التجريد والأسباب

رأينا عند الصوفية مقامات الفقر والورع والزهد. ولكن لا بد من النص على آرائهم في الفقر والغنى؛ لأن لذلك صلة وثيقة بمذاهبهم الأخلاقية في طرائق المعاش. ونبادر فنذكر أن التصوف يسمى الفقر، والصوفية يسمون الفقراء، وهذا وحده كاف لتعيين مسالكهم في الحياة.

والانقطاع بالكلية إلى الله يسمى التجرد، وطلب الرزق يسمى التسبب، وهذه الكلمة الثانية لا تزال حية، والعوام في مصر يقولون (رجل متسبب) وربما سموا ما يتجرون به سببًا، وقد يقولون فيمن يبحث عن الرزق: أخذ في الأسباب.

ما هو التجرد وما هو التسبب

والصوفية لا يؤثرون الفقر لذاته، وإنما يؤثرونه لما فيه من صرف النفس عن الشواغل الدنيوية التي تبعد المرء من الله. وهم حين يدعون إلى جمع المال ينصون على أنه لا يطلب لذاته، وإنما يطلب للأغراض الآتية:
  • الأول: أن ينفقه المرء على نفسه: إما في عبادة أو في الاستعانة على عبادة، أما في العبادة فهو كالاستعانة به على الحج والجهاد، وأما فيما يقويه على العبادة فذلك هو المطعم والملبس والمسكن، وما إلى ذلك من ضرورات العيش؛ لأن هذه الشؤون إذا لم تتيسر كان القلب مصروفًا إلى تدبيرها فلا يتفرغ للدين.
  • الثاني: ما يصرفه في الصدقة والمروءة ووقاية العرض وأجرة الاستخدام. ومن وقاية العرض في رأيهم بذلك المال لدفع هجو الشعراء وثلب السفهاء، وقطع ألسنتهم ودفع شرهم١ وفي وقاية العرض صرف للناس عن رذيلة الاغتياب، وليس من الإسراف أن يكون للرجل خدم؛ لأن قيامه بجميع شؤونه قد يعطل عليه أوقاته فلا يتفرغ لعبادة الله على الوجه المقبول.
  • الثالث: ما ينفقه للخير العام كبناء المساجد والملاجئ والمستشفيات.٢
تلك فضائل المال من الوجهة الدينية، ولا بأس بأن يحمد المتصوف ما في المال من الحظوظ الدنيوية: كالخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر والوصول إلى العز والمجد بين الخلق وكثرة الإخوان والأعوان والأصدقاء والوقار والكرامة في القلوب.٣
وفي تحرير ذلك يقول ابن عطاء الله: اعلم أن الأشياء إنما تذم وتمدح بما تؤدي إليه، فالتدبير المذموم ما شغلك عن الله، وعطلك عن القيام بخدمة الله، وصدك عن معاملة الله. والتدبير المحمود هو ما ليس كذلك مما يؤديك إلى القرب من الله، ويوصلك إلى مرضاة الله. وكذلك الدنيا ليست تذم بلسان الإطلاق ولا تمدح كذلك، وإنما المذموم منها ما شغلك عن مولاك، ومنعك الاستعداد لأخراك.٤

الأغراض التي يطلب من أجلها المال

وليس معنى هذا أن المتسبب والمتجرد في رتبة واحدة. لا ليس الأمر كذلك، ولن يجعل الله من تفرغ لعبادته وشغل أوقاته به كالداخل في الأسباب، ولو كان فيها متقيًا، فالمتسبب والمتجرد إذا استوى مقامهما من حيث المعرفة بالله فالمتجرد أفضل.

ذلك كلام ابن عطاء الله في (التنوير)٥ وهو في (الحكم) يدعو المريد إلى أن يقيم حيث أقامه الله٦ ولا تناقض بين الفكرتين؛ لأنه مع استواء التجرد والتسبب يرى قيام المتجرد أعلى وأكمل.

ونحن لا نرتضي هذا الرأي، ولكن من نحن؟ نحن نرى التسبب فرصة ذهبية؛ لأنه يعرض النفس للمحن ويروضها على البلاء. ولا تعرف قيمة الخلق إلا عند الاتصال بالناس، والأدب مع الناس موصول الأواصر بالأدب مع الله؛ لأننا لا نحب العدل والإنصاف إلا لنتخلق بأخلاق الله، ولا نبغض الجور والظلم والعسف إلا ابتغاء مرضاة الله، والمتجرد لا يتعرض لشيء من ذلك، هو رجل خلت دنياه من أسباب الشقاق والنزاع منذ سلمت نفسه من بلايا الأحذ والعطاء. ويمكن الفصل في هذه القضية بأن تفضل التجرد حين نخشى على أنفسنا الضعف عن رعاية الحقوق، ونفضل التسبب حين نرى في عزائمنا من القوة والصلابة ما ندوس به على المطامع الدنيئة التي تستهوي من يطلبون الأرزاق.

هل المتجرد والمتسبب في رتبة واحدة؟

ولكن ما هو التجرد المحمود؟ وما هو التسبب المحمود؟

لقد وضع ابن عطاء الله في ذلك رسالة طريفة سماها التنوير في إسقاط التدبير، وهي رسالة ممتعة من الوجهة الأدبية والصوفية؛ لأنها حوت فقرات كثيرة مما أنشأ الصوفية في الدعوة إلى التخلق بكرائم الخلال.

وإليك خلاصة ما وضعه لآداب التجرد:
  • الأول: علمك بسابق تدبير الله فيك، وذلك أن تعلم أن الله كان لك قبل أن تكون لنفسك، فكما كان لك مدبرًا قبل أن تكون ولا شيء من تدبيرك معه، كذلك هو سبحانه مدبر لك بعد وجودك، فكن له كما كنت له يكن لك كما كان لك.
  • الثاني: أن تعلم أن التدبير منك لنفسك جهل منك بحسن النظر لها.
  • الثالث: علمك بأن القدر لا يجري على حسب تدبيرك، بل أكثر ما يكون ما لا تدبر، وأقل ما يكون ما أنت له مدبر.
  • الرابع: علمك بأن الله تعالى هو المتولى لتدبير مملكته: علوها وسفلها، غيبها وشهادتها، وكما سلمت له تدبيره في عرشه، وكرسيه، وسماواته، وأرضه، فسلم له تدبيره في وجودك إلى هذه العوالم.
  • الخامس: علمك بأنك ملك لله، وليس لك تدبير ما هو لغيرك. فما ليس لك ملكه ليس لك تدبيره.
  • السادس: علمك بأنك في ضيافة الله؛ لأن الدنيا دار الله، وأنت نازل فيها عليه، ومن حق الضيف أن لا يعول هما مع رب المنزل.
  • السابع: نظر العبد إلى قيومية الله تعالى في كل شيء، فإذا علم العبد قيومية ربه وقيامه عليه، ألقى قياده إليه، وانطرح الاستسلام بين يديه.
  • الثامن: اشتغال العبد بوظائف العبودية، فإذا توجهت همته إلى رعاية عبوديته شغله ذلك عن التدبير لفسه.
  • التاسع: أن تعلم أنك عبد مربوب، وحق العبد أن لا يعول همًا مع سيده مع اتصافه بالإفضال وعدم الإهمال، فإن الروح مقام العبودية الثقة بالله والاستسلام إلى الله.
  • العاشر: عدم علمك بعواقب الأمور، فربما دبرت أمرًا عظيمًا ظننت أنه لك فكان عليك، وربما أتت الفوائد من وجوه الشدائد، والشدائد من وجوه الفوائد، والأضرار من وجوه المسار، والمسار من وجوه الأضرار وربما كمنت المنن في المحن، والمحن في المنن، وربما انتفعت على أيدي الأعداء وأرديت على أيدي الأحباب.٧

آداب التجرد

أما المتسبب فتجب عليه مراعاة الآداب الآتية:
  • الأول: ربط العزم مع الله قبل الخروج من المنزل على العفو عن المسيئين إليه، إذ الأسواق محل المخاصمة والمقاولة، فيكون كأبي ضمضم الذي كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إني تصدقت بعرضي على المسلمين.
  • الثاني: أن يتوضأ ويصلي قبل خروجه ويسأل الله السلامة في مخرجه ذلك؛ فإنه لا يدري ماذا يقضي عليه.
  • الثالث: ينبغي له إذا خرج من منزله أن يستودع الله أهله ومسكنه وما فيه، فإنه قادر على أن يحفظ ذلك عليه.
  • الرابع: يستحب له إذا خرج من منزله أن يقول: باسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. فإن ذلك يوئس منه الشيطان.
  • الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليجعل ذلك شكرًا لنعمة القوة والتقوى، اللتين وهبهما المولى له، فمن أمكنه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بحيث لا يصل إليه أذى في نفسه، أو عرضه، أو ماله، فهو ممن مكن له في الأرض، والوجوب متعلق به، وإن كان لا يصل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالأذى سقط عنه الوجوب.
  • السادس: أن يكون مشيه بالسكينة والوقار، لقوله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وليس ذلك خاصًا بالمشي، بل المطلوب منك أن تكون أفعالك كلها تقارنها السكينة ويلازمها التثبيت.
  • السابع: أن يذكر الله تعالى في سوقه، فإنه قد جاء عنه : ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل بين الفارين،٨ ذاكر الله في السوق كالحي بين الموتى.
  • الثامن: ألا يشغله ما هو فيه من المبايعة عن النهوض إلى الصلاة في أوقاتها جماعة؛ لأنه إذا ضيعها اشتغالًا بسببه، استوجب المقت من ربه، ورفع البركة من كسبه.
  • التاسع: ترك الحلف والإطراء لسلعته، فقد قال : التجار هم الفجار إلا من بر وصدق.
  • العاشر: كف لسانه عن الغيبة والنميمة، وليعلم أن السامع للغيبة أحد المغتابين، فإن اغتيب أحد بحضرته فلينكر عليه، فإن لم يسمع منه فليقم، ولا يمنعه الحياء من الخلق من القيام بحق الملك الحق.٩
    ثم قال ابن عطاء الله: وعليك أيها المؤمن بغض طرفك من حين خروجك إلى سببك إلى حين ترجع، ولتذكر قول الله تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ وليعلم أن بصره نعمة من الله عليه، فلا يكن لنعم الله كفورًا، وأمانة من الله عنده فلا يكن لها خائنًا.١٠

آداب التسبب

وابن عطاء الله لا يرى التسبب مما ينافي التوكل، ويقول في ذلك: انظر إلى قوله : (لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا) تراه يدل على الأمر بالتوكل على الله تعالى لا على نفي الأسباب، بل يدل على إثباتها لقوله : «تغدو خماصًا وتروح بطانًا»، فقد أثبت لها غدوها ورواحها، وهو سببها، ونفى عنها الادخار.١١

الادخار

وابن عطاء الله لا ينكر الادخار في جميع الأحوال، وإنما ينكر ما يقع منه بخلًا واستكثارًا، ومباهاة وافتخارًا، وهو يقبل ادخار المقتصدين وهم الذين لم يدخروا استكثارًا ولا مباهاة ولا افتخارًا، وإنما علموا من نفوسهم الاضطراب عند الفقر فعلموا أنهم إن لم يدخروا تشوش عليهم إيمانهم، وتزلزل إيقانهم، فادخروا لضعفهم عن حال المتوكلين، وعلمًا منهم بعجزهم عن مقام اليقين. وهناك طبقة ثالثة، هم السابقون، وادخارهم ليس لأنفسهم، ولكنه ادخار أمانة، فإن أمسكوا الدنيا أمسكوها بحق، وإن بذلوها بذلوها بحق، وليس الممسك لها بحق بدون الباذل لها بحق.١٢

رأي الغزالي في المال

والغزالي يرى المال كالحية: يأخذها الراقي ويستخرج منها الترياق ويأخذها الغافل فيقتله سمها من حيث لا يدري، ولا ينجو أحد من سم المال إلا بالمحافظة على خمس وظائف:
  • الأولى: أن يعرف المقصود من المال: فلا يحفظ منه إلا قدر الحاجة ولا يعطيه من همته فوق ما يستحقه.
  • الثانية: أن يراعي جهة دخل المال فيجتنب الحرام المحض، وما يغلب عليه الحرام كأموال الحكام الظالمين، ويجتنب الجهات المكروهة التي تقدح في المروءة كالهدايا التي فيها شوائب الرشوة، وكالسؤال الذي فيه الذلة وهتك المروءة.
  • الثالثة: أن يراعي في كسبه مقدار حاجته في الملبس والمسكن والمطعم.
  • الرابعة: أن يقتصد في الإنفاق غير مقتر ولا مبذر.
  • الخامسة: أن يصلح نيته في الأخذ والترك، والإنفاق والإمساك؛ لأن حسن النية هو الأساس.١٣

الدعوة إلى الفقر

إلى هنا رآنا القارئ نحتال في صياغة هذا الفصل، وإنما كان الأمر كذلك لأننا أردنا أن ننطق الصوفية بالدعوة إلى المال والادخار. والحق أنهم غرباء في هذا الميدان، فالتصوف الإسلامي هو في حقيقته ظل من ظلال المسيحية، هو هرب مطلق من الدنيا ومن الجاه ومن المال، ولا يدعو إلى الغنى إلا طبقة ضئيلة من الصوفية، ومن أجل هذا كان خطرهم شديدًا على الأخلاق … الصوفية جنوا على المسلمين أبشع جناية حين حببوا إليهم الزهد وبغضوا إليهم المال، الصوفية هم الذين جعلوا المسلمين آخر الشعوب، وهم الذين قضوا عليهم بالاستعباد، وهم الذين أوردوهم موارد الذل والضيم والهوان.

إن أول صوفي تعمق في البحث عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأغوار العبادات هو الحارث المحاسبي١٤ وهذا الرجل — الذي كان قدوة لجميع الصوفية — كان من أعداء المال، ولم تكن عداوته للمال عداوة هينة؛ لأنه ضرب على الوتر الحساس حين ذكر المسلمين بفقر الرسول، وهو يتخذ من فقر النبي حجة على شر الغنى وإضراره بخير الدنيا والدين.

وكان الحارث المحاسبي رجلًا قوي المنطق زلق اللسان، وكان من أهل البصر بمكامن الضعف في النفوس، وقد مكنت له مواهبه الأدبية والذوقية من نواصي الناس، فاندفع يذم المال ذمًا بليغًا لم يصل إلى سمع ولا قلب إلا حول صاحبه إلى زاهد أوّاب.

رأي المحاسبي أن جماعة من العلماء احتجوا للغني بما كان من أمر عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن هذا كان من صحابة الرسول، وكانت أمواله ومتاجره مضرب الأمثال، وقد شهد له النبي بالخير ورجا له حسن المآب وكان غنى ابن عوف خليقًا بأن يحبب المسلمين في الغنى، ويبين لهم أن كثرة المال لا تنافي الدين، فاندفع المحاسبي يبدد هذه الشهبة ويبين أن ابن عوف لن يدخل الجنة بالرفق الذي يدخل به الصعاليك، وإنما يدخل في هيبة وحذر كما يدخل المريب.

ونظرية المحاسبي تقوم على أساس خطر، فهو يرى الدنيا غير الدنيا والناس غير الناس، فإن تشبهتم بالصحابة فأنتم مخطئون «فقد كانوا فيما أحل لهم أزهد منكم فيما حرّم عليكم، والذي لا بأس به عندكم كان من الموبقات عندهم»،١٥ وليس لكم أن تطمعوا في الحلال؛ لأنكم لن تجدوه في دهركم كما وجدوه في دهرهم، ولن تحتاطوا في طلب الحلال كما احتاطوا، ولنفرض أنكم ظفرتم بالحلال فهل تأمنون تغير القلوب؟ إن كان ذلك فأنتم تحسنون الظن بالنفس وهي أمّارة بالسوء١٦ وهل غاب عنكم أن الرسول قال: يدخل صعاليك المهاجرين الجنة قبل أغنيائهم بخمس مئة عام؟١٧ وهل نسيتم أنه قال: سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء، وإذا استقرض لم يجد قرضًا. وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه، ولم يقدر على أن يكتسب ما يغنيه.١٨
وكان المحاسبي رجلًا مسيحي النزعة يرى العلماء كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب وتبقى فيه النخالة، ويرى الحكمة تخرج من أفواههم ويبقى الغل في صدورهم، ويراهم أفسدوا آخرتهم بصلاح دنياهم، وقد روى كلمة المسيح في هذا المعنى، وهي كلمة لا نحب أن نرويها في كتابنا هذا، ويكفي أن نشير إلى مكانها في كتاب الأحياء.١٩

خطر هذه الدعوة

والحق أن الصوفية اختلط عليهم الأمر حين أحبوا التشبه بالأنبياء، فالمسيح تصوف لأنه رأى حب الدنيا يعصف باليهود، والنبي محمد لم يفكر في إصلاح دنياه لأنه شغل بتبليغ الرسالة؛ فكان مثله مثل الداعية الذي يريد أن يقطع جميع الألسنة ويسلم من تلوّم السفهاء.

ومن المعقول أن يلوذ الأنبياء والمصلحون بالفقر ليفرغوا لدعوة الخير، ولكن كيف يصبح الفقر شريعة؟ وكيف يصير من واجب الناس جميعًا أن يعيشوا فقراء؟

إن جانب الضعف في الأخلاق الصوفية أنها تجعل الفقر مما يجب أن يرغب فيه جميع الناس، ولو عقل الصوفية لعرفوا أن للفقر خلقة بشعة لا يطمع في التعرف إليها رجل كريم. الفقر هو البلية العظمى، والنكبة الكبرى، والبلاء الماحق، والشر الملعون. الفقر هو العورة التي يفتضح بها الرجال، الفقر هو المقتل الذي يصرع به الأبطال، الفقر هو أقبح الصفات التي تنزه عنها الله ذو الجلال، الفقر فضيلة سخيفة لا يدعو إليها إلا رجل سخيف!

هجوم على الصوفية

للصوفية عذر واحد، وهو عذر جميل، هم يرون حب المال يذهب بالناس إلى البغي في أكثر الأحيان، ولكني مع هذا أجزم بأن بغى الغني أجمل صورة من عدالة الفقير، وهل للفقير عدالة؟ إنه شخص مضيع وهو في المجتمع لا يحسب له حساب، والخلق الحق هو الذي يرفع الشخصية الإنسانية ويقيم لها الموازين.

ولو أن الصوفية درسوا الطبيعة الإنسانية حق الدرس لتغير موقفهم في فهم الفقر، لو أنهم عرفوا أن الفقير لا يصلح لقيادة النهضات الاجتماعية والسياسية والخلقية لأيقنوا أن الغنى سلاح ماض في أيدي المصلحين، ولكن الواقع أن الصوفية كانت هممهم في الأغلب هممًا ترابية، أليسوا هم الذين وضعوا القواعد للسؤال؟ وهل يسأل الناس إلا الصغار والضعفاء؟ وأي قيمة للخلق إذا انتهى بصاحبه إلى الضعف والصغار، ونأى به عن مواطن الرجال؟

إن الجنة وما فيها من خير ونعيم لا تساوي ذلة السؤال، والله لم يخلقنا لنسأل الناس، وهو لم يمنحنا العقل والعافية إلا لنستعبد خيرات الأرض ونستغني عن المخلوقين. ولولا الأدب لقلت إن الله دعانا إلى الاستغناء عنه منذ فطر الأرض والبحر والهواء على خدمة أبدية لا يحرم منها إلا أهل الخمود.

إن الله دعانا إلى الكرامة ومهد لنا سبلها وأعاننا عليها، ولم يشأ أن يذل الكفار بحرمانهم من استخراج ثمرات الأرض؛ لأنه سبحانه لا يحب لأبنائه أن يعيشوا عيش العبيد، والمؤمن والكافر أمام عدله ورحمته سواء.

الدعوة إلى الفقر تنافي الخلق، وتنافي الأدب، وتنافي الإيمان.

الدعوة إلى الفقر هي السوس الذي قضى على عظام المسلمين، وجعلهم من أذل الشعوب بعد أن كانوا من أقوى الأعزاء.

الدعوة إلى القناعة رذيلة إنسانية لا يجترمها إلا رجل غافل أو مخبول.

وكيف نقنع وقد هدانا الله إلى أسرار الوجود فعرفنا أن الخير لا نهاية له، وأن النعيم أعظم وأكبر من أن تقام له حدود.

لو عاش أهل الأرض بعقول الصوفية وأوهامهم وأغلاطهم لما استطاع الإنسان أن يسخر البرق والماء، لو عاش أهل الأرض بأذهان الصوفية لما كانت هذه النعم التي يمرح فيها أهل الشرق والغرب، لو عاش أهل الأرض بأذهان الصوفية لما كانت هذه الوثبات التي يموج بها العالم السياسي فيقيم قناطر من الخير على بحار من الدماء. الصوفية قوم كسالى وادعون، ذهب بهم الجوع إلى أودية الموت.

بعض ما يجلب المال من هوان النفوس

قد يقول القارئ: وما شأنك أنت؟ أنت تؤرخ التصوف، فكيف تستطيل على الصوفية؟

وأجيب بأني أيضًا متصوف، ولكن أي تصوف؟ إنه تصوف استقيته من مورد الحياة، هو تصوف حق يقوم على أساس الحق، فإن كان التصوف القديم هو الزهد فالتصوف الجديد هو الإخلاص المطلق في حب الحياة والفوز والمجد، التصوف الذي أدعو إليه هو الشره الشريف على فهم ما في الدنيا من خير وشر، وجمال وقبح، وحق وزيغ، هو أن تكون قوة كاشفة قاهرة تستوعب أسرار الوجود، ثم تسخره لخدمة الإنسان والحيوان، هو أن تجعل الدنيا فردوسًا يذكر بما وُعدت به من نعيم الفراديس، هو أن تكون غنيًا بعقلك وجهدك وخلقك فلا يكون لمخلوق فضل عليك، هو أن تكون شبيهًا بربك في كرمه وغناه.

أنا لا أريد أن يتصوف الرجل تصوف العبيد، وإنما أريد أن يتصوف تصوف الملوك.

ولكن هناك وجه آخر نفهم به جمال الدعوة إلى الفقر. وتفصيل ذلك: أن الغنى لا ينتظرنا في كل وقت، ولا نقتنصه حين نشاء، فقد يحتاج الغنى أحيانًا إلى مسالك ينفر منها الكريم، وفي هذه الحال يكون الفقر أجمل وأشرف.

في أحيان كثيرة يكون من النبل أن نحرر رقابنا من رق الطمع، وأن نتغنى بقول الذي يقول:

حرام على من وحد الله ربه
وأفرده أن يجتدي أحدًا رفدا
ويا صاحبي قف بي مع الحل وقفة
أموت بها وجدا وأحيا بها وجدا
وقل لملوك الأرض تجهد جهدها
فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى

وأنت لو نظرت حولك لرأيت طوائف من الأغنياء لم يصلوا إلى غناهم إلا بوسائل يفزع من تصورها كرام الرجال؛ فهذا الذي يسكن قصرًا فخمًا ويعيش الأمراء لم يصل إلى الغنى إلا منذ اليوم الذي باع فيه نفسه وقلبه وضميره لأحد الوزراء أو لأحد الأحزاب، وذاك الذي يأمر ونهى ويطغى ويستطيل هو في حقيقة أمره أذل من القراد بمناسم الجمال الجرب؛ لأنه لا يصبح ولا يمسي إلا وهو تابع ذليل، وذلك الذي لا يمده لمصافحتك إلا وهو متكلف، ولا يواسيك إن حزنت، ولا يعودك إن مرضت، ولا تراه إلا أشم الأنف منتفخ الأوداج، ذلك المتكبر المتجبر الذي يحاول أن يخرق الأرض ويطاول الجبال، هو في قرارة نفسه مستعبد لجبهة قوية يرى سوطها مسلطًا عليه في كل حين، وهو على كبريائه ترتعد فرائصه كلما تمثل له شبح من يملك أمره في يقظة أو في منام.

إن أكثر من ترى من أصحاب الحول والطول كان مثلهم مثل المرأة التي لا تفرط في عرضها بسبب القوت، وإنما تفرط في عرضها لتقضي لبانتها من الترف، وبعض النساء لا يؤذيها أن تجوع، ولكن يؤذيها أن تخرج وهي عاطل من الأساور والدمالج والخلاخيل.

وهل تظن أن الذي يبيع ضميره يبيعه ليقتات؟ وكيف يكون الأمر كذلك وأكبر البطون يملأه رغيف جاف، ويرويه كوب من الماء القراح؟ إنما يبيع الناس ضمائرهم ليتحلوا بالحُلي الكواذب من صور الأمر والنهي والطغيان.

انظر هذه النظرة إلى حقائق الجاه والمال، ثم ارجع إلى الصوفية تجدهم أعقل الناس وأشرف الناس.

أتراك نظرت وفكرت؟ إن كنت فعلت فاعلم أن الصوفية حين دعوا إلى الفقر والورع والزهد لم يكونوا عابثين، وإنما كانوا يدافعون عن الكرامة الإنسانية التي لا تضيع ولا تمتهن إلا في أسواق المنافع، وحفظ الكرامة هو الحجر الأول في صرح الأخلاق.

انظر هذه النظرة لترى ما في مسالك الصوفية من المعاني الشعرية، وهل من القليل أن تخلص من ربقة الأغراض فلا يكون لأحد سلطان عليك؟ هل من القليل أن تشعر بأن مائدتك الجافية هي من كسب يدك، وأن ثوبك الحقير لم ينسج خيوطه أحد سواك؟ هل من القليل أن تعرف زوجتك وأن يعرف أبناؤك أن ليس لهم سيد بعد الله غيرك؟ هل من القليل أن يكون كل ما في بيتك من أثاث ورياش إنما وصل إليك بفضل كدحك، وإن كان غطاؤك من الخيش، وسريرك من الجريد؟

إن الصوفية لا يحرمون عليك أن تثري من الحلال، فقد كان الصوفية بالفعل من أهل الكسب، ولكن أي كسب؟ انظر إلى أسمائهم وألقابهم تجد فيهم الخواص والخراز والوقاد والصباغ والحداد والسماك والقصاب والدقاق.

انظر إلى ألقابهم تجدهم كانوا من أهل العمارة والصناعة والزراعة، انظر إلى ألقابهم تجدهم كانوا من أقطاب السعي في سبيل الرزق الحلال.

كن كيف شئت في فهم الدنيا والمعاش، ولكن تذكر أن المتصوف رجل دقيق الإحساس، وأنه لا يهون عليه في سبيل الدنيا ما يهون عليك، ومن أجل هذا تراه في أدبه صادقًا كل الصدق، وتكاد تلمس في كل سطر بل كل حرف أنه يخفي بلية موجعة رماه بها التصون والعفاف.

وما نريد نسلك جميع المتصوفين في سلك واحد، هيهات، فنحن نحتقر التبلد الذي يوسم بالتعفف. ولكنا لا نملك الغض من الأدب الحق، أدب النفوس التي ترحب بالفقر حين لا ينال الغنى إلا بالذل، ولا يدرك إلا بالضيم.

وفي ظلال هذه المعاني نقرأ أدب الصوفية في ذم الغنى ومدح الفقر، فنراه صورًا طريفة من أحوال النفوس والقلوب، ونرى أنفسنا أمام صروح عالية من مكارم الأخلاق.

إن الصوفية الصادقين لا يؤثرون الفقر إلا فرارًا من المال المشوب بالشبهات. والخوف على النفس والقلب والضمير من أدناس الحرام هو خوف نبيل لا يستشعره غير صحاح القلوب.

وما أسعد من ينفرون من الحرام، ولا يأنسون بغير الحلال!

١  لم تكن عندهم جرائد ولا مجلات.
٢  الملاجئ في التعابير القديمة كانت تسمى الخوانق أو الرباطات. والمستشفيات كانت تسمى دور المرضى أو البيمارستانات.
٣  انظر الأحياء ج٣ ص٢٣٧ و٢٣٨.
٤  التنوير ص٣٣.
٥  ص٣٤.
٦  انظر شرح الرندي ج١ ص٤.
٧  انظر التنوير ص٩–١٣.
٨  في الأصل «الغازين» وهو تحريف.
٩  راجع التنوير ص٣٤–٣٦.
١٠  انظر التنوير ص٣٧.
١١  التنوير ص٦٤.
١٢  التنوير ص٦٤.
١٣  الإحياء ج٣ ص٢٦٤.
١٤  انظر الإحياء ج٣ ص٢٦٥.
١٥  الإحياء ج٣ ص٢٢٩.
١٦  الإحياء ج٣ ص٢٦٩.
١٧  ص٢٧٠.
١٨  الإحياء ج٣ ص٢٧٢.
١٩  ج٣ ص٢٦٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤