كلامُ الشُّعراءِ في الزهد

الزهد بعد المجون

نذكر في هذا الفصل أشياء من كلام الشعراء في الزهد، ولا نقول: الصوفية، فلهؤلاء وجهة غير وجهة أولئك، إنما نريد الشعراء الذين عرفوا في بعض أدوار حياتهم بالمجون، ثم غزتهم المعاني الروحية فنقلتهم من حال إلى حال.

والماجنون حين يزهدون يصبح شعرهم قيثارة تندب بأوتار الندم والخوف، ويمسون ولهم شمائل تنفح بالوداعة واللين، ومن أمثلة ذلك حديث آدم بن عبد العزيز الأموي، وكان ماجنًا منهمكًا في الشراب، وكان يصحب يعقوب بن الربيع أخا الفضل بن الربيع، وكان يعقوب أيضًا من أهل الخلاعة والمجون، ثم تاب آدم بن عبد العزيز ونَسَك، واتفق أن استأذن يومًا على يعقوب بن الربيع، وكان يشرب، فقال يعقوب: ارفعوا الشراب، فإن هذا قد تاب وأحسبه يكره أن يحضره! فرُفع الشراب وأذن له، فلما دخل آدم قال: إني لأجد ريح يوسف! فقال يعقوب: هو الذي وجدت، ولكنا ظننا أن يثقل عليك لتركك له. قال: إي والله، إنه ليثقل علي ذاك! قال: فهل قلت في ذلك شيئًا منذ تركته؟ قال: نعم! وأنشد:

ألا هل فتى عن شربها اليوم صابر
ليجزيه عن صبره الغد قادر
شربت فلما قيل: ليس بنازع
نزعت وثوبي من أذى اللوم طاهر١

حديث آدم بن عبد العزيز

ونبدأ هذا الفصل بالكلام عن أبي نواس؛ لأنه أظهر شخصية تكلمت في الزهد بعد المجون، ويمتاز أبو نواس بالإخلاص في كل ما لهج به من المعاني الشعرية، فهو مخلص في زندقته، ومخلص في فجوره، ومخلص في تقاه، ولا تكاد تشعر بأن أبا نواس يعبث، إنما يتكلم بكلام أصحاب المبادئ: فهو يشك عن إخلاص، ويلحد عن إخلاص، ويفسق عن إخلاص، ويتوب عن إخلاص، فهو أنموذج لقوة الروح وحياة الوجدان، في مسالك الهوى ومسارب الضلال. وأول ما تنبهنا له من شعور أبي نواس بلوعة الندم قوله في مطلع قصيدة يمدح بها الأمين:

يا دار ما فعلت بك الأيام
ضامتك والأيام ليس تضام
عرم الزمان على الذين عهدتهم
بك قاطنين وللزمان عرام٢
أيام لا أغشى لأهلك منزلًا
إلا مراقبة عليَّ ظلام
ولقد نَهَزْتُ مع الغواة بدلوهم
وأسمتُ سرح اللهو حيث أساموا
وبلغتُ ما بلغ أمرؤٌ بشبابه
فإذا عصارة كل ذاك أثامُ

وهذه «العصارة» ظلت تلاحق أبا نواس بمرهوب الخيال، ولعله كان يقاسي اعتلاج هذه المرارة حين قال يدافع عن اقتراف الشهوات:

غدوت على اللذات منهتك الستر
وأفضت بنات السر مني إلى الجهر
وهان عليَّ الناس فيما أريده
بما جئت فاستغنيت عن طلب العذر
رأيت الليالي مرصدات لمُدَّتي
فبادرت لذاتي مبادرة الدهر

وهذا الشعر يمثل مذهبه في تعليل الفسوق، فهو يخاف من الليالي ويراها تنتهب مدته في الحياة، فيسبق لاقتناص ما يستطيع اقتناصه من طيب اللذات.

إخلاص أبي نواس في ميادين اللهو والجد

ثم ننظر فإذا عُمْرُ أبي نواس يميل إلى الغروب، وعندئذ ينفر من اللذات تجملًا فيقول:

أيا من بين باطية وزق
وعُودٍ في يدي غان مغنّي
إذا لم تنه نفسك عن هواها
وتُحسِنْ صَوْنَها فإليك عني
فإني قد شبعتُ من المعاصي
ومن إدمانها وشبعن مني
ومن أسوا وأقبح من لبيب
يرى متطربًا في مثل سني

ونراه يفزع عن قرب أجله فيقول:

سهوت وغرني أملي
وقد قصرت في عملي
ومنزلة خلقت لها
جعلت لغيرها شغلي
يظل الدهر يطلبني
وينحوني على عجل
فأيامي تقربني
وتدنيني إلى أجلي

أو يجزع من الشيب فيقول:

انقضت شِرَّتي٣ فعفت الملاهي
إذ رمى الشيب مفرقي بالدواهي
ونهتني النهى فملت إلى العد
ل وأشفقت من مقالة ناه
أيها الغافل المقيم على السَّهو
ولا عذر في المقام لساه
لا بأعمالنا نطيق خلاصًا
يوم تبدو السماء فوق الجباه

ثم نراه ينظر إلى العمر نظرة فلسفية إذ يقول:

إن مع اليوم فاعلمن غدًا
فانظر بما ينقضي مجيء غده
ما ارتد طرف امرئ بلذته
إلا وشيء يموت من جسده

والبيت الثاني يمثل عند الشعور به أقصى غايات الخوف والجزع.

نوازعه الزهدية

ولأبي نواس نظرات في الناس والحياة، فالناس عنده يتسللون من الهالكين، وإذا انتسب الرجل فهو ابن فلان الهالك ابن فلان الهالك، وهكذا دواليك إلى آدم، فنسبهم في الهلاك نسبٌ عريق، والحياة عنده عدوٌّ يلبس ثوب الصديق.

أرى كل حي هالكًا وابن هالك
وذا حسب في الهالكين عريق
فقل لقريب الدار: إنك ظاعن
إلى منزل نائي المحل سحيق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدوٍّ في ثياب صديق

وهذه النظرة على جانب من الدقة وطرافة الخيال، فأنساب الناس مطمورة في التراب، والدنيا تبدو في زينتها وتبسم كل يوم، ولكنها تعطينا اللذات بثمن غال عزيز، هي تأخذ العمر والعافية، وأي شيء أثمن من العمر والعافية؟

رأيه في الدنيا والناس

وأبو نواس، على ما به، يثق بالله، ويدعو إلى الثقة به، ويرى الحاجة إلى الناس من علامات ضعف اليقين، ويقول:

لو لم تكن لله متهمًا
لم تمس محتاجًا إلى أحد

الاهتمام برواية زهديات أبي نواس

وشهرة أبي نواس بالخلاعة والمجون لم تمنع أهل الفضل من رواية شعره. في الزهد، وقد اختار له ابن أبي الحديد٤ الرائية التي يقول فيها يخاطب الآدميين:
يا بني النقص والعِبَر
وبني الضعف والخَوَر
وبني البعد في الطبا
ع على القرب في الصُّور

وفي البيت الثاني نظرة فلسفية لا تكثر على أبي نواس وقد خبر طوائف كثيرة من خلق الله!

وحدث أحمد بن يحيى ثعلب قال: كنت أحب أن أرى أحمد بن حنبل فصرت إليه، فلما دخلت عليه قال لي: فيم تنظر؟ فقلت: في النحو والعربية، فأنشدني أبو عبد الله أحمد بن حنبل:

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل
خلوت، ولكن قل: عليَّ رقيب
ولا تحسبنَّ الله يغفل ما مضى
ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
لهونا عن الأيام حتى تتابعت
ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى
ويأذن في توباتنا فنتوب٥

وهذه الأبيات من شعر أبي نواس، وحسبه شرفًا أن يروي شعره أحمد بن حنبل.

وفي ديوان أبي نواس باب اسمه باب الزهد يشتمل على قصائد ومقطوعات تمثل رأي الشاعر في بعض الأزمات النفسية والأخلاقية، فليرجع إليه القارئ إن شاء. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن هذا الشاعر يتفق له أحيانًا أن ينطق بأبيات هي نماذج من الندم الموجع وهو يتحدث عن المجون، وتعليل ذلك سهل: فلبعض النفوس الجوامح صبوات إلى ما في الرشد من طمأنينة وأمان.

شعر أبي العتاهية

وبعد أبي نواس يأتي أبو العتاهية، وكان أولى بالتقديم لغلبة الزهد على شعره، ولكنا نرى القليل من زهديات أبي نواس أحفل بروح الصدق من كثير أبي العتاهية.

كان أبو العتاهية غزير البحر، لطيف المعاني، سهل الألفاظ، كثير الافتنان قليل التكلف، إلا أنه كثير الساقط المرذول مع ذلك، وأكثر شعره في الزهد والأمثال.٦

وكان في صباه لا يتخير أصدقاءه من خيار الناس، فلما تقدمت به السن مال إلى الرزانة والجد، ولكن ماضيه في صحبة الفارغين ظل يلاحقه طول حياته، وظل معاصروه يتهمونه بتكلف الزهد ويتقولون عليه الأقاويل.

قال الجاحظ: وزعم لي بعض أصحابنا قال: دخلت على أبي العتاهية في بعض المتنزهات وقد دعا عياشًا صاحب الجسر وتهيأ له بطعام وقال لغلامه: إذا وضعت قدامهم الغداء فقدم إليَّ ثريدة بخل وزيت، فدخلت عليه وإذا هو يأكل منها أكل متكمش غير منكر لشيء، فدعاني فمددت يدي معه، فإذا بثريدة بخل وبزر بدلًا من الزيت، فقلت له: أتدري ما تأكل؟ قال: نعم! ثريدة بخل وبزر فقلت: وما دعاك إلى هذا؟ قال: غلط الغلام بين دبَّة الزيت ودبَّة البزر٧ فلما جاءني كرهت التجبُّر وقلت: دهن كدهن فأكلت وما أنكرت شيئًا.٨

وهم بهذا يتهمونه بالشح على نفسه، ويرونه من أهل الحرص على ما يملك وليس ذلك من أخلاق الزاهدين.

وقال ثمامة بن أشرس: أنشدني أبو العتاهية:

إذا المرء لم يعتِقْ من المال نفسه
تملَّكه المال الذي هو مالكه
ألا إنما مالي الذي أنا منفق
وليس لي المال الذي أنا تاركه
إذا كنت ذا مال فبادر به الذي
يحق وإلا استهلكته مهالكه

فقلت له: من أين قضيت بهذا؟ قال: من قول رسول الله : «إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت».

فقلت له: أتؤمن بأن هذا قول رسول الله وأنه الحق؟ قال: نعم. قلت: فلم تحبس عندك سبعًا وعشرين بدرة في دارك٩ ولا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكِّي ولا تقدمها ذخرًا ليوم فقرك وفاقتك؟ فقال: يا أبا مَعْن، والله إن ما قلت لهو الحق، ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس، فقلت: وبم تزيد حال من افتقر على حالك، وأنت دائم الحرص، دائم الجمع، شحيح على نفسك، لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد؟ فترك جواب كلامي كله ثم قال لي: والله لقد اشتريت في يوم عاشوراء لحمًا وتوابله وما يتبعه بخمسة دراهم. فلما قال لي هذا القول أضحكني حتى أذهلني عن جوابه ومعاتبته، فأمسكت عنه وعلمت أنه ليس ممن شرح الله صدره للإسلام.١٠

وفي هذه القصة فكاهة، واختراعها يدل على غرام من عاصروا أبا العتاهية بتعقب أخباره وحمل الناس على الارتياب في حقيقة ما كان يعلن من الزهد.

وحدثوا أنه كان لأبي العتاهية جار ضعيف، سيئ الحال، متجمل عليه ثياب، فكان يمر بأبي العتاهية طرفي النهار، فيقول أبو العتاهية: اللهم أغنه عما هو بسبيله، شيخ ضعيف، سيئ الحال، عليه ثياب متجمل، اللهم أعنه واصنع له وبارك فيه. فبقي على هذا الحال إلى أن مات الشيخ نحوًا من عشرين سنة، وما تصدق عليه قط بدرهم ولا دانق، وما زاد على الدعاء شيئًا. قال المحدث: فقلت له يومًا: يا أبا إسحاق، إني أراك تكثر الدعاء لهذا الشيخ وتزعم أنه فقيرٌ مقلٌّ، فلم لا تتصدق عليه بشيء؟ فقال: أخشى أن يعتاد الصدقة، والصدقة آخر كسب العبد، وإن في الدعاء لخيرًا كثيرًا.١١

بخله وحرصه على المال

والكلام عن بخل أبي العتاهية وشحه ومنعه الزكاة كثير جدًّا يجده القارئ في الأغاني وغيره، والأقاصيص المروية عنه بعضها صحيح وبعضها منحول، ولكنها في جملتها تدل على أن معاصريه تلقَّوا مسلكه في الزهد بالغمز والسخرية، واستكثروا عليه أن يكون من أهل الحكمة والدين.

وقد كانت له بالفعل آراء فيها تطرف، ولم يسلم من التهمة بالزندقة، وكان من العسير أن تمر الأزمان العقلية في زمانه ولا تمسه بشيء من السوء، وقد استطاع خصومه أن يهيجوا عليه العامة، وأن يدعوا أنه زنديق، وأن يتهموه بالتهاون بالجنة وابتذال ذكرها في شعره إذ يقول:

كأن عتَّابة من حسنها
دُمْيَةُ قَسٍّ فتنتْ قَسَّها
يا رب لو أنسيتنيها بما
في جنة الفردوس لم أنسَها١٢

ولاتهامه بالزندقة أخبار كثيرة، وذلك يدل على أن معاصريه لم يتقبلوا زهده بأحسن القبول، وما ظنكم برجل كان الخواص من أحبائه يذكرون أخبار زهده بالسخرية، فقد حدَّث مُخارق أن أبا العتاهية دعاه لزيارته، فلما حضر وجد الشِّواء والشراب والفاكهة والريحان، فشرب ما شاء، ثم قال له أبو العتاهية: غنني في قولي:

أحمدٌ قال لي ولم يدر ما بي
أتحب الغداة عُتبةَ حقَّا

فغناه، فشرب قدحًا وهو يبكي أحر بكاء، ثم قال: غنني في قولي:

ليس لمن ليست له حيلة
موجودة خير من الصبر

فغناه وهو يبكي وينشِج، ثم شرب قدحًا آخر وقال: غنني، فديتك، في قولي:

خليليَّ ما لي لا تزال مضرتي
تكون مع الأقدار حتمًا من الحتم
قال مخارق: وما زال يقترح عليَّ كل صوت غُنِّي به في شعره فأغنيه ويشرب ويبكي حتى صار العَتَمة فقال: أحب أن تصبر حتى ترى ما أصنع، فجلست فأمر ابنه وغلامه فكسرا كل ما بين أيدينا من النبيذ وآلته والملاهي، ثم أمر بإخراج كل ما في بيته من النبيذ وآلته فأُخرج جميعه، فما زال يكسره ويصب النبيذ وهو يبكي حتى لم يبق من ذلك شيء، ثم نزع ثيابه واغتسل، ثم لبس ثيابًا بيضًا من صوف، ثم عانقني وبكى، ثم قال: السلام عليك يا حبيبي وفرحي من الناس كلهم، سلامَ الفراق الذي لا لقاء بعده، وجعل يبكي، وقال: هذا آخر عهدي بك في حال تَعاشُر أهل الدنيا، فظننت أنها بعض حماقاته، فانصرفت وما لقيته زمانًا، ثم تشوقته فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت، فإذا هو أخذ قوصرتين١٣ وثقب إحداهما وأدخل رأسه ويديه فيها وأقامها مقام القميص، وثقب الأخرى وأخرج رجليه منها وأقامها مقام السراويل. فلما رأيته نسيت كل ما كان عندي من الغم عليه والوحشة لعشرته، وضحكت والله ضحكًا ما ضحكت مثله قط. فقال: من أي شيء تضحك؟ فقلت: أسخن الله عينك! هذا أي شيء هو؟ من بلغك عنه أنه فعل مثل هذا من الأنبياء والزهاد والصحابة والمجانين؟ انزع عنك هذا يا سخين العين.١٤

اتهامه بالزندقة

ما لنا ولأخبار أبي العتاهية نتحدث عن الصحيح منها والمنحول، ونسرد ما أضيف إليه على سبيل الفكاهة والسخرية، إنه لا شك في أن أبا العتاهية شغل بتقويم نفسه، وأقبل في بعض أدوار حياته على التنسك والزهد، ولا يخرج حاله عن فرضين: الأول أن يكون مخلصًا، الثاني أن يكون مرائيًا، فإن كان مخلصًا فشعره شاهد ذلك الإخلاص، وإن كان مرائيًا فهو ورياؤه وأشعاره من مظاهر التصوف؛ لأن التخلق بأخلاق الزهاد لا يكون إلا إن صح لهم اسمٌ وصيت، ولا جدال في أن الزهاد كان لهم سلطان في ذلك العهد، وكان يسر أبا العتاهية أن يقف من الخلفاء ذلك الموقف المشرِّف الذي كان يقفه عمرو بن عبيد وعبد الله بن المبارك، وقد صح له شيء من تلك الأحلام، فذُكر بالخير في مجلس الرشيد ومجلس المأمون.١٥

سخرية معاصريه من تزهده

غير أنه لا ينكر أن مجموعة أخبار أبي العتاهية تمثله رجلًا يضجره القلق، ويقل في حياته الأمن والاطمئنان، ودليل ذلك ما حدث به أبو عكرمة عن شيخ له من أهل الكوفة قال: دخلت مسجد المدينة ببغداد بعد أن بويع الأمين محمد بسنة، فإذا شيخ عليه جماعة وهو ينشد:

لهفي على ورق الشباب
وغضونه الخُضْر الرِّطاب
ذهب الشباب وبان عني
(م) غير منتظر الإياب
فلأبكين على الشبا
ب وطيب أيام التصابي
ولأبكين من البلَى
ولأبكين من الخضاب
إني لآمل أن أخلد (م)
والمنية في طلابي
قال: فجعل ينشدها وإن دموعه لتسيل على خديه، فلما رأيت ذلك لم أصبر أن ملت فكتبتها، وسألت عن الشيخ فقيل لي: هو أبو العتاهية.١٦

فهذه الحسرة على الشباب وأيام التصابي تصوره رجلًا مغلوبًا على اللذات، وتطعن في صحة زهده، ولو كان زهده عن إخلاص مطلق لرمى بذكريات الشباب حيث رمتها الأيام.

ولسنا نقول: بأن الزهد يقضي على جميع الصبوات القلبية، وأن بكاء الشباب لا يمر بقلب رجل زاهد، وأن الحسرة على أيام التصابي لا تكون إلا من رجل مزعزع اليقين، لا، ولكنا نتخذ من ذلك شاهدًا على أن الرجل ظل يعيش إلى أخريات أيامه بقلب مفتون بأيام الصبوة والفتك، وإن كان شعره في الزهد ملأ الدنيا وغزا صوامع الرهبان.١٧

قلقه الروحي وحزنه على الشباب

أما شعر أبي العتاهية في الزهد فكان في الأغلب سهلًا لينًا، وكانت له في ذلك سياسة يكشف عنها حديث نقله صاحب الأغاني عن كتاب هارون بن علي، قال: حدثني علي بن مهدي عن ابن أبي الأبيض قال: أتيت أبا العتاهية فقلت له: إني رجل أقول الشعر في الزهد، ولي فيه أشعار كثيرة، وهو مذهب أستحسنه لأني أرجو أن لا آثم فيه، وسمعت شعرك في هذا المعنى فأحببت أن أستزيد منه، فأحب أن تنشدني من جيد ما قلت، فقال: اعلم أن ما قلته رديء. قلت: وكيف! قال: لأن الشعر ينبغي أن يكون مثل أشعار الفحول المتقدمين، أو مثل شعر بشار وابن هرمة، فإن لم يكن كذلك فالصواب لقائله أن تكون ألفاظه مما لا تخفى على جمهور الناس مثل شعري، ولا سيما الأشعار التي في الزهد، فإن الزهد ليس من مذاهب الملوك، ولا من مذاهب رواة الشعر ولا طلاب الغريب، وهو مذهب أشغف الناس به الزهاد وأصحاب الحديث والفقهاء وأصحاب الرياء والعامة، وأعجب الأشياء إليهم ما فهموه، فقلت: صدقت. ثم أنشدني قصيدته:

لدوا للموت وابنوا للخراب
فكلكم يصير إلى تباب
ألا يا موت لم أر منك بدًّا
أتيت وما تحيف وما تحابي
كأنك قد هجمت على مشيبي
كما هجم المشيب على شبابي١٨

وهذا اعتذار عن إيثار السهولة واللين، وهو لا يمنع أن يقع للشاعر شيء من الكلام الجزل. كأن يقول:

طول التعاشر بين الناس مملولُ
ما لابن آدم إن فتشت معقولُ
يا راعيَ الشاء لا تُغفل رعايتها
وأنت عن كل ما استرعيت مسئول
إني لفي منزل ما زلت أعمُرُه
على يقين بأني عنه منقول
وليس من موضع يأتيه ذو نفس
إلا وللموت سيف فيه مسلول
لم يُشغل الموت عنا مذ أعد لنا
وكلنا عنه باللذات مشغول
ومن يمت فهو مقطوع ومجتنَبٌ
والحي ما عاش مغشيٌّ وموصول
كل ما بدا لك فالآكال فانية
وكل ذي أكل لا بد مأكول

ولأبي العتاهية في زهدياته مذاهب، فتارة يدعو إلى اليأس من الناس، كأن ينفر من الثقة بالأصدقاء فيقول:

ليخل امرؤ دون الثقات بنفسه
فما كل موثوق به ناصح الجيب

أو يتهمهم بضعة النفس والتبعية للأغنياء فيقول:

وابغ ما اسطعت عن الناس الغنى
فمن احتاج إلى الناس ضرع١٩
قد بلونا الناس في أخلاقهم
فرأيناهم لذي المال تبع

أو يحكم بأنهم لا يتعارفون إلا بفضل ما ستروا من نوازع الشر فيقول:

وفي الناس شرٌّ لو بدا ما تعاشروا
ولكن كساه الله ثوب غطاء

أو يصفهم بالفضول فيقول:

وللناس خوض في الكلام وألسُنٌ
وأقربها من كل خير صدوقها
وما صح إلا شاهد صح غيبُهُ
وما تنبت الأغصان إلا عروقها

أو يرميهم بالبخل فيقول:

لو رأى الناس نبيًّا
سائلًا ما وصلوهُ
أنت ما استغنيت عن صا
حبك الدهر أخوهُ
فإذا احتجت إليه
ساعة مجَّك فوهُ

وتارة يدعو إلى القناعة فيقول:

متى تنقضي حاجات من ليس واصلًا
إلى حاجة حتى تكون له أخرى
وإن امرأً يسعى لغير نهاية
لمنغمس في لجة الفاقة الكبرى

وفي هذين البيتين صورة جيدة للشقاء الذي يتتابع وفقًا لتتابع الرغائب، وقد زاد هذا المعنى إيضاحًا حين قال من كلمة ثانية:

ليس على المرء في قناعته
إن هي صحت أذى ولا نصب
من لم يكن بالكفاف مقتنعًا
لم تكفه الأرض كلها ذهب

وتارة يسلك مسلك التخويف من عواقب الحياة، وله في ذلك معان جيدة كقوله في نقص الأنفس من حيث تكون الزيادة في الفتوة:

ونفس الفتى مسرورة بنمائها
وللنقص تنمو كل ذات نماء

وقوله يصف يقظة الموت:

لم يشغل الموت عنا منذ أعد لنا
وكلنا عنه باللذات مشغول

وقوله في الترهيب من الغرور بما يملك الرجال:

يا رب ذي نشب تكنَّفَه
حب الحياة وغره نشبه
قد صار مما كان يملكه
صِفْرًا٢٠ وصار لغيره سلبه٢١
يا صاحب الدنيا المحب لها
أنت الذي لا ينقضي تعبهْ
إن استهانتها بمن صرعت
لبقدر ما تسمو به رُتَبُهْ
وإن استوت للنمل أجنحة
حتى يطير فقد دنا عطبه
إني حلبت الدهر أشطره
فرأيته لم يصف لي حلبه
حلم الفتى مما يزينه
وتمام حلية فضله أدبه

ولأبي العتاهية لحظات يقف فيها موقف الواعظ، كأن يقول:

الحرص داء قد أضر
بمن ترى إلا قليلا
كم من عزيز قد رأيت
الحرص صبحه ذليلا
فتجنب الشهوات واحذر
أن تكون لها قتيلا
فلرب شهوة ساعة قد
أورثت حزنًا طويلا
من لم يكن لك منصفًا
في الود فابغ به بديلا
وعليك نفسك فارعها
واكسب لها فعلًا جميلًا
ولقلما تلقى اللئيم
عليك إلا مستطيلا
والمرء إن عرف الجميـ
ـل وجدته يبغي الجميلا
اضرب بطرفك حيث شئـ
ـت فلا ترى إلا بخيلا

وقد يتشاءم من الوجود كله ويرى الراحة في الاستهانة به فيقول:

يا رُبَّ برق شمته
عادت مَخِيلَتُهُ عجاجا
وَلرُبَّ عذب صار بعـ
ـد عذوبة مِلْحًا أجاجا
ولرب أخلاق حسا
ن عدن أخلاقًا سماجا
كدر الصفاء من الصد
يق فلا ترى إلا مزاجا
وإذا الأمور تزاوجت
فالصبر أكرمها نتاجا
هون عليك مضايق الـ
ـدنيا تَعُدْ سبلًا فِجاجا
من عاج من شيء إلى
شيء أصاب له مَعَاجا٢٢

وقد تغلب عليه الحكمة، والرغبة في النصح، كأن يدعو إلى صيانة الوجه عن السؤال فيقول:

ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله
عوضًا ولو نال الغنى بسؤال

أو يدعو إلى القناعة بالقليل فيقول:

متى تمسي وتصبح مستريحًا
وأنت الدهر لا ترضى بحال
وقد يجري قليل المال مجرى
كثير المال في سد الخلال
إذا كان القليل يسد فقري
ولم أجد الكثير فلا أبالي

أو يحبب إليهم الصمت فيقول:

الصمت أجمل بالفتى
من منطق في غير حينه
لا خير في حشو الكلا
م إذا اهتديت إلى عيونه

طريقته في نظم أشعار الزهد

بقيت مسألة أكثر الرواة من الكلام عليها، ولكنا لا نفهمها، فقد حدثوا أن أبا العتاهية امتنع عن الغزل، وأن ذلك غاظ الرشيد فحبس من أجله أبا العتاهية؛ ولذلك أخبار طوال ذكر بعضها في الأغاني، وبعضها في زهر الآداب، وليس من المستحيل أن يقع ذلك من الرشيد، ولكنه سخف لا يبعد أن يكون من وضع الملفقين، وهذا البحث يوجب أن نشير إلى بعض تلك الأخبار، فلنكتف بما نقل محمد بن صالح عن أبي العتاهية. قال: كان الرشيد مما يعجبه غناء الملاحين في الزلالات٢٣ إذا ركبها، وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم، فقال: قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعرًا يغنون فيه، فقيل له: ليس أقدر على هذا من أبي العتاهية، وهو في الحبس، قال: فوجه إليَّ الرشيد: قل شعرًا حتى أسمعه منهم، ولم يأمر بإطلاقي، فغاظني ذلك، فقلت: والله لأقولن شعرًا يحزنه، ولا يُسر به، فعملت شعرًا ودفعته إلى من حفظه الملاحين، فلما ركب الحراقة سمعه، وهو:
خانك الطرف الطموح
أيها القلب الجموح
لدواعي الخير والشر
دنوٌّ ونزوح
هل لمطلوب بذنب
توبة منه نصوح
كيف إصلاح قلوب
إنما هن قروح
أحسن الله بنا أن
الخطايا لا تفوح٢٤
فإذا المستور منا
بين ثوبيه نضوح
كم رأينا من عزيز
طويت عنه الكشوح
صاح منه برحيل
صائح الدهر الصدوح
موت بعض الناس في الأر
ض على قوم فتوح
سيصير المرء يومًا
جسدًا ما فيه روح
بين عيني كل حي
علم الموت يلوح
كلنا في غفلة والـ
ـموت يغدو ويروح
لبني الدنيا من الدنـ
ـيا غبوق وصبوح
رحن في الوشى وأصبحـ
ـن عليهن المسوح
كل نطاح من الدهـ
ـر له يوم نطوح
نح على نفسك يا مسـ
ـكين إن كنت تنوح
لتموتن وإن عمِّر
ت ما عمِّر نوح
قال: فلما سمع الرشيد ذلك جعل يبكي وينتحب، وكان الرشيد من أغزر الناس دموعًا في وقت الموعظة، وأشدهم عسفًا في وقت الغضب والغلظة، فلما رأى الفضل بن الربيع كثرة بكائه أومأ إلى الملاحين أن يسكتوا.٢٥

وهذا الحديث يدل على ثلاثة أمور: الأول أن الملاحين لذلك العهد كانوا يلحنون، وذلك معقول، فما نظن أن الفصيح ساد سيادة مطلقة في جميع الطبقات في أي عصر من العصور، وليس هذا خاصًّا باللغة العربية: فسائر اللغات كذلك؛ لأن الإفصاح في أغلب الأحيان من سمة الخواص.

والثاني أن أبا العتاهية كان معروفًا بسهولة الشعر، وبأنه أقدر الناس على النظم الفصيح الذي يفهمه العوام.

والثالث أن أبا العتاهية كان لا يخلو من الميل إلى الأذى، فهذا الشعر الجيد لم ينظم لوجه الحق، وإنما نظم لإيذاء الرشيد، وهذا الميل الخبيث كانت له أسباب فما كان يعقل أن ينظم أبو العتاهية أبياتًا تصلح لبشاشة الغناء وهو سجين، ولكن التعريض بالرشيد وإنذاره بزوال الدنيا والملك هو في هذا الموقف من نزغات الشيطان.

صور من خوالجه الزهدية

ولا ننكر أن في هذا شيئًا من روح الشجاعة وهي من أهم آثار التصوف وقد شجع في موطن آخر حين كتب إلى الرشيد، وقد توانى في إخراجه من الحبس.

أما والله إن الظلم لوم٢٦
وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي
وعند الله تجتمع الخصوم
لأمر ما تصرفت الليالي
وأمر ما توليت النجوم٢٧
تموت غدًا وأنت قرير عين
من الغفلات في لجج تعوم
تنام ولم تنم عنك المنايا
تنبه للمنية يا نئوم
سل الأيام عن أمم تقضت
ستخبرك المعالم والرسوم
تروم الخلد في دار المنايا
وكم قد رام غيرك ما تروم

أخباره مع الرشيد

ولا بد من الإشارة إلى أرجوزته المزدوجة التي سماها «ذات الأمثال» وهذه الأرجوزة من بدائع أبي العتاهية٢٨ وقد جرى ذكرها بحضرة الجاحظ وأنشد المنشد قوله:
يا للشباب المرح التصابي
روائح الجنة في الشباب

فقال الجاحظ للمنشد: قف، ثم قال: انظروا إلى قوله:

روائح الجنة في الشباب
فإن له معنًى كمعنى الطرب الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمته الألسنة، إلا بعد التطويل وإدامة التفكير، وخير المعاني ما كان القلب إلى قبوله أسرع من اللسان إلى وصفه.٢٩

وتلك الأرجوزة تجمع بين الحكمة والزهد، فهي دستور أبي العتاهية في الأخلاق، ولنكتف منها بهذه الشذرات:

حسبك مما تبتغيه القوت
ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيما جاوز الكفافا
من اتقَّى الله رجا وخافا
هي المقادير فلُمني أو فذر
إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
لكل ما يؤذي وإن قل ألم
ما أطول الليل على من لم ينم
ما انتفع المرء بمثل عقله
وخير ذخر المرء حسن فعله
إن الفساد ضده الصلاح
ورب جد جره المزاح
من جعل النمام عينًا هلكا
مبلغك الشر كباغي هلكا
إن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أيُّ مفسده
ما عيش من آفته بقاؤه
نغَّض عيشًا طيبًا فناؤه
ما تطلع الشمس ولا تغيب
إلا لأمر شأنه عجيب
ما زالت الدنيا لنا دار أذى
ممزوجة الصفو بألوان القذى
الخير والشر بها أزواج
لذا نتاج ولذا نتاج
من لك بالمحض وليس محض
يخبث بعض ويطيب بعض
لكل إنسان طبيعتان
خير وشر وهما ضدان
إنك لو تستنشق الشحيحا
وجدته أنتن شيء ريحا
والخير والشر إذا ما عدَّا
بينهما بون بعيد جدَّا
عجبتُ حتى غمني السكوت
صرت كأني حائر مبهوت
كذا قضى الله فكيف أصنع
الصمت إن ضاق الكلام أوسع
وهذه الأرجوزة التي يقال: إن له فيها أربعة آلاف مثل٣٠ لا يمكن أن تصدر إلا عن رجل مشغول بالأخلاق، وابتداع الحكم والأمثال لا بد له من صفاء، والصفاء ليس من حظ النفوس المقتولة بالشواغل الدنيوية، فلا مفر من الاعتراف بأن أبا العتاهية استطاع أن يخلص من دنياه بعض الخلاص، ليفرغ لنظم أشباه هذه الأمثال.

أرجوزته المزدوجة

وما أدري كيف يغلبني الميل إلى عرض أكثر الجوانب من شخصية أبي العتاهية، مع رغبتي في إيجاز هذا الفصل، ولعل السر في ذلك خوفي من مشاركة من عاصروه في الغض من قيمته الأخلاقية، فقد كانت لهم من دنيا ذلك الشاعر شبهات تبرر التجني عليه، أما نحن فلم يبق أمامنا إلا هذه الثروة الأدبية، وهي الأصل الأول في تقدير قيمته الذاتية، أما لغو المعاصرين فليس بحجة؛ لأن الحسد يحمل الناس على ارتكاب جريمة الإفك والبهتان.

والواقع أن المرء يحسد على السمعة الطيبة أكثر مما يحسد على الثراء العريض، ولا سيما في عالم المنازعات الأدبية، وأكثر الرواة والشعراء لعهد أبي العتاهية كانت سمعتهم مما تلغط به الجماهير، وكانت لهم أندية يكثر فيها اللغو، وتقع فيها الآثام حول موائد الشراب، وكان من العزيز عليهم أن يطير عنهم أبو العتاهية فيحلق في سماء الفضيلة، ويثير شعره دموع بعض الخلفاء.

قيمته الذاتية

هذا، ولا بد من الإشارة إلى أن شعور أبي العتاهية بتفاهة الدنيا تمثل له عند الموت، في صورة جديدة، فقد أعلن يأسه من وفاء الأصدقاء، وزهده في بكاء الباكيات، حين اشتهى أن يغنيه مخارق:

سيعرض عن ذكري وتُنسى مودتي
ويحدث بعدي للخليل خليل
إذا ما انقضت عني من الدهر مدتي
فإن غناء الباكيات قليل٣١

وقد نظم أبياتًا لتوضع على قبره، وكذلك فعل أبو نواس، والكتابة على القبور سنة قديمة عرفها المصريون والآشوريون، ولكنها كانت في الأغلب وصايا يراد بها زجر من يطمعون في انتهاب ما في القبور من الذهب والثياب، أما أبو العتاهية وأبو نواس فكان شعرهما في التحذير من عواقب العيش، والمشرف على الموت يحب أن يكون أفصح الناس في وصف الدنيا بالغدر وسرعة الزوال، ومن يعش حتى يمد يده لمصافحة الموت يعرف صحة هذا الفرض!

الأشعار القبرية

وهناك شاعر أثرت عنه مقطوعات في الزهد، وهو رجل صوفي النزعة، ولم يقع له في شبابه من النزق والطيش أشباه لما وقع لأبي العتاهية وأبي نواس، وإن كان عرف طوائف من الصبوات، ذلك الشاعر هو الشريف الرضي، الذي حن إلى ملاعب الظباء بالحجاز حنينًا هو غاية الغايات في قوة الروح.

نموذج من شعر الشريف الرضى في الزهد

ولا يمكن القول: بأن الشريف من أقطاب هذا الفن، فشعره في الزهد قليل، ولكنه على كل حال من شواهد هذا الباب، ولننظر هذه القصيدة وهي تصور سخريته من الرغبة في استبقاء المال:

يا آمن الأقدار بادر صرفها
واعلم بأن الطالبين حثاث
خذ من تراثك ما استطعت فإنما
شركاؤك الأيام والوراث
لم يقض حق المال إلا معشرٌ
وجدوا الزمان يعيث فيه فعاثوا
تحثو على عيب الغنيِّ يد الغنى
والفقر عن عيب الفتى بحّاث
المال مال المرء ما بلغت به
الشهوات أو دفعت به الأحداث
ما كان منه فاضلًا عن قوته
فليعلمن بأنه ميراث
ما لي إلى الدنيا الغرورة حاجة
فليخز ساحر كيدها النفاث
طلقتها ألفًا لأحسم داءها
وطلاق من عزم الطلاق ثلاث
سكناتها محذورة وعهودها
منقوضة وحبالها أنكاث
أم المصائب لا يزال يروعنا
منها ذكور نوائب وإناث
إني لأعجب من رجال أمسكوا
بحبائل الدنيا وهن رثاث
كنزوا الكنوز وأغفلوا شهواتهم
فالأرض تشبع والبطون غراث
أتراهم لم يعلموا أن التقى
أزوادنا وديارنا الأجداث

والزهد — في هذه القصيدة — له معنى غير الزهد المعروف، فهو هنا دعوة إلى إنفاق المال في الشهوات ودفع العاديات، فالشاعر يحب المال، ولكنه يرى استبقاءه من الحمق، وهذا وجه الزهد. أما الحرمان فليس من أغراض هذا الشاعر وتلك أيضًا صوفية، وللتصوف وجوه كثيرة، منها هذا الوجه، ومن الصوفية من يوسع على نفسه في يومه، ويترك الغد للأقدار، ولنقيد أن «الشهوات» في هذه القصيدة لا يراد بها الشهوات الحسية، وإنما المراد بها مطالب العيش المترف الذي بجانب التقشف ويقبل على الطيبات.

وهذه اللمحات من الزهد لا يخلو منها ديوان شاعر إلا في القليل ومن السهل على القارئ أن يتعقبها ويدرس ما فيها من مختلف النوازع النفسية، فلنقف عند هذا الحد، فإنما نريد التنبيه لا الاستقصاء.

figure
واجهة من ضريح علي بن أبي طالب — كرم الله وجهه — في النجف وأكثر الصوفية يرجعون نظام الخرقة إلى علي بن أبي طالب ويرونه أول من أذاع المعاني الروحية.
figure
ضريح الحسن البصري بضواحي البصرة والحسن البصري أخذ عن علي بن أبي طالب، وإليه يرجع الفضل في تأسيس قواعد التصوف. (انظر تفصيل ذلك في الباب الأول من الجزء الثاني.)
١  معجم الأدباء ج٧ ص٣٠٣.
٢  العرام: الشدة والشراسة.
٣  الشرة: الحدة.
٤  شرح نهج البلاغة جزء ٣ صفحة ٨٥.
٥  تاريخ بغداد جزء ٥ صفحة ٢٠٥.
٦  الأغاني ج٤ ص٢.
٧  الدبة: الوعاء للبزر والزيت.
٨  الأغاني ج٤ ص١٧.
٩  البدرة عشرة آلاف درهم.
١٠  الأغاني جزء ٤ صفحة ١٦.
١١  الأغاني جزء ٤ ص١٧.
١٢  الأغاني جزء ٤ ص٥١.
١٣  القوصرة: وعاء من قصب يوضع فيه التمر.
١٤  الأغاني جزء ٤ ص١٠٧–١٠٩.
١٥  انظر ما جاء في الأغاني ج٤ ص٥١ و٥٢.
١٦  الأغاني جزء ٤ ص٤٦.
١٧  انظر ما جاء في الأغاني جزء ٤ ص١٠٠.
١٨  الأغاني جزء ٤ ص٧٠.
١٩  ضرع: ذل.
٢٠  يقال: هو صفر اليدين ليس فيهما شيء، مأخوذ من الصفير وهو الصوت الخالي من الحروف.
٢١  السلب: الغنيمة.
٢٢  عاج إلى الشيء: عطف عليه.
٢٣  الزلالات: نوع من السفن، ومثلها الحراقات.
٢٤  تفوح: تظهر رائحتها.
٢٥  الأغاني ج٤ ص١٠٢–١٠٤.
٢٦  لوم: لؤم.
٢٧  توليت بالبناء المفعول، والله هو الذي تولاها بالظهور والأفول، وقد يكون بالبناء الفاعل لتزاوج مع (تصرفت) في صدر البيت وعندئذ تثبت لام الفعل متحركة بلا إعلال وهذا كان يستجيزه القدماء فقد قال البحتري في سينيته (أضوأ) ففي مكان أضاء، والبحتري جاء بعد أبي العتاهية بزمان.
٢٨  الأغاني ج٤ ص٣٦.
٢٩  الأغاني ج٤ ص٣٦.
٣٠  الأغاني جزء ٤ صفحة ٣٦.
٣١  الأغاني جزء ٤ صفحة ١٠٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤