الموسيقا والغناء

فضل الموسيقا في التذكير بعالم الأرواح

ليس من المبالغة أن نحكم بأن الصوفية تفردوا بين أهل الأدب والأخلاق بالتجويد في الموسيقا والغناء، فهم الذين نظروا في ذلك نظرًا فلسفيًا، وهم الذين جعلوا الموسيقا والغناء من المشاكل الخلقية، وهم الذين صيروا إنشاد الشعر في المحافل العلنية بابًا من الأدب الرفيع.

ولنبدأ هذا الفصل بتحليل الحوار الممتع الذي وضعه إخوان الصفا في فضل الأنغام الموسيقية، فهو يمثل فهم الصوفية لأثر الموسيقا في تثقيف الأرواح والقلوب.

حدثوا أن جماعة من الحكماء والفلاسفة اجتمعوا في دعوة ملك من الملوك فأمر أن يكتب كل ما يتكلمون به من الحكمة، فلما غنّى الموسيقار لحنًا مطربًا قال أحد الحكماء: إن للغناء فضيلة يتعذر على المنطق إظهارها، ولم يقدر على إخراجها بالعبارة فأخرجها النفس لحنًا موزونًا، فلما سمعتها الطبيعة استلذتها وفرحت وسرّت بها فاسمعوا من النفس حديثها ومناجاتها.

وقال آخر: احذروا عند استماع الموسيقا أن تثور بكم شهوات النفس البهيمية نحو زينة الطبيعة، فتميل بكم عن سنن الهوى وتصدّكم عن مناجاة النفس العليا.

وقال آخر للموسيقار: حرّك النفس نحو قواها الشريفة من الحلم والجود والشجاعة والعدل والكرم والرأفة، ودع الطبيعة لا تحرك شهواتها البهيمية.

وقال آخر: الموسيقار إذا كان حاذقًا بصنعته حرك النفوس نحو الفضائل ونفى عنها الرذائل.

وقال آخر: سمع فليسوف نغمة القينات فقال لتلميذه: امض بنا نحو هذا الموسيقار لعله يفيدنا صورة شريفة، فلما قرب منه سمع لحنًا غير موزون ونغمة غير طيبة فقال لتلميذه: زعم أهل الكهانة أن صوت البوم يدل على موت إنسان، فإن كان ما قالوا صدقًا فصوت هذا الموسيقار يدل على موت البوم!

وقال آخر: الموسيقار وإن كان ليس بحيوان فهو ناطق فصيح يخبر عن أسرار النفوس وضمائر القلوب.١

وقال آخر: لا يفهم معاني الموسيقار ولطيف عبارته عن أسرار الغيوب إلا النفوس الشريفة الصافية من الشوائب الطبيعية، والبريئة من الشهوات البهيمية.

وقال آخر: إن النفوس الناطقة إذا صفت عن الشهوات الجسمانية، وزهدت في الملاذ الطبيعية، وانجلت عنها الأصدية الهيولاينة، ترنمت بالألحان الحزينة، وتذكرت عالمها الروحاني الشريف العالي، وتشوفت نحوه فإذا سمعت الطبيعة ذلك اللحن تعرضت للنفس بزينة أشكالها، ورونق أصباغها، كيما تردّها إليها، فاحذروا من مكر الطبيعة أن تقعوا في شبكتها.

وقال آخر: إنما تشخص أبصار الناظرين إلى الوجوه الحسان؛ لأنها أثر من عالم النفس، ولأن عامة المرئيات في هذا العالم غير حسان لما يعرض لها من الآفات الشائنة المشوهة، إما في أصل التركيب أو بعده. وبيان ذلك أن الصغر من المواليد يكونون ألطف بنية وأظرف شكلًا وصورة لقرب عهدها من فراغ الصانع منها، وهكذا حكم ما يُرى من حسن الثياب ورونقها في مبدأ كونها قبل الآفات العارضة لها من الهوام والبلى والفساد.

اختلاف الناس في فهم الصور المعنوية للموسيقا والغناء

تلك فقرات قصيرة من الحوار الطويل الذي كتبه إخوان الصفا في فضل الموسيقا والغناء٢ ولم ننقل الحوار برمته لأن منهج البحث لا يحتم ذلك. ويكفي أن ندل القارئ على الغرض الذي وضع لأجله ذلك الحوار، وهذه الفقرات تشير إلى أنهم يتمثلون أصولًا روحانية للهياكل الجسمانية، ويتصورون أن الغناء قد يوجّه النفس إلى الخير حينًا، وإلى الشر أحيانًا، يوجهها إلى الخير حين ينبه الموسيقار إلى الواجب الأشرف في تحريك النفوس نحو قواها الشريفة من الحلم والجود والشجاعة والعدل، ويوجهها إلى الشر حين يتغنى بالشهوات الحسية فيثير في النفس أسباب الشوق إلى موارد الغي والضلال.

وإخوان الصفا من الصوفية، وإن لم يصرحوا بذلك، وهم يستشهدون بكلام أهل التصوف في مواطن كثيرة، وفي هذا الباب نقلوا من نوادرهم ما يؤيد رأيهم في اختلاف التأثيرات الموسيقية باختلاف النفوس. وهم يرون أن «كل نفس إذا سمعت من الأوصاف ما يشاكل معشوقها، ومن النغمات ما يلائم محبوبها، فرحت وسرت والتذت بحسب ما تصورت من رسوم معشوقها، واعتقدت في محبوبها، وتلك المعشوقات تختلف باختلاف الطباع، فللطبع السليم معشوقات روحانية، وللطبع العليل معشوقات أرضية، وقد صرحوا بأن أبصار الناظرين تشخص إلى الوجوه الحسان لأنها أثر من عالم النفس، كأن ذلك العالم كله جمال. وعلى هذا الأساس يكون الغناء العذب تذكيرًا بالمحاسن المغيبة في عالم الأرواح».

الألحان في الأغاني الدينية وفي القرآن

والحق أن الغناء كان منذ الزمن القديم عنصرًا حبًا في التقاليد الدينية، وكان من الأنبياء من يعتمد على صوته الجميل في جذب الناس، ففي الحديث أن داود عليه السلام قد أُعطي حسن الصوت حتى كان يستمع لقراءته إذا قرأ الزبور الجن والإنس والوحش والطير٣ وكان بنو إسرائيل يجتمعون فيستمعون، وكان يحمل من مجلسه أربع مئة جنازة ممن قد مات».٤

ولا تزال الكنائس المسيحية منذ نشأتها الأولى عامرة بالأناشيد، وللكنائس الفرنسية تأثير في الموسيقا والغناء يعرفه من يهتم باللوحات الغنائية، وقد جمعت عددًا وفيرًا من أناشيد الرهبان، ولا سيما الأناشيد المعروفة بالجريجوارية.

والقرآن نفسه لحن وقرئ بالألحان منذ عهد الرسول، وصح للجاحظ أن يحكم بأن القراءة بالألحان غير الغناء.٥
وكذلك درج الصوفية على مدح الصوت الحسن فكان ذو النون يراه مخاطبات وإشارات إلى الحق أودعها كل طيّب وطيبة٦ وكان يحيى بن معاذ يراه روحة من الله لقلب فيه حبّ الله.٧

رأي الصوفية في السماع

وأهم ما امتاز به الصوفية هو التحرز في السماع، وهم يكرهونه إذا تطرق إلى الغرض منه الفساد والمخالفة واللهو وترك الحدود٨ وعندهم ما يسمى السماع بالحال، والذي يسمع بحاله يتأمل إذا سمع حتى يرد عليه معنى من ذكر عتاب أو خطاب، أو ذكر وصل أو هجر، أو قرب أو بعد، أو تأسف على فائت، أو تعطش إلى ما هو آت، أو ذكر طمع، أو يأس أو بأس، أو بسط أو استئناس، أو خوف الافتراق، أو وفاء بالعهد، أو تصديق بالوعد، أو نقض للعهد، أو ذكر قلق أو اشتياق، أو فرح الاتصال، أو ترح الانفصال، أو التحسر على ما لم ينل، أو القنوط من الذي أمل، أو ذكر صفاء المحبة، أو التمكن من المودة، أو ذكر اعتراض الصبوة بعد تمكنه من الحظوة، أو ذكر محافظة الرقيب عند ملاحظة الحبيب، أو تباريح الشجون، وفنون الفتون، فإذا طرق سمعه من ذلك حال مما يوافق حاله فيكون كالقادح يقدح في سره على قدر قوة إرادته فيعجز عن الضبط.٩
وعندهم السماع بالحق ومن الحق، والذي يسمع بالحق ومن الحق لا يلتفت إلى هذه الأحوال؛ لأنها وإن كانت شريفة فهي ممزوجة بحظوظ البشرية، والذين يكون سماعهم بالله ولله ومن الله وإلى الله هم الذين وصلوا إلى الحقائق وعبروا الأحوال، وفنُوا عن الأفعال والأقوال، ووصلوا إلى محض الإخلاص وصفاء التوحيد، فخمدت بشريتهم، وفنيت حظوظهم، وبقيت حقوقهم، فشهدوا موارد الحق بالحق بلا علة ولا حظ للبشرية، وأطلعتهم تلك الموارد على أسرار حكمته، وأرتهم آثار قدرته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.١٠

حسن النية وشرف القصد هما الأساس في إباحة الغناء

وينبغي أن نتذكر أن الصوفية تفردوا بين رجال الدين بالتشيع للموسيقا والغناء، فمن الفقهاء من يرى أن الغناء لهو مكروه يراد به الباطل، ويقضي بأن من استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته،١١ وذلك الفقيه هو الشافعي رحمه الله. أما مالك فقد نهى عن الغناء وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له ردها، وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد.١٢ وأما أبو حنيفة فكان يجعل سماع الغناء من الذنوب.١٣
أما الصوفية فقد أقبلوا على الغناء، ولم يشترطوا إلا حسن النية، وشرف القصد، وتفردت الطريقة المولوية باستجازة العزف على الآلات الموسيقية على اختلاف أنواعها أثناء مجلس الذكر، وكان لهذه الطريقة أشياع في الأقطار الفارسية والتركية، وكان لهم في مصر تكية في حي السيوفية بالقاهرة، وكانت لهم حضرة أسبوعية يتشوف إليها المولعون بالموسيقا والغناء، وقد أغلقت الحكومة المصرية تلك التكية، ورأينا يوم إغلاقها جماعة من أهل الأدب يعترضون في الجرائد على حرمان الموسيقا من براعة أولئك القوم.١٤
والذي يراجع كتب التصوف يراها تفيض بالكلام عن الوجد والسماع وآداب المستمعين. وفي كتاب الإحياء فصل ممتع لخصته وناقشته في كتاب الأخلاق عند الغزالي١٥ ولا أرى العود إلى تلخيصه في هذا الحديث، ويكفي أن يتذكر القارئ أن عناية الصوفية بالكتابة عن الموسيقا والغناء فيها وساوس كثيرة تمثل عنايتهم بالفنون وحرصهم على الأخلاق.١٦

بين الفقهاء والصوفية

أما طريقة التغني في مجالس الصوفية فقد بينها الأستاذ التفتازاني في مقال نشره في مجلة المعرفة — عدد يونيه سنة ١٩٣١ — وهو يقول:

«إن الصوفية درجوا منذ القديم على أن يبدأوا مجالس الذكر بـ (لا إله إلا الله) وتعرف عندهم بالأرضية، ويأخذ (الرسيم) الذي هو رئيس المجلس في التدرج بالذاكرين أثناءها من الراست «الرصد» إلى الدوكه إلى السيكاه إلى الجهر كاه (الجركاه) إلى الحجاز ثم الرهاوي فالكردي فالبياتي فالصبا. وهنا تبدو مقدرة الرئيس في نقل الذاكرين من نغمة إلى نغمة كما تبدو مقدرة المنشدين في متابعتهم للأنغام والإنشاد. والغالب في الإنشاد على الأرضية أن يكون من كلام الصوفية كقولهم:

إلهي توسلنا بجاه محمد
نبيك وهو السيد المتواضع
أنلنا مع الأحباب رؤيتك التي
إليها قلوب الأولياء تسارع

إلى آخر القصيدة، ثم ينفرد رئيس المنشدين بعد الوصول إلى نغمة الرصد أو إلى النغمة التي ينتهي عندها إنشاد القصيدة بالاستغاثة (أغثنا أدركنا يا رسول الله) ثم يقول الموال من نفس النغمة، فالأبيات التي سينشدها عند قيام المجلس من نفس النغمة أيضًا ينشدها على الأرض مقطعة، وعند قيام الذاكرين يكرر الأبيات بالطريقة المألوفة، ثم ينفرد بعد ذلك بالمقطعات والقصائد والرقائق وما إليها من كلام الصوفية. وقد يستبيح بعضهم أن ينشد الأدوار الموسيقية بمذاهبها وورودها المعروفة على مجلس الذكر، ولكن هذه الطريقة قاهرية محضة، ويكاد لا يتبعها إلا رجال الطريقة الليثية أصحاب الفضل على هذا الفن وأساتذة مبرّزيه وحملة ألويته في القاهرة منذ مائتي عام».

طرائق الإنشاد في مجالس الذكر

وقد لا حظت أن مجالس الصوفية كانت تنقلب أحيانًأ إلى مجالس فنية، فهي مجالس تعقد ظاهرًا لذكر الله، ولكن الغرض منها الغناء. فقد كان في حي الحسين منزل تقام فيه حضرة كل ليلة ثلاثاء. وكان ذكر الله في الصورة الشكلية يتولاه طائفة من العجزة عجزة الدراويش، أما نظام المجلس فيقوم على فن الشيخ حسن الحويحي، وكان منشدًا حلو الصوت، عذب الأداء، خفيف الروح، وكان ينشد في الحضرة أبياتًا من شعر ابن الفارض، مثل:

ما بين معترك الأحداق والمهج
أنا القتيل بلا إثم ولا حرج

ثم يندفع فيغني «آنست يا نور الوجود، شرفت يا روح المهجة، بعد البعاد أنا قلبي عليك» أو «الكمال في الملاح صدف» إلى آخر الأغاني الطريفة التي كانت تغنى في الليالي الملاح.

وكنت ألاحظ أن أهل ذلك المنزل يجعلون ليلة الحضرة ليلة قصف فيجمعون خلانهم حول الموائد ويتندرون بأطايب الأحاديث.

وكان المستمعون يقترحون «الأدوار» على نحو ما كانوا يفعلون في حفلات الطرب والأنس، وقد اقترح بعضهم دور «حود من هنا وتعال عندنا»؛ فغضب الشيخ الحويحي وقال: نحن لسنا في الأزبكية … أما أنا فكنت أفهم من شواهد الحال أن الأزبكية ليست منهم ببعيد!

وكان الشيخ الحويحي ريحانة عصره، فلما انتقل إلى جوار ربه تعطلت تلك الحضرة، فما استطاع منشد آخر أن يجذب القلوب إلى ذلك المكان.١٧

مجالس الصوفية تنقلب أحيانًا إلى مجالس فنية

وكانت مجالس الذكر مدرسة لتخريج المغنين ففيها ظهرت تباشير النبوغ للمرحومين عبده الحامولي، ومحمد عثمان، وسلامة حجازي، ويوسف المنيلاوي، وسيد درويش. وفي القرى المصرية مئات من قراء الموالد هم في الأصل من أتباع الصوفية.

أثر الغناء في الأدب

واهتمام الصوفية بالغناء عاد على الأدب بكثير من النفع؛ فهناك مجموعات شعرية وضعت لحفظ الأناشيد الصوفية، منها سفينة النجاة، وهي مجموعة صنفت منذ عشرين عامًا صنفها الأديب محمود نسيم، وقد عاونته على ترتيبها يوم كنت موصول العهد بالسادة الشاذلية.

وقد انتقل فريق من تلك الأناشيد إلى الأغاني الحسية، أغاني المرح والطرب في عالم الحس الذي يتاخم عالم الروح. ومنذ ليال كان صالح عبد الحي يغني في قاعة المذياع:

إن شكوت الهوى فما أنت منا
احمل الصد والجفا يا معنى

وهي قصيدة صوفية يتلقاها أكثر الناس بالقبول، وهي في أنفسهم صورة من الوجد الحسي المشبوب.

وأكثر الأغاني الصوفية رمزيات وفيها ما يفصح عن أغراضهم كالذي نراه في هذه الحائية:

أبدًا تحن إليكم الأرواح
ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم
وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وا رحمتا للعاشقين تكلفوا
ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء البائحين تباح
يا صاح ليس على المحبّ ملامة
إن لاح في أفق الوصال صباح
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها
لما دروا أن السماح رباح
ودعاهم داعي الحقائق دعوة
فغدوا بها مستأنسين وراحوا
ركبوا على سنن الوفا، ودموعهم
بحر، وحادي شوقهم ملاح
والله ما طلبوا الوقوف ببابه
حتى دعوا وأتاهم المفتاح
لا يطربون لغير ذكر حبيبهم
أبدًا فكل زمانهم أفراح
حضروا فغابوا عن شهود ذواتهم
وتهتكوا لما رأوه وصاحوا
أفناهم عنهم وقد كشفت لهم
حجب البقا فتلاشت الأرواح
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح١٨

بين الرمز والإفصاح

وفي الصوفية من اهتم بتحديد المعاني المنقولة من الحسيات إلى الذوقيات، فقد حدث ابن عربي أن من سماعهم قول ابن حيوس:

أسكان نعمان الأراك تيقنوا
بأنكم في ربع قلبي سكان
ودوموا على حفظ الوداد فطالما
بليت بأقوام إذا استحفظوا خانوا
سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم
هل اكتحلت بالنوم لي فيه أجفان
ثم قال: «السماع الروحاني في ذلك: سكان نعمان الأراك هم العارفون في نعيم حضرة المشاهدة ومحلها قلوبهم. يقول لطيفته الربانية لهذه الهمم: داوموا فإني دفعت إلى نفوس أخذ عليها العهد الإلهي في الميثاق الأول فخانوا، ثم أخذ يصف نفسه بالقيومية تخلقًا إلهيًا، أي على قدر التجرد من عالم التركيب الذي هو محل النوم إلى العالم الأنزه الأقدس الذي لا نوم فيه ميراثًا نبويًا من أنه لا ينام قلبه ، ثم أخذ يخاطب الهمم أن لمعان سيوفها إذا برقت من منازلها منازل الأحبة فغمد هاتيك السيوف أجفاني، أي لا أنام، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار».١٩

وهذه العبارة فيها حيرة، حيرة ابن عربي بين مقام الله ومقام الرسول، وسبب ذلك يرجع إلى قوله بالحقيقة المحمدية، فالنبي مألوه من جانب وإله من جانب، فهو رب ومربوب، هو رب حين تراه صاحب الفضل على جميع الموجودات، وهو مربوب حين تتصور تبعيته لواجب الوجود، وقد فصلنا هذه القضية في الجزء الأول تمام التفصيل.

ثم حدثنا أن من سماع الصوفية قول مهيار:

من ناظر لي بين سلع وقبا٢٠
كيف أضاء البرق أم كيف خبا
نبهني وميضه ولم تنم
عيني ولكن رد قلبًا عزبا
برق له قد صار قلبي خافقًا٢١
واستبردته أضلعي ملتهبا
يالبعيد من منىً دنا به
— يوهمني الصدق — بُريق كذبا
ولنسيم سحر بحاجر
ردت به عهد الصبا ريح الصبا
أليةً ما فتح العطار عن
أعبق منها نفسًا وأطيبا
سل من يدل الناشدين بالغضا
على الطريد ويرد السلبا
أراجع لي — والمنى تعلة —
وطالعٌ نجم زمان غربا
وطوقة بين القباب بمنى
لا خائفًا عينا ولا مرتقبا
ثم قال: «السماع الروحاني للعارف في ذلك: من ناظر لي بين المقامات المحمدية كيف لمع برق المعرفة، أم كيف خبا مطويًا في غيم الكون، أيقظني لمعانه على أن عيني ما نامت عنه، ولكن كان العقل منصرفًا إلى عالم التدبير فرده إلى العالم المدبر، فسكنت له همم القلوب بعد طيرانها خضعًا كسلسلة على صفوان، واستبردت برد السرور ما كان حاميًا بنور التنزلات الإلهية، فلما لاح له المعين من خلق خلقة الرصد مثال النور المنزل ليقبله منه عرفه بالحفظ الإلهي فقال: يوهمني الصدق بريق كذب. ثم رجع ينادي أيضًا بالبعد من عالم الأنفاس في البرزخ المشترك بين النور والظلمة دل عليه وعلى عصر شبابه ريح الصبا وشروق نفس التنفس من نفس الرحمن بما هو أطيب من المسك عرفًا ونشرًا، ثم قال: سل من يدل الناشدين قلوبهم بمقام الاشتياق على الطريق عن البناء الأعز، ويرد قلبًا أخذ منه على غرة، ثم قال: أراجع لي ذلك السلب، والمنى قد تكون أماني، وهل يطلع نجم سعد غرب؟ أي صار في الحجاب. وهل أراني طائفًا مترددًا بين القباب الساترة شموسًا لا خائفًا بقول: لم؟ ولا مترقبًا وعد حصول الاتصال وانتظام الشمل بالأحباب».٢٢

وهذا الكلام على ركاكته واضح المدلول، فهو يعني أن الصوفية قد يتغنون بأشعار حسية، ولكنهم ينقلونها إلى آفاق روحانية.

وما احتاج ابن عربي إلى هذا الشرح إلا لأنه كان مشغوفًا بتقعيد التصوف، أي إقامته على قواعد وأصول.

وكان الأفضل أن يترك هذه المعاني بلا شرح، فللأرواح آفاق أوسع وأرحب مما يظن، والصوفي الموصول القلب والروح بعالم المعاني قد يفهم من الغناء أشياء لا يصل إليها شرح ولا تفسير ولا تأويل.

وشعراء الحواس أنفسهم لا تفتنهم «ليلى» من حيث هي امرأة، وإنما يتمثلون بها معاني كثيرة جدًا، منها الهجر والوصل والعذاب والنعيم.

والصوفي يعجز حقًا وصدقًا عن شرح أسباب هيامه حين يسمع الغناء، ومثله مثل الموسيقار الحساس الذي يطرب من حيث لا يعرف بالضبط كيف طرب.

والصوفي الحق لا ينكر المحسوسات، فهو قد يحب «ليلى» الحقيقية بجانب «ليلى» المجازية؛ لأن ليلى الحقيقية سطر جميل في لوح الوجود.

الصوفي الحق لا يحتاج إلى التبرؤ من جميع المحسوسات كما يتبرأ أمثال ابن عربي؛ لأن المحسوسات هي التصوير للمعقولات، وهي المفتاح الذي تدخل به فردوس المعاني.

الصوفي الحق يرتاح لكل قول، ولكل صوت، ولكل منظر، ولكل مخبر، وهذه المرئيات ليست من الأوهام، وإنما هي شواهد تشير إلى حقائق، كما تشير الألفاظ إلى المعاني.

الصوفي الحق يعذر جميع المضللين وجميع المفتونين؛ لأنهم في رأيه من السالكين وإن جهلوا الطريق.

الصوفي الحق يطرب لكل شيء، ويأنس بكل شيء، ويتغافل عن الشروح؛ لأنها تفسد النفحات الوجدانية التي تأخذ عبيرها من الإبهام والغموض.

الصوفي الحق لا يعرف ماذا يريد، وهل كان مجنون ليلى يعرف بالضبط ماذا يريد؟

الصوفي الحق يرتاح إلى الحيرة كما يرتاح الجاهلون إلى اليقين.

•••

اللهم ضللني في هواك، واجعلني وحدي أسير الضلال في هواك، فبفضلك ورحمتك ذاق العارفون طعم الضلال.

وهل كانت الهداية الصريحة إلا نصيب الأغبياء!

١  الموسيقار في هذه العبارة هو الآلة الموسيقية.
٢  انظر المحاورة كاملة في رسائل إخوان الصفا ج١ ص١٧٥–١٧٩.
٣  اللمع ص٢٦٨.
٤  اللمع ص٢٦٨.
٥  وهناك رأي يقول بأن فواتح السور في القرآن هي علامات موسيقية، وقد شرحت هذا الرأي في كتاب النثر الفني ج١ ص٤١.
٦  اللمع ص٢٦٩.
٧  اللمع ص٢٦٩.
٨  ص٢٧٣–٢٧٦.
٩  ص٢٧٨.
١٠  انظر اللمع ص٢٧٩.
١١  الإحياء ج٢ ص٢٦٧.
١٢  الإحياء ج٢ ص٢٦٨.
١٣  الإحياء ج٢ ص٢٦٨.
١٤  ذهبت مرة لسماع أولئك القوم ولكن الشيخ محمد عبد المطلب رحمه الله صادفني في الطريق فصرفني عن ذلك الغرض وكانت حجته أنهم مبتدعون، فضاعت بذلك فرصة ما أظنها تعود.
١٥  ص٢٦٨–٢٧٤.
١٦  كان ابن القيم في أغلب أحواله من خصوم الصوفية وقد أنكر عليهم حب الغناء، وهو يسمي الغناء (قرآن الشيطان) ويستشهد بقول ابن مسعود: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل»، ويذكر أن شاهد ثقل القرآن على أهل الغناء والسماع (مدارج السالكين ج١ ص٢٧٥) والحق أن رأي ابن القيم في هذه القضية لا يخلو من اعتساف، فحلاوة القرآن لا توجب أن تخف النفوس لسماعه في كل وقت؛ لأن النفوس لا تستعد للجد في كل حين، فقد صاغها الله من ألوان مختلفات.
١٧  هو بيت الصواف، وكان له فناء واسع تقوم فيه عدة نخلات، وفي ذلك الفناء تقوم الحضرة على الحصير، وفي الأبهاء يجلس المدعوون الخصوصيون على الأرائك.
وبالقرب منه كان بيت الشيخ مصلح، وكان صوفيًا متأنقًا يعيش عيش المترفين، وكان الحضرة تقام في بيته ليلة الإثنين، وما كان فيها ذكر ولا أناشيد، وإنما كان يجتمع القراء المشهورون لقراءة القرآن بالألحان. وكان القراء يجدون الفرصة لتكوين سمعتهم بين الجماهير، قبل أن تخلق الإذاعة اللاسلكية بأعوام طوال. والشيخ مصلح مدفون بقرية الشيخ عبيد بجوار المطرية، وقد حدثني الأستاذ محمد لطفي جمعة أن بيته لا يزال معمورًا بمريديه القدماء.
١٨  من الوفاء للبحث أن نذكر مرة ثانية أن ابن القيم يرتاب في الغناء وينكره على الصوفية، وهو يراه أفظع من شرب الخمر، ويقول: «وأي نسبة لمفسدة سكر يوم ونحوه إلى سكرة العشق التي لا يستفيق الدهر صاحبها إلا في عسكر الهالكين سلبيًا حربيًا أسيرًا قتيلًا؟ وهل تقاس سكرة الشراب إلى سكرة الأرواح بالسماع، وهل يظن بحكيم أن يحرم سكرًا لمفسدة فيه معلومة ويبيح سكرًا مفسدته أضعاف أضعاف مفسدة الشراب؟ فإن نازعوا في سكر السماع وتأثيره في العقول والأرواح خرجوا عن الذوق والحس، وظهرت مكابرة القوم، فكيف يحمي الطبيب المريض عما يشوش عليه صحته، ويبيح له ما فيه أعظم السقم، والمنصف يعلم أنه لا نسبة بين سقم الأرواح بسكر الشراب، وسقمها بسكر السماع» (مدارج السالكين ج١ ص٢٧٩) وما يراه ابن القيم عين الفساد يراه الصوفية عين الصلاح؛ لأنهم يدعون إلى كل ما يهيج القلوب ويوقظ النفوس إذ كانت طريقتهم قائمة على تنبيه ما غفا من الأذواق والأحاسيس، وفيهم من لا يفرق بين الحلال والحرام ويرى أن العاصي والمطيع أمام الحق سواء. ويظهر من كل ما سلف أن أهل الشريعة وأهل الحقيقة مختلفون في الأساس الذي يقوم عليه صرح الأخلاق.
١٩  محاضرة الأبرار ص٢١٤ ج١.
٢٠  سلع وقبا: موضعان.
٢١  رواية الديوان: قرت له بنات قلبي خافقًا.
٢٢  انظر محاضرة الأبرار ص٢١٥ ج١ وتذكر ما أشرنا إليه في الجزء الأول من تأويل قصائد (ترجمان الأشواق).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤