تحتمس الأول

(١) أسرة تحتمس الأول

خلف «أمنحتب الأول» على عرش الملك «تحتمس الأول»، وتدل المعلومات التي لدينا حتى الآن على أنه ليس ابنه كما يدَّعِي البعض أحيانًا؛ إذ إن «تحتمس» أعلن في صراحةٍ في المرسوم الصادر بتوليته الملك، أنه وضعته والدته «سنسنب»، ومن ذلك نعلم أن أمه لم تكن زوجة ملك شرعية، أو بنت ملك شرعية، ويُشاهَد في أعلى اللوحة التذكارية التي نُقِش عليها هذا المرسوم؛ «تحتمس الأول»، وخلفه زوجه «أحمس»، والملكة «نفرتاري» والدة «أمنحتب الأول» التي شاركته في عرش الملك.

ومن المحتمل كما يظن البعض أن زوجه «أحمس» هذه كانت إحدى أخوات «أمنحتب الأول» الشرعيات، وأن «تحتمس» بزواجه منها أصبح ملكًا على البلاد، غير أن هذا الزعم لا يمكن الجزم به، والواقع أن الدور الخفي الذي مثل في حادث تولية هذا الملك لا يزال مجهولًا لنا كما جرَتِ العادة في مثل هذه الأحوال الخاصة؛ على أن هناك رأيًا آخَر يدَّعي الآخذون به أن «أحمس» زوج الفرعون «تحتمس» هي أحمس «حنت تامحو» بنت الملك «أحمس» الأول من زوجةٍ ثانوية تُدعَى «إنحابي»، والحقيقة أننا نجد «تحتمس» يتكلَّم عن «أحمس» هذه بأنها أخته، ممَّا يدل على أنه هو كذلك كان ابن الملك، ولكن من زوجة أخرى تُدعَى «سنسنب» كما ذكرنا. وأخيرًا يتكلم «تحتمس» عن نفسه في بعض النقوش بأنه ابن ملك، وأن والده ابن ملك؛ وذلك يدل على أن والده وجده كانا ملكين، ولما لم يكن ابن «أمنحتب الأول»، فلا بد إذن أن يكون ابن «أحمس الأول» وحفيد «سقننرع»،١ ومهما يكن من أمرٍ فإن الموضوع لا يزال يحيطه الشك والإبهام معًا.

(٢) تاريخ تتويجه ملكًا على البلاد

ولا بد أنه تُوِّج ملكًا على البلاد حوالي عام ١٥٣٥ق.م، أيْ بعد وفاة «أمنحتب» مباشَرةً، وقد استقينا معلوماتنا عن إعلان تتويجه ملكًا على البلاد من نسخ مرسوم توليته على عرش البلاد، أُرسِلت إلى حاكم بلاد النوبة «توري» الذي كان قد عُيِّن حديثًا لإدارة شئونها، ولُقِّب بلقب جديد هو ابن الملك للبلاد الجنوبية (كوش)، وكان يقوم بإدارة هذا الإقليم في عهد سلفه «أمنحتب» الأول على ما يظهر حاكم الكاب، والواقع أنه كان الوالي على بلاد السودان كما سنشرح ذلك في حينه.

ولا نزاع في أن هذا المرسوم كما يبدو كان قد وُزِّع على حكام البلاد قاطبةً، وقد وُجِد منه حتى الآن ثلاث نسخ، وهاك٢ نص المرسوم:

مرسوم ملكي إلى ابن الملك حاكم بلاد «كوش» «توري»؛ لقد أُرسِل إليك هذا المرسوم لتكون على علمٍ بأن جلالتي (له الحياة والسعادة والصحة) قد أشرق ملكًا على الوجهين القبلي والبحري، جالسًا على عرش «حور» الأحياء، الذي لن يكون له مثيل طول الأبدية، وستكون ألقابي كالآتي: حور (١) «الثور القوي» محبوب آلهة العدالة، (٢) سيد العقاب والصل الذي يظهر بالصل العظيم في قوته، حور الذهبي — من سنيه جميلة، ومَن يجعل القلوب تحيا، ملك الوجه القبلي والوجه البحري عا خبر «كارع» — ابن الشمس «تحتمس» — يعيش مخلدًا أبدًا. مرَّ على ذلك بتقديم القرابين لآلهة إلفنتين (الواقعة) في نهاية الجنوب، لأجل أن يقدِّم الناس قربانًا لحياة وعافية وصحة ملك الوجهين القبلي والبحري «عا خبر كارع» معطي الحياة، وكذلك مر بحلف اليمين باسم جلالتي الذي ولدته الأم الملكية «سنسنب»، والتي تتمتع بصحة مجددة. وهذه رسالة لتُعلِمك بالأمر، وبأن البيت المالك في صحة وعافية. (التاريخ) السنة الأولى، الشهر الثالث من فصل الشتاء في يوم الظهور (أي: ظهور الفرعون وعلى جبينه الصل، وهو علامة على التتويج).

(٣) أوصاف تحتمس الأول

ولا غرابة في أن نجد هذا الفرعون يحمل لقب «الثور القوي»، فإن هذا اللقب كان ينطبق عليه وعلى ما قام به من أعمال الشجاعة؛ إذ كان طويلَ القامة، عريضَ المنكبين، متينَ البنية، قادرًا على تحمُّل أهوال الحروب من غير ملل وإعياء، وقد صوَّرته تماثيله بوجه ممتلئ مستدير، وأنف طويل، وذقن مربعة، وشفتين تميلان إلى الغلظ، ومحيا ترتسم عليه ابتسامة ولكنها في الوقت نفسه تمثِّل قوة الإرادة، ولا نزاع في أن هذا الفرعون قد حمل معه عند تولِّي العرش روح الجيل الناشئ، الذي جاء على أعقاب تخليص البلاد من نير الهكسوس، فقد نما وترعرع في عهد «أمنحتب الأول»، ذلك العهد الذي كان يسوده السلام بوجه عام، وكان أبناء جيله يفخرون بتلك الانتصارات التي أحرزوها على أقوام الجنوب من غير كبير عناء، مما جعل روح الطموح تدبُّ في نفوسهم إلى الغزو ومتابعة الفتح، وبخاصة في آسيا، تلك البلاد التي فرَّ إليها أولئك القوم الذين سيطروا على بلادهم بيدٍ من حديد أكثرَ من قرن ونصف. والواقع أنهم لم يفكروا في غزو بلاد أفريقية ثانيةً؛ إذ كان يُخَيَّل إليهم أنه ليس فيها مجال واسع يسعر نار مطامعهم؛ لأن كل البلاد السودانية حتى ملتقى النيل الأزرق بالنيل الأبيض كانت ملكًا لعاهلهم، وكان الآلهة المصريون يعبدون في «نباتا» كما كانوا يعبدون في «طيبة» بنفس الحماس والتقى.

fig23
شكل ١: مومية تحتمس الأول.

(٤) حروبه في السودان

ولكن أهالي السودان من ناحيتهم أخذوا يقومون ببعض مناوشات، ولذلك عزم «تحتمس» على أن يقوم بنفسه بحملة عليهم لإخضاعهم قبل أن يولِّي وجهه شطر آسيا مطمح أنظاره ومعقد آماله، فسار على رأس جيشه حتى وصل إلى «تومبس» الواقعة بعد الشلال الثالث مباشَرةً، غير أنه وجد أن السودانيين الذين كانوا لا يزالون يذكرون هزيمتهم على يد «أمنحتب» الأول، لا يريدون قتالًا. وعلى أية حال فإن كل عصيان عند الحدود قد أُخمِد في الحال، وخُلِع على إثر ذلك كلُّ أمير معاد لمصر، وقد وصَلَنا وصفُ هذه الحملة من حياة «أحمس» بن «أبانا»، وكذلك من حياة سميه «أحمس بننخبت»، وكذلك على لوحةٍ نُقِشت في السنة الثانية من حكم هذا الفرعون على صخرة في جزيرة «تومبس» Tombos.٣

(٤-١) النص الذي يتحدَّث عن حروبه في السودان والنهرين

والنص الذي جاء على هذه اللوحة لا يحتوي على حقائق كثيرة في صميم الموضوع، بل معظمه تعابير بليغة في وصف الفرعون، وما له من جاه وسلطان وقوة وبطش، وسنضع ترجمتها حرفيًّا أمام القارئ بمثابة نموذج لتلك النصوص التي يشحذ المؤرخ فكره في عبارتها؛ ليستخلص منها حقائق تاريخية سهلة المأخذ، مختصرة العبارة، وهاك النص:

السنة الثانية، الشهر الثاني من فصل الفيضان، اليوم الخامس والعشرون في حكم جلالة الثور القوي محبوب آلهة العدل … «تحتمس الأول».

لقد حضر وظهر بوصفه رئيسَ الأرضين ليحكم ما يحيط به قرص الشمس، والوجه القبلي والوجه البحري، وبخاصة نصيبي «حور وست» (أي: مصر كلها)، وهو الذي وحَّدَ الأرضين وجلس على عرش «جب»، ولبس التاجين القويين (سخمتي)، وقد تسلَّمَ جلالته بحق إرثه، واطمأن على عرش «حور» ذي الدرج؛ ليمدَّ حدود «طيبة» على «خفت حرنبس» (من ضواحي «طيبة») وليصبح سكان الرمال، والبرابرة الذين يمقتهم الإله، وسكان جزر البحر الأبيض، وقوم «رتحو قابت» خدَّامًا لها، وهو الذي جعل سكان الجنوب يقلعون شمالًا وسكان الشمال يصعدون جنوبًا، وكل البلاد الأجنبية يأتون محمَّلين بجزيتهم للمرة الأولى (في التاريخ) للإله الطيب «تحتمس» الأول عاش مخلدًا، وإنه «حور» المظفر، رب الأرضين، وهو الذي يخدمه … ومستعمراتهم تابعة له؛ لأنهم يقبلون الأرض بين يدَيْه، وأصحاب السقاية ينحنون أمام جلالته، ويخضعون أمام الصل الذي على جبينه، وهو الذي قد طرح أرضًا رجال بلاد النوبة، ولم يفلت من قبضته السود إلا بمشقة (؟)، وقد ضمَّ إليه الحدود التي على كلا الجانبين (للنيل)، ولم يفلت واحد من أهالي الذين أتوا، فلم يَبْقَ منهم واحد، أما بدو النوبة فقد سقطوا على وجوههم من الفزع، وخروا على جنوبهم في بلادهم، وانتشرت رائحة جثثهم في وديانهم، ولطخت أفواههم بالدماء كأنها صوب المطر، أما الذين قتلوا … فحملوا إلى مكان آخَر، وقد انقضَّ التمساح على الهارب الذي كان يريد أن يختبئ أما «حور» قوي الساعد، (وهذا كله) حدث بقوة الفرعون وحده، ابن آمون، ونسل الإله صاحب الاسم الخفي (كلمة آمون معناها الخفي) وسلالة ثور التاسوع (أي: سلالة آمون)، والصورة الفاخرة لأعضاء الإله، والذي يفعل ما تحبه أرواح «عين شمس» (أي: الملوك القدامى)، وهو الذي برأه أرباب «حت عات» (معبد بعين شمس)، وهو حصن لكل جيشه، والجسور على مهاجمة قبائل الأقواس التسعة مجتمعين كأنه فهد فتي بين قطيع من البقر المطمئنة، قد أعمتهم قوة جلالته، وهو الذي وصل إلى حدود الأرض من قاعدتها، والذي اخترق نهايتها بقوته المظفرة، والذي يبحث عن الحروب، وليس مَن يجسر على مواجهته، وهو الذي فتح الوديان التي كان يجهلها الأولون، والتي لم يرها حاملو التاجين، وحدود بلاده الجنوبية وصلت إلى بداية هذه الأراضي (بلاد النوبة)، ومن الشمال إلى تلك المياه التي تسير من الشمال إلى الجنوب (يعني نهر الفرات؛ لأن مياهه تسير عكس مياه النيل الذي يجري من الجنوب إلى الشمال)، ولم يحدث لملك آخَر شيء مماثل لهذا، وقد وصل اسمه إلى دائرة السماء، وكذلك وصل إلى الأرضين … والناس تعقد الأيمان باسمه في كل البلدان؛ لأن شهرة جلالته عظيمة جدًّا، ولم يَرَ الإنسان مثيلًا لذلك في تاريخ الملوك القدامى منذ عهد أتباع «حور».

وهو الذي يعطي مَن يتبعه نفسه (أي: نفس الحياة)، ومَن يسير على نهجه قربانه، حقًّا إن جلالته هو «حور» الذي استولى على دولته لملايين السنين، وهو الذي تخدمه جزر المحيط، والأرض جميعها تحت قدمَيْه، ابن الشمس من جسده، ومحبوبه «تحتمس» عاش مخلدًا أبديًّا، المحبوب من «آمون» رب الآلهة، والده الذي صور جماله، ومحبوب تاسوع الكرنك، معطي الحياة، والثبات والعافية والصحة، وفرح القلب على عرش «حور»؛ لأنه قائد كل الأحياء، مثل رع مخلدًا.

ما نستخلصه من هذا النص

وهذه النقوش على ما بها من الإغراق في أوصاف الفرعون، وما قام به من ضروب الشجاعة لقمع أولئك السود، قد جعل بعض المؤرخين يستنتجون من استعاراتها أشياء لا وجود لها في المتن، ولا أدل على ذلك من استنتاج وجود قلعة بناها الفرعون في جزيرة «تومبس»، مع أن المتن الذي استخلص منه ذلك هو في الواقع تشبيه للفرعون بأنه حصن كل جيشه، والذي يجسر على مهاجمة قبائل الأقواس التسعة مجتمعة، الفهد الفتي بين قطيع من البقر الهادئة؛ على أن ذلك لا يمنع أن الفرعون كان قد أقام حصنًا في هذه الجهة، والمهم في هذا النقش هو أن مؤلِّف هذه الوثيقة كان يعرف من غير شك بلاد النهرين (كما يقول برستد) أو ذهب إليها، وقد نظر بدهشة واستغراب إلى اتجاه سير نهر الفرات الذي كان يخالف سير نهر النيل، فقد كان ذلك النهر يجري من الشمال إلى الجنوب نحو مصبه، بدلًا من أن يجري شمالًا مثل النيل؛ ولذلك سمَّاه المصريون «الماء المقلوب الذي يجري إلى أسفل بدلًا من الذهاب إلى أعلى». والواقع أن هذا وصف دقيق للغاية لمصري كان يعتبر نهر بلاده هو النموذج الذي كان لا بد أن تكون كل أنهار العالم على غراره،٤ والأهم من كل هذا هو السؤال التالي: كيف يمكن «تحتمس» الأول أن يدَّعِي وصول حدود إمبراطوريته إلى هذا النهر، مع أنه لم يمضِ على اعتلائه عرشَ الملك إلا سنة واحدة؟ وليس لهذا الجواب حل إلا إذا كان سلفه «أمنحتب الأول» هو الذي وصل في فتوحه إلى هذه البلاد النائية، وإن كانت آثاره لم تحدِّثنا عن ذلك كما سبقت الإشارة لذلك، والظاهر أن الفرعون في غزوته هذه قد مكث حوالي عام يحارب السود؛ إذ وُجِدت نقوش في «تنجور» التي تقع على مسافة خمسة وسبعين ميلًا فوق الشلال الثاني، تحدِّثنا عن عودته إلى مصر.٥

(٤-٢) نقوش أخرى عن حروبه في السودان

«السنة الثانية – الشهر الأول من الفصل الثالث – نهاية حملة الشتاء»، وكذلك وُجِدت لوحة في جزيرة «أرجو» التي تقع على مسافة أربعين ميلًا جنوبي الشلال الثالث، كُتِب عليها اسم هذا الفرعون، غير أنها لم تُنشَر.٦ ومهما يكن من ضعف قوة النوبيين، فإن دلائل الأحوال تدل على أن حملة «تحتمس» إلى الشلال الثالث كانت عنيفة، وقد ازداد عنف هؤلاء القبائل النوبية في السنة التالية، في مهاجمة الحدود المصرية باستمرار، وليس لدينا معلومات تنقع الغلة إلا ما جاء في تاريخ حياة «أحمس بن أبانا»، وقد جاء ذكر هذه الحملة كذلك في حياة «أحمس بننخبت»؛ حيث يقول: «لقد تبعت الفرعون «عا خبر كارع»، وأسرت له في «كوش» أسيرين غير ثلاثة آخَرين أسرتهم في «كوش» لم تحسب (رسميًّا).»٧ وقد عسكَرَ الفرعون في طريقه إلى عاصمة ملكه بعد انتهاء هذه الحملة بالقرب من جزيرة «سهل» عند الشلال الأول، وكانت القناة التي حفرها «سنوسرت» الثالث تكرى من جديد، وعندما تمَّ كريها مرَّتْ سفن الفرعون فيها، وقد دُوِّن نقش على صخور «سهل» يحدِّثنا عن ذلك، وهاك نصه: «السنة الثالثة، الشهر الأول من فصل الصيف، اليوم الثاني والعشرين من حكم جلالة ملك الوجه القبلي والوجه البحري «عا خبر كارع» معطي الحياة، قد أمر جلالته بحفر هذه الترعة، بعد أن وجدها مسدودة بالأحجار، ولم تكن تمر فيها سفينة، وقد عاد فيها بعد ذلك (أي: بعد حفرها) بقلبٍ فَرِحٍ بعد أن قتل أعداءه (نقشه) ابن الملك «توري».»
و«توري» هذا هو ابن الملك (نائب الملك في السودان كما سبقت الإشارة إلى ذلك).٨ وكذلك نُقِش على صخور «سهل» لوحة أخرى أُرِّخت بنفس التاريخ السابق، وقد جاء فيها: «لقد سار جلالته في الترعة منتصرًا مظفرًا في عودته بعد إخضاع بلاد «كوش» الخاسئة (نقشه) توري.» (راجع: Urk. IV. p. 89)، وفي نفس اليوم نجد نقشًا آخَر يدل على وصوله إلى «إلفنتين» دُوِّن على صخور «أسوان» نفسها، جاء فيه بعد ألقاب الفرعون أن ««تحتمس» المحبوب من الإلهة «ساتيت» سيدة «إلفنتين»، لقد عاد جلالته من «كوش» بعد أن أخضع أعداءه.» (راجع: Urk. IV. p. 88).

(٥) حروب تحتمس الأول في آسيا

وبعد أن فرغ تحتمس من حروبه في السودان، ووطد أركان ملكه هناك، أخذ يفكِّر في المشروع العظيم الذي قام بتنفيذ جزءٍ منه والده وأخوه، وذلك هو القضاء على الهكسوس في «آسيا»، بعد أن قضى عليهم والده في مصر، ثم أخذ أخوه في مطاردتهم في آسيا على ما يظهر، يُضاف إلى ذلك أنه كان يريد تأسيس إمبراطورية واسعة النطاق كان قد وضع أساسها في عهد الأسرة الثانية عشرة، وبقي حبل الاتصال بين المصريين والآسيويين موصولًا، كما نجد آثاره في عهد الأسرة الثالثة عشرة. والظاهر أن أهل سوريا أو بعبارة أخرى الهكسوس الذين كانوا يقطنون هذه البلاد، مضافًا إليهم مَن تقهقر منهم أمام «أحمس»، كانوا قد عقدوا أواصر المهادنة والإخاء بينهم وبين أهل نهرين٩ على حساب مصر، ولا بد من أنه قد حدث بعد مناوشات أو غارات اتخذ منها الفرعون ذريعة للقيام بحملة تأديبية إلى تلك الأصقاع. ولقد كان في نفس هذا الفرعون كما قلت أن يغسل عن قلبه الأذى الذي بقي عالقًا في قلب الشعب المصري من أولئك الغزاة، الذين استعبدوا بلادهم حقبةً طويلةً من الدهر. وسنرى فيما بعدُ أن تلك الخطة هي التي سار على نهجها الفراعنة الذين خلفوه حتى قضوا على الهكسوس، وأسَّسوا أعظم إمبراطورية ظهرت في الشرق القديم، بل في العالم كله في ذلك العهد.
وممَّا يُؤسَف له أن الآثار التي تحدِّد لنا تاريخ غزوه لآسيا بالضبط لم يُكشَف عنها بعد هذا، فضلًا عن أن كل ما وصل إلينا عن هذه الحروب قد جاء عن طريق غير مباشر، وهو ما سرده لنا «أحمس» بن أبانا و«أحمس بنتختب» في تاريخي حياتهما. وعلى الرغم من أن هذه المعلومات مقتضبة جافة عن هذه الحروب، فإنها تحدِّثنا عن أعظم المخاطرات الحربية التي حدثت في العالم القديم، وقد علمنا فيما بعدُ من غير المصادر المعاصرة أن «تحتمس الأول» قد وصل في زحفه على نهر الفرات إلى المنحنى العظيم بالقرب من «قرقميش»،١٠ وأنه أقام هناك لوحة تذكارية لانتصاره، فقد أخبرنا «تحتمس الثالث» أنه وجد اللوحة التي أقامها جده هناك عندما وصل إلى هذه النقطة في حملته الثامنة، وأقام هو بدوره لوحةً أخرى على الجانب الأيمن لنهر الفرات؛ ليظهر للملأ أنه قد ذهب في فتوحه إلى أبعد من جده بقليل.

هذا هو كل ما وصَلَنا عن حروب تحتمس الأول في تواريخ مَن جاء بعده، وهو من مصدر مصري، أما عن المقاومة التي اعترضته أو عن قوة جيشه أو الخسارة التي حاقت به، وكذلك الطريقة التي حاول أن يحافظ بها على فتوحه، فإنَّا قد تُرِكنا في ظلام حالك، وإنْ شئتَ فقد بقي كل ذلك صحيفة بيضاء حتى الآن. والواقع أن الأعمال الحربية التي نهض بأعبائها «تحتمس الأول» قد غطَّتْ عليها حروبُ «تحتمس الثالث» الكثيرة، ومع ذلك فإن الحملة إذا كانت تُقدَّر بأهمية نتائجها بالنسبة لما كانت تشتمل عليه من قوة في ساحة القتال، فإنه لا يوجد إلا القليل من الحملات التي دوَّنها لنا التاريخ القديم، تستحق الالتفات أكثر من تلك المخاطرة التي قام بها «تحتمس الأول» في آسيا، وإذا نظرنا إلى عمله هذا باعتباره جزءًا من تاريخ الشرق القديم، فإنه كان بداية الصراع الدنيوي للاستعمار بين آسيا وأفريقيا، وبين ثقافة وادي النيل وثقافة بلاد نهرين، وهو ذلك الصراع الذي كانت عواقبه وبالًا على كلتا المدينتين، وانتهى أخيرًا بسقوطهما، فهَوَتْ أولًا مصر أمام الفرس، وثانيةً أمام الإسكندر الأكبر، أما إذا اتخذناها جزءًا من تاريخ مصر، فإنها كانت النقطة التي تحوَّلَ فيها الشعب المصري للمرة الثانية إلى شعب حربي ساد العالم، بعد أن كان سيده ومعلمه في الفنون والصناعات والعلوم قبل ذلك النهوض الحربي.

ومن الغريب أننا لا نعرف شيئًا عن الطريقة التي بها قبض تحتمس على زمام الأمور في تلك الأصقاع العظيمة التي فتحها بحد السيف، ومن البدهي أنه قد اتخذ بعض التدابير للمحافظة على هذا الفتوح، وأن حملته لم تكن مجرد انتقام، بل كانت محاولة حقيقية لتأسيس السيادة المصرية على تلك البقعة الشاسعة من آسيا، التي تبتدئ من الحدود عند برزخ السويس، وتنتهي عند منحنى الفرات العظيم، وهي التي يمكن تصوُّرها القنطرة بين آسيا وأفريقيا، ولا أدل على وجود نظام حكومي في هذه الجهات تحت سيطرة مصر من أنه لم تحدث حروب تستحق الذكر في عهد خلفه «تحتمس الثاني» والملكة «حتشبسوت»، كما أنه لم يسمع بثورات علنية في «سوريا» لتنزع النير المصري عن عاتقها، وقد بقيت الحال كذلك إلى أن اعتلى عرش الملك «تحتمس الثالث»؛ وعندئذٍ ألَّفَ فلولُ أمراء الهكسوس والولايات الأخرى حلفًا لنزع النير المصري، ومن ثَمَّ شبت الثورات هناك، ولذلك قال «تحتمس الثالث» في نقوش تاريخ حروبه التي دوَّنها على جدران معبد الكرنك: تأمل! إنهم قد بدءوا بالعصيان على جلالته من أول «يرزة» (يوده) حتى مستنقعات العالم (أي: إلى ما وراء نهر الفرات).

(٦) مباني تحتمس الأول

ولا نزاع في أن «تحتمس الأول» بعد أن مد فتوحه إلى تلك الجهات النائية، أخذ يشعر بأن ضغط الهكسوس وجبروتهم قد زال نهائيًّا، وأنه كان من حقه وقتئذٍ أن يفتخر بسيادته على العالم كما جاء على نقشٍ تركه لنا في «العرابة المدفونة»، فاستمع إليه: «لقد جعلت حدود مصر واسعة كدائرة الشمس، وقويت الذين كانوا في خوف، وطردت عنهم الشر، وجعلت مصر سيدة كل الأراضي.»

ويدل ما وصَلَنا حتى الآن من الكشوف الأثرية على أن «تحتمس الأول» لم يَقُمْ بأية حروب أخرى، بل على ما يظهر وجَّهَ كلَّ جهوده إلى إقامة المباني العظيمة تخليدًا لأولئك الآلهة الذين وهبوه النصر على أعدائه، وبخاصة إله الدولة «آمون رع» وإله الآخرة «أوزير».

فكان أول أثر أقامه هو قاعة عمد فسيحة الأرجاء، كل عمود منها ذو ستة عشر وجهًا، وقد جاء ذكرها في نقش دون خلف «البوابة» الخامسة في معبد «آمون» كما يأتي: يعيش الملك الطيب رب الأرضين، وسيد القربان، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «تحتمس» بن الشمس من جسده، لقد أقامها (القاعة) لتكون أثرًا لوالده «آمون رع» سيد الأرضين، أقام له قاعة عمد فاخرة تمثِّل بجمالها الأرضين؛ ولذلك أُعطِي الحياة مخلدًا (راجع: Urkunden IV, p. 92).

(٦-١) إقامة مسلتين

ولما اقترب أوان عيده الثلاثيني أراد أن يحتفل به على ما يظهر على نهج أصبح متبعًا فيما بعدُ، وذلك أنه رغب في إقامة مسلتين عظيمتين في معبد «آمون» أمام «البوابة» التي كان قائمًا ببنائها، وهي «البوابة» الرابعة الآن. وقد كان يدير أعمال البناء رجلٌ عظيمٌ يُدعَى «إنني»، وهو الذي كان يقوم لسلفه «أمنحتب الأول» بأعمال البناء كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وسندعه يتحدَّث إلينا عمَّا أنجزه في عهد «تحتمس الأول»، بعد أن فرغ من التحدُّث عن «أمنحتب الأول»، فنراه في بادئ الكلام عن أعماله يقدِّم بعض مدائح لسيده فيقول:

الإله الطيب الذي يؤدِّب النوبيين، رب القوة ومبدِّد الآسيويين، والذي جعل حدوده تمتد حتى قرني الدنيا (تعبير عن نهاية الدنيا من الجهة الجنوبية) ونهايتها في سماء «حور»، والذي يُؤتَى له بخشب أرز الغابة مثل ما يُؤتَى له بخشب مصر، والذي يأتي إليه النوبيون يحملون جزيتهم، مثل ما يحمل له دوم إلفنتين، وسكان الرمال يحملون إليه جزيتهم مثل ما يُؤتَى إليه بجزية الوجه القبلي والوجه البحري، وهي التي يقدِّمها جلالته إلى والده «آمون» في «طيبة» كل عام، وتوكل إليه هذه الأشياء جميعًا … لأنه ملأ قلبه مني (وثق بي)، ولذلك رقيت أميرًا، ومدير شونة، وحقول القربان كانت تحت إدارتي، وكل المباني القيمة كانت جميعها تحت رعايتي، وقد أشرفت على المباني الأثرية العظيمة التي أقامها في الكرنك؛ فقد أقام قاعة العمد الفاخرة بأعمدة على هيئة سيقان البردي، وكذلك أقمت أبراج (البوابتين) العظيمتين بالقرب منها مستعملًا حجر «عيان» الأبيض الجميل، وكذلك أقام عمد الأعلام الفاخرة أمام المعبد من خشب الأرز من أحسن خشب المدرج (يعني جبال سواحل لبنان) ونهايتها من السام، ورأيت كيف كان يقام … موشى بالذهب، ورأيت كيف كان يقام الباب العظيم المسمَّى «قوى منظر آمون»، وكان مصراع بابه العظيم من نحاس آسيا وصورة الإله التي عليه (أي: المصراع) من ذهب، ورأيت كيف أُقِيمت المسلتان العظيمتان أمام مدخل المعبد من الجرانيت الأحمر، ورأيت كيف بُنِيت السفينة الفاخرة التي طولها مائة وعشرون ذراعًا، وعرضها أربعون ذراعًا، ليُنقَل عليها هاتان المسلتان (من محاجر أسوان إلى طيبة)، وقد أُحضِرتا صحيحتين لم تُمَسَّا بسوء، وأُنزِلتا في الكرنك، ورأيت كيف حُفِرت البحيرة التي حفرها جلالته على الجانب الغربي للمدينة، وغُرِست جوانبها بكل أنواع الأشجار البهيجة، وأشرفت على كيفية حفر قبر جلالته، وكنت وحيدًا ولم يَرَه إنسان، ولم يسمع به أحد، وكنت أنا الذي أبحث عن الصالح لذلك … في عمل دائم (يقصد القبر)، وكان رأسي يقظًا للبحث عن كل مفيد، ووضعت ملاطًا من الطين على جدران مقابره ليرسم عليها؛ وهذه الأعمال لم تعمل منذ الأزمان الغابرة قطُّ. وقد أنجزت ما كُلِّفت بعمله هنا كما يجب … سور لها؛ أديت للخلف (كل مفيد)، وكان ذلك ما يرغب فيه قلبي، وميزتي كانت في العلم، فلم أتلقَّ تعليمات مسن، ومُدِحت بعملي بعد السنين التي وصلت بها إلى ما أنجزت (من عمل)، وقد قدت … لأني كنت الفم الأعلى لكل أعمال البناء، وثبت قدمي في القصر، وكافأني جلالته بالعبيد، وكان دخلي من مخازن بيت الفرعون يوميًّا، ثم ارتاح الفرعون من الحياة وصعد إلى السماء بعد أن أتمَّ سني عمره في حياة راضية.

fig24
شكل ٢: مسلتَا تحتمس الأول وحتشبسوت.

(٦-٢) مسلات تحتمس الأول

استعرض «إنني» في هذا الجزء من تاريخ حياته كلَّ ما قام به «تحتمس الأول» من أعمال البناء والتعمير في معبد «الكرنك»، ولا تزال مسلة من المسلتين اللتين أقامهما منصوبة في مكانها، أما التي في الشمال فقد رآها السائح «بوكوك» قائمة في زمنه، وهي الآن ملقاة على الأرض، ويبلغ ارتفاع المسلة الجنوبية ٦٤ قدمًا، وقاعدتها سبعة أقدام مربعة، ويبلغ وزنها ١٤٣ طنًّا، وعمودها الأوسط قد نُقِش عليه من الجهة الشمالية والجهة الجنوبية ألقاب الفرعون، أما النقوش التي على جانبها الشرقي والغربي، فتحدِّثنا عن إهداء المسلة، وهاك الإهداء:
الجانب الغربي: «حور: الثور القوي محبوب «ماعت»، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «عا خبر كارع» صورة «آمون» أقامه (الأثر) بمثابة أثر لوالده «آمون رع» سيد الأرضين، وقد أقام له مسلتين عظيمتين في الجهة الأمامية للمعبد، وصنعت قمتهما الهرمية من السام.»
الجانب الشرقي: «حور: الثور القوي الذي تحبه آلهة العدل، ملك الوجه القبلي والوجه البحري، صاحب العقاب والصل (نبتي) الذي يضيء بالصل، العظيم في قوته، «عا خبر كارع» = الذي انتخبه رع – وحور = الجميل السنين، الذي ينعش القلوب، ابن الشمس من جسده «تحتمس» المضيء جمالًا، لقد أقامها بمثابة أثر لوالده «آمون» رب تيجان الأرضين في «الكرنك»، وعلى ذلك فإنه منح الحياة مثل رع مخلدًا.»
أما المسلة الثانية فمنقوش عليها اسم «تحتمس الثالث»، مما يجعل الإنسان في حيرة لأول وهلة؛ إذ إنه لم يتولَّ الملك إلا بعد سنين عدة بعد موت «تحتمس الأول»؛ ولذلك أصبح من الصعب أن يفهم الإنسان كيف يمكن أن تبقى المسلة الثانية بدون نقش هذه المدة الطويلة، ولماذا لم ينتحلها «تحتمس الثاني» لنفسه، مع أنه هو الذي خلف «تحتمس الأول»؟ ولهذا السبب نجد أن الأستاذ «زيته» جعل «تحتمس الثالث» خلف «تحتمس الأول» لمدة قصيرة، ثم خُلِع عن العرش وعاد إليه فيما بعدُ. ولكن لا يغرب عن الذهن أن «إنني» عاش حتى عهد «تحتمس الثالث»، وعلى الرغم من أنه أحضر المسلتين إلى الكرنك في عهد «تحتمس الأول»، فإن من الجائز إقامة إحداهما وإبقاء الأخرى ملقاة على الأرض دون نقش، كما حدث في المسلات التي جيء بها فيما بعدُ إلى أن أخذ في إقامتها لما تحتاج تلك العملية من عناء كبير في عهد تحتمس الثالث، ولا يبعد أن «إنني» كان مكلفًا بهذه العملية، وأنه قد تكلم عن موضوع إقامتهما معًا، على الرغم من أن واحدة منهما أُقِيمت بعد الأخرى بعد سنين، ويوجد جزء من مسلة في جزيرة «إلفنتين»،١١ وهو البقية الباقية من مسلتين عظيمتين كان مزمعًا إقامتهما حوالي نفس الوقت في معبد هذه المدينة؛ إذ يقول النقش الذي بقي: «لقد صنع هذا بمثابة أثر لوالده «خنوم» (إله إلفنتين)، فقد قُطِع له مسلتان من الجرانيت بمناسبة عيده الثلاثيني الأول.»
ومن الجمل التي تلفت النظر فيما جاء على لسان «إنني» قوله عن قبر الملك:

وأشرفت على كيفية حفر قبر الملك، وكنت وحيدًا، ولم يَرَه أحد ولم يسمع إنسان به.

وهذه الجملة تشعرنا بالتكتُّم الهائل الذي كان يُتَّخَذ عند حفر قبر الملك؛ وذلك لأن العصر المرتبك الذي سبق عصر الأسرة الثامنة عشرة والأسرة السابعة عشرة، كانت تُنهَب فيه قبور بعض الملوك، ويُسرَق ما فيها من الذهب والمجوهرات، ولا بد من أن الفرعون «أمنحتب الأول» كانت في ذهنه هذه الفكرة عندما نحت قبره في الصخر إلى عمق بعيد، وفصل بينه وبين معبده الجنازي ليكون بمأمن من خطر اللصوص، وقد قلده «تحتمس الأول» في حفر مقبرته بعيدًا عن أعين اللصوص، وانتخب مكانًا لمدفنه في الركن الجنوبي من الوادي العظيم المشهور الآن باسم «وادي مقابر الملوك»، وقد كان في ذلك الوقت واديًا قاحلًا لم تمسه يد إنسان، وقد نُحِت لهذا القبر باب صغير مغالاة في إخفاء مكانه، هذا إلى أنه نُحِت نحتًا خشنًا بحيث لا يغري العين، فكان بمثابة حجر في سفح الصخرة لا يكاد يزيد ارتفاعه عن قامة رجل متوسط الطول، بعد ذلك يجتاز الإنسان عدة درجات تؤدِّي إلى حجرة مربعة مقطوعة في الصخر، ومن ثَمَّ عدة درجات تنحدر من هذه الحجرة مؤدِّيةً إلى حجرة الدفن التي يرتكز سقفها على عمود واحد في وسطها، وقد كانت جدرانها مغطَّاة بملاط من الطين الذي ذكره «إنني» في وصفه، وكان يوجد فيها تابوت من حجر الكوارتسيت، أي الحجر الرملي، لتوضع فيه الجثة، ولم يَبْقَ من هذا التابوت إلا بعض قطع.١٢
على أن نشاط هذا الفرعون في أعمال التعمير لم تقتصر على معبد الكرنك الذي وصفه لنا «إنني» مهندسه وصفًا رائعًا، بل نجد له آثارًا عظيمة في طول البلاد وعرضها، مما يدل على مقدار ما أصاب البلاد من التخريب في عهد الهكسوس، وبخاصة في المباني الدينية، وقد كانت أول ما وجه إليه عنايته بعد الكرنك الإصلاحات التي قام بها في معبد «العرابة المدفونة»، الذي كان يهتم به كل ملك مصري تقريبًا، وقد وُجِد له فعلًا لوحة خلد عليها أعماله الطيبة التي عملها في هذا المعبد المقدس للإله «أوزير»، واللوحة موجودة للآن بمتحف القاهرة.١٣

وهاك نص اللوحة:

مستشارو الملك يمتدحون تقريره في توجيه عنايته لمعبد أوزير: ما أعظم هذا لإدخال السرور على قلوب الشعب، وما أمتع هذا لوجوه الآلهة عندما تنعم بآثار للإله «أوزير»، أو عندما تفخم الإله «خنتي أمنتي» (اسم من أسماء أوزير) الإله العظيم الأزلى، الذي رفع مكانته «آتوم»، والذي جعله عظيمًا أمام … والذي عمرت الأرض لحبه، والذي يخدمه ملوك الوجه القبلي والوجه البحري منذ أن عمرت هذه الأرض. إنك ملك، وإنك منه ولدت، وإنه أنجبك من سويداء قلبه لتعمل ما عمله على الأرض، ولتجدِّد محاريب الآلهة، ولتحفظ معابدهم، وإنك صاحب الذهب، والفضة ملكك، و«جب» إله الأرض ينفتح لك عمَّا فيه (من كنور)، والإله تنن (رب المعادن) يهب لك ما يملك، وكل البلاد الجبلية تخدمك، وكل البلاد السهلة تحت تصرُّفك، وكل الأحجار الثمينة محبوسة على بيتك، ولا يوجد حقًّا مَن يقول لك لا، مُرْ تجد، وما ترغب فيه نفسك يحدث لا محالة.
الملك يكلِّف وزير المالية أن يقوم بإنجاز العمل: وأصدر الملك الأمر إلى وزير المالية أن يشرع في العمل، وعلى ذلك أرسل صناع المعبد كل صانع ماهر عن طائفته، وأحسن مَن فيهم من خدمهم العاملين بالتعليمات، والمدرب فيما تعلمه والذي لا يتعدَّى ما كلفه.

وتم صنع الآثار لوالده أوزير، وثبت تمثاله إلى الأبد، وقد كانت صنعه متينًا وسريًّا جدًّا دون أن يراه أحد أو يلمحه، ودون أن يعرف صورته أحد، وكذلك صنع له القارب الذي يحمل على الأعناق المسمَّى «وتس نفرو» (حامل جمال الإله) من الفضة والذهب واللازورد، والنحاس الأسود، ومن كل الأحجار الأخرى الثمنية.

الملك يقدِّم للمعبد آلات ثمينة، ويهتم بالقربان التي تُقدَّم بانتظام: وقد أوقفت عليه موائد قربان معها أوانٍ كثيرة، وصاجات «سخم»، وصاجات سششت، وقلائد منيت، ومباخر، وأواني تني، وقرباني موجودة هناك، فلم أمنعها ولم أمتنع عن تقديمها.
تجديد قارب الإله المقدس الذي يسيح فيه: وصنعت له القارب «نشمت» الفاخر، من خشب الأرز الحقيقي من أحسن المدرجات (أي: جبال لبنان)، وكانت مقدمته ومؤخرته من معدن السام، فجعل الفيضان في عيد عندما يقوم برحلته في عيد إقليم «بقر» (وهو الإقليم الذي فيه قبر أوزير المقدس).
الملك يأمر بإقامة تماثيل الآلهة الأخرى التي تُعبَد في هذا المعبد: وأمر جلالتي بنحت تماثيل للتاسوع الأعظم الذي في العرابة، وأن يذكر كلًّا باسمه، وهم: «خنوم» رب «حرور» (الشيخ عباده الحالية) الذي يقطن هنا ضيفًا، و«خنوم» رب الشلال، وهو ضيف العرابة، والإله «تحوت» مرشد الآلهة وساكن «حسرت»، والإله «حور» ساكن «ليتوبوليس»، و«حور المنتقم لوالده»، والإله «وبوات» رب الوجه القبلي، والإله «وبوات» رب الوجه البحري، ويجب أن تصنع تماثيلهم سرًّا وتكون فاخرة، وأن يكون حامل كل إله من معدن السام، وأن يكون صنعها أمتن من صناعتها من قبلُ، وأن تكون أفخم ممَّا عمل في السماء، ومخفية أكثر من تصميم العالم السفلي (دوات)، ومحترمة أكثر من سكان المحيط الأبدي (نون).
لماذا فعل الملك كل ذلك؟: لقد عمل جلالتي كل هذا لأجل والدي «أوزير»؛ لأني أحبه أكثر من كل الآلهة الأخرى ليبقى اسمي، وتدوم آثاري في بيت والدي «خنتي أمنتي» رب العرابة مخلدًا أبدًا.
الملك يأمر كهنة المعبد أن يحيوا ذكراه كما يجب: اسمعوا أنتم يا أيها الآباء المقدسون القائمون على هذا المعبد، وأنتم يا أيها الكهنة المطهرون، وأنتم يا أيها المرتلون، وأنتم يا أيها الكهنة «إميواست عا»، ويا خدمة المعبد أجمعين، قدِّموا القربان لهرمي، وقرِّبوا إلى مائدة قرباني، وحافظوا على آثار جلالتي، اذكروا اسمي وتذكروا لقبي، وقدِّموا الهدايا لتماثيلي، وعظموا صورة جلالتي، وضعوا اسمي في فم خدمكم، وذكراي عند أولادكم؛ لأني كنتُ ملكًا فاخرًا يستحق ما يفعل له (من القربان)، وكنتُ شجاعًا جديرًا بأن يذكر اسمه بحسب ما فعلت على هذه الأرض، وكما تقرون أنتم حقًّا، وليس فيما تشهدون كذب ولا مبالغة.
الملك يعلن الأعمال الطيبة التي عملها في معابد مصر والتي عملها في البلاد جميعًا: لقد أقمت آثارًا للآلهة، وفخمت محاريبهم للمستقبل، وجعلت معابدهم ثابتة الأركان، وأعدت ما كان قد تهدم، فعملت أكثر ممَّا عُمِل في الأزمان السالفة، وجعلت الكهنة يعرفون واجباتهم، ولقد أرشدت الجاهل إلى ما لا يعرفه، وعملت أكثر ممَّا عمله الملوك الذين كانوا قبلي، وكان الآلهة في غبطة في عهدي، ومددت حدود أرض مصر إلى ما تحيط به الشمس، وجعلت مَن كان في خوف منتصرًا (أي إن المصري الذي كان يمشي مكسور الجناح مهضوم الحق في عهد الهكسوس، أصبح الآن يمشي وهو المنتصر القوي)، وأبعدت ذلك الفزع عنه، وجعلت مصر السيدة، وكل أرض أخرى عبيدًا لها، كما يفعل إنسان منفرد يحب «آمون» وابن إله الشمس من جسده، والمحبب إليه «تحتمس» الذي يسطع مثل «رع» والذي يحبه «أوزير» «خنتي أمنتي» الإله الأعظم رب العرابة، وحاكم الأبدية، الذي منح الحياة والثبات والسعادة والصحة، وقد ظهر بوصفه ملكًا للوجه القبلي والوجه البحري على عرش «حور» صاحب الأحياء، وقلبه فَرِح مع قرينته مثل «رع مخلدًا».
مغزى هذه اللوحة: وتدل ظواهر الأمور على أن هذه اللوحة قد أُقِيمت في «العرابة المدفونة» بعد انتهاء الفرعون من حروبه في السودان وآسيا؛ إذ نجد فيها ما يشير إلى ذلك، ولا غرابة فقد كان ديدن الملوك من قبله ومن بعده أن يقيموا للآلهة العظام الذين وهبوهم النصرَ في ساحة القتال المباني العظيمة اعترافًا منهم لهم بالجميل على مساعدتهم، وكذلك ليُظهِر الفرعون ما فعله لبلاده، وما يرجو منهم أن يفعلوه له مكافأةً واعترافًا بالجميل.

والواقع أن هذه اللوحة مفعمة بالمعلومات العظيمة عن حالة البلاد في ذلك الوقت، ممَّا جعلنا نترجمها هنا برمتها؛ فنرى أولًا أن الملك قد جمع مستشاريه وحادَثَهم فيما يريد القيام به في معبد الإله «أوزير» بالعرابة المدفونة، ذلك البلد الذي كان الكعبة التي يحج إليها كل مصري غنيًّا كان أو فقيرًا، لزيارة الإله «أوزير» الذي كان أعظم الآلهة في أعين الشعب المصري وملوكه في عهد الدولة الوسطى، وفي الدول التي تلت، بوصفه إله الآخرة، التي كان يرجو كل مصري أن ينال فيها مقامًا محمودًا مثل «أوزير»؛ ولذلك فإنهم خاطبوا الفرعون بقولهم إنه بعمله هذا — وهو تجديد ما خربته يدُ الدهر في معبد هذا الإله — يُدخِل السرور على قلب الشعب المصري، وبخاصة ملوك مصر؛ فإنهم منذ الأزل كانوا ولا يزالون خدامًا لهذا الإله العظيم بوصفهم أولاده مثلما كان حور ابنه؛ فالملك بإقامة هذه الآثار، وصنع أثاثه نال مساعدة كل الآلهة بما لديها من كنوز ومال ونشب، وعلى ذلك أمر الفرعون باستخدام أمهَرِ الصنَّاع لإعداد المعبد بكل ما يلزمه، على أن ينفذ له ذلك وزير ماليته، وقد كان أهم ما صنع له تمثاله وقاربه اللذان يُستعمَلان في الاحتفال بعيده، كما كان يفعل منذ قديم الأزل في المكان المعروف باسم «بقر»، وهو المقر الذي يزعم القوم أن فيه دفن أوزير بالعرابة المدفونة.

على أن الفرعون لم يكتفِ بصنع تمثال «أوزير» وحده، بل أصدر الأمر بعمل تماثيل لتاسوع الآلهة الذين كان «أوزير» على رأسهم، ثم يذكر لنا الفرعون بعد ذلك السببَ الذي من أجله عمل كل هذا للإله «أوزير»، فيقول لنا إنه كان يحبه أكثر من كل الآلهة؛ لأجل أن يخلد اسمه في العرابة، ولأن «أوزير» هو إله الآخرة الذي سيكون مصير تحتمس إليه في العالم السفلي؛ ولذلك طلب الفرعون من الكهنة فضلًا عن ذلك أن يحيوا اسمه، ويقدِّموا له القربان، وأن يجعلوا أولادهم من بعدهم يحيون ذِكْر الفرعون حتى تبقى على مدى الدهور ذكراه مثل «أوزير»، ثم إنه يذكرهم بأنه كان ملكًا شجاعًا دافَعَ عن بلادهم، وأنه ليس فيما يقوله كذب أو افتراء؛ ولذلك يذكِّرهم بما قام به من جليل الأعمال في أرض الكنانة فيقول إنه قد أقام المباني الأثرية الدينية للآلهة في طول البلاد وعرضها، وإنه أصلح ما خربه الهكسوس في زمن محنة البلاد، فهو بذلك قد عمل أكثر ممَّا عمله أي ملك قبله، هذا إلى أنه جعل الكهنة يعرفون حدودهم وواجباتهم، وعلم الجاهل ما يجب علمه، ثم ينتقل إلى ما قام به من الفتوح العظيمة المنقطعة القرين، فيقول: لقد وسَّعت رقعةَ أرض مصر، فجعلتها تشمل كل ما يحيط به قرص الشمس، وبذلك أصبح مَن كان يمشي خائفًا وَجِلًا مُزعَجًا من الهكسوس وطغيانهم، يمشي مرفوع الرأس؛ لأنه أصبح الفائز المنتصر على ذلك العدو الذي طُرِد من البلاد وجعل مصر سيدة العالم، مهيبة الجانب في كل المعمورة، وبعد أن كانت خاضعةً ذليلةً أصبحت كلُّ البلاد المتمدينة عبيدًا لها؛ ذلك هو «تحتمس الأول»، أو بعبارة أخرى ابن القمر الذي أضاء مصر وجعل نورها يمتدُّ من الشلال الرابع إلى أعالي دجلة والفرات.

وعلى الرغم ممَّا صرح به «تحتمس» بأنه أقام مباني كثيرة للآلهة، فإنَّا حتى الآن لم نعثر له على آثار في الوجه البحري ومصر الوسطى، أما في مصر العليا فنجد له غير ما ذكرنا عدَّةَ مبانٍ؛ ففي «نبت» القريبة من «نقادة» أعاد بناء معبد الإله «ست»، وقد عثر على قائمتي باب وعتب منه، وهي مصنوعة صنعًا جميلًا،١٤ ومن المحتمل أن تصميم بناء معبد الدير البحري كان قد وضعه مهندسو «تحتمس الأول»، وإن كانت كلُّ الرسوم والأشكال قد عملت في عهد ابنته الملكة «حتشبسوت»، وفي دير المدينة وُجِدت لبنات طُبِع عليها طغراؤه (L. D. III, Pl. 17. ff). أما في الدير البحري فقد أقام معبدًا من أهم المعابد التي أُسِّست في عهد أسرته، وقد حدث في نقوشه تغييرات عدَّة ممَّا يدل على الأحقاد العظيمة التي كانت بين أولاده وأحفاده (L. D. III, Pl. 27, 2)، غير أن «ويجول» يقول: إن الذي أقام هذا المعبد هو «أمنحوتب الأول»، وأن «تحتمس الأول» نسبه لنفسه،١٥ وقد دلت أعمال الحفر على صِدْق ذلك.
ووُجِد له في «إبريم» محراب صغير قُطِع من الصخر، ويُشاهَد الملك منقوشًا عليه بين الإله «تحوت» والإلهة «ساتيت» معبودة الشلال،١٦ ويُشاهَد في «سمنة» و«قمة» عند الشلال الثاني أن هذا الفرعون أخذ في إعادة بناء بعض الأجزاء المتهدِّمة فيهما، وذلك لما كان لهما من الأهمية لحماية الحدود منذ عهد الأسرة الثانية عشرة، ويُشاهَد في «سمنة» قائمة بالهدايا التي كانت تُقدَّم للإله «آمون»،١٧ وفي «قمة» يُلاحَظ أن النقوش التي نقشها هذا الفرعون قد اغتصَبَها «تحتمس الثاني».١٨
وقد ذُكِر اسم هذا الفرعون على بعض مقابر طيبة.١٩ هذا، وقد عُثِر له على بعض قِطَع من الآثار، منها تمثال جالس من حجر الديوريت بالحجم الطبيعي تقريبًا في متحف «تورين»،٢٠ وكذلك يوجد له قطعتان من تمثالين ملقاتان حتى الآن في «الكرنك» أمام القاعة الواقعة خلف «البوابة» الخامسة كما يقول «بتري»،٢١ هذا إلى بقايا تمثال ضخم أمام «البوابة» السابعة عند الطرف الغربي، وقد نصبه «تحتمس الثالث» في السنة الثانية والأربعين من حكمه.٢٢ أما الجعارين فقد عُثِر له على كثير منها في صور مختلفة، ونخص بالذكر منها جعرانًا نُقِش عليه طغراؤه، واسم «حتشبسوت»، وقد سُمِّيت فيه ابنة «رع»،٢٣ وهذا الجعران يحتمل أنه عُمِل في عهد اشتراكها في الملك مع والدها قبل وفاته بقليلٍ كما يقول «بتري».٢٤

(٧) أسرة الفرعون تحتمس الأول

لم تكن أم «تحتمس الأول» كما ذكرنا من قبلُ من نسل فرعوني، بل كانت على ما يظهر من عامة الشعب، وقد جاء ذِكْرها في المنشور الذي أصدره «تحتمس» عن توليته الملك كما سبق ذكره.٢٥
ولم نعثر على اسمها ثانيةً إلا في نقشين: أحدهما في الدير البحري حيث نجدها ممثَّلة وقد ذُكِر اسمها مع صورتها،٢٦ وكذلك على هرم صغير لمرتل الملكة المسمَّى «تتي»، وهو محفوظ الآن بمتحف «أشموليان» بأكسفورد.٢٧
وكان لتحتمس زوجتان: إحداهما شرعية وهي «أحمس»، ويحتمل أنها بنت الملك «أحمس الأول» وأخت «أمنحتب الأول»، وقد ولدت له الأميرة «حتشبسوت»، وفي هذا خلاف؛ والزوجة الثانية هي «موت نفرت» التي أنجبت له «تحتمس الثاني» كما سنرى. وكان لتحتمس الأول أولاد آخرون من زوجات أُخَر نخصُّ بالذكر منهم «أمنحتب»، وكان يشغل وظيفة كاهن، وقد عُثِر على قبره في شيخ عبد القرنة (راجع: Urk. IV. p. 105).
وقد جاء في نقوشه ما يأتي: «الكاهن المطهر بكر أولاد الملك «عا خبر كارع» أمنحتب الذي وضعته أمه «تحوتي سنتي».» وكان أمنحتب هذا له أسرة؛ إذ قد تزوَّجَ في حياة والده، وقد بقي لنا بعض مناظر من قبره، منها مناظر صيد الطيور، والنزهة في الحقول مع زوجه وأولاد (راجع: Urkunden, IV. p. 107. ff).
وكذلك كان له ابن آخَر يُدعَى «وازمس»، وقد عُيِّن رئيسُ الوزارة «أمحتب» للقيام على تربيته هو وإخوته، وقد عُثِر على قطعة من الحجر منقوشة من معبد هذا الأمير الذي مات على ما يظهر وهو صغير السن (راجع: Ibid, p. 108)، وقد جاء عليها … ابن الملك «وازمس»، ولكن ينبغي أن يكون عمدة الحاضرة ورئيس الوزراء «أمحتب» هو المشرف على تربية أولاد ملك الوجه القبلي والوجه البحري «عا خبر كارع»؛ لأن مكانته عظيمة جدًّا. وكذلك أشرَفَ على تربية هذا الأمير وأخيه «أمن مس»، وهو ابن ثالث حاكم «نخبت» (الكاب الحالية) المسمَّى «باحري» (راجع: Ibid. 110).
وقد مُثِّل الاثنان على جدران قبر هذا الحاكم جالسين على حجره، وقد مُثِّل الأول في قبره على لوحة واقفًا وراء والده «تحتمس الأول»، أما الثاني وهو «أمن مس»، فقد عُثِر له على قطعة من إناء في٢٨ منطقة أهرام الجيزة، كُتِب عليها ما يأتي: «السنة الرابعة من حكم الملك «تحتمس الأول»، ذهب بكر أولاد الملك الذي كان قائدًا أعلى للجيش للنزهة ليروح عن نفسه …» هذا كل ما وصلنا من هذا النقش، وهو يذكرنا بقصة الحلم التي دوَّنها «تحتمس الرابع» على لوحته المشهورة أمام تمثال «بو الهول». والواقع أن الأمراء في عهد الأسرة الثامنة عشرة كان لزامًا عليهم أن يزوروا «بو الهول»، ويقوموا بالصيد والقنص هناك قبل توليهم الملك، والظاهر أن أول مَن ابتدع هذه العادة هو هذا الأمير أو أحد الأمراء الذين جاءوا قبله، وسنفصِّل القول عن ذلك في حينه. ومن تاريخ هذه اللوحة نفهم أن «تحتمس الأول» كان قد تولَّى الملك وهو في سن الكهولة تقريبًا، أي كان فوق الخامسة والأربعين على الأقل، ومات وهو في سن الستين تقريبًا، وقد دُفِن في القبر الذي أعدَّه له «إنني» مدير أعماله، غير أن جسمه نُقِل بعد ذلك ببضع سنين إلى قبر ابنته «حتشبسوت» الذي أعَدَّتْه لها ولوالدها كما سنتكلم عن ذلك فيما بعدُ، وبعد انقضاء قرون عدة على ذلك نقل الكهنة كل الموميات الملكية التي بقيت إلى خبيئة الدير البحري، وقد وُجِد جسم هذا الفرعون من بين أولئك الملوك، وهو الآن بالمتحف المصري في تابوته المصنوع من الخشب.

(٨) الموظفون والحياة الاجتماعية في عهد «تحتمس الأول»

(٨-١) باحري

يُعَدُّ «باحري» من أعظم رجال عهد «تحتمس الأول» وقد كان أول ظهوره في مدينة «الكاب» مسقط رأسه، وألقابه كالآتي: «حاكم نخب»، وحاكم «دندرة»، والمشرف على الأراضي الزراعية في الجنوب من أول «إسنا» حتى «نخب» (الكاب)، والكاتب الماهر، وحاسب الحبوب، والمشرف على كهنة «نخب»، والمقرَّب لدى سيده، والمشرف على الكهنة، والحارس الوحيد على ممتلكات سيده، والمعروف لنفسه بقلمه، وكذلك كان يُلقَّب «مربي» ابن الملك «وازمس».

ومن ذلك نعلم أن هذا العظيم كان من أكبر رجال الدولة، إن لم يكن أعظم أمير فيها في هذه الفترة، ولا غرابة في ذلك؛ فإن أمراء «الكاب» كانوا منذ الأزمان القديمة موالين للبيت المالك؛ ولذلك بقوا يحملون ألقابهم الوراثية. وقبر «باحري» يُعَدُّ من أكبر المصادر التي يمكن للباحث الحصول منها على معلومات طريفة، تكشف لنا النقاب عن نواحٍ عدة من الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية في هذه الفترة التي بدأ يسطع فيها نجم ملوك الأسرة الثامنة عشرة في داخل البلاد وخارجها؛ ولذلك آثرنا أن نفصِّل القولَ عن محتوياته بعضَ الشيء لما يشمله من مناظر طريفة ووثائق هامة تكشف النقاب عن كثير من حياة القوم، ونبتدئ هنا بلوحته الجنازية التي ترك لنا عليها نقشًا دينيًّا يُعَدُّ من أهم المصادر عن ديانة القوم في هذا العهد؛ وبخاصة لأنه يقدِّم لنا نوعًا جديدًا من الوثائق التي كان يدوِّنها عظماء القوم من هذه الأسرة في مقابرهم، وتبتدئ اللوحة هكذا:
الصيغة الدينية: قربان يقرِّبه الملك لآمون رب عروش الأرضين، وملك الأبدية والملك سيد الريشتين العظيمتين المنفرد بين مَن سبقه والعظيم، وأسن الأزليين … والذي خلق الناس والآلهة واللهيب الحي الذي يخرج من المحيط الأزلي (نون)، ويمنح الناس النور (مثل) «نخبت» البيضاء صاحبة «نخن» (الكوم الأحمر) ربة السماء، وربة الأرضين، وللإله «أوزير» «خنتي أمنتي» سيد «الأرض العظيمة» (اسم مقاطعة طينة)، وللإلهة «حتحور» ربة الصحراء صاحبة القلب القوي بين الآلهة، وللإله «بتاح سكر» رب «شتيت»،٢٩ وللإله «آنوبيس» رب «روستاو» (جبانة الجيزة)، وللتاسوع الأكبر، وللتاسوع الأصغر … ألف من الخبز والجعة والثيران والإوز، وألف من القربان والمأكولات، وألف من المشروبات والخضر، وكل ما ينبت على ظهر الأرض، وألف من كل شيء جميل طاهر، تُقدَّم أمام رب الأبدية، وكذلك يُقدَّم خبز «سنو» ممَّا يخرج أمام الإله، ولبنًا ممَّا يقرب على مائدة القربان، وماء للشرب ممَّا يخرج من «إلفنتين»٣٠ ومما فاض … في عيد الشهر، وفي عيد اليوم السادس، وفي عيد «نصف الشهر»، وفي عيد «الخروج العظيم»، وفي عيد «ظهور نجم الشعرى»، وفي عيد «واج»، وفي عيد «تحوت»، وفي عيد «الولادة الأولى» الذي ولدت فيه «إزيس»، وفي عيد «ظهور مين»، وفي عيد «ظهور الكاهن سم»، وفي عيد «وجبة العشاء»، وفي عيد «بداية النهر»، في السماء في أيامها (الحقيقية) من الشهر، وفي عيد «كل يوم».
وتُوضَع لك الملابس الطاهرة المصنوعة من نسيج «بقت» (نوع فاخر من نسيج الكتان)، وهي الثياب المخلوعة من أعضاء الإله،٣١ وتُصَبُّ لك الزيوت النقية، وتشرب المياه من حافة المائدة، وتشاركهم (أي الآلهة) في القربان التي عليها؛ لأنك شريف بين أول الممدوحين لأجل أمير «الكاب» الكاتب «باحري» المرحوم الذي يملأ قلب سيده جدًّا.
خطاب عن مصير المتوفى في عالم الآخرة: إنك تدخل وتخرج (من القبر)، وقلبك فَرِح بحظوة رب الآلهة (آمون)، وتدفن دفنًا جميلًا بعد عمر طويل عندما تحلُّ الشيخوخة، وإنك تتخذ مكانك في تابوتك، ويضمك القبر الصحراوي في الغرب، وتصير روحًا حية تحصل (أي: الروح) على الخبز والماء والهواء، وتتحول٣٢ إلى بجعة (فنكس) أو حمامة أو باشق، أو طائر كما تحب، وتعبر في القارب، ولن تطرد، وتسبح في مجرى النهر؛ وسيحدث أنك تعيش مرة ثانية، ولا تبعد روحك عن جسمك، وتؤله روحك مع المنعمين، وتتحدَّث إليك الأرواح السامية، وتجتمع بها، وستأخذ ما يُقدَّم لك على الأرض، وستستولي على الماء، وتتنسم الهواء، وتخوض فيما يحبه قلبك، وستُرَدُّ إليك عيناك (ثانيةً) لترى بهما، وأذناك لتسمع بهما ما يقال، وفمك لتتكلم (به)، وساقاك لتمشي بهما، وتتحرك بذراعَيْك وكتفَيْك، ويكون لحمك قويًّا، وعروقك سليمة، وليس فيك شيء خبيث، ولبك معك صحيح، وقلبك معك كما كان من قبلُ، وإنك تصعد إلى السماء وأنت تخترق عالم الآخرة في كل صورة (تحبها)، وينادى بك يوميًّا إلى مائدة الإله الكاهن الطيب (أوزير)، وتتسلم الخبز «سنو» الذي يؤتى به أمامك، وقربان رب الأرض الفاخرة (أوزير أو أنوبيس) لأجل روح عمدة «نخب» وعمدة «دندرة» الذي يحسب الغلال من «دندرة» حتى «الكاب»، والمرشد اليَقِظ والخالي من التعب الكاتب «باحري» المرحوم.
إنك تأكل خبز «شنس» بجانب الإله عند «السلم٣٣ العظيم» لملك رب التاسوع، وإنك تعود إلى بيتك إلى مكان إقامتك بين رجال محكمة «أوزير» العليا وتذهب للتنزُّه بينهم، وتتصادق مع أتباع «حور» وتطلع وتنزل، ولن تنكص على عقبَيْك، ولن تصد عن باب الآخرة (دوات)، ويُفتَح لك بابَا الأفق، ويُفتَح لك مزلاجَا الباب بنفسيهما، وتصل إلى قاعة العدالتين،٣٤ ويُرحِّب بك الإله الذي فيها، وتنزل في أعماق العالَم السفلي، وتسير في مدينة النيل (حرًّا)، ويفرح قلبك بزراعتك حقولك في أرضك التي في حقول الغاب،٣٥ وطعامك يتألَّف ممَّا عملته أنت، ويرد إليك الحصاد بكثرة، وتُرمَى لك حبال المرسى من سفينة العبور، وتسبح على حسب ما يحبه قلبك، وتخرج في كل صباح، وتسكن (في قبرك) ثانيةً كل مساء، وتضاء لك الشعلة ليلًا إلى أن تشرق الشمس على جسمك ثانية، ويقال لك: مرحبًا، مرحبًا بك في بيتك هذا للأحياء، وإنك ترى «رع» في أفق السماء وتشاهد «آمون» عندما يشرق، وتكون حسن اليقظة في كل يوم، وتمنع عنك كل الشرور في الأرض، وتمضي حياتك إلى الأبد سعيدًا في حظوة الإله الذي فيك،٣٦ وقلبك معك وهو لا يغشك، وطعامك يبقى في مكانه (الصحيح)؛ لأجل الكاتب «باحري» المرحوم.
باحري يتحدَّث عن سلوكه في الحياة: يقول: كنتُ شريفًا نافعًا لسيده، وحازمًا لا ينسى، وكنت أنهج على طريق واحدة (فقط) بعد امتحانها، وأعرف مخارج الحياة، وكنت أفحص الحدود في الوثائق، وكذلك الشاطئ٣٧ فيما يخص كل الأشياء الحسنة للفرعون، وكذلك كل أمور بيت الملك (له الحياة والسعادة والصحة)، فإنها مثل النيل عندما يصبُّ في البحر الأبيض المتوسط (أي: تسير في مجراها الطبيعي)، وكان فمي ثابتًا؛ لأنه كان يعمل الخير للفرعون، وكنت أخاف عجز الحساب، ولا أتصامَّ عن الحساب، ولم آخذ رشوةً من المحاصيل، وكان قلبي هو الذي يقودني إلى الطريق التي يحبها الفرعون، وقد جعل قلمي معروفًا، وجعلني مبرَّأً في قاعة العدل (…)، ودلَّ على أخلاقي حتى إني أخضعت العظماء، وجعل (…) خطوتي إلى الأمام، وجعلتني أخلاقي الحسنة أرتفع، وقد نوديت (…) بوصفي إنسانًا خاليًا من الإثم، وقد وضعت في كفة الميزان فخرجت منها وافي الحساب خاليًا من الدين، ورحت وغدوت وقلبي يحمل نفس الأخلاق (لم يتغيَّر)، ولم أنطق كذبًا على أي إنسان آخَر؛ لأني أعرف الإله الذي في جوف الناس، وإني أعرفه، وأفرق بين هذا وذاك (الخير والشر)، وأنجز الأمورَ على حسب الأوامر، ولم أغيِّر رسالة مرسلها، ولم أنطق بألفاظ العامة، ولم أبلغ عن أناس لا يجب التبليغ عنهم، وكنت مثالًا للطيبة، وإني إنسان ممدوح خرج من بطن أمه ممدوحًا حاكم «نخب» «باحري» المرحوم الذي أنجَبَه مربي ابن الملك الكاتب «آتف تري» المرحوم، الذي وضعته ربة البيت «كامي» المرحومة.
باحري يطلب إلى قارئي نقوش قبره أن يدعوا له بقربان: يقول: استمعوا أنتم يا مَن في الوجود، إني أتحدث إليكم بدون كذب، يا أيها الأحياء والموجودون، وأنتم يا أيها الرجال العظماء الذين على الأرض، وأنتم يا أيها الكهنة المطهرون وزملاؤهم، وكل كاتب في يده لوحة كتابة، وكل مدرب على كلام الإله (أي: على اللغة المصرية)، وكل فرد ممتاز بالنسبة لمرءوسيه، وصاحب فم عالٍ في عمله؛ إنكم ستكونون ممدوحين من «رع» رب الأبدية، ومن «نخبت» البيضاء صاحبة «نخن»، ومن كل الآلهة الذين يجعلون الفرد سعيدًا في وظيفته (كان لكل وظيفة إلهها الحامي لها؛ ولذلك يطلب المتوفى أن يدعو له إلهه على حسب وظيفته)، ويرغب في أن يرثه أولاده في وظيفته، إذا قربتم قربانًا يقدِّمه الفرعون على حسب ما جاء في الكتب، وكذلك تعويذة خروج الصوت كما كان يقول الأولون، وكما كان يجب أن يخرج من فم الإله، وإنَّ كل إنسان يثني يده (أي: مقدِّمًا قربانًا) سيحصل على العدل بذلك، ويفعل كما يجب على حسب القانون … في هذا الأمر الكتابي: ألف لك من الخبز، وألف لك من الجعة، ومائة ألف من كل شيء جميل مما يقرب وما يصب «يا أوزير» حاكم «نخب» وحاكم «إسنا»؛ ليشرح قلب المشرف على الخاتم في سياحته إلى الجنوب (للتفتيش)، الكاتب الماهر في الحساب «باحري» المرحوم.
ما يطلبه «باحري» من القرَّاء لا يكلفهم شيئًا، وما يبتغي هو أن يكافئوا عليه في عالم الآخرة: إني أتحدَّث إليكم، وإني أجعلكم تعرفون أنها قراءة بدون قصد، فليس فيها ذم ولا هجاء، وأنها ليست شجارًا مع آخَر، ولا استغلالَ فردٍ وقع في حرج مؤقتًا، بل إنه حديث لذيذ للتسلية لا يشبع القلب من سماعه، فهو نسيم الفم، ولا يؤكل، ليس فيه إجهاد ولا نصب، وإنه لحلو لكم عندما تسمعونه، وستجدونني عندما آتي إليكم، وطالما وجدت في أرض الأحياء هذه ولم يشك مني إله، ولقد أصبحت روحًا تام العدة، وحقًّا لقد أعددت مكاني في الجبانة ومعي حاجاتي من كل شيء، ولم أتركها لتعمل لي (أي: القربان)، حقًّا حقًّا إن والد ذلك المتوفى المبجل هو الذي قرب له القربان، وإنه لا ينسى مَن يقدِّم له الماء، وإنه لحسن أن يستمع إليه.

ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى ما جاء في نقوش تاريخ حياة هذا الرجل العظيم من معلوماتٍ على جانب عظيم من الأهمية من الوجهة الدينية والخلقية في هذا العهد، على الرغم مما تنطوي عليه عباراته من مبالغات يمكن معرفتها بدون كبير عناء، ومع ذلك فإننا نستخلص من هذه المبالغات نفسها أمورًا عدة عن حياة القوم.

المناظر الاجتماعية والخاصة في مقبرة «باحري»

تحتوي مقبرة «باحري» على مناظر عدة عن حياته الخاصة وحياته الحكومية، وكذلك على مناظر جنازية عامة، وهذه المناظر قد شُفعت لحسن الحظ بنقوش مفسِّرة لها، ممَّا جعلها ذات مزايا عظيمة؛ وبخاصة لأنها تُلقِي بعضَ الضوء على حياة القوم اليومية وأعمالها بما فيها من فكاهات ومداعبات حلوة قلَّ أن نحصل عليها في وثائق تلك الأزمان السحيقة، ففي منظرٍ نشاهد «باحري» يتبعه خَدَمُه حاملين ملابسه ونعاله وكرسيه والمعدات التي تلزمه، وتقول لنا النقوش عن هذا المنظر: إنه فحص أعمال فصل الصيف وأعمال فصل الشتاء، وكل الأعمال التي أنجزها في الحقول عمدة «نخب» وعمدة «دندرة»، وهو الذي يشرف على الحقول في أراضي الجنوب، الكاتب وحاسب الغلال «باحري» المرحوم.

ويلحظ في المنظر أن عربة «باحري» تنتظره، غير أن أحد جوادَيْها نفد صبره، وأراد أن يرخي لساقيه العنان، فوبَّخه السائس قائلًا: قف ولا تتحرك، ولا تكن عاصيًا أيها الجواد الممتاز، يا أيها (الأمير) الذي يحبه سيده، ومَن يفخر به الحاكم «باحري» أمامَ كل إنسان.

ويشاهد أمام «باحري» منظر الزرع والحرث، فيُرى محراثان تجرهما ثيران على حسب المعتاد، غير أننا نشاهد محراثًا ثالثًا يجره أربعة رجال بالحبال والعمال الذين يحرثون بالمحاريث التي تجرها الثيران، يقولون: إنه يوم جميل يشعر فيه الإنسان بالنسيم، والثيران تحرث، والسماء تعمل على حسب ما ترغبه قلوبنا؛ دَعْنا نعمل لهذا الشريف. (Taylor, “The Tomb of Pahari at El-Kab,” Pl. III–VII) وكذلك نرى حرَّاثًا ينادي رفيقًا له يسير أمامه قائلًا: «أسرع أيها القائد إلى الأمام بالثيران تأمل! إن الأمير واقف ينظر إلينا.» مما يُشعِر — كما هي الحال الآن — أنهم لا يعملون إلا إذا كان صاحب العمل منتبهًا إليهم مراقبًا إياهم.

وفي نفس المنظر نجد رجلًا يحطم قطعًا من الطين بفأسه، وينادي رفيقه الذي يعمل معه قائلًا: «يا صديقي أسرع في العمل حتى ننتهي في وقت مبكر.» غير أن ذلك يحفظ زميله فيجيبه قائلًا: «إني سأعمل أكثر من العمل الذي يجب أن أعمله للشريف، فالزم الصمت.»

أما العمال الذين كانوا يجرون المحراث فإنهم كانوا مَرِحين؛ إذ إن «باحري» عندما كان متجهًا نحو النهر مارًّا بهم، حضَّهم على الإسراع في عملهم فأجابوه: إننا نفعل ذلك، انظر إلينا لا تَخَفْ على حقول الغلال، إنها حسنة جدًّا.

وقد أجاب على ذلك الحرَّاث المسن قائلًا: حقًّا إن مقالك مدهش جدًّا يا بني، فإن السنة طيبة خالية من الأمراض، وكل أعشابها جيدة، والعجول فيها ممتازة أكثر من أي شيء.

أما القمح الذي قد نضج فكان يحصده عمال بمحشاتهم وخلفهم امرأة وطفل يلتقطان ما تُرِك خلف الحصادين، في حين نشاهد امرأة ثالثة تحمل سلة وبعض الخبز، ويلحظ أن أحدهم ينادي الحصادين قائلًا: «أعطني حزمة؟ انظر سنأتي في المساء، فلا تعد لشح البارحة، تخلَّ عنه اليوم.» (أي: اترك لنا بعض السنبل نلتقطه اليوم). وفي نهاية حقل الحصاد توجد مظلة صف فيها أوانٍ للشرب على قواعد من الخشب، ويشاهد اثنان منها خارج المظلة يروح عليهما خادم بمروحة من عسف النخل لتحفظ برودتها، وبعد ذلك يُحمَل القمح المحصود في سلال كبيرة معلقة في قضبان ومحمولة على الأكتاف للدرس، وهنا يُرَى «باحري» يقبض بيده على غصن، ويأمر حاملي السلال بالإسراع خوفًا من الفيضان الذي كان يهدِّد الحقول قبل حصد الغلال منها، ثم يسمع عامل وهو عائد ليأخذ حملًا جديدًا يقول بصوت عالٍ: «أَلَمْ أحمل القضبان طول اليوم كرجل؟ وهذا ما أحبه.»

ومما تجدر ملاحظته هنا أن النغمة التي كانت سائدة في هذه المحادثات نغمة مرح تدل على الجد والإخلاص، وهذا المرح بعينه نجده في الدولة القديمة، وقد عُبِّر عنه في أغنية حاملي المحفة (راجع كتاب الأدب جزء ٢ ص٢٢٣).

وبعد ذلك يفرغ العمال السنبل في مكان الدرس حيث تدوسه الثيران، وهناك يُرَى صبي يعمل بمكنسته باستمرارٍ ليحفظ السنبل٣٨ في مكانه.

أما العامل الذي يسوق الثيران في دوراتها التي لا تنقطع، فكان يغني وهو ماشٍ: «ادرسي لنفسك، ادرسي لنفسك يا أيتها الثيران، ادرسي لنفسك، ادرسي لنفسك فإن التبن لعلفك، والغلة لأسيادك، ولا تجعلي قلوبك تجمد، فإن الجو بارد.»

ثم يُذرَى بعد ذلك القمح ويكال ويُوضَع في المخازن، ويُشاهَد كاتب جالس على كومة عالية من الغلال مسجِّلًا ما يكال ويخزن وهو «تحوتي نفر»؛ ويُشاهَد كذلك هنا حصد الكتان، وذلك أن شجيرات الكتان كانت تُنتزَع بجذورها ويُزال عنها ما علق بها من طينٍ، ثم تُحزَم السيقان وتُحمَل إلى رجلٍ مُسِنٍّ جالس تحت شجرة، حيث ينزع منها البذور بآلة كالمشط الضخم، ويخاطب الولد الذي أحضر له الحزم قائلًا: «إذا أحضرتَ لي تسعًا وإحدى عشرة ألف حزمة، فإني أنا الرجل الذي أفصلها كلها.» غير أن الولد يجيبه بوقاحة غير محترم سنه المتقدِّم قائلًا: «أسرِعْ لا تكن ثرثارًا يا أيها العامل القَذِر.»

وفي منظر آخَر يُشاهَد «باحري» يعمل بيدَيْه، فيجلس على كرسي وأمامه أدوات الكتابة يدوِّن حساب الحيوان الذي كان يساق أمامه، والنقوش المفسرة لهذا المنظر تقول: «حساب عدد القطعان بواسطة أمير «دندرة»، والمشرف على حقول بلاد الجنوب المحبوب لدى سيده من أول بيت «حتحور» حتى «الكاب»؛ الكاتب «باحري».» ومن ذلك نعلم أنه كان يدير أملاك الفرعون من «دندرة» حتى مدينة «الكاب»، ويلحظ أن الماشية التي كانت تُحصَى هنا كانت تشمل ثيرانًا وبقرات وعجولًا وحميرًا وماعزًا وجداء وخنازير، وقد كانت بعض هذه الماشية نائمة على الأرض لتكوى، ويُشاهَد أمام «باحري» أخوه المسمَّى كذلك «باحري» ويُلقَّب بالكاتب، ويُرَى «باحري» كذلك في منظر آخَر جالسًا في مقر وظيفته يتقبَّل الذهب من رؤساء البلاد الجبلية، وقد كان يُقدَّم إليه في هيئة حلقات، ويُوزَن أمامه ويُدوِّن أخوه «باحري» قيمةَ كل وزنة، وقد فسر هذا المنظر بما يأتي:

تسلم ذهب رؤساء أهل الجبال، تسلم الجزية من رؤساء أهل هذه البلدة بيده المدير اليَقِظ الذي لا يكل، والذي لا ينسى ما هو مكلَّف به الأمير «باحري» المرحوم.

(راجع: Urk. IV. p. 126).
ثم نرى «باحري» يسير إلى شاطئ النهر على قدمَيْه، حيث يرقب شحن السفن المحملة بالغلال المستحقة لمخازن غلال الحكومة، وتقول النقوش عن ذلك: «شحن السفن بالقمح والشعير.» ويقول العمال: «هل سنمضي طوال اليوم في حمل القمح والشعير؟ إن المخازن مفعمة والأكوام تفيض على حافاتها، والسفن قد شُحِنت شحنًا ثقيلًا، والقمح يفيض منها، ومع ذلك فإن السيد يحضنا على السرعة، تأمل! فهل صدورنا من برنز (أي: لا تكل).»٣٩

ويلحظ أن البحارة الذين في السفن يميلون إلى جنب ويملئون أوانيهم للشرب.

وكل المناظر السالفة تحدِّثنا عن حياة «باحري» الرسمية، وهناك مناظر أخرى تبحث عن حياته الخاصة، وتصحبه زوجه، فنجده في منظر يلحظ سير العمل في ضياعه الخاصة ويتسلَّم محاصيله، وكذلك نجده مع تلميذه الصغير الأمير «وازمس» الذي يجلس على حجره معطيًا إياه هدايا بمناسبة يوم عيد، والنقوش تحدِّثنا: ابتهاج القلب بكل شيء، والراحة، وتسلم الهدايا، والتعبُّد «لنخب كاو» بوساطة مربي الأمير، «وازمس» الحاكم «باحري» (Naville Ibid. Pl. IV). والواقع أنه يُشاهَد أمام «باحري» والأمير أطفال محضرون … وقربان، وكل أنواع الأزهار في صباح السنة الجديدة (كما تحضر بعض الأطفال في أيامنا هدايا لبعضهم في العيد).
ولا بد أن «باحري» كان على وئام مع أقاربه وأصهاره؛ إذ نشاهد والدي زوجه وأقاربه كلهم مجتمعين على مائدته في يوم عيد رأس السنة الذي كان يُعَدُّ من أعظم الأعياد؛ ولذلك يلحظ أن منظر الوليمة الذي نشاهد فيه كل الأقارب تحتل مكانة عظيمة في رسوم مقبرته (Ibid. Pls. VI, VII)؛ غير أن هذه الوليمة قد جمعت بين مناظر الدنيا ومناظر الآخرة، فيرى «باحري» هو وزوجه جالسين على أريكة ربط في أسفلها قرد أليف يأكل من سلة فاكهة، والظاهر أنه كانت توجد أمام «باحري» وزوجه مائدة قربان غير أنها محيت فيما بعدُ على يد مغتصبين، ويشاهد ابنهما «أمنمس» الذي كان يرتدي جلد فهد واقفًا أمامهما يمثِّل دور الابن المحبوب لوالديه (كاهن) بعد موتهما، وذلك بتقديم القربان ممَّا يبرهن على أننا أمام وليمة جنازية لا تشاهد إلا في مثل هذه الأحوال، وإن كانت تمثِّل ما يحدث في عالم الدنيا حقيقة.

وأمام «باحري» وزوجه مائدة جلس إليها رجل وزوجه، وعلى المائدة ما لذَّ وطاب من طعام وأكاليل وأزهار وزجاجات نبيذ، وهذان هما «أحمس بن أبانا» المشهور وزوجه «إبوتي»، وعلى مائدة أخرى يُشاهَد «أتف تري» وزوجه «كم»، وهؤلاء هم أجداد «باحري» ووالده، وخلف أولئك نرى أقارب «باحري» وأصدقاءه جالسين على بساط يأكلون ويشربون الخمر ويشمون الأزهار.

ومن طريف ما يُشاهَد في هذا المنظر أن سيدةً تُسمَّى «سات آمون» (بنت آمون) قد رفعت يدها امتناعًا عن قبول قدح نبيذ قُدِّم لها، غير أن الساقية لم تأخذ هذه الإشارة علامة على الرفض وقالت: «لحضرتك، اشربي حتى السكر وافرحي، وأصغي لما تقوله رفيقتك، لا تضحي من تناول (الخمر).» ولكن ابنة عمها المجاورة لها لم تعبأ بمثل هذه الترهات، فتنادي الساقية: «قدِّمي لي ثمانية عشر قدحًا، تأملي! إني أحب أن أشرب حتى أثمل، فإن جوفي جاف كالهشيم» (راجع: Naville, Ibid p. 25. Pl. VII). ومن الغريب أننا نشاهد الساقيات يلححن على الضيفان في تناول الخمر، فتقول إحداهن: «اشربن لا ترفضن، إني لن أترككن.» وتقول أخرى: «اشربن لا تعكرن صفو الوليمة، ودَعْنَ الكأس يأتي إليَّ، تأملن! فإنه دور الأمير أن يشرب الآن.»

والظاهر من ذلك أن صاحب الوليمة كان لا يعدُّ نفسه سعيدًا إلا إذا ثمل كل ضيفانه، على أن هذه الوليمة لم تكن لتقتصر على احتساء بنت العنب، بل كان في نواحيها طائفة من المغنين والموسيقيين والراقصات.

ويمكن القول من صور أقارب «باحري» الممثلة على جدران قبره، أنه قد دُوِّن أسماء ستة أجيال من أسرته، ابتداءً من جد والدَيْه حتى أحفاده.

ولا نزاعَ في أن أمثال قبر هذا العظيم يُعَدُّ تحفةً لكلِّ مؤرخ يريد أن يبحث في الحياة المصرية من أي ناحية أراد، غير أنه ممَّا يُؤسَف له جد الأسف أن أمثال هذا القبر المحفوظ قليل جدًّا.

(٨-٢) رعي

يوجد قبر هذا العظيم في جبانة «شيخ عبد القرنة» (رقم ١٢٤)، وقد كان مزيَّنًا بمناظر عدة، ولكن لم يصلنا منه إلا بعض قطع في حيازة مستر «مند»، يُشاهَد فيها الكهنة يقومون بشعيرة دينية، وقد كان يحمل الألقاب التالية: مدير بيت الإله الطيب «تحتمس الأول»، وكذلك لقب «مدير مخازن الأرضين»، وكلا اللقبين من أهم ألقاب الدولة (راجع: Gardiner and Weigall, “Catalogue” No. 124).

(٨-٣) ساتب إحو

كان يحمل الألقاب التالية: عمدة طينة بالقرب من «العرابة المدفونة»، والأمير الوراثي، والحاكم، والمشرف على كهنة «طيبة»، وقد كانت زوجه كذلك من الشخصيات الهامة؛ إذ كانت مرضعةً لملكة المستقبل «حتشبسوت»، فكانت تحمل لقب مرضعة الملكة «حتشبسوت»، وقد جاء ذِكْرها في مقبرة زوجها (راجع: Urk. IV. p. 517)، ولا شك في أن المرضعات الملكيات كنَّ ذوات نفوذ عظيم في البلاط، ولدينا عدد عظيم منهن ذكرن في نقوش الأسرة الثامنة عشرة، ويلحظ أنهن كن أمهات لموظفين عظام في الدولة، ولا غرابةَ في ذلك؛ فمن المحتمل أن بعضهن كن يُنتَخبن من أُسَر كريمة، فضلًا عن أنهن كنَّ يخلقن بحكم مركزهن جوًّا من المحبة بينهن وبين الأمراء والأميرات الذين ربوا في حجورهن. وسنرى ما كان لذلك من تأثير في وظائف الدولة وسير الأحوال فيها عند الكلام على النظام الحربي، وقد أقام «ساتب إحو» قبرًا له هو وزوجه في «العرابة المدفونة»، وُجِد له فيه تمثال جالس، وهو الآن في مجموعة جامعة «بتسلفانيا» (راجع: Maciver and Mace, “El-Amrah and Abydos,” Pls. XXXII-XXXIII).
وقد خرب هذا القبر في عهد الأسرة الخامسة والعشرين، وعُثِر على أشياء دخيلة، غير أنه وُجِدت فيه لوحة لموظف يُدعَى «إن حرمس» يحمل لقب «المشرف» على مخازن «طيبة» من عهد «تحتمس الثالث»، ويُحتمَل أنه أحد أعضاء الأسرة المحدثين (Porter and Moss, Bibliography, V, Pp. 67-68).

(٨-٤) سات رع

وهي مرضعة أخرى للملكة «حتشبسوت»، وكانت تُسمَّى كذلك «إن»، وتحمل لقب المرضعة التي ربت سيدة الأرضين، ممَّا يدل على أنها كانت تعمل في عهد حكم الملكة، وليس لدينا عن هذه السيدة إلا نقوش على لوحة من الحجر الجيري الأبيض محفوظة الآن بمتحف «فينا»، ولم تُذكَر عليها أسماء أفراد أسرتها (Urk, IV. p. 241).

(٨-٥) نفراعح

كانت هذه السيدة مربية أخرى من مربيات «حتشبسوت»، وكانت تحمل لقب «المربية العظيمة»، وكان زوجها «يويا» يشغل وظيفة الكاتب الملكي التي تُعَدُّ من أكبر وظائف الدولة؛ إذ كان شاغلها يُعَدُّ كاتم أسرار الفرعون. وقد كان ابنها «بوام رع» وهو أخو «حتشبسوت» من الرضاعة من أعظم رجال الدولة الذين كانت تعتمد عليهم «حتشبسوت» (كما سيأتي بعدُ)، وقد رسم في قبره (بالخوخة رقم ٣٩) المرضعة الملكية وزوجها (Davies, “The Tomb of Puyemra”, Pl. 28)، وليس من الغريب أن نجد أكثر من مرضعة واحدة لإرضاع طفل واحد؛ إذ علمنا أن الأطفال المصريين كانوا يرضعون إلى أن يبلغوا السن الثالثة من عمرهم (Maxims of the Scribe Ani. Erman, “The Literature of the Ancient Egyptians,” p. 239). هذا فضلًا عن أن لقب مرضعة كان يحمله الرجال والنساء على السواء، كما شاهدنا في نقوش «أحمس بننخبت»، وفي هذه الحالة كان اللقب بطبيعة الحال يعني «مربي»، ومن المحتمل أن بعض المرضعات من النساء كنَّ يعملن بوصفهن مربيات للأطفال الملكيين بعد فطامهم، وهذا ما يُوحِي به لقب «سات رع».

(٨-٦) أحمس (حومعي)

عاش في عهد هذا الفرعون، وكان يحمل الألقاب التالية: «مدير بيت زوج الإله»، ومدير مخازن غلال زوج الإله «أحمس نفرتاري» (L. D. Text. III. p. 286). وقبر هذا العظيم في «جبانة شيخ عبد القرنة» (رقم ٢٢٤)، وليس فيه من المناظر إلا منظر وليمة عادي مُثِّل فيه بعض أقاربه (راجع: Gardiner and Weigall, “Catalogue,” No. 224).

(٨-٧) أمنحتب بن سني تحوتي

كان هذا الموظف يحمل لقب «كاهن مطهر»، كما كان يحمل اللقب الهام «بكر أولاد الفرعون تحتمس الأول»، وهذا مثلٌ آخَر لعدم دلالة هذا اللقب على معناه الأصلي؛ وذلك لأننا نعلم من قبره في «جبانة شيخ عبد القرنة» أن والده يُدعَى «سني تحوتي» (راجع: Urk. IV, Pp. 105-106). ومن بين المناظر الهامة في قبره منظرٌ مُثِّل فيه هو وزوجه يتسلَّمان هدايا رأس السنة، ومنظر آخَر وهو يقدِّم قربانًا لوالديه؛ ونعلم من نقوش قبره أن أخاه «نفر حتب» كان يحمل الألقاب التالية: الأمير الوراثي والحاكم، ورجل الملك العظيم، والرجل الممتاز في خزانة ملك الوجه البحري، والد الإله الرابع للإله «آمون» (لقب كاهن) (راجع: Porter and Moss, “Bibliography” Vol. I. p. 184)، وكذلك الكاهن الرابع للإله آمون.

(٨-٨) نخت

كان «نخت» أيضًا يحمل لقب كاهن مطهر، وقد عُثِر له على تمثال في معبد «رعمسيس» الثاني في الكرنك، ومن ألقابه أيضًا «مطهر الإله خنسو» ورئيس طائفة الكهنة الأولى، وكذلك رئيس الطائفة الثالثة (راجع: Legrain, “Repertoire,” No. 76).

(٨-٩) بوي

لم يُعثَر لهذا الموظف إلا على لوحة محفوظة الآن بمتحف مدينة «درسدن» بألمانيا (راجع: A. Z. XIX. p. 66 ff)، ويُلقَّب الباني العظيم للفرعون «تحتمس الأول»، وهذا يذكِّرنا بالنشاط العظيم الذي قام به ملوك هذه الأسرة في هذا المضمار، وقد كان ابنه يحمل نفسَ اللقب في عهد «تحتمس الثالث».

(٨-١٠) وسر

يُعَدُّ «وسر» — من مناظر قبره الذي حُفِر في «جبانة شيخ عبد القرنة» — شخصيةً غريبة؛ إذ تدل ملابسه المزركشة وتأنقه على نوع من الطراوة والليونة؛ إذ نراه مرتديًا حلة ذات أهداب بألوان مختلفة، وممسكًا بيده منديلًا أُحكِم لفُّه في يده اليمنى، ونرى في يده اليسرى طاقة أزهار قد افتنَّ في تنسيقها، يشم رائحتها بنوع من الرخاوة (J. E. A., X. Pl. IX, p. 41). ويجب ألَّا نُخدَع بمثل هذا المنظر الذي يدل على الترف والإغراق في التأنُّق الذي يظهر به أولئك الأفراد المنعمون في أوائل الأسرة الثامنة عشرة؛ فإن هؤلاء المتأنقين وأولادهم هم الذين ساعدوا على بناء مستقبل مصر العظيم الذي جعلها على رأس ممالك العالم؛ إذ لم يكن الفساد بمعناه الحقيقي قد دبَّ في نفوسهم، فعندما بدأت الإمبراطورية تنحطُّ، لم يكن اللوم واقعًا على أولئك المترفين في «طيبة»، أو على النسوة اللائي كنَّ يعاقرن بنت الحان، بل كان يرجع إلى أسباب أخرى.
وكان «وسر» هذا يُلقَّب بالكاتب ومدير بيت الفرعون «تحتمس الأول»، وقد تُعزَى رفاهيته ورقته في الملبس إلى الوظيفة التي كان يشغلها. ومن المناظر الهامة في قبره منظر صيد، وقد استعمل فيه العربة، وهو من المناظر الأولى التي استُعمِلت فيها العربة للصيد في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وهذا دليل آخَر على أنه من علية القوم؛ إذ كانت العربة وقفًا على الأغنياء والمياسير في هذه الفترة (Davies, “Five Theban Tombs”, Pl. XXII. p. 23).

(٨-١١) وسرحات

ولدينا مدير بيت آخَر من عهد هذا الفرعون يُدعَى «وسرحات»، وقد جاء ذِكْره على لوحة أخيه في «تورين» (Rec. Trav. Vol. IV. p. 125).

(٨-١٢) باك

ولدينا مخروط نُقِش عليه اسم موظف يُدعَى «باك»، ويحمل لقب مدير البيت العظيم (Mission Archeologique Française, Vol. VIII. p. 15).

(٨-١٣) سبك حتب

أما قصر «تحتمس الأول» فكان له حارس يُسمَّى «سبك حتب»، كما كان يحمل لقب «حارس قاعة الإدارة» (راجع: Schiaparelli, “Catalogue” No. 1566).

(٨-١٤) بن إن رع

كان مراقب الماشية (راجع: Mission Archeologique Française, Vol. VIII. p. 64).

(٨-١٥) عا خبر كا

كما كان «عا خبر كا» مدير المهمات (Ibid. p. 289–171).

(٨-١٦) منخ

وكان للملكة كذلك مديرُ بيتٍ يُدعَى «منخ»، وقد أهدى محرابًا نُحِت في الصخر غرب السلسلة، وقد مُثِّل فيه مع زوجه، وهو ابن «إنني» الذي تكلمنا عنه فيما سبق (راجع: Weigall, “Guide to the Antiquities of Upper Egypt,” p. 368).

(٨-١٧) تحوتي بن قاري

كان هذا الموظف يُلقَّب مدير النحاتين، وله قبر في «الكوم الأحمر» (هيرا كنبوليس) (Porter & Moss, “Bibliography”, V. p. 197)، وفيه لوحة سُرِد فيها تاريخ حياته على الصورة المألوفة من مدائح وصفات عظيمة (راجع: Urk. IV. Pp. 130. ff).
جاء فيها:

مدير النحاتين الذي قد حباه الإله منذ طفولته، وهو مرشد الفرعون، والذي يسير على الأعمال، ذكي الفؤاد في عمل كل شيء ممتاز، ثابت الجنان بين العظماء، ومَن يذكر اسمه لصفاته (الطيبة)، وليس فيه ما يعيبه عند سيده، لا يخرج الإثم من فمه، صادق الجنان بين الأشراف.

ترجمة حياته: لقد فعلت ما يحبه الناس، وما تمدحه الآلهة، ليجعلوا بيتي يبقى إلى الأبد، ويمكث اسمي في فم الناس بعد سنين تمرُّ عندما يرى (القوم) الآثار التي أقمتها، فقد بنيت لنفسي بيتًا للنزهة وهو بيت الجبانة، وقد عمل الناس فيه على حسب ما يحبون، ولم يكن هناك إنسان متذمِّر من العمل، وكنتُ أخرج من بيوتي إلى سفينتي، وإلى حقولي التي كنت أديرها بنفسي، وكنت أحرث بثيراني الصغيرة السن في حقولي التي اكتسبتها بنفسي حتى قربان الجبانة، وإنه إلهي الذي أعطانيها، وقد أنجزت ما يمجده قريني (روحي)، وقد أرشدني إلى قبر متين، وكنتُ في حظوة رب الأرضين، وهو الذي جعلني في قلب الناس حتى أصبحت ممدوحًا عند الإله؛ ولقد عمل ذلك لأني كنتُ ذا أخلاق ممتازة، ولم ينسب لي عمل سوء عند القوم؛ إذ لم أغتصب من آخَر متاعه.
هذه لمحة عن حياة «تحوتي بن قاري» كتبها عن نفسه، على الرغم ممَّا فيها من جمل نجدها مكرَّرة في حياة غيره من عظماء هذا العصر؛ إلا أننا نلحظ فيها بعض جملٍ تدل على ما كانت تنطوي عليه روح هذا المثال العظيم، صاحب الشعور المرهف؛ إذ يخبرنا أنه قد كسب كل شيء يمتلكه بكده واجتهاده، وأنه قد بنى قبره دون أن يُرهِق العمالَ في إقامته، بل كانوا يعملون على حسب ما يحبون، فلم يكن هناك سبيل لذمه؛ إذ لم يتذمر أحد من العمل، هذا فضلًا عن أنه كان شفيقًا على الحيوان، فلم ينتخب لحرث أرضه إلا الثيران الصغيرة السن القوية البنية، وكانت تعمل في حقوله التي اكتسبها بنفسه حتى قبره، كل ذلك يُظهِر لنا روحَ ما كانت عليه حالة البلاد في ذلك الوقت، ونجد اسمه كذلك مذكورًا في بردية جنازية محفوظة الآن في متحف «اللوفر»، ومنها نعرف أن والده كان يُسمَّى «قاري»، وأمه تُدعَى «تي» (راجع: Urk. IV. p. 135).
١  راجع: Weigall, “History”, Vol. II. p. 264. ff.
٢  راجع: Urkunden IV. Pp. 79–81.
٣  راجع: Urkunden VI. Pp. 82. ff.
٤  وقد دحض جاردنر هذا التقسيم وبرهن على أن المصري كان يفهم المتن على حقيقته لا بقلب المعنى (راجع: Gardiner “Onomastica” Vol. I. p. 160. ff).
٥  راجع: p. S. B. A., Vol. VII, p. 121.
٦  راجع: Wilkinson, “Topography of Thebes and General View of Egypt” p. 472.
٧  راجع: Urkunden IV, p. 36.
٨  راجع: Urkunden IV, p. 89-90.
٩  المقصود من بلاد نهرين في خلال الأسرة الثامنة عشرة هو بلاد المتني، كما شرح ذلك الأستاذ جاردنر (راجع: “Onomastica”, Vol. I. p. 171. ff).
١٠  تقع مدينة قرقميش (وبالبالية جرجميش) على أعالي نهر الفرات على مسافة نيف ومائة كيلومتر من الشمال الشرقي من مدينة حلب (انظر المصور التقريبي لشمال سوريا) راجع (Gardiner, “Onomastica”, Vol. I. p. 132. ff).
١١  راجع: Brugsch, “Thesaurus”, V. p. 1290.
١٢  راجع: Weigall, “Guide”, p. 223.
١٣  راجع: Urkunden IV, p. 94–102.
١٤  راجع: Petrie, “History”, Vol. II, p. 65.
١٥  راجع: Weigall, “Guide”, p. 244.
١٦  راجع: Champollion, “Letters”, (Ed. 1868) p. 114.
١٧  راجع: L. D. III, Pl. 47c.
١٨  راجع: Ibid. Pl. 59a.
١٩  راجع: Champollion, “Notices”, p. 501 &, 519.
٢٠  راجع: Lanzone, Catalogue of Turin, 1374.
٢١  راجع: Petrie, “History”, II, p. 69.
٢٢  راجع: Melanges d’Arch. Egypt. Maspero. I. p. 46.
٢٣  راجع: Louvre Mus.
٢٤  راجع: Gauthier, L. R, II, p. 221.
٢٥  راجع: A. Z. XXIX, (1891) p. 117.
٢٦  راجع: “The Temple of Dier El Bahri”. p. 12–14. & “Dier El Bahri”, Part. I. Pl. XIII.
٢٧  راجع: Newberry, p. S. B. A., Vol. XXVII, (1905) p. 102, No. 60.
٢٨  راجع: Breasted, A. R. II. § 321.
٢٩  مكان معبد الإله «سكر» إله الموتى في «منف» ثم أطلق فيما بعد على معابد آلهة أخرى (راجع: Gauthier, “Dic. Geog”. V. p. 150).
٣٠  كان المعتقد على حسب خرافة قديمة أن منابع النيل هي في الشلال عند «إلفنتين».
٣١  كانت الملابس التي تُوضَع على تمثال الإله تُبدَّل من وقت لآخَر، كما يُفعَل بالكسوة الشريفة وكسوة الأولياء الآن في مصر الحديثة؛ فكان يستعملها الكهنة والأهلون كما هي الحال الآن.
٣٢  كان المصري بعد الوفاة يستطيع بوساطة تعاويذ سحرية أن يتحوَّل إلى أشكال مختلفة، ويعود في صورها إلى الحياة الدنيا، وهذا الاعتقاد لا تزال بقاياه موجودة في مصر الحديثة، كما كان يُعتقَد أن روحه كانت تتمتَّع بما يُقدَّم له من ماء وطعام، وهذا أيضًا اعتقاد له نظيره في أيامنا.
٣٣  مكان غير معروف في الكرنك.
٣٤  أي: قاعة المحاكمة، وكان المصري ينظر لكل شيء من ناحيتين، وهما العدالتان.
٣٥  الحقول التي كان لزامًا على المتوفى أن يقوم بالعمل فيها.
٣٦  كان المصري يعتقد أن الإنسان يسكن فيه الإله وينظم حياته.
٣٧  أي: ومثل النيل في طريقه السلسة إلى البحر، فإنه يحدد الحدود والشاطئ؛ فكذلك كان المتوفى يحدد أملاك الفرعون وشاطئه مع غزارتها.
٣٨  هذه المناظر تُشاهَد حتى الآن في قرى الوجه البحري التي لم تدخلها الآلات الحديثة للحرث والزرع والدرس.
٣٩  هذه هي الشكوى التي نجدها من أصحاب رءوس المال؛ فإنهم يريدون أن يبتزُّوا كلَّ مجهود العامل لكثرة الإنتاج؛ ولذلك يقول العامل: هل صدورنا من نحاس — أي: لا تُحس — ولذلك يريد السيد أن يجعلها تعمل باستمرار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤