ذخائر منسية من الأدب الصوفي

كيف جهل مؤرخو الأدب بلاغة الصوفية

نتكلم في هذا الفصل عن طوائف من الأخيلة والمعاني والصور لم يهتم بها رجال الأدب، ولم يحسبوا لها أي حساب. ولعل السر في إغفال مؤرخي الأدب لهذه الفنون أنهم لم يضعوا البلاغة الصوفية في الميزان؛ لأن الصوفية كانوا انحازوا جانبًا عن صحبة الأدباء؛ ولأن الأدباء أنفسهم كانوا أقبلوا على الصور الحسية إقبالًا شغلهم عن الأدب الذي يصور أحوال الأرواح والقلوب، فظنوا أدب الصوفية بعيدًا عن المجال الذي تسابقوا فيه: مجال التشبيب والوصف والحماسة والعتاب.

ولو أن رجال الأدب وعلماء البلاغة نظروا في الأدب الصوفي نظرة جدية لا تخذوا منه شواهد في المجازات والتشبيهات، ولرأوا فيه كلمات متخيرة تصلح نماذج لإصابة المعنى والغرض. ولكنهم انصرفوا عنه فلم نر في مؤلفاتهم النقدية غير شواهد من كلام الشعراء والكتاب والخطباء الذين سبقوا في ميادين غير ميادين الأرواح والقلوب.

بكاء داود وبكاء يحيى

وأول ما راعني من هذا الأدب المجهول الصورة التي وضعها الصوفية لبكاء داود عليه السلام: فقد حدثوا أنه بكى أربعين يومًا ساجدًا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموعه، وحتى غطي رأسه. فنودي: يا داود، أجائع أنت فتطعم، أم ظمآن فتُسقى، أم عار فتكسى؟ فنحب نحبة هاج لها العود فاحترق من حر خوفه. ثم أنزل الله عليه التوبة والمغفرة فقال: يا رب اجعل خطيئتي في كفي. فصارت خطيئته في كفه مكتوبة. فكان لا يبسط كفه لطعام ولا لشراب ولا لغيره إلا رآها فأبكته. وكان يؤتى بالقدح ثلثاه ماء، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه على شفته حتى يفيض القدح من دموعه.١

وحدثوا أنه لما طال بكاؤه ولم ينفعه ذلك ضاق ذرعه، واشتد غمه، فقال: يا رب، أما ترحم بكائي! فأوحى الله إليه: يا داود، نسيت ذنبك وذكرت بكاءك؟ فقال: إلهي وسيدي، كيف أنسى ذنبي، وكنت إذا تلوت الزَّبُور كف الماء الجاري عن جريه، وسكن هبوب الريح، وأظلني الطير على رأسي، وأنست الوحوش إلى محرابي! إلهي وسيدي، فما هذه الوحشة التي بيني وبينك؟ فأوحى الله إليه: يا داود، ذاك أنس الطاعة، وهذه وحشة المعصية. يا داود! آدم خلق من خلقي، خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، وأسجدت له ملائكتي، وألبسته ثوب كرامتي، وتوجته بتاج وقاري، وشكا إلي الوحدة فزوجته حواء أمتي، وأسكنته جنتي؛ ثم عصاني فطردته عن جواري عريان ذليلًا. يا داود، اسمع مني والحق أقول: أطعتنا فأطعناك، وسألتنا فأعطيناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك.

وحدثوا أنه كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعًا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب، ولا يقرب النساء، فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له المنبر إلى البرية فأمر سليمان أن ينادي بصوت يستقري البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع، فينادي فيها: ألا من أراد أن يسمع نَوح داود على نفسه فليأت. فتأتي الوحوش من البراري والآكام، وتأتي السباع من الغياض، وتأتي الهوام من الجبال، وتأتي الطير من الأوكار، وتأتي العذراى من خدورهن، ويجتمع الناس لذلك اليوم، ويأتي داود حتى يرقى المنبر ويحيط به بنو إسرائيل، وكل صنف على حدته محيطون به، وسليمان قائم على رأسه، فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء والصراخ، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع والناس، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع والناس، ثم يأخذ في أهوال القيامة وفي النياحة على نفسه فيموت من كل نوع طائفة. فإذا رأى سليمان كثرة الموتى قال: يا أبتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق، وماتت طوائف من بني إسرائيل ومن الوحوش والهوام، فيأخذ في الدعاء. فبينا هو كذلك إذ ناداه بعض عباد بني إسرائيل: يا داود، عجلت بطلب الجزاء على ربك. فيخر داود مغشيًّا عليه، فإذا نظر سليمان إلى ما أصابه أتى بسرير فحمله عليه. ثم أمر مناديًا ينادي: ألا من كان له مع داود حميم أو قريب فليأت بسرير فإن الذين معه قتلهم ذكر الجنة والنار.٢

صورة الزهد في الزهد

أرأيتم هذه الصور في وصف بكاء داود؟ إن هذه صور أدبية رائعة تمثل بعض أحوال النفوس وهي لا تقل روعة عن نظائرها من الصور الوصفية، التي تمثل مقامات الأدباء بين أيدي الخلفاء والملوك.

وأي بلاغة أروع وأمتع من هذه العبارة النفسية التي قيلت في تصوير السماحة الربانية:

أطعتنا فأطعناك، وسألتنا فأعطيناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك.

هذه صورة من صور الصفح تستحق الإعجاب، وكلمة «على ما كان منك» من العبارات المتخيرة الدقيقة الصنع، وهي إشارة إلى قصة داود التي قصها القرآن إذ قال:

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَـٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۩ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ.

وحسرة داود أشار إليها القرآن إشارة تشبه إيماءة الطرف، فجاء الصوفية فوشوها توشيَة طريفة وعرضوها في صور مختلفة لا تخلو من سحر وفُتُون. ولم يفتهم أن يجعلوا بكاء داود من فنون الرياضات فقالوا: إنه كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعًا لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب، ولا يقرب النساء.

وتسامى بهم الخيال فجعلوا بكاء داود من المواسم الروحية التي يتجمع لها الوحوش والسباع الهوام والعذارى أيضًا؛ ثم جعلوا نهاية تلك الملطمة الوجدانية مختومة بأشلاء الصرعى من السباع والوحوش والناس.

ومن الواضح أن هذه كله من صنع الخيال، فلا مجال فيه لتحقيقات التاريخ. وما دخل التاريخ في الصور الأدبية؟ التاريخ يعرف أن داود فتن امرأة واصطفاها لنفسه، وأن الله أدبه أظرف تأديب، ثم جاء الخيال خيال الأقاصيص فلون تلك الحقيقة بما شاء.

دقائق نفسية

ويشبه هذه الصور ما حدثوا به عن يحيى بن زكريا، فقد قالوا: إنه دخل بيت المقدس وهو ابن ثماني حجج فنظر إلى عبادهم قد لبسوا مدارج الشعر والصوف،٣ ونظر إلى مجتهديهم قد خروا للتراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوا أنفسهم إلى أطراف بيت المقدس فهاله ذلك، فمر بصبيان يلعبون فقالوا له: يا يحيى هلم بنا لنلعب، فقال: إني لم أخلق للعب. ثم أتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا. فرجع إلى بيت المقدس فكان يخدمه نهارًا. ويصيح فيه ليلًا، حتى أتت عليه خمس عشرة سنة، فخرج ولزم أطواد الأرض، وغيران الشعاب، فخرج أبواه في طلبه فأدركاه على بحيرة الأردن، وقد أنقع رجليه في الماء حتى كاد العطش يذبحه وهو يقول: وعزتك وجلالك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك. فسأله أبواه أن يفطر على قرص كان معهما من شعير، ويشرب من ذلك الماء، ففعل وكفر عن يمينه، فمدح بالبر. فرده أبواه إلى بيت المقدس، فكان إذا قام يصلي بكى حتى يبكي معه الشجر والمدر، ويبكي زكريا لبكائه حتى يغمى عليه، فلم يزل يبكي حتى خرقت دموعه لحم خديه، وبدت أضراسه للناظرين. فقالت له أمه: يا بني، لو أذنت لي أن أتخذ لك شيئًا تواري به أضراسك عن الناظرين! فأذن لهما فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتهما على خديه، فكان إذا قام يصلي بكى، فإذا استنقعت دموعه في القطعتين أتت إليه أمه فعصرتهما، فإذا رأى دموعه تسيل على ذراعي أمه قال: اللهم هذه دموعي، وهذه أمي، وأنا عبدك، وأنت أرحم الراحمين. فقال له زكريا يومًا: يا بني، إني سألت ربي أن يهبك لي لتقر عيناي بك. فقال يحيى: يا أبت إن جبريل أخبرني أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء. فقال زكريا: يا بني، فابك.٤

فهذه الصورة في بكاء يحيى صورة رائعة، ومع روعتها لم يتحدث عنها أحد من الأدباء. ولو أن هذه الصورة نفسها أضيفت إلى مجنون ليلى لعدوها من الروائع، وتحدث عنها صاحب الأغاني وصاحب مصارع العشاق. لو نظمت هذه الصورة في أخبار رجل من أصحاب العشق الحسي لكانت متعة الأسمار والأحاديث، ولكنها أضيفت إلى أخبار من قضوا صرعى في ميادين الأشواق الربانية فتجاهلها الأخباريون.

أرأيتم قول يحيى:

اللهم هذه دموعي، وهذه أمي، وأنا عبدك، وأنت أرحم الراحمين.

أرأيتم كيف كانت تقابل هذه العبارة الرقيقة الباكية لو قالها شاعر في حضرة أحد الملوك؟

وبكاء الشجر والمدر، ما رأيكم فيه؟

ستضيفونه إلى بكاء السباع والوحوش والهوام في قصة داود، وتجعلونها جميعًا من الأساطير! ولكن أكل أسطورة خبل في خبل وضلال في ضلال؟

إن أمثال هذه الأساطير لها صلة وثيقة بفهم الصوفية لحقيقة الوجود، فهم لا يرون أنفسهم منفصلين عن عوالم الجماد والنبات والحيوان. هم يحسون كأن الدنيا تتوجع لهم وتشفق مما يعانون؛ ويتجسم هذا الإحساس فيريهم أن الشجر والمدر والسباع والوحوش تذرف الدمع حين يأخذون في البكاء.

وهذه الشطحات تستحق العطف؛ لأنها تصدر عن ناس فنوا فناء تامًّا في الحب الإلهي، وبدت لهم ذنوبهم أثقل من الجبال، وخيل إليهم أن رحمة الله لا تنال بغير الدمع والأنين.

والبكاء في ذاته نفحة من النفحات الشعرية؛ لأنه لا يكون إلا من فيض الوجد وقوة الإحساس، وهو من وسائل الإفصاح عن أوجاع القلوب.

صورة أدبية ليوم الحساب

وقد تقع في كتب الصوفية صفحات من الأدب النبيل، ولكنها تظل من الأدب المجهول؛ لأن الأدباء شغلوا بالمحسوس عن المعقول، وإلا فأي صورة أبرع من الصورة التي وضعها الغزالي للزهد حين قال:
إن الكاره للدنيا مشغول بالدنيا، كما أن الراغب فيها مشغول بها، والشغل بما سوى الله حجاب عن الله، وهو ليس في مكان حتى تكون السموات والأرض حجابًا بينك وبينه، فلا حجاب بينك وبينه إلا شغلك بغيره، وشغلك بنفسك وشهواتك شغل بغيره، فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله، والمشغول ببعض نفسه مشغول أيضًا عن الله، بل كل ما سوى الله مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق، فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حال اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه. ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه. فكما أن النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور المعشوق شرك في العشق ونقص فيه، فكذا النظر إلى غير المعشوق لبغضه شرك فيه ونقص. ولكن أحدهما أخف من الآخر، بل الكمال في أن لا يتلفت القلب إلى غير المحبوب بغضًا أو حبًّا، فإنه كما لا يجتمع في القلب حبان في حالة واحدة، فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله، كالمشغول بحبها، إلا أن المشغول بحبها غافل وهو في غفلته سالك في طريق البعد، والمشغول ببغضها غافل وهو في غفلته في طريق القرب.٥

أترون ما في هذه الصورة من الحسن؟ إن الكاتب يريد أن يقول: إن الزهد هو أن تزهد في الزهد، هو أن تخلو نفسك خلوًّا تامًّا من كل ما سوى الله، فلا تحب ولا تبغض، ولا تمدح ولا تقدح، ولا تثني ولا تلوم. وهذه الصورة تبدو جافية لمن يغفل أقدار المعاني. هي كالحسناء التي غفلت عن حسنها العيون؛ لأنها لا تعرف الزينة ولا تحسن أساليب الإغواء.

ومع ذلك نرى الكاتب قرب معانيه كل التقريب فضرب المثل بما بين العاشق والمعشوق. والصوفية يرون الناس لا يفهمون غير المحسوسات، ومن أجل ذلك يضربون بها الأمثال. وهم أنفسهم يرون العشق الحسي درجة من درجات العشق الروحي؛ لأن العشق في الأصل لا ينسجم إلا بين روح وروح.

ولكن لا مفر من الاعتراف بأن هذه الصور لا يقدرها حق قدرها إلا من يرى البلاغة في المعاني. أما الذين يقفون عند الألفاظ ويستهويهم بريق البديعة فالغزالي عندهم لا يعد في البلغاء.

قوة التعليل

وقد تجد في أجوبة الصوفية أعاجيب من الأدب الرفيع.

حدثوا أن سفيان الثوري كان يرد ما يعطي ويقول: لو علمت أنهم لا يذكرون ذلك افتخارًا به لأخذت.٦
وعوتب بعضهم في رد ما كان يأتيه من صلة فقال: إنما أرد صلتهم إشفاقًا عليهم، ونصحًا لهم؛ لأنهم يذكرون ذلك ويحبون أن يعلم به فتذهب أموالهم وتحبط أجورهم.٧

وقال بشر: ما سألت أحدًا قط شيئًا إلا سريًّا السقطي؛ لأنه قد صح عندي زهده في الدنيا فهو يفرح بخروج الشيء من يده ويتبرم ببقائه عنده فأكون عونًا له على ما يحب.

والبلاغة في هذه الأجوبة ترجع إلى معانيها، وهي معان شريفة متصلة بالأحوال النفسية، وما فيها من مراقبة النفوس يسمو بها إلى أرفع درجات البيان.

كيف تقرأ كتب التصوف

ولا ينبغي أن ننسى ما كتب الصوفية في الترغيب والترهيب. لا ينبغي أن ننسى ما صوروا به الفضائل والرذائل، وما جرت به أقلامهم في مصاير الصالحين والطالحين، فلهم في هذا الباب صور تخلب العقول وتفتن القلوب، ولا ينظر في كتبهم رجل له ذوق إلا عجب من غفلة الناس عن أدبهم الأصيل.

انظروا قوة التصوير في شرح قول عمر بن الخطاب: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»، فقد عرض الغزالي لشرح هذا النصح فقال:
وإنما حساب المرء لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحًا، ويتدارك ما فرط من تقصيره في فرائض الله تعالى، ويرد المظالم حبة حبة، ويستحل كل من تعرض له بلسانه، ويده، وسوء ظنه، بقلبه، ويطيب قلوبهم حتى يموت ولم يبق عليه مظلمة ولا فريضة: فهذا يدخل الجنة بغير حساب وإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه: فهذا يأخذ بيده، وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يتعلق بلببه، وهذا يقول: ظلمتني، وهذا يقول: شتمتني، وهذا يقول: استهزأت بي، وهذا يقول: ذكرتني في الغيبة بما يسوءني، وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري، وهذا يقول: عاملتني فغششتني وأخفيت عني عيب سلعتك، وهذا يقول: كذبت في سعر متاعك، وهذا يقول: رأيتني محتاجًا وكنت غنيًّا فما أطعمتني، وهذا يقول: وجدتني مظلومًا وكنت قادرًا على دفع الظالم عني فداهنت الظالم وما راعيتني، فبينما أنت كذلك وقد أنشب الخصماء فيك مخالبهم، وأحكموا في تلابيبك أيديهم، وأنت مبهوت متحير من كثرتهم، حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم، أو جالسته في مجلس، إلا وقد استحق عليك مظلمة بغيبة أو خيانة أو نظر بعين استحقار، وقد ضعفت عن مقاومتهم، ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله يخلصك من أيديهم، إذ قرع سمعك نداء الجبار جل جلاله: الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ فعندئذ ينخلع قلبك من الهيبة، وتوقن نفسك بالبوار، وتتذكر ما أنذرك الله تعالى على لسان رسوله حيث قال: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس وتناولك أموالهم! وما أشد حسراتك في ذلك اليوم إذا وقف ربك على بساط العدل، وشوفِهتَ بخطاب السياسة وأنت مفلس فقير عاجز مَهين لا تقدر على أن ترد حقًّا أو تظهر عذرًا. فعند ذلك تؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك، وتُنقَل إلى خصمائك عوضًا عن حقوقهم.٨

فما رأيكم في هذه الصورة؟ أترون خصب اللغة وقوة الخيال؟ أترون استقصاء المعاني في أحوال المعاملات؟ أترون الدقة في تصوير الإيذاء الذي يكون باليد واللسان وسوء الظن بالقلب؟ أترون قوة السخرية من الظالم حين يؤخذ بظلمه يوم الحساب؟ أترون المفاجأة في الانتقال من حال إلى حال؟

هذه صورة فنية لها أمثال تعدُّ بالألوف، ولكن الأدباء نسوا أدب الصوفية كل النسيان.

نماذج من حكم الصوفية

ولا تنس أن أدباء الصوفية قد يعللون ما يصنعون من الصور والتهاويل فيجمعون بين جمال الحقيقة وروعة الخيال، من ذلك ما وصفوا به عذاب القبر إذ قالوا: إن الكافر يسلَّط عليه في قبره تسعة وتسعون تِنِّينًا، والتنِّين تسعة وتسعون حية، لكل حية سبعة رءوس، يخدشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون.

«ولا ينبغي أن تعجب من هذا العدد على الخصوص، فإن أعداد هذه الحيات والعقارب بعدد الأخلاق المذمومة من الكبر والرياء والحسد والغل والحقد وسائر الصفات، فإن لها أصولًا معدودة، ثم تتشعب منها فروع معدودة، ثم تنقسم فروعها بأقسام تلك الصفات بأعيانها، وهي المهلكات بأعيانها، تنقلب عقارب وحيات، فالقوي منها يلدغ لدغ التنين، والضعيف يلدغ لدغ العقرب٩ وما بينهما يؤذي إيذاء الحية؛ وأرباب البصائر يشاهدون بنور البصيرة هذه المهلكات وانشعاب فروعها، إلا أن مقدار عددها لا يوقف عليه إلا بنور النبوة».١٠
ولا يقف الغزالي عند هذا التعليل الفلسفي، بل يمضي فيذكر أن لا غرابة في أن نرى الميت ساكنًا وهو يعذب، فإن النائم قد يبدو ساكنًا وهو يقاسي أمر الآلام، حين يعاني مضجرات الأحلام. «والحية بنفسها لا تؤلم، بل الذي يلقاك منها هو السم؛ ثم السم ليس هو الألم، بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم، فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد توفر»،١١ وكذلك يلقى الكافر في قبره عذاب العقارب والحيات، وإن لم تر العين أنه ملسوع أو ملدوغ.

الأدب الصوفي هو أدب المعاني

وجملة القول: أن كتب الصوفية تفيض بالأخيلة والصور والتعابير في روعة وقوة. ويزيد في جمال الأدب الصوفي أنه موصول بعلم النفس وأن له غاية نبيلة هي غرس الخلق الشريف في أنفس الرجال.

ولا يستطيب كتب التصوف إلا من يقبل عليها وهو يعرف أنها عصارة القلوب، وأنها آداب ناس عرفوا الدنيا وأهلها ثم ملوا المجتمع وانقلبوا عليه يصفون عيوبه ومقاتله بأقلام تنضح بالسم الزعاف.

هذا، وينبغي أن نعرف أن أدب الصوفية لم يجهل كله: فقد تنبه كثير من المؤلفين إلى ما في أجوبتهم من جوامع الكلم، فساقوا منها نماذج تفيد من يتطلع إلى مكارم الأخلاق.

وإليكم شذرات من أجوبة القوم:
  • قيل لسهل بن عبد الله المروزي: ما لك تكثر التصدق؟ فقال: لو أن رجلًا أراد أن ينتقل من دار إلى دار، أكان يبقى في الأولى شيئًا؟

  • وقيل للربيع بن خيثم وقد اعتل: ندعو لك بالطبيب؟ فقال: قد أردت ذلك فذكرت عادًا وثمود وأصحاب الرس وقرونًا بين ذلك كثيرًا، وعلمت أنه كان فيهم الداء والمداوي فهلكوا جميعًا.

  • وقيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات؟ فقال: محلة الأموات.

  • وقيل للحسن البصري: كيف ترى الدنيا؟ فقال: شغلني توقع بلائها عن الفرح برخائها.

  • وقيل للفضيل: إن ابنك يقول: وددت أني في مكان أرى الناس ولا يرونني. فقال: يا ويح ابني، أفلا أتمها فقال: لا أراهم ولا يرونني!

  • وقيل لبعض الصوفية: أي شيء أعجب عندك؟ فقال: قلب عرف الله ثم عصاه.

  • وقيل لآخر: ما لك كما تكلمت بكى كل من يسمعك، ولا يبكي من كلام واعظ المدينة أحد؟ فقال: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.

  • وقيل للربيع بن خيثم: ما نراك تغتاب أحدًا. فقال: لست عن حالي راضيًا حتى أتفرغ لذم الناس.

  • وقيل لعبد الله بن المبارك: حتى متى تكتب كل ما تسمع؟ فقال: لعل الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد.

  • وقيل لصوفي: ما صناعتكم؟ فقال: حسن الظن بالله، وسوء الظن بالناس.

  • وقيل للشبلي: لم سُمِّي الصوفي ابن الوقت؟ فقال: لأنه لا يأسف على الفائت، ولا ينتظر الوراد.

  • وقيل لابن السماك: ما الكمال؟ فقال: الكمال أن لا يعيب الرجل أحدًا بعيب فيه مثله حتى يصلح ذلك العيب من نفسه، فإنه لا يفرغ من إصلاح عيب حتى يهجم على آخر فتشغله عيوبه عن عيوب الناس، وأن لا يطلق لسانه ويده حتى يعلم: أفي طاعة أم في معصية؟ وأن لا يلتمس من الناس إلا ما يعلم أنه يعطيهم من نفسه مثله، وأن يسلم من الناس باستشعار مداراتهم، وتوفية حقوقهم، وأن ينفق الفضل من ماله ويمسك الفضل من قوله.

  • وقيل للشبلي: من الرفيق؟ فقال: من أنت غاية شغله.١٢

•••

ولهذه الحكم نظائر كثيرة مبعثرة في كتب الصوفية، وليس المهم هو الاستقصاء، وإنما المهم هو توجيه الأنظار إلى ذلك الأدب المجهول، وهو أدب خلا في جملته من الزخرف، ولكنه حافل بدقائق المعاني، والمعاني هي كل البلاغة عند أرباب القلوب.

figure
ضريح الجنيد وبجانبه ضريح السري السقطي في بغداد وهما من أقطاب الصوفية.
١  الأحياء جزء ٤ صفحة ١٩٠.
٢  الإحياء ج٤ ص١٩١.
٣  تأمل هذه العبارة واربطها بالبحث الذي عقدناه عن اشتقاق كلمة التصوف: فهي دليل على أنه كان مفهومًا أن النساك قبل الإسلام كانوا يلبسون الصوف.
٤  الإحياء ج٤ ص١٩٢.
٥  الإحياء ج٤ ص١٠١.
٦  الإحياء ج٤ ص١٠١.
٧  الإحياء ج٤ ص٢١٦.
٨  الإحياء ج٤ ص٥٤٦.
٩  العقرب تلدغ في لغة الغزالي، وهي عند غيره تلسع.
١٠  الإحياء جزء ٤ صفحة ٥٢٤.
١١  الإحياء جزء ٤ صفحة ٥٢٤.
١٢  أكثر ما أثبتناه في الفقرة الأخيرة من الحكم الصوفية اقتبسناه من كتاب «سياسة الفحول» للمرحوم حسن توفيق العدل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤