الفصل الثاني عشر

توم بيدلي يستقبل زوارًا

صحيحٌ أن السؤال الذي ختَم به ثورندايك روايته أجفَلَني نوعًا ما؛ لكن ما فاجأني بحقٍّ هو تذكُّره للقضية بكامل تفاصيلها وبوضوح. لكن كان حريًّا بي ألا أُفاجَأ من ذلك؛ إذ إنه أمرٌ تكرر كثيرًا فيما سبق، لكني دائمًا ما كنتُ أُخفق في أن آخذ بعين الاعتبار وجودَ اختلاف جوهري بيني وبينه؛ لقد كان ثورندايك خبيرًا جنائيًّا عبقريًّا، أما أنا فلم أكن كذلك. عندما كنتُ أُطالع تقريرًا لقضية جنائية، كنت أفعل ذلك بلا اكتراث، وإن لم تكن القضية تعنينا، كنت أصرفُها عن ذهني وأنسى أمرَها في الحال.

لكن ليس هذا ما كان يفعله ثورندايك. فكل قضية بالنسبة إليه كانت بمثابة مشكلة؛ وإن شابها أيُّ عنصر من الغموض أو الالتباس، كان يدرسها، ويخرج بحلٍّ محتملٍ أو أكثرَ لها، ويحتفظ بالقضية في ذاكرته حتى يُزال عنها الغموض — إن حدث ذلك — وينكشفَ حلُّها الفعلي. كانت تلك عادةً مفيدة؛ فبجانب كونِها رياضةً ذِهنية تُعادل في قيمتها الخبرة في الواقع، كانت لها مَيزة عملية، وهي أنه حال أُحيلت لنا إحدى تلك القضايا في نهاية المطاف — كما يحدث في الأغلب — يكون ثورندايك عليمًا بوقائعها وربما يكون قد توصَّل بالفعل إلى حلِّها.

أعتقد أن هذا هو الموقف الحالي. فبينما كنتُ أُطالع بعناية مجموعةَ التقارير التي جمَعها بولتون، أدركتُ أن القضية برمتها، بما فيها مقتل إيما روبي، شابَها غموضٌ شديد. ولكني أدركت كذلك أهميةَ سؤال ثورندايك. لقد كانت لوتا شيلر متورطةً في تلك الجريمة لا محالة.

كان بينفيلد ليقول إن هذا ليس جوهريًّا لمسألةِ موتها أو وجودها على قيد الحياة. لكنه كان جوهريًّا. فاختفاء شخص يُشتبَه في تورطه في جريمة قتل يستدعي نظرةً أكثرَ تمحيصًا بكثير من اختفاء شخص لا يَملك دافعًا معلومًا لذلك.

في الوقت المناسب، أُخطِر السيد بينفيلد بالدعوى، وأُرسِلت لنا نُسَخ من الإفادات الموثَّقة للشهود، التي ما إن اطَّلعتُ عليها حتى أدركت أن ثورندايك كان محقًّا. فالوقائع التي سردَها أصحابها تحت القسَم تتعلق فقط بأدلة وفاة لوتا شيلر. أما مقتل إيما روبي فلم يُشَر إليه إلا عرَضًا في معرض الحديث (في إفادة خطية لسيدة تُدعى السيدة بيجهام) عن الرجل الذي دخل برفقة سيدة إلى المنزل رقم ٣٩ بشارع جيكوب باستخدام مِفتاح بوابة. كان واضحًا أن القرينة التي سيدفع بها المُلتمسُ هي أن هذا الرجل قتل لوتا شيلر بالفعل واستولى على مفاتيحها.

هكذا استبانت لي حُجة المدَّعي إلى حدٍّ كبير. صِرت أرى ما الذي يعتزم «الطرَف الآخَر» إثباتَه؛ وبالنظر إلى الوقائع في ظاهرها، فقد كانت حُجة وجيهةً نوعًا ما. لكن السؤال التالي كان، ما الذي كان ثورندايك يعتزم إثباته، وماذا سيفعل في سبيل ذلك؟ إن افترضنا — كما فعلت — أنه قد درَس القضية بالفعل وتوصَّل على الأرجح إلى استنتاجات أولية، أتوقع أنه سيتبع منهجه المعتاد، ويبدأ بمحاولة توسِعة دائرة معارفه؛ وذلك بالبحث عن وقائعَ جديدة مكمِّلة لتلك المعروفة بالفعل، وانتابَني فضولٌ قوي لمعرفة الاتجاه الذي ستتَّخذه تحرِّياته، ولم أُفاجَأ كثيرًا حين تكشَّفَت لي نواياه.

قال لي معلقًا في اليوم التالي: «إذن، هل درس صديقي الخبيرُ المطَّلع الإفاداتِ والملفَّ الذي جمعه بولتون وصار يعرف جميع الوقائع المعلومة؟ ربما وجدها منقوصةً بعض الشيء، أليس كذلك؟»

أجبته: «على النقيض، أظن أنَّ لدينا بيانًا كاملًا للقضية. ماذا تريد أن تعرف أكثر من ذلك؟»

«أريد أن أعرف كل ما بوُسعي معرفتُه. على سبيل المثال، هناك لوتا شيلر، الشخصية المحورية في القضية. ما الذي نعرفه عنها؟ هي أكثرُ بقليل من مجردِ اسم؛ بل أقربُ إلى رمز جبري. أريد أن أُحوِّلها إلى شخص حقيقي؛ أن أعرف كيف كانت شكلًا وفِكرًا وخُلُقًا.»

همَمتُ بالاعتراض بأن تلك المعلومات لن تُفيدنا كثيرًا على الأرجح في معارضة الطلب، لكنني لحُسن الحظ رأيتُ الضوء الأحمر في الوقت المناسب.

سألته: «وكيف تعتزم الحصولَ على تلك المعلومات؟»

«المصدر الأرجح لها هو السيد توماس بيدلي. من الواضح أنه عرَفها عن قرب وبإمكانه أن يُخبرنا بالكثير عنها. لذا راسلته منذ يوم أو اثنين، وتكرَّم بإعطائي موعدًا عصرَ غدٍ. هل أنتظر دعمك لي في تلك المقابلة؟»

لحسن الحظ، صادف أن كنتُ متفرغًا عصرَ اليوم المحدد، فقَبِلتُ بسرور، بل بالأحرى بتلهُّف. فقد كان فضولي إزاء هذه الزيارة شديدًا. فقد بدا من غير المعقول أن يكون الغرضُ منها هو مجردَ الحصول على وصف لشكل لوتا شيلر وشخصيتها، وكنت آمُل إن أصغَيتُ بانتباه إلى أسئلة ثورندايك، فربما أُكوِّن فكرة عما يدور بذهنه حقًّا.

كان شارع جيكوب، كما اكتشفنا، شارعًا زريًّا عتيق الطراز يتفرَّع من طريق هامبستيد، وكان مرسم السيد توماس بيدلي الكائنُ به مميزًا ببوابته الخشبية الخضراء التي تحمل الرقم «٣٨ إيه» بأحرف وأرقام نُحاسية مصقولة جيدًا، وبلوحة نُحاسية على جانبه مكتوب عليها «تي بيدلي» يعلوها مقبضُ جرسٍ نُحاسيٌّ لامع. جذَبْنا المقبض فسمعنا دويَّ جرس كبير من على بُعد، ثم انفتحَت البوابة وظهر من ورائها رجل ضخم وَدود ذو وجهٍ لطيف، نظر إلينا لوهلة بعينَين زَرقاوين ودودتين، ويبدو أنه إما عرَفَنا أو سلَّم بهُويتنا؛ إذ دعانا إلى الدخول، فتَبِعناه عبر ممر حجري ومنه إلى باحة صغيرة إلى داخل المرسم الذي بهَرني حجمُه كثيرًا، وبخاصة حجم نافذته الشمالية الكبيرة.

قال ثورندايك: «إنه لَلُطفٌ بالغٌ منك يا سيد بيدلي أن تسمحَ لنا بالقدوم إلى هنا وشَغْلِ وقتك بأمور لا أظن أنها تَعنيك كثيرًا.»

أجاب بيدلي: «بل تَعنيني كثيرًا، لكني أخشى أنني سأُخيِّب أملَك؛ فأنا حقًّا لا أعرف شيئًا عن لوتا شيلر أو عن أمورها.»

رد ثورندايك بابتسامة: «بدايةً، تلك حقيقة، وهي حقيقة غيرُ مجردة تمامًا من الأهمية. لكن على أيِّ حال، أنت تعرف عنها أكثرَ مما أعرف أنا. لذا فمن شأني أن أعرف شيئًا ما.»

قال بيدلي: «أخشى أنه سيكون شيئًا يسيرًا جدًّا. لكن ربما يُساعدني كوبٌ من الشاي في قَدْحِ زِناد فكري. أما أنت فلا يحتاج ذهنك إلى أي قدحٍ على الأرجح.»

قادنا إلى طاولة الشاي التي كانت موضوعة مع ثلاث مقاعد ذات مَساند للذراعَين، أمام المدفأة، وبعد أن أجلسَنا إليها، بدأ في إعداد الشاي على موقد غاز بجانب الحوض الكبير؛ وأثناء انشغاله بذلك، ألقيتُ نظراتٍ خاطفةً فُضولية حولي، وانبهرتُ كثيرًا بالخزف الفاخر وتجهيزات الطاولة الأنيقة وشتى العلامات الأخرى الدالَّة على ذوقٍ رفيع وأنيقٍ في أثاثات المكان، التي تناقضَت تناقضًا غريبًا بعض الشيء مع الحوض وموقد الطهي والأجهزة المنزلية.

قال توم بيدلي بعد أن صبَّ الشاي واتخذ مقعده: «أنت تعرف ما تريد الاطِّلاع عليه من معلومات على عكسي؛ لذا أعتقد أن من الأفضل أن تُعاملني كشاهد. اطرح عليَّ أسئلتك، وسأُجيبك بقدر استطاعتي.»

قال ثورندايك وهو يُخرج دفتر ملاحظات ويفتحه: «حسنًا جدًّا، بما أنني لم أرَ السيدة شيلر وليس لدي فكرةٌ عن شكلها، فسوف نبدأ بمظهرها الشخصي. هل بوسعك أن تصفَها لي؟»

بدَت الدهشة على بيدلي — وكان حقًّا له أن يندهش — لكنه أجاب بسلاسةٍ كبيرة:

«أجل، بوُسعي ذلك بلا ريب؛ فقد تصادف أن طلَب مني المفتش بلاندي ذلك، فكتبتُ مسوَّدة لوصف تفصيلي لها وأعطيتُه نسخة منه. بإمكاني أن أُرِيَك المسودة الأصلية.»

توجَّه إلى رفٍّ اصطفَّ عليه صف طويل من الدفاتر ذات غلاف كتَّاني، كلٌّ منها يحمل على ظهره ملصقًا عليه تاريخ.

قال وهو يُمرر عينَيه سريعًا عبر صف الكتب: «لنر، كان ذلك عام ١٩٣٠م تقريبًا. أجل، ها هو ذا.»

أخرج الدفتر الصغير وأحضره إلى الطاولة، وقال موضحًا وهو يُقلب صفحاته:

«هذا هو دفتر الملاحظات الذي كنت أستعمله حينها. إنه يحتوي على ملاحظات من شتى الأنواع؛ رسومات أولية ورسومات متقنة وملاحظات خطِّية، وبما أنني أدوِّن التاريخ على كل ما أدرجَه فيها، فهو بمثابة دفتر يوميات. ها هي المسودة التي كتبتها لبلاندي.»

ناول الدفترَ مفتوحًا إلى ثورندايك، الذي طالعه بسرعةٍ وإمعان في الوقت ذاتِه، وبعض أمارات الدهشة كما خُيِّل إليَّ.

صاح في إعجاب: «هذا وصفٌ متكامل إلى درجة استثنائية يا سيد بيدلي. يبدو أنك قد كنت تُلاحظ كل شيء، ولا يسقط من ذاكرتك أي شيء.»

رد بيدلي: «حسنًا، كما تعلم، تلك وظيفة الفنان؛ أن ينظر إلى الأشياء بنظرة متمعِّنة، ويحتفظ في ذاكرته بما رآه. لكني سعيدٌ أنه حاز إعجابك. لقد أُعجِب به بلاندي كثيرًا، مع أنه احتاج إلى استيضاح بضعِ نقاط.»

«مثل ماذا؟»

«مثل الأذنَين. لقد سألني إن كان بوُسعي أن أرسمها من الذاكرة، وبالطبع كان بوُسعي ذلك وفعلت.»

قال ثورندايك: «لقد كان محقًّا بالفعل. فالرسم أفضلُ من أدقِّ وصفٍ لفظي. أتساءل إن كان بوسعك أن تتفضل وتفعلَ مثل ذلك لأجلي؟»

على الرغم من أن كان لا يزال يبدو متحيرًا قليلًا، استجاب بيدلي لذلك الطلب عن طِيب خاطر. وعلى رِزْمة صغيرة من ورق الرسم الخشن، رسمَ بسرعة وبتروٍّ شديد في الوقت ذاتِه أذنَين متقابلتَين.

قال وهو ينزع الورقة ويُناولها إلى ثورندايك: «كما ترى، هما مجرد أذنَين عاديتين متقنتَي الشكل، لكنَّ اليمنى كان بها نُتوء داروينيٌّ صغير. لقد حدَّدت خطَّيِ الفكِّ كي أوضح لك موضعَيهما في الرأس.»

شكَره ثورندايك على الرسم، ووضعه في محفظته بعناية بعد أن ألقى عليه نظرة فاحصة. ثم نظر سريعًا مرة أخرى إلى الوصف، وقال:

«ثمة نقطةٌ واحدة هنا تحتاج إلى شيءٍ من الإيضاح. أنت تذكر أن خامة الشعر كان بها شيءٌ غريب يجعل لونَه يبدو متباينًا. أنا لا أفهم ذلك تمامًا.»

ابتسم بيدلي. قال: «ها هو ما حدث مع بلاندي يتكرَّر. هو أيضًا لم يفهمه، ولا أنا. لذا لم أستطع إخبارَه بأكثرَ من أن لونه بدا لي أنه يتغير بالفعل بتغيُّر الإضاءة. لكن التغير كان طفيفًا جدًّا، ولا أعتقد أن أغلب الناس كانوا لِيُلاحظوه على الإطلاق. لكنه كان موجودًا؛ ولم أرَ مثيلًا له من قبل أو من بعد.»

قلت مقترحًا: «هل تعتقد أنه ربما صُبِغ أو زُيِّفت طبيعته بطريقةٍ ما؟ النساء يفعلن أشياءَ غريبة بشعورهن هذه الأيام.»

أجاب بيدلي: «فكرتُ في ذلك، لكن ثمة قرينة واحدة بدا أنها تستبعده. الشعر المصبوغ أو المستعار كما تعلم لا يصمد أمام نظرة متفحِّصة عن قُرب، وبخاصة عند جذوره. لكن السيدة شيلر لم تُمانع الفحص الممعِن على الإطلاق. فعندما أراد بولتون عيِّنة من شعرها، لم تُمانع في ذلك وتركته يقصُّها بنفسه، ففصَل خصلة صغيرة منه وقصَّها بالقرب من الجذور كاشفًا عن فروة الرأس، ويبدو أنه لم يلحَظْ بها أيَّ شيء غير عادي.»

سأله ثورندايك: «هل سبق أن أشرت إلى تلك السِّمة الغريبة أمامها؟»

«كلا؛ ولا أظن أنها كانت تُدركها.»

قلت: «بالمناسبة، لِمَ أراد بولتون الحصولَ على خصلة من شعرها؟»

«كان يصنع قِلادة مطوية للسيد فاندربوي، واتفقوا على وضع خصلة من شعرها في جانبٍ منها لتكونَ مواجهة لصورتها الشخصية في الجانب المقابل.»

«أجل، أذكر القلادة — كانتا في الواقع قِلادتَين — لكنهما كانتا فارغتَين عندما رأيتهما. لم أعرف ما وُضِع بداخلهما.»

سأل ثورندايك: «بالنسبة إلى الصورة الشخصية التي وُضِعت داخل قلادة فاندربوي، هل كانت صورةً مصغَّرة أم صورة فوتوغرافية؟»

«كانت صورة فوتوغرافية، لكن ليست من الواقع. فقد رسمَت هي صورة شخصية لنفسها بالألوان المائية، ثم التقط بولتون صورةً فوتوغرافية مصغَّرة لها.»

«هل كانت الصورة تُشبِهها إلى حدٍّ كبير؟»

ابتسم بيدلي. «لم يكن ثمة أيُّ شبَهٍ بينهما. لم تكن الصورة تُشبه لوتا على الإطلاق، ولا أي كائن بشَري آخر.»

قلت: «لكني أتعجَّب من أن فاندربوي لم يُعارض ذلك؛ إذ كان الشبَهُ هو غايتَه حسَبما فهمت.»

«لقد عارض؛ بل أثار ذلك حنقَه كثيرًا. كان يُريدني أن أرسم صورة شخصية للوتا يلتقط لها بولتون صورة فوتوغرافية مُصَغرة لتُلائم القلادة. لكنها رفضَت ذلك، كما رفضت السماحَ لبولتون بالتقاط صورةٍ فوتوغرافية لها. أصرَّت أن تكون الصورةُ الشخصية من صُنع يدَيها، وأبَت أن تتزحزح عن رأيها. فاضطُرَّ فاندربوي المسكين إلى القبول بلوحتها، لكني لن أنسى قطُّ وجه بولتون حين وقعَت عيناه عليها لأول مرة. ظن أنها دعابة، لكنه أدرك خطأه في الوقت المناسب.»

سألَته مستغربًا بعضَ الشيء من روايته لتلك الواقعة: «لكن كيف كانت تبدو؟»

«كانت رسمًا لرأس امرأةٍ كالتي قد يرسمها طفلٌ في التاسعة أو العاشرة؛ طفل غيرُ بارع، إن فهمت ما أعني، بل مجرد طفل عادي لا يملك أيَّ موهبة فطرية في الرسم.»

قلت: «لكني لا أفهم هذا. ألم تكن فنانة محترفة؟»

«كانت تدَّعي ذلك، لكن بالطبع، أي شخص يمكن أن يدعوَ نفسه فنانًا. لكن الحقيقة هي أنها كانت لا تُجيد الرسم بالرصاص أو بالألوان.»

سأله ثورندايك: «أتعني أن رسمها كان رديئًا، أم أنها حرفيًّا لم تكن تستطيع الرسمَ على الإطلاق؟»

أجابه بيدلي: «كان رسمها كرسم طفل عادي؛ وأنا واثق تمامًا من أنها لم تكن تستطيع الإتيانَ بأي شيء خلافَ ذلك.»

قال ثورندايك: «هذا أمر جدير بالملاحظة بلا ريب، ويُثير بِضعةَ أسئلة. السؤال الأول يخصُّ قُواها العقلية. هل كانت مختلَّة لدرجة تجعلها تعتقد حقًّا أنها تُجيد الرسم؟»

ضحك بيدلي ضحكةً مكتومة. قال: «بلاندي من جديد. هذا ما كان يُريد بلاندي معرفته أيضًا، لكني تملَّصتُ من الإجابة عن أسئلته نوعًا ما. لكني لن أُراوغك؛ فقد فكَّرت في الأمر مليًّا منذ ذلك الحين، وتوصَّلت إلى أنها كانت تنتحلُ تلك الصفة. لم تكن مختلَّة على الإطلاق. لقد كانت شابة فَطِنة ومتَّزنة جدًّا، وأنا واثق من أنها لم تكن تُعاني أيَّ أوهام تجاهَ مهاراتها الفنية. بل كان ذلك تدليسًا متعمدًا منها. أما عن غرَضها من انتحال صفةِ فنانة، فلا أدري ما هو؛ لكن ما أعلمه يقينًا هو أنها فقط استغلَّت صرعة اللوحات الشاذَّة الجارية في الوقت الحاليِّ وبدأت تصنع مثلَها. أي شخص يستطيع ذلك. ما على المرء سوى أن يرسم شيئًا لا صلة له باللوحات التقليدية من قريبٍ أو بعيد، ويترك لمدَّعي الثقافة مهمةَ تفسيره للجمهور. لكنها كانت تعرف عنهم كلَّ شيء، وتعرف جميع مصطلحاتهم عن ظَهرِ قلبها.»

قال ثورندايك: «هذا يُجيب جزئيًّا عن سؤالي التالي، وهو عن كيفية حِفاظها على ذلك الادِّعاء. هل سبق أن عرَضَت أعمالها للبيع؟»

«كلا. تحدثَت عن نيتها إرسالَ بعضِ أعمالها إلى مَعرِض فني، لكنها لم تُرسل أيًّا منها قط.»

«هل كانت تُوقِّع لوحاتِها باسمها؟»

«لم تكن تُوقِّعها قط، بالمعنى الصحيح للكلمة. كانت تستخدم رمزًا؛ عبارةً عن زهرة مبسَّطة الشكلِ من نوعٍ ما على كل جانب من جانبَي ساقها دائرةٌ صغيرة.»

قلتُ معقبًا: «يبدو الأمر كله منطويًا على التواءٍ وسرية.»

وافقني بيدلي قائلًا: «أجل، لقد كانت متكتِّمة في جميع شئونها. كان بولتون هو أولَ مَن لفَت نظري إلى قدرتها على إحاطة شئونها بالسرِّية. لكني لا أفهم لِمَ السرية فيما يخص لوحاتها. يبدو وكأن صفةَ الفنانة كانت حيلةً مؤقتة تنوي الاستغناءَ عنها بعد أن تُؤدِّيَ غرضها، أيًّا ما كان ذلك الغرض.»

قال ثورندايك: «فعلًا، ولكن اللوحة النحاسية التي كانت تضعها على بابها تستبعد فكرة السرية فيما يبدو. لقد كانت بمثابة إعلانٍ عام.»

أجاب بيدلي: «لم تكن ظاهرة جدًّا للعامة. كانت مجردَ لوحة صغيرة، أبعادها حوالي ستِّ بوصات في أربع بوصات، تحمل كنيتها فقط بخطٍّ صغير مطليٍّ بالنُّحاس. لم يكن من السهل قراءتُها من الرصيف، حتى حين كانت لا تزال جديدة، وبعد بِضْعة أسابيع من المواظَبة على تلميعها، تلاشى معظمُ الطِّلاء الداكنِ من الاسم المحفور، وصارت قراءتها شِبهَ مستحيلة. أيُّ عابر غريب لم يكن ليستطيع قراءتها.»

قال ثورندايك: «يبدو أن هذا يَدْحَض اعتراضي. والآن لِنَعُد إلى الوصف. هل تملك صورةً فوتوغرافية لها؟»

أجاب بيدلي: «كلا، ولم أرَ قط أيَّ واحدة لها.»

«هل رسمتَ لها صورة شخصية؟»

«لم أرسم لها صورةً من الواقع. كنت قد فكَّرت في أن أقترح عليها رسم صورة شخصية لها ثم تراجعتُ عن الأمر. لكني رسمت بضعة رسومٍ تجريبية لها من الذاكرة لأرى كيف ستبدو صورتها الشخصية من جانبِ وجهها. إنها في ذلك الدفتر الذي معك. هل تودُّ رؤيتها؟»

أجاب ثورندايك وهو يُناوله الدفتر وينظر إليه بترقب وهو يُقلب صفحاته: «أود ذلك كثيرًا.»

قال بيدلي وهو يُعيد إليه الدفتر: «تلك هي أفضلُها، والرسوم الأخرى مجردُ محاولاتٍ أوَّلية؛ لذا يُمكننا تجاهلُها.»

فحَص ثورندايك الرسم باهتمام بالغ، وكذلك فعَلتُ، وإن كان أكثرُ ما أثار اهتمامي بها هو دقةَ التصوير وجودته. كان المرء ليحسبها رسمًا متقَنًا منقولًا عن صاحبته مباشرة.

قال ثورندايك: «هذا أكثر من مجرد رسمٍ أوَّلي يا سيد بيدلي. إنها تبدو كصورةٍ شخصية فِعلية، لكن بالطبع لا أستطيع أن أحكم على الشبَه. فما قولك في ذلك؟ هل تُشبِهها حقًّا؟»

أجاب بيدلي: «أجل. يُمكنني القول إنها تُشبهها كثيرًا.»

«هل تظن أن أي شخص كان يعرفها سيستطيع تمييزَها؟»

«بالطبع. عندما أنظر إليها الآن، بعد كل ذلك الوقت، تُذكرني بها تمامًا. كما ترى، المرء عندما يرسم من الذاكرة، فإنه يختار فطريًّا السِّماتِ الأكثرَ تميزًا والأسهلَ في تذكُّرها.»

قال ثورندايك: «أجل، أرى ذلك. لكن يبدو أن ذاكرتَكِ استثنائية حقًّا.»

قال بيدلي: «ليست استثنائية. إن ذاكرتي جيدة، وقد حرَصتُ على تدريبها. لكن في الواقع، كل أنواع الرسم منبعُها الذاكرة. فالمرء لا يستطيع أن ينظر إلى صاحب الصورة ويرسمه في الوقت نفسه. عليه أولًا أن ينظر إلى صاحب الصورة بإمعانٍ شديد ويُحاول أن يحفظَ في ذاكرته الجزءَ الذي يرسمه. بعد ذلك يرسمه، كفعلٍ منفصل، ثم يُقارن ما رسَمه مع الواقع ويُصحح الرسم إن اقتضى لذلك. الرسم من الذاكرة لا يختلفُ عن ذلك، غير أن الفاصل الزمنيَّ بين رؤية الشيء ورسمه يكون أطول.»

تأمَّل ثورندايك ذلك وعيناه مثبَّتتان على الصورة الشخصية. وأخيرًا قال:

«إن كانت تلك الصورة تُشبه لوتا إلى درجةٍ تسمح بالتعرُّف عليها، فربما تكون مهمةً نوعًا ما باعتبارها السجلَّ الوحيد المتاح لهيئتها الشخصية. أتساءل إن كنتَ لتسمح بأن يُحضِر بولتون كاميرا إلى هنا ويلتقطَ صورة لها؟»

«بالطبع، بكل سرور. لكن لِمَ كل ذلك العناء؟ من الأفضل أن تضعَ ذلك الدفترَ في جيبك، ثم تُعيده لي بعد أن تنتهيَ منه.»

قال ثورندايك: «هذا كرمٌ بالغ منك يا سيد بيدلي، وسيكون أنسبَ بكثير من اقتراحي بالتأكيد. لم أشَأْ أن أطلب منك استعارته لأني فهمت أن الدفتر يحوي بعض المذكَّرات الشخصية الخاصة.»

رد بيدلي مبتسمًا: «لا داعي لأن تكون دقيقًا إلى تلك الدرجة، فليس لدي أيُّ أسرار، ولو كان لدي أسرار، فلن أكتبها في دفتر ملاحظاتي. كلا يا دكتور، إنني أسمح لك بتصفحِ الدفتر بكلِّ حرية إن كانت الرسومات والملاحظات الموجودة به تُهمُّك في شيء. ربما تودُّ رؤية بصمات الأصابع التي أخذها بولتون من المرأة المسكينة التي قُتِلَت. إنها في موضعٍ ما بالدفتر. هل لي أن أرى إن كان بوُسعي إيجادُها؟»

قال ثورندايك وهو يُناوله الدفتر: «لا أعلم إن كان لها أهميةٌ كبيرة في الوقت الحاليِّ، إلا في الطريقة المرتجلة التي استعملَها بولتون لرفعها.»

أضفتُ قائلًا: «ودافعُه إلى ذلك. لم يكن ذلك إجراءً سليمًا تمامًا، ولم أفهم قط لِمَ أراد التدخل.»

قال بيدلي: «أظن أن دافعه واضحٌ جدًّا. لقد أراد أن يعرف في حينها ما إذا كانت قضيةَ انتحار أم قتل. آها، ها هي البصمات.»

أعاد الدفتر إلى ثورندايك، الذي رغم ما قاله، نظرَ إلى البصمات غير الواضحة بشيء من الاهتمام الذي بدا لا ينفكُّ يتزايد كلما أطالَ النظر؛ إذ ما لبث أن أخرج عدسته المكبِّرة من جيبه وفحصها عن قُرب، وأنهى فحصَه بالنظر إلى البصمات وهو مُمسكٌ بالدفتر وقد مدَّ ذراعه أمامه.

عقَّب قائلًا: «عملٌ جدير بالثناء، بالنظر إلى قلة الموارد المتاحة. ما رأيك بها يا جيرفيز؟»

ناولني الدفتر وعدسته، وفحصتُ البصمات بشيء من الفضول.

قلتُ مؤيِّدًا إياه: «أجل، ليست سيِّئة؛ هي غيرُ واضحةٍ وباهتةٌ نوعًا ما، لكن يُمكن تبيُّن نمطها بوضوح شديد، حتى في الأصابع الثلاثة الأخيرة؛ حيث يبدو أن البصمات لم تنطبع جزئيًّا. سوف أحتفظ بتلك الطريقة في ذاكرتي لاستخدامها في الحالات الطارئة المشابهة. وبالمناسبة، تلك الطريقة ليست بالجديدة علينا، فدفاترُ التوقيع بالبصمات الأصلية كانت تُرفَق بمَحبَرة.»

أعَدتُ إليه الدفتر، وبعد أن أغلقه ودسَّه في جيبه، انتظرتُ في ترقُّبٍ سؤالَه التالي، لكنه لم يأتِ؛ يبدو أن «الاستجواب الرئيسي لشاهد المدعى عليه» قد انتهى.

أقول «يبدو» لأنه مع ثورندايك، لا يُمكن قطُّ الجزمُ بانتهاء الاستجواب فعليًّا. فقد كان لديه أسلوبٌ في توجيه الحوار دون أن يشعر الطرَفُ الآخَر بذلك، وبهذا يسمح للمعلومات التي يبحث عنها بأن تنكشف، كما بدا، على نحوٍ عَفْوي؛ وكان لديَّ شيءٌ يسير من الظن بأنه في الموقف الراهن كان يقود بيدلي برفق في رحلة عبر أروِقة الذاكرة في الاتجاه المراد.

غير أنها بدَت رحلة مدهشة؛ فقد كان سردُ بيدلي لتفاصيلِ علاقته بلوتا شيلر بأسلوبه الطريف الهزلي مسليًا جدًّا، لكنه مع ذلك كان عديمَ الأهمية تمامًا ولم يَبدُ أن له أيُّ تأثير على الإطلاق على قضيتنا. الطريقة التي ابتدأَت معرفتَها به بذريعةٍ مكشوفة، ثم نصَّبته أعزَّ أصدقاءها رغم محاولاته للفَكاك منها كانت مضحِكة نوعًا ما، لكن لم يكن لها أيُّ ارتباط مباشر بأي شيء مما يعنينا. على الأقل كان هذا تقديري للأمر؛ على الرغم أنه في حينها دُحِض تقديري بفضل هذا الاهتمام البالغ الذي أولاه ثورندايك لتلك الذكريات التافهة، والعبارات البسيطة التي كان يستحثُّه بها على الإسهاب.

قال معقِّبًا بضحكة مكتومة متفهِّمة: «يا لها من صورة غريبة! السيدة اللَّعوب والحبيب المُكرَه.»

قال بيدلي معترضًا: «ليس حبيبًا. فلم يكن ثَمة تظاهرٌ حتى بذلك.»

قال ثورندايك محتجًّا: «لكن يبدو أن علاقتكما كانت عاطفيةً ووُدِّية جدًّا.»

قال بيدلي: «من جانبها هي فقط، وكان الأمر كلُّه هُراءً بحتًا. كان مجردَ ادِّعاء، كادِّعائها إجادةَ الرسم. لكنه كان أمرًا غريبًا جدًّا. فلم أفهم قَط ما كانت ترمي إليه من لُعبتِها تلك. كانت تَدْعوني «توم» منذ البداية، وسرعان ما تحوَّل اسمي إلى عزيزي توم أو محبوبي. لكن كل ذلك كان مجردَ كلام شفهي؛ لم يكن ثمة أيُّ إظهار عمَلي للعاطفة. أي شخص يُصغي إلينا من غرفةٍ مجاورة كان ليظنَّنا خطيبَين؛ لكن سلوكنا الفعلي كان خاليًا من العواطف تمامًا.»

«هل تعني أنه لم يكن ثمة أيُّ مداعبات جسدية؟ ألم تُقبِّلك قط مثلًا؟»

«يا إلهي، كلا! لم أكن لأسمحَ لها بذلك. لكنها لم تُقدِم على شيء من هذا القبيلِ قط. كما قلت، لم يتعدَّ الأمرُ الكلام الشفهي. اعتبرتها مجردَ عادة سخيفة في الحديث، بخاصة أنها كانت تستخدم الألفاظَ نفسَها مع آخرين. حتى إنها دعَت بولتون بالبطَّة اللطيفة، وبالنسبة إلى فاندربوي المسكين … لكن وَضْعه كان مختلفًا. لقد أخذ عباراتِ التودُّد على محمل الجد. لكن مع ذلك، لم تصل علاقتهما إلى حد القُبلات. لقد أقسَم في جلسة التحقيق أنه لم يُقبِّلها قط، وراودني شكٌّ في أنه ربما حاول ذلك لكنه لم ينَلْ مأربه.»

علَّق ثورندايك قائلًا: «هذا غريب جدًّا، بخاصة أنه يبدو أن المرأة العصرية لا تستحي كثيرًا من تلك الأمور. هل امتدت عبارات التودد اللفظية إلى المراسلات الخطية؟ كيف كانت تخاطبك في رسائلها إليك؟»

«لم تُراسلني قط، وأنا سعيدٌ أنها لم تفعل؛ فلو كان خطُّها كرسمِها بأيِّ حال، لاقتضى الأمرُ جهدًا لفكِّ شفرته. لكنها لم تُراسلني قط، وأظن أنها لم تُراسل فاندربوي قط كذلك. يبدو كأنها كانت تتجنَّب وضع أيٍّ من هُرائها بالحبر على الورق، مع أنه لم يكن به ما يُدين كثيرًا.»

قال ثورندايك: «ربما لا يُدين، لكنها في النهاية كانت امرأةً متزوجة، والرسائل المثيرة للشبهات عادةً ما تكون خطيرةً إن تصادفَ وجودُ زوج عدواني في الخلفية.»

«لا أظن أن زوجها كان عدوانيًّا. بدا لي أنهما انفصلا باتفاقٍ مشترك، ومضى كلٌّ منهما في طريقه متجاهِلَين أمرَ الزواج. في المرات القليلة التي ذكَرَته فيها، لم تذكره بأيِّ ذرة من العداوة.»

«يبدو أنها لم تكن تميل إلى الحديث عنه كثيرًا.»

«أجل، لقد كان شخصًا مبهَمًا نوعًا ما بالنسبة إليَّ. كل ما عرَفتُه منها أن اسمه كارل، وأنه يعمل تاجرَ نبيذ متنقلًا، وأنه مستقرٌّ في مكانٍ ما بألمانيا نوعًا ما، لكنه يَقْضي معظم وقتِه متجولًا في أرجاء أوروبا، ويَزور هذا البلدَ والولايات المتحدة أحيانًا. هذا كلُّ ما أفصحتُ عنه. بالطبع لم أطرح عليها قط أيَّ أسئلة بشأنه.»

يبدو أن هذا كان آخِرَ ما في جعبة بيدلي من الذكريات؛ إذ انحرف الحوار الآن في اتجاهِ أعماله وأسلوب معيشته؛ وبعد أن أرانا بعضًا من لوحاته وأخذَنا في جولةٍ قادها بنفسه في أرجاء مسكنه، بما فيه حُجيرة النوم الصغيرة اللطيفة التي أنشأها في ركنٍ من أركان المرسَم، شعرنا أننا قد أطَلْنا البقاء.

قال ثورندايك: «إنه لَكرمٌ شديد منك يا سيد بيدلي أن سمحتَ لنا بأن نأخذ من وقتك كلَّ هذا، وأنْ ساعدتَنا بهذا القدر البالغ في تحقيقنا.»

رد بيدلي وهو يُرافقنا عبر الممر الممهَّد: «يسرُّني أن أعرف أنني قد أفَدتُكما. كان يُخيَّل لي أنني لن أستطيع إفادتَكما كثيرًا. لكني استمتعتُ بالأمر. فبالنسبة إلى رجل وحيد مثلي، أجد في حديثٍ طويل وُدِّي وممتع حقًّا كهذا تجديدًا منعشًا.»

بتلك المجاملات المتبادَلة ومصافحةٍ حارَّة غادرنا، ثم عبَرنا طريقَ هامبستيد وانطلقنا في طريقنا إلى منطقة تيمبل عبر الشوارع الخلفية غيرِ المطروقة كثيرًا. ظللنا نسير في صمتٍ لبعض الوقت؛ لكني كالعادة سرعانَ ما جازفتُ بمحاولة حذرةٍ لجسِّ النبض.

«تقدير بيدلي لقيمة الحوار يُشبه تقديري له نوعًا ما، والأرجح أنَّ كلَينا جانَبه الصوابُ؛ لكن بخلاف أوصافِ المرأة والصورة الشخصية (التي لا أرى قيمتها بوضوح)، لا أظن أننا عرَفنا أي شيء ذي قيمة.»

رد ثورندايك قائلًا: «لا بد أن هذا يرجع إلى عدم اتِّضاح إشكاليات تلك القضية في ذهنك.»

«لكني أظنُّها واضحة. الإشكالية ببساطة هي ما إذا كان يُرجَّح أن تكون لوتا ميتة أم لا.»

«هذا صحيح، لكن دَعْنا نَصُغِ الأمر بعبارة أخرى. المرأة إما أنها ميتة وجثَّتها مخبَّأة في مكانٍ مجهول، أو أنها على قيد الحياة ومتواريةٌ عن الأنظار. المسألة تتأرجَح بين احتمالَين؛ جثة مختفية وامرأة حيَّة مختفية.»

«لا بد أن تكون مختبئةً ببراعة شديدة كي تظلَّ بعيدة عن الأنظار على مدى عامَين؛ بخاصَّة في ظل ترصُّد الشرطة لها طوالَ هذا الوقت. ظننتُ أن الأمر مستحيلٌ بالنظر إلى جميع الإمكانات والوسائل الحديثة المتاحة لهم.»

قال: «لكن احتمال بقائها على قيد الحياة هو ما يَعنينا، وقيمة المعلومات التي حصَلنا عليها من بيدلي في صِلَتها بتلك النقطة؛ أوصيك أن تفعل الآتيَ: عندما تعود إلى المنزل، بينما لا يزال الأمرُ حاضرًا في ذاكرتك، أحضِر ورقةً ودوِّن فيها تقريرًا وافيًا لحوارنا مع بيدلي. بعد ذلك اقرَأه واستخلِص منه أيَّ حقائق، سواءٌ ذُكِرت صراحةً أو ضِمنًا، دون اعتبار أهميتها، ودوِّنها في ورقة أخرى. وأخيرًا، فكر في تلك الحقائق منفصلةً ومجتمِعة، في إطار الاحتمالين اللذَين ذكرتهما. أعتقد أنك سترى أن المعلوماتِ اليسيرةَ التي أدلى بها أكثرُ أهمية مما بدَت لك حينها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤