاء. وإن قلت إنما أجمع المال لتشديد السلطان فقد أراك الله عبرًا في بني أمية: ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة، وأعدُّوا من الرجال والسلاح والكراع، حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت إنما أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها، فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه. يا أمير المؤمنين، هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قال المنصور: لا. قال: فكيف تصنع بالملك الذي خولك ملك الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل، ولكن بالخلود في العذاب الأليم، قد رأى ما قد عُقد عليه قلبك، وعملته جوارحك، ونظر إليه بصرك، واجترحته يداك، ومشت إليه رجلاك، هل يغني عنك ما شححت عليه من الدنيا إذا انتزعه من يدك، ودعاك إلى الحساب؟ فبكى المنصور وقال: يا ليتني لم أخلق! ويحك! فكيف أحتال لنفسي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلامًا يفزعون إليهم في دينهم ويرضون بهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسددوك، قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني، قال: خافوا أن تحملهم على طريقتك، ولكن افتح بابك، وسهل حجابك، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الفيء والصدقات مما حل وطاب، واقسمه بالحق والعدل على أهله، وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة.
وجاء المؤذنون فسلموا عليه فصلى وعاد إلى مجلسه، وطلب الرجل فلم يوجد.١٥

ولكن أكان المنصور حقًا متسامحًا حتى يستمع مثل هذا الحساب؟ أنا أستبعد أن يكون هذا الحديث صحيحًا، وأرجح أنه وضع لغاية من غايات المعارضين، ودليل هذا الترجيح أن القائل مجهول: فهو أحد الزهاد، وأنه حُفظ بلغة قوية، لا يعقل أن تُسمع فتُحفظ، ولو كان حوارًا طارئًا طُلب صاحبه فلم يوجد لما أمكن أن تحفظ منه هذه الصورة القوية.

والمعقول أن يكون هذا الحديث من وضع رجل ثائر كان يكره بني أمية وبني العباس، فإن التعمق في وصف حجاب المنصور، وما كان يقع لعهده من إغفال المظالم، ومن سيطرة الوزراء لا يتفق إلا لرجل ثائر على تقاليد ذلك العهد. والثورة على الاستبداد بالملك وتصريف أمور الناس كانت كثيرة الوقوع في تلك الأيام، وكانت التورية عن فساد النظام مما يطيب للكتاب والشعراء. وقد كثر القول بأن ابن المقفع لم يترجم كليلة ودمنة إلا ليحارب به ما كان يراه من ظلم الخلفاء، فليس من المستبعد أن توضع الأحاديث على ألسنة الزهاد ليكون في إذاعتها تنديد بالسياسة الظالمة التي يرتكبها خلفاء بني العباس في بعض الأحيان.

ولنتذكر أن شخصية «الوزير» ملحوظة في هذا الحديث، والوزير كان في تلك العهود نموذجًا من نماذج الغطرسة والعنف والإجحاف، وكان لا بد أن يحاربه الناس بسوء القالة إن عجزوا عن محاربته بالسلاح.

ومنشئ هذا الحديث جعل بطله من الزهاد، وهذا يدلنا على أن الصوفية في تلك الأيام كانت لهم سلطة روحية وخلقية، وكان من المعروف عنهم أن يجهروا بكلمة الحق، وأن لا يبالوا غضب الخلفاء والوزراء، فاختيار بطل الحديث من الصوفية هو الشاهد على ما كان يعرف عنهم من الشجاعة الأدبية.

ولسنا نعرف بالضبط من أي حزب كان منشئ هذا الحديث، والظاهر أنه كان يميل إلى الصوفية، فقد قال له المنصور: كيف أحتال لنفسي؟ فأجاب: إن للناس أعلامًا يفزعون إليهم في دينهم، ويرضون بهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسددوك.

ولم يكتف بهذا في تمجيد أصحابه من أهل الزهد، بل ادَّعى أن المنصور قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني، وهو بذلك يجعلهم أصلح الناس لولاية الأمر، وأخوفهم من الاتصال بأهل الدنيا، وأقدرهم على احتقار المناصب البراقة: مناصب الوزراء.

وجملة القول: أن هذا الحديث يشهد بأن أحزاب المعارضين كانت تتستر باسم الزهاد والصوفية، ومعنى ذلك أن الزهاد والصوفية كانوا معروفين بالجرأة والشجاعة في الدفاع عن الحق، وكان ما ينشر باسمهم خليقًا بأن يتلقاه كبار الناس بالقبول. وبعض ذلك كاف للاقتناع بأنهم كانوا قوة خلقية في ذلك الحين.

شجاعة الأوزاعي في مواقف تحكمت فيها الأحقاد السياسية

ويماثل هذا المقام مقام الأوزاعي بين يدي المنصور، ذكره عبد الله المبارك عن رجل من أهل الشام قال: دخلت عليه فقال: ما الذي أبطأ بك عني؟ قلت: يا أمير المؤمنين، وما الذي تريد مني؟ فقال: الاقتباس منك. قلت: انظر ما تقول؛ فإن مكحولًا حدثني عن عطية بن بشير أن رسول الله قال: «من بلغه عن الله نصيحة في دينه فهي رحمة من الله سقيت إليه، فإن قبلها من الله بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه، ليزداد إثمًا وليزداد الله عليه غضبًا، وإن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا، وإن سخط فله السخط، ومن كرهه فقد كره الله؛ لأن الله هو الحق المبين».

فلا تجهلن. قال: وكيف أجهل؟ قال: تسمع ولا تعمل بما تسمع!

قال الأوزاعي: فسلْ عليّ الربيع السيف. وقال: تقول لأمير المؤمنين هذا؟ فانتهره المنصور وقال: أمسك، ثم كلمه الأوزاعي وكان في كلامه أن قال: إنك قد أصبحت من هذه الخلاقة بالذي أصبحت به، والله سائلك عن صغيرها وكبيرها وفتيلها ونقيرها، ولقد حدثني عروة بن رويم أن رسول الله قال: «ما من راع يبيت غاشًا لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة»، فحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظرًا، ولما استطاع من عوراتهم ساترًا، وبالقسط فيما بينهم قائمًا، لا يتخوف محسنهم منه رهقًا، ولا مسيئهم عدوانًا، فقد كانت بيد رسول الله جريدة يستاك بها ويردع عنه المنافقين، فأتاه جبريل فقال: «يا محمد، ما هذه الجريدة بيدك؟ اقذفها لا تملأ قلوبهم رعبًا» فكيف من سفك دماءهم، وشقق أبشارهم، وأنهب أموالهم! يا أمير المؤمنين، إن المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر دعا إلى القصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيًا لم يتعمده فهبط جبريل فقال: يا محمد، إن الله لم يبعثك جبارًا تكسر قرون أمتك … إن الدنيا تنقطع ويزول نعيمها، ولو بقي الملك لمن قبلك لم يصل إليك يا أمير المؤمنين، ولو أن ثوبًا من ثياب أهل النار عُلِّق بين السماء والأرض لآذاهم، فكيف من يتقمصه؟ ولو أن ذنوبًا١٦ من صديد أهل النار صبَّ على ماء لآجنه،١٧ فكيف بمن يتجرعه، ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لذاب، فكيف من سلك فيها ويردّ فضلها على عاتقه!
واعلم أن السلطان أربعة: أمير يظلف نفسه وعماله، فذلك له أجر المجاهد في سبيل الله، وصلاته سبعون ألف صلاة، ويد الله بالرحمة على رأسه ترفرف، وأمير رتع ورتع عماله، فذلك يحمل أثقاله وأثقالًا مع أثقاله وأمير يظلف نفسه١٨ ويرتع عماله، فذاك الذي باع آخرته بدنيا غيره، وأمير يرتع ويظلف عماله فذاك شر الأكياس.١٩

ولهذا الحديث بقية، وما سلف منه يبين مسلك الأوزاعي في النصح، وجرأته في مصارحة الخلفاء. والشجاعة من أخص صفات الزاهدين والصالحين.

وللأوزاعي موقف مع عبد الله بن علي يعد من أخطر المواقف؛ لأنه يمس الأحقاد السياسية، وللسياسة أحقاد سود تذهب بالحلم والعقل، وكان ذلك الموقف بعد أن أجلى عبد الله بني أمية عن الشام، وأزال الله دولتهم على يديه، فقد طلب الأوزاعي ليسأله رأيه فيما صنع ببني أمية، وكان ينتظر بالطبع أن يظفر منه بكلمات من الثناء يفلّ بها حدّة من ينكرون عليه الإسراف في النهب والقتل، ولكنه فوجئ بما لم يكن في الحسبان، وأراه الأوزاعي أن في الدنيا ناسًا يجهرون بكلمة الحق في أحرج المواقف والمقامات.

قال الأوزاعي: فدخلت عليه وهو على سرير، والمسودة عن يمينه وشماله معهم السيوف مطلقة، فسلمت عليه فلم يرد، ونكت بتلك الخيزرانة التي بيده، ثم قال: يا أوزاعي، ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن البلاد والعباد، أجهاد هو؟ قال: فقلت: أيها الأمير، سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول: سمعت عمر ابن الخطاب يقول: سمعت رسول الله يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه». قال: فكنت بالخيزرانة أشد ما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثم قال: يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت: قال رسول الله : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب والزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة»، قال: فنكت بها أشد من ذلك، ثم قال: ما تقول في أموالهم؟ فقلت: إن كانت في ٍأيديهم حرامًا فهي حرام عليك أيضًا، وإن كانت لهم حلالًا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي، قال: فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك، ثم قال: ألا نوليك القضاء؟ فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون عليّ في ذلك، وإني أحب أن تتم ما ابتدأوني به من الإحسان، فقال: كأنك تحب الانصراف، فقلت: إن ورائي حرامًا وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن وقلوبهن مشغولة بسببي، قال: وانتظرت رأسي يسقط بين يدي، فأمرني بالانصراف، فلما خرجت إذا رسول من ورائي، وإذا معه مائتا دينار فقال: يقول لك الأمير: استنفق بهذه، قال: فتصدقت بها، وإنما أخذتها خوفًا.٢٠
وهذا المقام يدل على أمرين:
  • الأول: أن الأمراء والملوك كانوا منذ ذلك الزمان يشعرون بقوة أهل العلم والزهد والصلاح، وكانوا يحبون أن يستظهروا بهم، وكانوا كذلك يعرفون عنهم اللين في أغلب الأحيان، ولولا ذلك لقلَّت الرغبة في استدعاء مثل الأوزاعي في مثل ذلك الموقف.
  • والثاني: أن الزهاد كانوا استطاعوا أن يخلقوا لهم عصبية يحسب حسابها في الأزمات السياسية، يؤيد هذا ما روى أن بعض الولاة هدد الأوزاعي مرة فقال له أصحابه: دعه، فو الله لو أمر أهل الشام أن يقتلوك لقتلوك.٢١

وطمع الولاة والأمراء في لين أهل التصوف لا ينقض ما عرفوا به من الشجاعة الأدبية، فنحن لا نقول بأن تلك الشجاعة كانت من نصيب كل من تصوف، وإنما نجزم بأنها كانت من أخلاق كل من صدق في التصوف، والعصبية التي كانت تحميهم لا يمكن أن تغض من شجاعتهم الأدبية؛ لأنها في الأكثر عصبية عزلاء، ولأنها على كل حال من مغانمهم الأخلاقية؛ لأنهم اكتسبوها بفضل الصلاح والتقوى، وهو مكسب تبذل في سبيله أثمان غالية يعرفها من يعانون رياضة النفس على التجمل بالآداب الدينية.

وكان يتفق في أحيان كثيرة أن تقابل تلك الشجاعة باللطف، ومن طريف ذلك أن ابن هبيرة كتب إلى الحسن وابن سيرين والشعبي فقدم بهم عليه، فقال لهم: إن أمير المؤمنين يكتب إلي في الأمر إن فعلته خفتُ على ديني، وإن لم أفعله خفت على نفسي، فقال له ابن سيرين والشعبي قولًا رققا فيه، وقال له الحسن: يا ابن هبيرة، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله. يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله! يا ابن هبيرة، إنه يوشك أن يبعث الله إليك ملكًا فينزلك عن سريرك إلى سعة قصرك، ثم يخرجك عن سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك. يا ابن هبيرة، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.٢٢

والطريف في هذا الموقف أن ابن هبيرة أمر للحسن بأربعة آلاف درهم، وأمر لابن سيرين والشعبي بالفين، فقالا: رققنا فرقق لنا!

خلاصة البحث

وهناك مواقف لأبي حازم مع سليمان بن عبد الملك، وابن السماك مع الرشيد. والمقام يضيق عن الاستقصاء، ولو مضينا نستقري أخبار الصوفية في مختلف العصور لرأينا لهم كثيرًا من أمثال هذه المواقف، والناس في مصر وفي تركيا خاصة يذكرون حوادث جرت لأهل الورع والدين مع الولاة والسلاطين، ومناقب الصوفية تفيض بأمثال هذه الأخبار. وأكثرها صدق، والمخترع منها له دلالة خلقية، فهو شاهد بأن الناس كانوا يشهدون للصوفية بالشهامة والجهر بكلمة الحق.

وقد رأينا أن تلك المواقف عادت بفوائد كثيرة على الأدب والأخلاق فهي من حيث الصورة نماذج أدبية، وهي من حيث المعنى لا تزال توحي بالحرص على التخلق بأخلاق الرجال.٢٣
١  زهر الآداب ج١ ص١٥٢.
٢  النجوم الزاهرة ج٣ ص٢٢١.
٣  زهر الآداب ج١ ص٢٣٣.
٤  تاريخ بغداد ج٩ ص٢٣٩.
٥  عيون الأخبار ج٢ ص٣٣٦.
٦  انظر الفتوحات المكية ج٤ ص٦٧٤ ولهذا الحديث بقية تصور العتاب بين الفضي وبين زوجته، فقد ساءها أن يرفض المال، فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه فلما كبر نحروه وأكلوا لحمه.
وقد ورد هذا المقام في الكشكول ص٢٣٥ بصورة تختلف عن هذه الصورة بعض الاختلاف.
٧  الفتوحات المكية ج٤ ص٦٩٣.
٨  العقد الفريد ج١ ص٣٠٦.
٩  العقد الفريد ج١ ص٣٠٦.
١٠  العقد الفريد ج١ ص٣٠٦.
١١  انظر العقد الفريد ج١ ص٣٠٤ وعيون الأخبار ج٢ ص٣٣٣ وقد عدلنا الجملة الأخيرة بعض التعديل.
١٢  ورد حديث عمر بن عبيد مع المنصور بصيغ مختلفة في زهر الآداب ج١ ص٩٤ وعيون الأخبار ج٢ ص٢٣٧ وأمالي المرتضى ج١ ص١٢٠–٢٢٢ ووفيات الأعيان ج٢ ص١٠١ والعقد الفريد ج١ ص٣٠٧.
١٣  أرمضه: أوجعه وآلمه.
١٤  جملة (تجبي الأموال) معمول (رآك هؤلاء).
١٥  عيون الأخبار ج٢ ص٣٣٣–٣٣٦ والعقد الفريد ج١ ص٣٦٥.
١٦  الذنوب، بالفتح، الدلو التي دون الملء.
١٧  آجنه: غير طعمه ولونه.
١٨  يظلف نفسه: يكفها.
١٩  عيون الأخبار ج٣ ص٣٣٩.
٢٠  حسن المساعي في مناقب الأوزاعي ص٧٩–٨٢.
٢١  حسن المساعي في ماقب الأوزاعي ص٨٩.
٢٢  عيون الأخبار ج٢ ص٣٤٣.
٢٣  في مسامرة الأبرار لابن عربي أنباء نفيسة من هذا النوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤