حكم ابن عطاء الله السكندري١

سيرورة الحكم العطائية

اهتمام العلماء بالحكم العطائية

نحن مقبلون على التعرف إلى سفر من أسفار الأدب العالي: هو مجموعة الحكم التي نظمها ابن عطاء الله السكندري، وكانت هذه المجموعة مما يدرسه كبار العلماء في الأزهر الشريف، وكان المرحوم الشيخ محمد بخيت يدرسها للجمهور بعد العصر من أيام رمضان في مسجد الحسين، وقد حضرت عليه طائفة من تلك الدروس، وأنست بمعاني الحكم العطائية أشد الأنس.

واهتمام علماء الأزهر بدرس حكم ابن عطاء الله هو صورة جديدة للحفاوة بتلك اللآلئ النفيسة، فقد اهتم بها الناس من قبل، وظفرت بعدة شروح، أشهرها شرح الرندي وشرح الشرقاوي، ولا تزال على كثرة ما لقيت من الشرح والدرس تبعث في قلوب المريدين أنوارًا لم يتنورها الشارحون.

تهيب الشراح لأسرارها

وإنما قلنا هذا لأن الحكم العطائية نظمت نظمًا غنائيًا روعي فيه أن تكون إشارات إلى أحوال النفوس، والنفوس تتغير وتتبدل، وتعتورها ألوان من الكدورة والصفاء، فما يفهمه هذا قد لا يفهمه ذاك، وما يرتضيه قوم قد يرفضه آخرون.

figure
الجامع الأزهر وفيه كان ابن عطاء الله السكندري يلقي دروسًا على الجمهور في شرح معاني التصوف.
ومن أجل هذا أضيفت حكم ابن عطاء الله إلى الرمزيات، وتهيبها الشراح فصرحوا بأن كلامهم ليس إلا طوافًا حول ذلك السر المكنون، وفي ذلك يقول الرندي:

ولا قدرة لنا على استيفاء جميع ما اشتمل عليه الكتاب، وما تضمنه من لباب اللباب؛ لأن كلام الأولياء والعلماء بالله منطو على أسرار مصونة، وجواهر حكم مكنونة، لا يكشفها إلا هم ولا تتبين حقائقها إلا بالتلقي عنهم، ونحن في هذه الكلمات التي نوردها، والمناحي التي نعتمدها، غير مدعين لشرح كلام القوم، ولا أن ما نذكره فيه هو حقيقة مذاهبهم، حسبما يفعله كل مصنف، فإنا إن ادعينا ذلك كان منا إساءة أدب، تئول بنا والعياذ بالله إلى العطب. وكنا قد تعرضنا للخطر والضرر في تعاطي ما لا يليق بنا من شرح كلام السادة من أهل الله تعالى من غير خوف ولا حذر، وإنما نورد ذلك على حسب ما فهمناه من كلامهم، وما انتهى إلينا علمه من مذاهبهم، فإن وافقنا فيه حقيقة الأمر، وعثرنا على مكنون السر، كان ذلك من النعم التي لا نحصي لها شكرًا، ولا نقدر لها قدرًا، وإن خالفنا ذلك، ولم نهتد إلى تلك المسالك، أحلناه على نقصنا وجهلنا، وانتقى عنا التغرير بقولنا وفعلنا، واقتصر الأمر في ذلك علينا، وكانوا هم مبرئين مما قلنا ونوينا.

وهذا الكلام يذهب بصاحبه إلى تقديس الحكم العطائية، وهو يشبه ما يقوله علماء الأزهر في هذه الأيام عن ترجمة القرآن، إذ يصرون على أن تصدر الترجمة بمقدمة ينص فيها على أن هذا هو ما فهموه من القرآن، وقد يكون الله أراد معاني لم يهتدوا إليها ولم تخطر لهم على بال.

سر البلاغة

والحق أن الحكم العطائية على جانب عظيم من الوضوح، وما يقوله الرندي ليس إلا بابًا من التأدب في فهم كلام القوم. ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن الحكم العطائية فيها غموض، ولكن أي غموض؟ هو الغموض الذي يوصف به كل كلام وصل إلى غاية عالية من البيان.

وأحب أن أشرح هذه النقطة فأقول:

يوجد في الكلام البليغ صور وإشارات تتفاوت في إدراكها العقول، وقد يكون النص البليغ واضحًا في لفظه ومعناه، ومع ذلك يظل كالحسن الفائق لا تجتلي فتنه بنظرة ولا نظرتين، وإنما تطالع فيه العين كل يوم بابًا جديدًا من أبواب الفتون، أو كالبحر تعرف هوله وجلاله، ثم ترى فيه كلما واجهته ضروبًا جديدة من الهول والجلال.

وقد يتفق لنا في أحوال كثيرة أن نحمل النصوص معاني لم يردها الكتاب أو الشعراء، فنعد ذلك تفوقًا في الفهم، وهو في حقيقة الأمر ضلال مقبول.

والألفاظ في الأصل صور ضئيلة جدًّا للمعاني، والمعاني أيضًا صور ضئيلة جدًّا للحقائق، والحقائق في عظمتها وجبروتها لا تدرك كل الإدراك، وهل كان الألم على لذعه صورة كاملة للداء؟ وهل كان الدمع على حرارة صورة مقاربة لما يتوجع له القلب، وهل كان تموج البحر على صخبه صورة تامة لما في أحشائه من تقلب وهياج؟ وهل كان التماسك البادي بين أجزاء الوجود صورة واضحة لما فيه من قوات الكهرباء؟

إن الغرور يوهمنا أشياء كثيرة، واللغات بين الناس من أهم أسباب الأوهام فقد ظنناها حددت المعاني كل التحديد، ولو أن ذلك كان صحيحًا لارتفعت أسباب الخلاف.

ولكن هل كانت العقبة الوحيدة هي الاختلاف في فهم النصوص؟

لا، لا، فقد يتلاقى الرجلان عند صورة واحدة من المعنى، ثم يختلفان اختلافًا شديدًا في تصور المعنى الواحد؛ لأنهما يختلفان في صحة الجسم وعافية الروح.

فإذا قلت: إنك تترجم القرآن ترجمة صحيحة فأنت صادق، وإذا قلت إنك لا تترجم إلا ما فهمت فأنت صادق؛ أنت صادق في الأولى لأن القرآن في الأصل جاء لهدايتك فلم يكن له أن يحتجب وينتقب.

وأنت صادق في الثانية؛ لأن القرآن رمز لمعان يختلف في فهمها الناس بفضل ما يختلفون في دقة الفهم وقوة الإدراك.

وكذلك صح للشراح أن يجزموا بأنهم لم يصلوا في فهم الحكم العطائية إلى الأعماق.

أسلوب ابن عطاء الله

والحكم العطائية عبارة عن طائفة من الفقرات القصيرة المختلفة الأغراض وهو يخاطب المريد بصيغة المفرد، ويسجع في بعض الأحيان، وطريقته في البلاغة تختلف، فحينًا يجرد المعاني تجريدًا تامًّا من الصور والأخيلة، كأن يقول: «من علامة الاعتماد على العمل، نقصان الرجاء عند وجود الزلل».٢
وكأن يقول: «تنوعت أجناس الأعمال، لتنوع واردات الأحوال».٣

وحينًا يوشي معانيه بالخيال توشية طريفة، كأن يقول: «ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه».

وكأن يقول: «لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحا٤ يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو المكان الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون».٥

وتارة يقف عند المعنى فيديره في صورة واحدة لا تختلف إلا فيما تربط به القافية، كأن يقول: «كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الذي أظهر كل شيء».

«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الذي ظهر بكل شيء».

«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الذي ظهر في كل شيء».

«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الظاهر قبل وجود كل شيء».

«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو أظهر من كل شيء».

«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الواحد الذي ليس معه شيء».

«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو أقرب إليك من كل شيء».

«كيف يتصور أن يحجبه شيء، ولولاه ما كان وجود شيء».٦
وتارة يغرب في إيراد المعاني إغرابًا مقصودًا كأنما يريد أن يقصر خطابه على الخواص، ولذلك شواهد كثيرة جدًّا، نكتفي منها بهذه الفقرة:
شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه، المستدل به عرف الحق لأهله فأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه، ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه.٧
فإن هذه الفقرة لا تفهم إلا بعد أن نعرف أنه يقسم أهل الله إلى قسمين: مرادين ومريدين: فالمرادون يستدلون بالله على الأشياء والناس: لأنه الأصل، والمريدون يستدلون بالأشياء والناس على الله، وذلك لوجود الحجاب. ولو أنهم وصلوا إلى لباب الحقائق لعرفوا أن الله لم يغب حتى يستدل عليه، ولم يبعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه.٨

كيف نستدل على الله

وليس بين الحكم العطائية رباط وثيق، فهي مجموعة من الأقوال نظمت في أوقات مختلفة ثم ضم بعضها إلى بعض بلا ترتيب مقصود، وقد يتفق للكاتب أن يفتن ببعض المعاني فيكررها في صور مختلفات مرتين أو مرات، وإليكم هذه الفقرة:
إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية.٩
فإن هذا المعنى هو عينه الذي عبر عنه بقوله في فقرة ثانية:
ما ترك من الجهل شيئًا من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله فيه.١٠
وهو نفسه الذي عبر عنه بقوله في فقرة ثالثة:
لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها، فلو أرادك لاستعملك من غير إخراج.١١
وهو أيضًا المراد بقوله في كلمة رابعة:
أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك.١٢

فهذه الفقرات كلها تنتهي إلى غرض واحد: هو أن يقف المريد حيث أقامه الله فلا يضجر من النقص ولا يطمع في المزيد.

التجريد والأسباب

ومحصول هذه الحكم الأربع يكشف عن جانب من آراء ابن عطاء الله، فهو يدعو إلى احترام الواقع، ولا يرى عملًا أفضل من عمل، ما دامت الأعمال كلها بإرادة الله. حدث عن نفسه قال:
دخلت على الشيخ (رضي الله عنه) وفي نفسي العزم على التجريد، قائلًا في نفسي: إن الوصول إلى الله تعالى على هذه الحالة بعيد مع الاشتغال بالعلوم الظاهرة ووجود المخالطة للناس، فقال لي من غير أن أسأله: صحبني إنسان مشتغل بالعلوم الظاهرة ومتصدر فيها فذاق من هذه الطريق شيئًا فجاء إليَّ فقال: يا سيدي، أخرج عما أنا فيه وأتجرد لصحبتك، فقلت له: ما الشأن ذا، ولكن امكث فيما أنت فيه، وما قسم الله لك على أيدينا فهو إليك واصل. ثم قال الشيخ — ونظر إليَّ — وهكذا شأن الصديقين لا يخرجون من شيء حتى يكون الحق سبحانه وتعالى هو الذي يتولى إخراجهم. فخرجت من عنده وقد غسل الله تلك الخواطر من قلبي، ووجدت الراحة بالتسلم إلى الله تعالى.١٣

وهذه النظرة إلى الأعمال الدنيوية أدق وأصح من نظرة الغزالي الذي يدعو في مواطن كثيرة إلى ترك العلوم الظاهرة، وينصح بالتجريد المطلق، ويقبح ما يتصل بالجاه من أعمال الناس.

وعلى ذلك يكون الاهتمام بالعمران وبالمعاش وبالمجتمع مما لا ينافي أدب المريد في نظر ابن عطاء الله، وإنما يشترط لذلك أن يعرف المريد أنه يقف حيث أقامه الله، وأن لا غرض له من التشبث بأعمال المعاش.

حقوق الصديق

ولكن الرضا عن الحال غير الرضا عن النفس، فلك أن ترضى عن حالك التي أقامك الله عليها في مرافق الحياة، أما نفسك فالرضا عنها أصل كل معصية وغفلة وشهوة،١٤ ورفيقك الذي تصحبه يجب أن يكون من الذين لا يرضون عن أنفسهم «ولأن تصحب جاهلًا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه، وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه».١٥
وابن عطاء الله يكثر من الكلام عن الصحبة، ولكن «لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله»،١٦ والصحبة أصل كبير من أصول القوم، وفيها منافع وفوائد؛ ولذلك استمر عليها شأنهم قديمًا وحديثًا١٧ وللصحبة آداب ذكرناها في قسم الأخلاق، ولكن لا بأس من التذكير بأنهم يرون الصديق الحق من لا يزيدك عنده البِرُّ ولا يَنْقُصُك عنده الجهل؛ ولذلك قيل: كن مع أبناء الدنيا بالأدب، ومع أبناء الآخرة بالعلم، ومع العارفين كيف شئت. وقيل لبعض الصالحين: إن فلانًا يحبك ويكثر ذكرك، فقال: إنه لحبيبٌ إليَّ، وأُجِلُّهُ وأعرف قدره، ولكن يهون عليَّ أن ألقى الشيطان ألف مرة، ولا ألقاه مرة واحدة، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أخشى أن أَتَزَيَّنَ له ويتزين لي. قال المكي: وكانت هذه الطائفة من الصوفية لا يصطحبون إلا على استواء أربعة معانٍ لا يترجح بعضها على بعض، ولا يكون فيها اعتراض من بعض على بعض إن أكل صاحبه الدهر كله لم يقل له: صم، وإن صام الدهر كله لم يقل له صاحبه: أفطر، وإن نام الليل كله لم يقل له صاحبه: قم فَصَلِّ، وإن صلى الليل كله لم يقل له صاحبه: قم بَعْضَه، وتستوي أحواله عنده فلا مزيد لأجل صيامه وقيامه، ولا نقصان لأجل إفطاره نومه.١٨

وسر هذا الأدب هو الفرار من هوى النفس، فأنت لا تلوم الصديق في سرك أو جهرك إلا وأنت تعتقد أنك أفضل منه، وهذا خطر يؤذن بكدورة النفوس.

فالقوم يوجبون تخير الصديق، ولكن ذلك في البداية، أما إذا انعقدت الصداقة فالبر كل البر أن تعمى عينُك عن عيوب صديقك، وأن لا ترى نفسك أفضل منه وإن تخلف عنك. والأساس أن تكون مع الله بقلبك: فلا تشغل بغير عيوبك، ولا ترى الحياة إلا في شهوده ورضاه.

الشهرة والخمول

قلنا: إن ابن عطاء الله لا يدعو إلى قطع الأسباب ولا يرى بأسًا في اشتغال المريد بالعلوم الظاهرة والسعي فيما يسعى إليه الناس من نعيم المعاش، فلنذكر لتقييد ذلك أنه يكره للمريد أن يسعى إلى الشهرة وبعد الصيت، وله في هذا كلمة هي من الذخائر في الأخيلة الأدبية، قال:

ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما يدفن لا يتم نتاجه.

وهي كلمة رائعة لم أشهد لها مثيلًا فيما قرأت، وفيها حيوية قوية، كأن الكاتب ألقاها في لحظة من اللحظات التي تتجمع فيها قوى النفس، ثم تقذف بالمعنى فيخلد لقوته على وجه الزمان.

والصوفية مجمعون على بغض الشهرة وحب الخمول، ولهم في ذلك كلمات جرت مجرى الأمثال، كقول بعضهم: «طريقتنا هذه لا تصلح إلا لأقوام كنست بأرواحهم المزابل»، وقول ابن أدهم: «ما صدق الله من أحب الشهرة»، وقول آخر: «ما أعرف رجلًا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح»، وقول آخر: «كلما دفنت نفسك أرضًا سما قلبك سماءً سماءً».١٩
ومن أغرب ما قرأت في هذا المعنى قول الفُضَيل:
بلغني أن الله عز وجل يقول في بعض ما يمن به على عبده: ألم أنعم عليك؟ ألم أسترك؟ ألم أخمل ذكرك!٢٠

والذين ابتلاهم الله بالشهرة يعرفون صدق هذه الكلمات، فالشهرة محنة قاسية لا يبتلى بها الرجل إلا ذهب عمره في مدافعة القيل والقال، وطال بلاؤه بالتجمل والتزين للناس. والعمر قصير، ولكن الرجل المشهور ينفق عمره على قصره في تفاهات وصغائر يوجبها الاحتفاظ باسمه سليمًا من أقذار الأقاويل، وهيهات أن يسلم، فالشهرة محنة حتى في الخير المحض، فلو اشتهرت بالإحسان إلى المساكين لجرك ذلك إلى الخراب، وألقى على عملك أكداسًا من تراب الرياء. وبعض المشهورين يلذ لهم أن يتسمعوا ما يقال فيهم، فيصطدمون بأكاذيب وأراجيف يشيب لها الوليد، ثم ينتهون إلى اليأس من أدب الناس، وإذ ذاك ينقلبون إلى نار عاتية تمحق كل ما تصادف من أصول الأخلاق.

ومع أني قليل التجاريب في هذه الدنيا ولم يطر اسمي في مشرق ولا مغرب فإن الشهرة الضئيلة التي قضت بأن يردد اسمي في بعض المجتمعات عطلت علي أنفس أوقاتي، وكدرت صفائي، ولونت أدبي بألوان أبغضها أقبح البغض، وصيرتني أسيرًا لصنوف من التقاليد السخيفة، تقاليد المجتمع السخيف. وحاولت أن أتحلل وأتخلص فلم أفلح؛ لأن الشهرة كالميسم المتقد لا تمحو أثره الأيام.

وما فكرت في المشهورين من الرجال إلا طال لهم رثائي، فعلى هؤلاء واجبات خلقتها الشهرة، ولم يفرضها الحق، عليهم أن يغيثوا كل ملهوف، وأن يواسوا كل محزون، وأن يزوروا ويزاروا في كل حين. وعلى أقدامهم أن تمشي إلى كل مأتم، وعلى ألسنتهم أن تتكلم في كل مجمع، وعلى آرائهم أن تظهر في كل ميدان، وتكون النتيجة أن يصبحوا كالآلات تصنع ما لا تريد.

وإنما ضربنا الأمثال لنبين أن أدب ابن عطاء الله في بغض الشهرة من الآداب العملية، فهو ليس أدب الرجل العاطل، وإنما هو أدب الرجل الذي يهمه أن يكون من النافعين.

وأكاد أجزم بأن عمارة الدنيا عبء لا ينهض به إلا الخاملون؛ لأن الخمول يصرف عن النفس شواغل كثيرة فتفرغ للنهوض بجلائل الأعمال.

والناس تعودوا أن يحملوا المشهورين ما لا يستطيعون أن يحملوا، ويكلفوهم ما لا يطيقون، فتثور بذلك أحقاد وضغائن يأباها العقل، ويأباها المنطق، وتحول الدنيا إلى جحيم يصلاه أهل الشهرة، من حيث يحتسبون أو لا يحتسبون.

تأمل في بلايا أهل الشهرة أيها القارئ، ثم انظر مرة ثانية في هذه النصيحة الغالية:
ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه.٢١

مذهب الحلول

ولابن عطاء الله كلمات تذكر بمذهب الحلول، وهو أن يكون الله كل شيء في كل شيء، فلا تكون ذرة، ولا قطرة، ولا نبتة، ولا نسمة، إلا وهي جزء من الذات الإلهية. من ذلك قوله:
إنما يستوحش العباد والزهاد من كل شيء، لغيبتهم عن الله في كل شيء ولو شهدوه في كل شيء، لم يستوحشوا من شيء.٢٢
وقوله:
علم منك أنك لا تصبر عنه، فأشهدك ما برز منه.٢٣

وهذه الكلمة الثانية صريحة في قوله بالحلول؛ لأنها تفصح إفصاحًا بأن العالم هو الجزء البارز من الله، وأن على المؤمن أن يراه في كل موجود.

ولكن ابن عطاء الله لا يرى هذا الرأي في جميع الأحوال: فأدبه قائم على أن الإنسان منفصل عن الله وأن عليه أن يتأدب، وأن يتقرب إلى ربه المتفرد بالعزة والجلال، وأن يطلب رضاه بالفناء في حبه، وأن يوقن بأن هناك دارين، وقد أمره في هذه الدار بالنظر إلى مكوناته، وسيكشف له في تلك الدار عن كمال ذاته،٢٤ ويذكر المريد بحاجته إلى حلم الله في جميع الأحوال فيقول:
أنت إلى حلمه إذا أطعته، أحوج منك إلى حلمه إذا عصيته.٢٥
ويجعل الله صاحب الفضل المطلق فيقول:
لو أنك لا تصل إليه إلا بعد فناء مساويك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبدًا، ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونعتك بنعته، فوصلك إليه بما منه إليك، لا بما منك إليه.٢٦
والحق أن في كلام ابن عطاء الله تعابير كثيرة تؤذن بالحلول، ولكنه يثب فجأة فيشهد لله بالوحدانية المنفصلة عن سائر الأكوان، كأن يقول:

الأكوان ثابتة بإثباته، وممحوة بأحدية ذاته.

على أن هذه الكلمة نفسها تدل على أنه يدفع تهمة الحلول، كأنه يظن أن الشبهة قائمة، شبهة اتصال الموجد بالموجود، وامتزاج الخالق بالمخلوق، وهي شبهة تقوى في بعض الأنفس، في بعض الأحوال، تقوى حين تصفو النفس، وحين تشهد من الجمال والجلال ما يعسر إضافته إلى الموجودات الفانية، وإلا فمن ذا الذي يصدق أن البحر في ظلمات الليل خال من معاني الألوهية؟ ومن ذا الذي يصدق أن هذا الوجود المربوط برباط الكهرباء خال في تماسكه من النفحات الربانية؟

القبض والبسط

إن مذهب الحلول لا ينهدم أمام العقل إلا حين نفكر في أصاغر الموجودات وصغائر الناس، ولكن من يدري؟ فقد يثبت يومًا أننا مخطئون في تقدير حقائق الأشياء، وتقويم طباع الناس، قد يثبت يومًا أن العمل الحقير لا يقل نفعًا في تماسك الوجود عن العمل الجليل، أم يثبت أن العالم يشكو النقص في سم بعض الحيات؟ ألم يتمن الأطباء لو أمكن الإكثار من «الكوبرا»؛ لينفع سمها في شفاء السرطان؟ ألم تصل إلى أذنك كلمة من عدو حقود فتكون على قذارتها بعثًا لهمتك الغافية، وتنقلك من حال إلى حال؟

نحن لا ننكر مذهب الحلول إلا؛ لأننا خلقنا قواعد مستبدة لأصول الشرف والانحطاط، ولو سمحنا لأنفسنا بقليل من التبذل لكشفنا هذه المسألة كل الكشف، وما لنا نتهيب؟ أليس البراز مثلًا للقذارة الحسية، ومع ذلك فانظروا خطره إذا بقي في الأمعاء وفيه ملايين الجراثيم؟

إن في الوجود أشياء كثيرة معروفة القبح، ولكنها مجهولة النفع، وما أقمناه من قواعد الذوق هو سر ما نقع فيه أحيانًا من الجهل، ولو عقلنا لعرفنا أن ليس في الكائنات فاضل ومفضول، وإنما هي قوى تتساند وتتعاون في حفظ هيكل الوجود، وما تستصغر شأنه من الفضلات قد يكون فيه من القوى الخفية ما يبهر اللب لو كشف عنه الحجاب.٢٧

دقائق الرياء

ولابن عطاء الله كلام ممتع في القبض والبسط، وهما من أحوال النفس، وهو لا يسره أن يكون البسط من آثار النعمة، وأن يكون القبض من آثار الحرمان، ويقول:
متى كنت إذا أعطيت بسطك العطاء، وإذا منعت قبضك المنع، فاستدل بذلك على ثبوت طفوليتك، وعدم صدقك في عبوديتك.٢٨
وهو يرى أن القبض قد يكون أنفع للنفس من البسط، ويقول:
ربما أفادك في ليل القبض، ما لم تستفده في إشراف نهار البسط، لا تدرون أيهم أقرب إليكم نفعًا.٢٩

وإنما أثروا القبض على البسط لما في القبض من انعدام حظوظ النفس؛ ولأن القبض قد يفتح أمام النفس آفاقًا من التأمل لا يفتحها البسط، والنهار ليس في كل حال أنفع من الليل.

الاستغاثات العطائية

ولابن عطاء الله كلمات كثيرة تدل على بصره بسرائر النفوس، من ذلك قوله:
حظ النفس في المعصية ظاهر جلي، وحظها في الطاعات باطن خفي، ومداواة ما يخفى صعب علاجه.٣٠
وهذا كلام دقيق جدًّا، يفسره قوله في كلمة ثانية:

ربما دخل الرياء عليك، من حيث لا ينظر الخلق إليك …

ولهذه الدقائق نظائر كثيرة في كلامه فلا ندل عليها جمعاء، وإنما يكفي أن نشير إلى أن الرجل تعمق في تفكيره كل التعمق، وعرض أفكاره في أشرف بيان.

ونكرر ما قلناه من قبل، وهو أن حكم ابن عطاء الله خالية من الوحدة الفنية؛ لأنها في الأصل خطرات عرضت من وقت إلى وقت، ثم أضيف بعضها إلى بعض من غير ترتيب.

صلتنا بالله

ننتقل بعد ما سلف إلى بحث من الأدب الصرف، هو ما ختم به كتابه من الاستغاثات، وكان يمكن نقل هذا البحث إلى ما كتبناه عن الأدعية والأوراد، ولكنا رأينا أن تكون آثار ابن عطاء الله في مكان واحد، وهذا الكتاب تمت أصوله إلى وشيجة واحدة وإن تعددت الفروع.٣١

ونبادر فنذكر أن ابن عطاء الله يتأثر في استغاثاته خطوات أبي الحسن الشاذلي في «حزب البر» أي: أنه يحلل المعاني ويعللها ويشرح وينقد ويستنبط، فأنت أمام رجل بليغ لا يكتفي بزخرف اللفظ، وإنما يفتن افتنانًا شائقًا في زخرف المعاني، على طريقة الفحول الذين يلقونك في الأودية العقلية، فيجعلون منها مفاتن تفوق الزخارف اللفظية، وذلك كله يجري بأسلوب سمح لا تكلف فيه ولا افتعال.

ولننظر كيف يبدأ استغاثاته فيقول:
إلهي أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيرًا في فقري.٣٢
إلهي أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولًا في جهلي.٣٣
وهذا المعنى اللطيف كرره ابن عطاء الله في عبارة ثالثة فقال:
«إلهي وصفت نفسك باللطف والرأفة بي قبل وجود ضعفي، أفتمنعني منهما بعد وجود ضعفي».٣٤

والفقرة الثالثة فيها تعمل، ولكن المعنى يشرق منها كل الإشراق، والمؤلف يكاد يعديك فينقل إلى قلبك روعة التقوى ورقة الخشوع، وهذا المعنى فيه كل دقائق التصوف والروحانية، فالمرء في قوته وعلمه وغناه مفتقر في كل لحظة إلى رعاية الله، فكيف يكون وهو معدم جاهل ضعيف؟ إن المرء لا يملك لنفسه الستر لحظة واحدة، ولا يملك لنفسه السلامة لحظة واحدة، ولا يملك لنفسه الغنى لحظة واحدة، ففي الغيب مستورات من الصروف لا يقيك منها غير الحفيظ المغيث، وقد تبسم لك الدنيا فتزهو وتختال، وأنت لا تعرف أن كلمة تخرج من فيك، أو إشارة تصدر منك، أو عرقًا يختلج في جسمك، لا تعرف أن بعض هؤلاء قد ينقلك من نضرة النعيم إلى جحيم الشقاء.

وبدا له أن يوازن بين ما يكون منه وما يكون من الله فقال:
إلهي، مني ما يليق بلؤمي، ومنك ما يليق بكرمك.٣٥
ثم جعل محاسنه لا تظهر إلا بفضل الله، ومساويه لا تظهر إلا بعدل الله، فقال:
إلهي، إن ظهرت المحاسن مني فبفضلك ولك المنة علي، وإن ظهرت المساوي فبعدلك ولك الحجة علي.٣٦
وعلل التوسل بالفقر فقال:
ها أنا أتوسل إليك بفقري إليك، وكيف أتوسل إليك بما هو محال أن يصل إليك؟ أم كيف أشكو إليك حالي وهي لا تخفى عليك؟ أم كيف أترجم لك بمقالي وهو منك برز إليك؟ أم كيف تخيب آمالي وهي قد وفدت إليك؟ أم كيف لا تحسن أحوالي وبك قامت وإليك؟٣٧

وهذه الفقرة في غاية من النفاسة؛ لأن الكاتب يشرح الفكرة الصوفية التي تقول: بأن الخير المطلق هو في نسيان الذات والأحوال، فهو يتوسل أولًا بالفقر، ثم يبدو له أن الاعتداد بالفقر ذنب، ويرى من العبث أن يشكو إلى الله حالًا لا تخفى عليه، أو يترجم له بمقال هو منه برز إليه، ويعجب كيف تخيب الآمال وقد وفدت إلى الله، وكيف لا تحسن الأحوال وبه قامت وإليه توجهت. وهذا وذاك من التلطف في مناجاة علام الغيوب.

ويفتح أمام قلبه باب الرجاء فيقول:
إلهي، كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك، وكلما آيستني أوصافي أطمعتني منتك.٣٨
ومعنى هذا أن الذنوب لا تمنع المؤمن من الطمع في كرم الله، وهذه الفكرة هي أساس التصوف. وتفني محاسنه أمام عينيه فيقول:
من كانت محاسنه مساوي، فكيف لا تكون مساويه مساوي، ومن كانت حقائقه دعاوي، فكيف لا تكون دعاويه دعاوى.٣٩

ومعنى ذلك أن أعمالنا كلها هباء، والاعتداد بصالح الأعمال غرور ينكره الصوفية.

وينكر أن تكون الكائنات هي الشاهد على وجود الله فيقول:
إلهي، كيف يستدل عليك، بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى نحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك.٤٠

وهو بهذا ينظر نظر المجذوبين لا نظر السالكين، فالسالك يستدل بالموجودات على الله، والمجذوب يستدل بالله على الموجودات؛ لأنه أصل كل شيء، وقد عبر عن هذا المعنى مرات مختلفة، فهو من آرائه الأساسية.

وهو مع هذا لا ينكر أن تكون الآثار شواهد على الله، ويقول:
إلهي، أمرت بالرجوع إلى الآثار، فأرجعني إليها بكسوة الأنوار، وهداية الاستبصار، حتى أرجع إليك منها كما دخلت إليك منها مصون السر عن النظر إليها، ومرفوع الهمة عن الاعتماد عليها. إنك على كل شيء قدير.٤١

وهذه غاية في التعلق بالله، والتعامي عما سواه.

وهو يتلهف على الوصول إلى الله فيقول:
إلهي، منك أطلب الوصول إليك، وبك أستدل عليك، فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصدق العبودية بين يديك.٤٢

بين الخوف والرجاء

ويمعن في التفلسف في محاورة الله فيقول:
إلهي، تقدس رضاك عن أن تكون له علة منك، فكيف تكون له علة مني، أنت الغني بذاتك عن أن يصل إليك النفع منك، فكيف لا تكون غنيًّا عني.٤٣

وهذه النقطة في غاية من الدقة، فالمؤلف يرى رضا الله منزهًا عن أن تكون له علة من الله نفسه، فكيف تكون له علة من الناس، ويرى الله على عظمته غنيًّا بذاته عن أن ينفع نفسه فكيف لا يكون غنيًّا عن نفع الناس وهم حقراء.

ومعنى هذا الكلام أن معصيتنا لا تعود على الله بضر، وأن طاعتنا لا تعود عليه بنفع، فرضاه عنا ليس متعة له وغضبه علينا ليس دليلًا على أساه.

فما هي صلتنا في طاعتنا ومعاصينا بذلك العلي العظيم؟ أنغضبه حين نعصي ونسره حين نطيع؟ وإذا أغضبناه أيكون معنى ذلك أننا أسأنا إليه؟ وإذا أرضيناه أيكون معنى ذلك أننا أحسنا إليه؟

إن الله منزه عن الآثار الحسية لمعاني الحب والبغض، ولو لم يكن منزهًا عن ذلك لكان في مقدور المخلوق الضعيف أن يؤثر في الذات الإلهية بالرضا والاكتئاب، وهو محال.

فلم يبق إلا أن تكون صور غضبه ورضاه موصولة بصوالحنا الذاتية، لم يبق إلا أن يكون الغضب والرضا صورة لما نفهم نحن لا ما يفهم الله، لم يبق إلا أن نكون خلعنا على الله خلعة إنسانية فجعلناه يرضى ويغضب، كما نرضى نحن ونغضب، وتمثلناه يألم ويجذل، كما نألم ونجذل، وهو سبحانه منزه عن كل ما يلابس الناس.

وإذا كان ابن عطاء الله ينزه الله عن الرضا فكيف يترضاه؟ وإذا كان ينزهه عن الغضب فكيف يتسغفره؟ وإذا كان يراه أعلا من أن ينظر إلى الحسنات فكيف يتقرب إليه، وإذا كان يراه أمنع من أن تهمه السيئات فكيف يتوجع لما اقترف من الذنوب؟

هذه مشكلة لم يحلها الصوفية، وستظل أبد الدهر من المشكلات.

ولكن ما الذي يمنع من أن نقرر أن فهمنا للذات الإلهية فهم ناقص أبشع النقص؟ ما الذي يمنع من أن نقرر أنه لا يبعد أن تكون الذات الإلهية تنظر إلى الأشياء على نحو ما ننظر، وتعقل على نحو ما نعقل، مع حفظ الفارق بين قوة الخالق وضعف المخلوق؟

وهل يقدح في عظمة الله أن يطرب للحسن وينفر من القبح؟ هل يقدح في عزة الله أن يرضى حين نحسن ويغضب حين نسيء؟ إن من شمائلنا المرضية أن نطرب للمحاسن ونجزع من العيوب، فكيف ننزه الله عما ارتضينا لأنفسنا من الشمائل والخصال؟

أنا أخشى أن يكون فيما ارتآه الصوفية فرار من الاكتراث بالتبعات، أخشى أن يكون في تنزيههم الله عن الرضا والغضب خروج إلى باحة الانحلال، وأرى أن الذين يقفون عند حدود الشرع أصلح وأسلم، فهم يتمثلون الله يرضى ويغضب، وهم يعملون للنجاة من غضبه والظفر برضاه، وما أراهم من المخطئين.

ولكن من نحن حتى نكيف القوة الإلهية؟ من نحن؟ من نحن؟ ألم أقل لكم إن هذه المسألة ستظل أبد الدهر من المشكلات؟

إن ابن عطاء نفسه لم يسلم من القلق، وما قاله في الاستغاثة والمناجاة يدل على أنه لا يعرف بالضبط كيف يعامل الله، فهو موزع القلب بين الرجاء والخوف ولعل هذه الحيرة هي خير ما نلقى به الله الذي لم يخف منه شيء، ولم يظهر منه شيء.

هل نملك الطاعة والعصيان؟

وابن عطاء الله يصر إصرارًا جازمًا على أن العمل لا ينفع إلا بفضل من الله، ويقول:
إلهي، إن رجائي لا ينقطع عنك، وإن عصيتك، كما أن خوفي لا يزايلني وإن أطعتك.٤٤

وهذا من المعاني التي كررها المؤلف في صور مختلفة، فهو يدعو هنا بما كان ينصح به هناك.

وابن عطاء الله لم يبتكر هذا المعنى: فهو أصل من أصول التصوف، ومن قبل قال يحيى بن معاذ:

يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال؛ لأني أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص، وكيف أحررها من الرياء وأنا بالآفة معروف؟ وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف؟

ومن دعاء أبي العباس:
إلهي معصيتك نادتني بالطاعة، وطاعتك نادتني بالمعصية، ففي أيهما أخافك؟ وفي أيهما أرجوك؟ إن قلت: بالمعصية قابلتني بفضلك فلم تدع لي خوفًا، وإن قلت: بالطاعة قابلتني بعدلك فلم تدع لي رجاء، فليت شعري كيف أرى إحساني مع إحسانك؟ أم كيف أجهل فضلك مع عصيانك؟٤٥

وهذا كلام نفيس في معناه.

والصوفية في هذا الموطن يفرقون بين العوام والخواص، فالعوام يخافون عند موجبات الخوف ويرجون عند موجبات الرجاء، أما الخواص فيجمعون بين الخوف والرجاء في جميع الأجوال.

هل نملك الطاعة والعصيان؟

ولا يثق ابن عطاء الله بقدرة المرء على فعل الخير وترك الشر، ويرى العزيمة ضائعة، ولكنه يحاولها امتثالًا للأمر، ويقول في ذلك:
إلهي، كيف أعزم، وأنت القاهر؟ وكيف لا أعزم، وأنت الآمر.٤٦

وهذه أيضًا من المشكلات الباقية، فنحن لا نعصي إلا بقضاء، ولا نطيع إلا بقضاء، نحن مسخرون في الخير ومسخرون في الشر، ومن فجورنا وتقوانا يقوم الوجود، أفنستطيع حين نعصي أن نفعل ما لا يشاء الله؟ أفنستطيع حين نطيع أن نحس إلى الله؟ وكيف خلق المعصية وهي نكراء؟ وكيف هيأ لنا أسباب الشر وهو بلاء؟ وكيف خلق فينا ذوق الإثم وهو يبغضه؟ وكيف فاته أن يصوغنا من الخير المحض وهو كل هواه؟

إن الإرادة الإنسانية فكرة وهمية، ومن الغرور أن نحكم بأننا نملك تصريف هذا الوجود، فلم يبق إلا أن نقول مع ابن عطاء الله: وكيف لا نعزم وأنت الآمر.

أمرنا بالعزم على الخير، فلنعزم على الخير، ولنفوض الأمر إليه.

هذا، ولابن عطاء الله كلمات سارت مسير الشمس فكانت شاهدًا على قوته الروحية، من ذلك قوله:
إلهي، هذا ذلي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك.٤٧

فقد كنت أسمع هذه الكلمة كلما لقيت جماعة من المتعبدين.

ومن ذلك أيضًا قوله:
بك أستنصر فانصرني، وعليك أتوكل فلا تكلني، وإياك أسأل فلا تخيبني، وفي فضلك أرغب فلا تحرمني، ولجنابك أنتسب فلا تبعدني، وببابك أقف فلا تطردني.٤٨

ولو أضفنا إلى ذلك ما ظفرت به الحكم العطائية من الشروح والتفاسير، وما أوحت إلى الناس من مختلف المعاني، لرأينا كيف كانت قيمتها من الوجهة الأدبية والفلسفية.

ولا يغض من الحكم العطائية أنها ظلت مجهولة في التاريخ الأدبي؛ لأن مؤرخي الأدب غفلوا عن أمثال هذه الفرائد فلم يكن لها من عنايتهم نصيب.

وقد قلنا في غير موطن من هذا الكتاب: إن رجال الأدب شغلوا بأسرى الحواس، ولم يهتموا برجال القلوب.

ولعل هذا الفصل يذكِّر رجال الأدب بعظمة ذلك الأديب المجهول، فما تقل كلماته في الأدب مع الله عن كلمات ابن المقفع في الأدب مع السلاطين.

١  كان ابن عطاء الله — محمد بن أحمد أو أحمد بن محمد — من أهل العلم في التفسير والحديث والنحو والفقه والأصول، صحب أبا العباس المرسي وأخذ عنه التقي السبكي. واستوطن القاهرة، وكان له كرسي في الأزهر يجلس عليه ليشرح آثار القوم وآثار السلف، ومات بالمدرسة المنصورية بالقاهرة سنة ٧٠٩.
ولما صنف حكمه عرضها على شيخه أبي العباس المرسي فتأملها وقال: «لقد أتيت يا بني في هذه الكراسة بمقاصد الأحياء وزيادة»، قال صاحب كشف الظنون: (ولذلك تعشقها أرباب الذوق لما رق لهم من معانيها وراق، وبسطوا القول فيها وشرحوها).
انظر معجم سركيس وفهرس دار الكتب المصرية، وانظر ما كتب عنه في دائرة المعارف الإسلامية بالعدد الرابع من المجلد الأول، ومنه يستفاد أن حكم ابن عطاء الله شرحت باللغة التركية واللغة المالوية. وانظر كلمة عنه في مقدمة شرح ابن عجيبة على الحكم صفحة ٩.
٢  ص٣.
٣  ص٥.
٤  الرحا هي الطاحون.
٥  ص٣٦.
٦  ص٧.
٧  ص٢٧.
٨  من دقائق التعابير في الفرق بين المريد والمراد قول الشيخ أرسلان: «ما دمت أنت فأنت مريد، فإذا أفناك عنك فأنت مراد»، ويشرح هذا المعنى قول بعض العارفين: «من اهتدى إلى الحق لم يهتد إلى نفسه، ومن اهتدى إلى نفسه لم يهتد إلى الله» يعني أن من رأى الحق عاب عن نفسه ومن رأى نفسه حجب عن الله.
٩  صفحة ٤ جزء ١ شرح الرندي.
١٠  صفحة ٢٠.
١١  صفحة ٢١.
١٢  صفحة ٦.
١٣  صفحة ٦ من شرح الرندي.
١٤  انظر صفحة ٣١ جزء ١.
١٥  صفحة ٣٢.
١٦  صفحة ٣٧.
١٧  الرندي جز١ صفحة ٣٧.
١٨  الرندي جز١ صفحة ٣٧.
١٩  هذه الكلمات مقتبسة من شرح الرندي وشرح ابن عجيبة.
٢٠  شرح الرندي جزء ١ صفحة ٤٥.
٢١  في شرح ابن عجيبة كلام كثير عن التخلص من الجاه والمال للوصول إلى نعمة الخمول، وقد ضرب المثل بالششتري — وكان وزيرًا وابن أمير فلما أراد الدخول في طريق القوم خرج عن دنياه وطاف بالأسواق طواف المجاذيب (صفحة ٢٨)، والذي نراه أن المعول عليه صدق النية، فليست الشهرة مما تفسد به القلوب في جميع الأحوال، والعزم على إهانة النفس قد يعرض المرء للرياء.
٢٢  صفحة ٨٩.
٢٣  صفحة ٨٩.
٢٤  ص٩٩.
٢٥  ص٩٨.
٢٦  ص١٠٣.
٢٧  لابن عطاء الله كلام في الشريعة والحقيقة ورد في ص٩٧ من كتابه (إسقاط التدبير)، وهو يحكم بأن من رأى أن الملك لله وأن لا ملك لغيره معه فقد قذف به في بحر الزندقة وعاد حاله بالوبال عليه ومعنى ذلك أن الإنسان غير الله. فالله يملك والإنسان يملك، وإن كان الله يملك ملك الرب، والإنسان يملك ملك العبد.
٢٨  ص١٠٦.
٢٩  ص١٠٧.
٣٠  ج٢ ص٤.
٣١  لابن عطاء الله مكان آخر القسم الثاني من هذا الكتاب.
٣٢  الرندي ج٢ ص٨٩.
٣٣  شرح الزندي ج٢ ص٨٩.
٣٤  ص٩٠.
٣٥  ص٩١.
٣٦  ص٩٢.
٣٧  ص٩٣.
٣٨  ص٩٤.
٣٩  ص٩٥.
٤٠  ص٩٤.
٤١  ص٩٥.
٤٢  ص٩٦.
٤٣  ص٩٧.
٤٤  ص٩٩.
٤٥  ص١٠١ ج٢.
٤٦  الرندي ج٢ ص١٠٢.
٤٧  ج٢ ص٩٥.
٤٨  ص٩٦–٩٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤