آداب الصيام

ينظر الصوفية إلى الصيام نظرة خلقية وروحية، وهم يقسمونه إلى ثلاث درجات:
  • صوم العموم.

  • وصوم الخصوص.

  • وصوم خصوص الخصوص.

أما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنية، والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، كما عبر الغزالي في الجزء الأول من الإحياء.

وليس الطعام وحده، ولا الشراب وحده، ولا اللمس وحده، مما يفطر به الصائم عند الصوفية. فهناك أشياء يفطر بها الصائمون ويفسد بها الصيام وليست مع ذلك من اللمس أو الطعام أو الشراب، فالصائم يبطل صومه في نظر الصوفية بالفكر فيما سوى الله عز شانه واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين لعدّ ذلك من زاد الآخرة.

ويرى بعض الصوفية أن من تحركت همته بالتصرف في نهاره لتدبير ما يفطر عليه كتبت عليه خطيئة؛ لأن ذلك لا يقع إلا من قلة الوثوق بفضل الله وقلة اليقين بالرزق الموجود.

وصوم خصوص الخصوص لا يتم إلا بستة أمور:
  • الأول: غض البصر وكفه عن النظر إلى كل ما يذم وكل ما يكره، وإلى ما يشغل القلب وينهى عن ذكر الله.
  • الثاني: حفظ اللسان عن الفضول — وهم يعبرون عنه بالهذيان — وحفظه عن الكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله وتلاوة القرآن.

    ومن الصوفية من يرى أن الغيبة تفسد الصوم، وهم يستندون إلى أحاديث مروية عن الرسول .

  • الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه؛ لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه. ولذلك سوى الله سبحانه بين السمع وأكل السحت فقال: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وقال: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ.
  • الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل، وكفها عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار؛ لأنه لا معنى للصوم عن الحلال ثم الإفطار على الحرام.
  • الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ فما من وعاء أبغض إلى الله من بطن مليء من حلال، فالصوم يراد به قهر أهواء النفس أو كما يقولون قهر عدو الله الشيطان، وقهر أهواء النفس أو كما يقولون كسر الشهوة لا يتم لمن يتدارك عند فطره ما فاته في نهاره من ألوان الطعام والشراب.

    ولم يفت الصوفية أن ينصوا على الخطر الذي يهدد من يسرف في الأكل بعد أن تخوى معدته، وهم يرون ذلك يضاعف قوة النفس ويساعد على انبعاث الشهوات.

    ومن رأى الصوفية أنه لا يليق بالصائم أن يأكل عند الإفطار أكثر مما كان يأكل لو لم يصم؛ لأن الغرض من الصيام هو حرمان النفس من مألوفها قبل الصيام، والذي يملأ معدته عند الإفطار على نية التعويض تعويض المعدة ما فاتها بالصيام لم يرد لنفسه من الخير إلا قليلًا.

  • السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار مضطربًا بين الخوف والرجاء؛ إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين؟ أم يردّ عليه فهو من الممقوتين؟

ومفسدات الصوم عند الصوفية هي اقتراف المكاره، أما المفطر بالطعام والشراب فهو أخف من ذلك. وعندهم أن من كف عن الأكل والجماع وأفطر بالآثام مثله مثل من مسح على أعضائه في الوضوء ثلاث مرات، ومن فعل ذلك فصلاته مردودة عليه؛ لأنه ترك المهم وهو الغسل. أما الذي يصوم بجوارحه عن المكاره ويفطر بالأكل فمثله مثل من غسل أعضاءه مرة مرة فصلاته متقبلة لإحكامه الأصل وإن ترك الفضل.

ومعنى ذلك بصريح العبارة أن المهم في الصوم هو كف الجوارح عن الآثام، والإفطار بالطعام ليس بشيء عند الصوفية، وإنما هو شبيه بمن تفوته السنة في آداب الوضوء، أما الإفطار بالمآثم فهو أخطر ما يعرض له الصائمون وليس لآثم عندهم صيام وإن قتله الظمأ والجوع.

وعند تأمل هذه الأحكام نرى الصوفية يقفون عند المعاني وهم بذلك يخالفون رجال الشرع الذين يجعلون غاية الصوم أو شرائط الصوم موقوفة على الكف عن شهوات الحواس.

وليس معنى هذا أن الصوفية لا تهمهم ظواهر الصيام، لا، وإنما يرون وقوف الصيام عند الجوع والعطش غاية سوقية لا يتسامى إليها أرباب القلوب.

هم لا ينكرون أثر الظمأ والجوع في كسر الشهوات، ولكنهم يرون كف النفس عن الآثام غاية الغايات، وكل طاعة هي عندهم باب لإصلاح النفوس.

والصوفية هم الذين عطروا أيام الصوم بالأنفاس الروحية، وإليهم يرجع الفضل في نظم ما ساد على ألسنة الناس من الأناشيد، وقد سلكوا مسالك مختلفة من التنغيم والتطريب، وكثرت منظوماتهم في الفن الغنائي الذي يعرف باسم «كان وكان» وإليكم هذا الشاهد الطريف:

أيا من عمره طال
إلى كم أنت بطال
جميع الدهر نقال
على دهرك أثقال
تبارز بالمعاصي
وعنا أنت قاصي
وتدعو بالخلاص
وما عندك إقبال
إلى الغيبة ترتاح
وما عندك إصلاح
وما يرضيك يا صاح
سوى قد قيل أو قال
تمد الطرف في الصوم
ولا تخشى من اللوم
ليكتب منك في اليوم
وفي الليلة أفعال
فتب ذا الشهر كي يمضي
وكمل صومه فرضا
لعل الله أن يرضى
ويصلح منك أحوال

وإليكم هذا الشاهد:

إن كنت تطلب توبه
انهض فهذا وقتها
فبعد خمس ليال
يقال فرغ رمضان
يرحل وما أودعته
إلا زخاريف العمل
وا حسرتك حين يشهد
عليك بالخسران
تصوم نهارك ولما
تفطر تحصل فايتك
تشبع وتنسى الجائع
هذا هو الخذلان
تقطع صيامك غيبه
والصوم قبوله من عجب
تأكل لحوم العالم
وترتجي الإحسان
من ليس يحفظ لسانه
ولا الجوارح من زلل
ما له من الصوم إلا
يقضي النهار جوعان
بالله عليك قم ودع
شهر الصيام قبل السفر
ولا تخليه يرحل
وهو عليك غضبان
بيض سواد الصحيفة
فالموت أدنى من نفس
وخف إلهك تحظى
منه غدًا بأمان

وفي رحاب الصوفية ظهرت القصيدة المشهورة التي يتغنى المنشدون في توديع رمضان:

شهر الصيام لقد كرمت نزيلًا
ونويت من بعد المقام رحيلا
وأقمت فينا ناصحًا ومؤدبًا
وشفيت منا بالفؤاد غليلا
نبكيك يا شهر الصيام بأدمع
تجري فتحكي في الخدود سيولا
أسفًأ على الأنس الذي عودتنا
وصنيع فعل لا يزال جميلا
شهر الأمانة والصيانة والتقى
والفوز فيه لمن أراد قبولا
تبكي المساجد حسرة وتأسفًا
إذ عطلت من أنسه تعطيلا
فيه الجنان تفتحت لقدومه
وتزينت ولدانها تجميلا
وتفيأت أشجارها بظلالها
وقطوفها قد ذللت تذليلا

وهي قصيدة طويلة يجدها القارئ في كتاب الروض الفائق.

وللصوفية توسلات خاصة بشهر رمضان:

إلهي، وقف السائلون ببابك، ولاذ الفقراء بجنابك، ووقفت سفينة المساكين على ساحل كرمك، يرجون الجواز إلى ساحة رحمتك ونعمتك.

إلهي، إن كنت لا تكرم في هذا الشهر الشريف إلا من أخلص لك في صيامه، فمن للمذنب المقر إذا غرق في بحر ذنوبه وآثامه.

إلهي، إن كنت لا ترحم إلا الطائعين، فمن للعاصين؟ وإن كنت لا تقبل إلا العاملين، فمن للمقصرين؟

إلهي، ربح الصائمون، ونحن عبيدك المذنبون، فارحمنا برحمتك، وجد علينا بفضلك ومنتك، واغفر لنا أجمعين برحمتك، يا أرحم الراحمين.

ولهم فيه تأوهات وحسرات كلوعة الذي يقول:

إخواني، ما أحسن من خلع عليه مولاه خلع القبول! وما أنعم بال من بلغه غاية المقصود والسُّول! وما أشقى من رد عليه صيامه، وأحصي عليه قبحه وآثامه، ومضت في البطالة شهوره وأعوامه، وآثر شهوة نفسه على خدمة ربه إلى أن ذهبت ساعاته وأيامه!!

وجملة القول أن الصوفية يرون الصيام فرصة من فرص القلب والروح، وترك الطعام والشراب هو أهون ما يفكر فيه الصائمون، والأصل عندهم أن يسلم القلب من الزيغ وأن تسلم الجوارح من آفات البغي والعدوان. وكذلك كانت أقوالهم في الصوم وآدابه مغمورة بمعاني الرفق والصفاء.

ولا يمكن القارئ أن يتصور مبلغ ما صنع الصوفية في تحبيب الصوم إلا إن زار المساجد في رمضان؛ فهناك يجد الترتيل والتسبيح والتهليل، وهي تقاليد طريفة يرجع الفضل في إقامتها وتثبيتها إلى الصوفية، وهم قوم لم يشغلهم الحرام والحلال وإنما انغمست أرواحهم في لطف الغناء فكانت أحاديثهم وأناشيدهم ترتيلات قدسية لا يدرك أسرارها غير أرباب القلوب.

إن رجال الشريعة يختلفون فيما ينعقد به الصوم من النية، أما الصوفية فيوجبون النية في كل لحظة، ويرون رمضان كله موسمًا سنويًا تطهر فيه السرائر والنفوس.

ورجال الشريعة يختلفون فيما يفسد الصوم، ولهم في ذلك مزالق؛ لأنهم يقفون عند المحسوس من الطعام والشراب. أما الصوفية فيشغلون بحساب النفس، ويرون الصوم أصلًا من الأصول في تطهير النفوس والقلوب، والصائم عندهم لا يشغل نفسه بحديث الظمأ والجوع، كما يفعل العوام من أشباه الصالحين، وإنما يشغل نفسه بالحقائق الجدية، ويتسامى إلى الاتصال برب العزة والجبروت.

ينظر العاميّ إلى الهلال فيراه فاتحة للمعجزات الحسية، وينظر الصوفي إلى الهلال فيراه فاتحة لطوائف من المعاني الروحية، وإذا كان الصائم من العامة يفرح عند الغروب؛ لأنه سيرجع إلى الحرية الطبيعية فإن الصوفي لا يفرح عند الغروب إلا حين يوقن أنه قضى يومًا سعيدًا لم يدنس فيه لسانه بغيبة أو نميمة، ولم يأثم قلبه بالتفكير فيما سوى الحضرة الربانية.

الصوم هو صوم الصوفية، والصوفية هم الناس، ومن عداهم أشباح بلا أرواح.

وما فضل الجوع في تهذيب النفوس؟ إن لحظة واحدة من كبح جماح النفس وصدها عن شهوات البغي والعقوق أفضل وأشرف من ألف يوم يقضيها العامي في الظمأ والجوع.

إن الصوم عن الطعام ليس بشيء في جانب الصوم عن الآثام. وهل يتشهى الناس الطعام بقدر ما يتشهون الوقوع في الأعراض!!

ما هو الكف عن أكلة يتشهاها البطن؟ إن العزيمة الصادقة لا تعرف إلا في إقامة العدل؛ لأن ابن آدم يتشهى الظلم أكثر مما يتشهى أطايب الطعام والشراب.

الصوم صوم النفوس لا صوم البطون، الصوم الأعظم هو الكف عن إيذاء الناس، ومن هنا صح لبعض الصوفية أن يقول:

إذا ما المرء صام عن الدنايا
فكل شهوره شهر الصيام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤