مدى فتوح الهكسوس في مصر

وقبل أن نترك موضوع الهكسوس كما نعرفهم من المصادر المكتوبة، يستحسن أن نفحص باختصار مدى امتداد نفوذهم الجغرافي في مصر خلال احتلالهم لها؛ فقد روى لنا «مانيتون» أن الهكسوس عند فتحهم البلاد قد استولوا عليها جميعًا، غير أن هذا التعميم يحتاج إلى إثبات بطبيعة الحال، ونحن لا نشك في أن الدلتا كانت في قبضتهم، وكذلك في العهد الأخير من الأسرة السابعة عشرة امتدَّ سلطانهم حتى مصر الوسطى كما نعلم ذلك من لوح «كارنرفون» الأول السالف الذكر، على أنه لا يمكننا أن نجزم حتى الآن فيما إذا كان الغزاة قد احتلوا البلاد جنوبي مصر الوسطى أم لا، هذا على الرغم من وجود آثارٍ تُنسَب إلى ملوك الهكسوس في هذه الجهة، مثل آثار الملك «خيان» كما ذكرنا سالفًا،١ وآثار الملك «سوسرن رع» «أبو فيس»،٢ وهما ملكان من أعظم ملوك هذا العصر.٣
وقد عارَضَ الأثري «هول» هذا الرأي؛ إذ كان يرى أن استعمال الملك «أبو فيس» ملك الهكسوس جرانيت «أسوان» لا يمكن أن يتأتى إلا إذا كان مسيطرًا على البلاد حتى الشلال الأول.٤ وهذا الرأي منقوض؛ لأن وجود رخام بلدة «كرارا» خارج إيطاليا لا يعني أن إيطاليا بلد محتلة. والواقع أن التبادل المشترك أو التجارة وحدها يمكن أن يكون السبب في وجود الأحجار التي تُستخرَج من أرض الجنوب في بلاد الشمال.
على أنه توجد بعض أدلة قد تبرهن على أن ملوك الهكسوس كان لهم سلطان في الجنوب، فمثلًا نلاحظ أن الملك «خيان» خلافًا لتسميته نفسه «حاكم البلاد الأجنبية» كان يحمل لقب «ضام الأرضين»، أي مصر السفلى ومصر العليا؛٥ حقًّا إن هذا اللقب له تأثيره على الآذان، ولكن هل هذا في نفسه برهان صادق يعتمد عليه كما هو؟ إن بعض ملوك الأسرة السابعة عشرة لم يحكموا الدلتا التي كانت وقتئذٍ في قبضة الهكسوس، ومع ذلك فقد استعملوا ألقابًا طنانة مثل «ملك الوجه القبلي وملك الوجه البحري»، وكذلك «رب الأرضين»؛ ممَّا يدل على أنهم كانوا يحكمون البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وهذا ما لا يبرره الواقع. ومن جهة أخرى تدل الأحول على أنه من الجائز أن تكون البلاد كلها منذ بداية حكم الهكسوس في الدلتا (ويحتمل كذلك معظم مدة حكمهم) كانت تحكم نفسها بنفسها بموافقة الغزاة.

ولدينا براهين معاصرة قد توضح لنا ذلك، ففي نهاية الأسرة السابعة عشرة نشاهد أن الملك «سقنن رع» الشجاع، كان يحكم في «طيبة» تحت نفوذ ملك الهكسوس كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق، ولكن من جهة أخرى ليس لدينا براهين فاصلة عن هذا النوع من الحكم في بداية عهد الهكسوس والعصر الذي جاء بعده، وليس في استطاعتنا أن نجزم بأن الهكسوس كانوا يسيطرون على الإقليم الذي فيه «طيبة»، أو الإقليم الذي في جنوبها، إلى أن تصل إلينا معلومات تؤكِّد ذلك، وكل ما يمكن زعمه في هذا الصدد هو أن بلاد الجنوب كانت تدفع جزية فادحة للهكسوس أصحاب السيادة في الدلتا، وقد بقيت الحال كذلك حتى ملَّ أهل الصعيد دفع الجزية، وأخذت قوتهم تزداد تدريجًا حتى انتهى بهم الأمر إلى أن هبوا في وجه الغزاة وهزموهم، وأخرجوهم من ديارهم أَذِلاء مشردين.

١  راجع: Daressy, “Rec. Trav”, XVI. (1894) p. 42, No. LXXXVIII.
٢  راجع: ibid XIV, p. 26, No. XXX.
٣  راجع: Newberry p. S. B. A. XXX, p. 119 f. فيقول الأستاذ «نيوبري» إن الهكسوس لم يحتلوا البلاد قطُّ جنوبي «القوصية»، وقد بنى استنباطه هذا على قلة البراهين من مصر الجنوبية، ومن لوح «كارنرفون»، ومن نقوش «إصطبل عنتر» التى يظهر منها أن «حتشبسوت» لم تجد ضرورة لإعادة بناء معابد جنوبي المعبد الموجود جنوبي «القوصية».
٤  راجع: Hall, “The Ancient History of the Near East” (1920) p. 225.
٥  راجع: Edward Naville, “Bubastis”, Pl. XII & XXV A.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤