الفصل السابع عشر

ملاحظات في فن التنكر

ربما يكون من المثير للاهتمام، إن سمحَت المساحة المفرَدة، أن أصف بالتفصيل محاكمة كارل شيلر بتهمة قتل زوجته لوتا. لكن المساحة لا تسمح، كما أنه لا داعي لمثل هذا الوصف؛ إذ إن قارئ تلك القصة يعرف بالفعل جميعَ الوقائع التي عُرِضَت في الأدلة ضدَّه. لكن معرفة الوقائع تختلف تمامًا عن فَهم أهميتها الواقعية أو الاستدلالات التي يُمكن استخلاصها منها. لقد كنت مطَّلعًا على جميع الوقائع التي يعرفها ثورندايك؛ لكني لم أرَ الروابط بينها ولم أفهم كيف توصل إلى ذلك الاستنتاج الصادم حتى سمعتُه يُعيد بناء مجرى التحقيق.

سارت المحاكمة حتى نهايتها المحتومة. فقد أصدرَت هيئة المحلَّفين، دون أن يُغادر أعضاؤها منصتهم، حكمًا بالإدانة، ونطَق القاضي بحكم الإعدام، ثم نزل السجينُ درجات سلَّم قفص الاتهام، وتوارى عن أنظار البشر للأبد؛ وبعد أن شهد جمهورُ الحاضرين نزولَ الستار، نهضوا وبدءوا يتدفقون إلى الخارج عبر الأبواب المفتوحة. تبعتُهم فور أن تسنَّى لي ذلك، وما لبثتُ أن صادفت بولتون وبيدلي وفاندربوي، وسط هذا الزحام الشديد، وانضممتُ إليهم في انتظار ثورندايك.

من جانبي، كنتُ أراقب أحداثَ تلك المسرحية المأساوية وهي تتكشَّف، وتُكدِّس الأدلة القاطعة، دون أيِّ ذرة من الشفقة أو وخزِ الضمير، حتى حين اعتمر القاضي القلَنْسُوة السوداء ونطقَ بكلمات الهلاك التي لا رجعة فيها. لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى صديقَينا. فقد استحال عليهما، وهما ينظران إلى ذلك الوحش الشاحب الوجه قابعًا داخل قفص الاتهام، مواجهًا متهِميه مثل وحش مفترس محبوس في قفص، أن ينسَيا أواصر الصداقة بل والود التي ربطَتهما به يومًا. حين نظرت إلى وجهَيهما الممتقِعين القلِقَين، أدركتُ كم كانت هذه محنةً مؤلمة تركَتهما مفجوعَين ومحزونين. وكذلك كان حال ثورندايك، الذي ما إن خرج وانضمَّ إلينا، حتى لاحظ على الفور ما حلَّ بهما من كربٍ وأسًى، وبتعاطُفه ورقَّته المعهودَين، بحث عن وسيلة لصرف ذهنَيهما عن تجرِبتهما المؤلمة الأخيرة.

قال: «أتساءل يا بولتون إن كان العقار رقم فايف إيه بشارع كينجز بينش ووك به ما يكفي من الموارد لتجهيز عَشاءٍ ارتجالي لخمسة أشخاص.»

جاءه الردُّ الواثق بنبرة حماس مقنعة: «موارد العقار رقم ٥ إيه غيرُ محدودة يا سيدي.»

قال ثورندايك: «إذن، يسَعُني أن أطلب من صديقَينا أن يُمتِعانا برفقتهما هذا المساء.»

نظر متسائلًا إلى بيدلي وفاندربوي اللذَين قَبِلا الدعوةَ بسرعة تكاد تبعث على الشفقة؛ فاستأذن بولتون في المغادرة وانطلق مسرعًا كمُشعِل قناديل، ولما كان الوقت لا يزال مبكرًا على موعد العَشاء المعتاد، سِرنا على مهل عبر شارع أولد بايلي حتى طريق لودجيت هيل؛ بحثًا عن مكان نحتسي فيه الشايَ الذي كنا بحاجةٍ ماسَّة إليه. بعد أن فرَغنا من ذلك، وبعد حوارٍ بذلتُ أنا وثورندايك قُصارى جهدَينا لإضفاء المرح عليه بقدر ما سمحَت الظروف، انطلقنا بخُطًى متمهِّلة نحو حي تيمبل سالكين طريقَ الكورنيش.

جاءت النتيجة مبرَّرة لتقدير بولتون لموارد العقار رقم ٥ إيه بشارع كينجز بينش ووك، برغم شكوكي في أنه قد استعان بمطعم «راينبو» أو بحانة أخرى ممتازة بشارع فليت. لكن على أي حال، كان العشاء الذي جلسنا إليه في الموعد المناسب مشرفًا لمؤسَّستنا، وأكمله، إن جاز التعبير، منتجاتُ قبو الخمور الخاص بنا، الذي أغارَ عليه بولتون لهدفٍ ما (مع أن موقعه على الطاولة كان يُميزه في خزى زجاجة من عصير الليمون). كان مَن يقوم على خدمتنا دون أن يُثير ضجة هو ويليام، بديل بولتون في الأعمال المنزلية، يُعاونه غريبٌ غامض له هيئةُ نادل، كان يحوم في الخلفية ويتعامل بخفةِ يدٍ بارعة غريبة مع الصحون والأغطية، لكنه لم يتدخَّل في عمل ويليام قط.

عادةً لا تكون الأطوار الافتتاحية لعَشاء جيد «حينما تكون الأفواهُ منشغلة بالمضغ» ملائمةً لإجراء حوار متَّصل. لذا ظلَّت فحوى الحديث الدائرِ بيننا، لمُدة من الوقت، سفاسِف مرحة في أغلبه. لكن تلك المسرحية المأساوية التي كنا نشهد أحداثها حتى نهايتها المفجِعة قبل بضع سُويعات، كانت قابعةً في باطن عقولنا، وكان لزامًا أن تطفوَ على السطح عاجلًا أم آجلًا. لكن ذلك الموضوع، الذي كان لا يزال محظورًا، لم يُفتَح حتى هدأَت وتيرةُ المضغ وقُدِّم النبيذ، وحتى حين طُرِق لم يُطرَق إلا على نحوٍ غير مباشر.

قال ثورندايك: «قبل أن أنسى، اسمحوا لي أن أردَّ ما استعرتُه.» ووضع يده في جيبه وأخرج دفتر ملاحظات بيدلي وقِلادة فاندربوي، ثم أضاف قائلًا وهو يدفعهما عبر الطاولة ناحيةَ مالكيهما:

«لا داعي إلى أن أُخبركما كم أَدينُ لكما لإعارتي هذَين الغرضَين والسماح لي باستخدامهما. لقد سمعتما الأدلةَ وتعرفان أن إسهامَهما في كشف ذلك الغموض لا يُقدَّر بثمن.»

أخذ بيدلي الدفتر ودسَّه في جيبه دونما تعقيب؛ لكن فاندربوي تردد، ونظر إلى الحِلْية الصغيرة وهي ترقد على المائدة بنفور شديد. لكنه في النهاية التقطها وألقى بها في جيبه بإيماءة اشمئزاز.

قال ثورندايك: «أمَّا ما هو مِلكك يا بولتون، فهو كما ترى على رف المدفأة، وهو الآن تحت تصرفك، مع جزيل شكري لك أن أعرتَني إياه.»

رد بولتون: «عفوًا يا سيدي، لكني أظن أن استعارتك للَّوحة أفادتني أكثرَ مما أفادَتْك. فقد أضْفَت عليها أهميةً جديدة بالنسبة إليَّ، بينما لا أرى أنها أفادَتك كثيرًا سوى فيما يخصُّ لون ثوب السيدة.»

قال ثورندايك: «أعتقد أنك حين تسمع القصة كاملة، كما سيحدث يومًا ما، ستجد أن الدور الذي لعبَته اللوحة في التحقيق أهمُّ مما تظن.»

قلت: «إن صح ذلك، فثمَّة نقطة واحدة على الأقل فاتتني؛ إذ كنتُ أشارك بولتون الظنَّ نفسَه؛ في الواقع، لقد تساءلت قليلًا عن سبب عَرضِك للَّوحة في المحكمة من الأساس.»

رد قائلًا: «الغرض الأساسي من عرضها كان مساعدةَ الشهود على تذكُّر الثوب. الصور الفوتوغرافية لم تُساعد على ذلك؛ لكن الثوب كان له أهمية بالغة في التثبُّت من التواريخ. ثَمة غرضٌ آخَر وهو التأكد من أن هيئة المرأة في الصورة يمكن التعرفُ عليها باعتبارها تُشبه لوتا شيلر.»

«أجل، لكن يبدو أنك تُلمِّح إلى دور آخَر لعبَته اللوحة، وتُلمِّح أيضًا إلى مناسبة مستقبَلية ما سنسمع فيها القصة الكاملة للتحقيق. لكن لم ننتظر مناسبة مستقبَلية؟ فنحن جميعًا هنا، وأظن أننا مهتمُّون بالقضية بالدرجة نفسِها. عن نفسي، ما زلت أجِدُني متحيرًا. لقد استمعت إلى الأدلة كلِّها ووجدتُها قاطعة تمامًا؛ لكن ما لا أستطيع فَهْمَه هو كيف استطعت بِناء منظومة الأدلة تلك مِن العدم. من أين كانت البداية؟ ما أول شيء وضَعك على الطريق الصحيح؟ بدا لي أنْ قد خُضت في القضية منذ اللحظة التي عرَضها عليك بينفيلد، وكأنما كان لديك بالفعل نظرية مدروسة في ذهنك.»

رد قائلًا: «وهذا ما حدث بالفعل. حين أخبرنا بينفيلد بشأن الطلب المرتقَب، لم يكن يفتح موضوعًا جديدًا بالنسبة إليَّ، بل فقط يبتدئ مرحلة جديدة من مسألةٍ سبق أن أوليتها تفكيرًا ممعِنًا بالفعل. أما قصة التحقيق، فهي قصة طويلة نوعًا ما، وإن كنتم جميعًا تودُّون حقًّا سماعها، فمن الأفضل أن تُقرِّبوا مقاعدكم من المدفأة وتتهيَّئوا لسماعها في استجمام.»

كانت رغبتنا في سماع القصة أكيدة. فبولتون كان «يتحرَّق» فضولًا، وكان ضيفانا، كلٌّ منهما على طريقته، متشوِّقين لمعرفة كيف انحَّلت كتلة الخيوط المعقَّدة. وهكذا قرَّبنا مقاعدَنا ذات الذراعَين إلى المدفأة، ووضع بولتون بجوارها الطاولاتِ الصغيرةَ على نحوٍ ملائم تَعْلوها القواريرُ وعلبُ السيجار، بينما أزاح ويليام والنادلُ الغريب — الذي كان الآن قد خرج إلى العلن — بخِفَّة عن المائدة حمَلها الذي لم يَعُد ضروريًّا. ثم بعدما غادر العاملان أخيرًا، بدأ ثورندايك يروي قصته.

«ثَمة تمهيدٌ ضروري لرواية أحداث التحقيق الفعلية؛ أقول ضروري لأنه يُفسر كيف تسلَّل الشك إلى ذهني للمرة الأولى في ظلِّ غياب أيِّ احتمالات أكيدة خارجية. يعرف جيرفيز، كوني قد أخبرته بذلك كثيرًا، أنه في بدايات عملي حين كان العملُ شحيحًا أو معدومًا، كنت أشغَلُ نفسي بدراسة قضايا افتراضية. كنت أفكر كيف يُمكن التخطيط لجريمةٍ معينة وتنفيذها بأكبرِ قدر ممكن من الحصانة ضدَّ اكتشاف أمرها، وبعد أن أنتهي من وضعِ جميع الأساسيات، أطبِّقها ببناء جريمةٍ تخيُّلية بالتفصيل. بعد ذلك كنتُ أدرس تلك الجريمة لأكتشفَ نقاط الضعف فيها والدلالات التي يُمكن كشفُها من خلالها على أرض الواقع. كانت تلك الطريقة مفيدةً بحق؛ إذ إن دراسة جريمة افتراضية بأسلوب منهجي يمنح المرءَ خبرةً لا تقل فعليًّا عن تلك المكتسبة من دراسة قضية حقيقية.

الجريمة الأهم من وجهة نظر الطبِّ الشرعي هي جريمة القتل المخطَّط لها بتروٍّ. لهذا أوليتُ هذا النوعَ من الجرائم عنايةً خاصة، وبعد أن اختبرتُ عدة طرق مختلفة، قررتُ أن الطريقة المثلى لتأمينها من الاكتشاف هي طريقة الشخصية الخياليَّة. بدا لي أن تلك الطريقة، إن خُطِّط لها ببراعة ونُفِّذَت بكفاءة، ستكون شبهَ عصيَّة على الاكتشاف.»

قال فاندربوي: «لست واثقًا من أني أفهم ما تعنيه بخلقِ شخصية خيالية.»

«حسنًا، لنأخذ قضيةً خيالية مثالًا. سنفترض أن رجلًا، سنُسميه جون دو، لديه سببٌ ما يدعوه إلى الرغبة في التخلُّص من شخص معين. هذا الشخص ربما يكون زوجة غيرَ مرغوبة. ربما يريد جون دو الزواجَ من امرأة أخرى؛ أو ربما يكون مطارَدًا من شخص يبتزُّه. أيًّا كان السبب، فهو سببٌ دائم. فالشخص الذي يرغب في التخلص منه يُمثِّل عقَبة دائمة في طريق سعادته أو يُهدد أمنه. والآن لنفترض أنه سيعتمد طريقتي؛ لنتتبع خطواته.

سيبدأ بأن يتنكَّر في شكل يُغير من مظهره لدرجةٍ تجعل من العسير على أي شخص يعرفه أن يتعرف عليه، ويمنحه سماتٍ معينة جديدة ويسهل التعرف عليها.»

قلت معقبًا: «هذا لن يكون سهلًا كثيرًا.»

وافقني ثورندايك قائلًا: «لن يكون كذلك، لكننا سننظر في تلك المسألة على نحوٍ منفصل. لنفترض أن جون دو تنكَّر في هيئة شخص آخرَ واتخذ لنفسه اسمًا جديدًا. لنقل إن ذلك الاسم هو ريتشارد رو. وتحت ذلك الاسم، يتخذ لنفسِه مسكنًا في حيٍّ لا يعرفُه فيه أحد، وينتحل شخصيةً تجعله لا يُوطِّد علاقاته إلا مع عددٍ محدود من الأشخاص. وربما يفتتح متجرًا أو مكتبًا أو يمتهنُ حِرفةً ما، وهكذا يذيع صيتُه بين سكان الحي، وتتوطد معرفته بقلةٍ منهم أكثر؛ وسيستمرُّ على ذلك النحو لبضعةِ شهور، على الأقل، حتى يصير شخصية معروفة في المكان.

ثم يشرعُ في ارتكاب جريمته، في الزمان والمكان اللذَين يتخيَّرهما. فهو ليس في عجَلة من أمره. ولديه متسَع من الوقت كي يُجري ترتيباته على مهل. فليس لديه ما يدعوه إلى أن يتخذ أيَّ تدابير لإخفاء هُوية المجرم. بل على النقيض؛ كلما توثَّق ارتباطُ الجريمة بريتشارد رو، صار هو في مأمنٍ تام. كل ما يلزم هو أن يتفادى وجود أيِّ شهود فعليِّين على الجريمة، أو أي داعٍ إلى الإسراع بالهرب. على الأرجح ستكون الطريقة المُثلى هي أن يستدرج ضحيته إلى مسكنه، وبعد أن يرتكب جريمة القتل، يحبس الجثة داخل هذا المسكن ويُغادر في هدوء.

كما ترون هو لا يزال غيرَ متعجِّل ولا يوجد أيُّ خطر يحيق به. ببساطة يخلع تنكُّره فلا يصير له حينها أيُّ صلة بجريمة القتل. تمر بضعة أيام أو ربما أسابيع قبل اكتشاف الجثة؛ في تلك الأثناء بوُسعه أن يُسافر خارج البلاد أو إلى مكانٍ بعيد، ويُراسل أصدقاءه يصف لهم أسفاره، وفي الوقت المناسب، بعد مرور فترة زمنية آمنة، يعود إلى محلِّ إقامته الدائم وإلى دائرة معارفه القديمة.

في تلك الأثناء تكون الجثةُ قد اكتُشِفَت، وتبذل الشرطةُ أقصى ما بوُسعها في مطاردة القاتل، ريتشارد رو. فلديها وصفٌ دقيق ومفصَّل له، يشهد عليه عددٌ من شهود العيان الثِّقات الذين يعرفونه عن قرب، وبإمكانهم التعرفُ عليه إن عُثِر عليه. لكن لا يُعثَر عليه أبدًا؛ ففي اللحظة التي خلع فيها جون دو تنكُّره، لم يعد لريتشارد رو أيُّ وجود. في الواقع، الشرطة تبحث عن شخص خيالي تمامًا.»

قلت: «أجل، تبدو خُطة مثالية تمامًا بالتأكيد. لكني أرى أن بها عقبةً واحدة. ثَمة صلةٌ ما تربط بين جون دو والضحية، وربما يُلاحَظ أنه مستفيدٌ للغاية من الجريمة. على سبيل المثال، ربما كان الشخصُ المقتول زوجتَه التي لا يرغب فيها، والتي من المعروف أنه على خلاف معها.»

رد ثورندايك قائلًا: «لا أظن أن ذلك يُهِم كثيرًا. فكما ترى، هوية القاتل لا غبار عليها. فهو شخصٌ معلوم — ريتشارد رو — وبالتبعية لا يُمكن أن يطولَ الاشتباهُ أيَّ شخص آخر. ومع ذلك، فالأمر جديرٌ بالملاحظة. سيَزيد من أمانِ القاتل بلا شك إخفاءُ هُوية الجثة أو جعلُ التعرُّف عليها مستحيلًا. سنضع ذلك في الحسبان. والآن لننظر في مسألة التنكُّر، دون أن ننسى أن التبرج المسرحي وحده سيكون عديمَ النفع، وأن ذلك التنكُّر لا بد أن يصمد بالخارج تحت ضوء النهار، وأنه سيُستخدَم على نحو دائم لمدةٍ زمنية طويلة.

إنَّ تغيير هيئة رجل تمامًا لدرجة تجعل أصدقاءه ومعارفه لا يتعرفون عليه ليس بالأمر اليسير. لكنه ممكن. فيما مضى، كان هناك صانعُ شعور مستعارة في شارع راسل، بمقاطعة كوفينت جاردن، امتهن فنَّ التنكُّر، واستطاع تحقيق نتائج مفاجئة للغاية في تبديل الشكل. لكن أساليبه كانت معقَّدةً نوعًا ما، والنتائج لم تكن مريحة تمامًا لأصحابها، وفي الحالات المستديمة، كان عملاؤه يُضطَرون إلى زيارته يوميًّا لتجديد تبرجهم. لن يكون ذلك مفيدًا في تنكرٍ طويل الأمد، وقطعًا لن يُفيد قاتلًا مرتقَبًا. سيكون عليه أن يصنع تبرُّجَه بنفسه، وسيتحتم أن يكون ذلك التبرج مريحًا لدرجة معقولة.

لكن لا داعي لأن نُطيل التفكيرَ في صعوبات التنكر في هيئة رجل؛ إذ ثَمة نوع آخرُ من التنكر أسهلُ نسبيًّا وأكثرُ إقناعًا إلى حد بالغ؛ ألا وهو تغيير الجنس. حين يكون ذلك ممكنًا، يكون فعالًا تمامًا؛ إذ من شأنه إحداثُ تغيُّر ملحوظ في الشكل باستخدام وسائلِ تنكُّر فعلية قليلة جدًّا. كما أنه يجعل تغيير الشكل أقلَّ أهمية؛ إذ إن تغيير الجنس يخلق شخصية جديدة. إن جون دو امرأة في نظر معارفه الجدُد، وإن قابله أحدٌ منهم لاحقًا، فسيمرُّ الشبهُ بينه وبين تلك المرأة مرورَ الكرام.

فضلًا عن ذلك، فإن الصرعات الحاليَّة تُلائم مثل ذلك الانتحال. فالنساء يُصفِّفن شعورهن بطرقٍ شتى، بدءًا من قصه ليصيرَ قصيرًا جدًّا، وحتى تركه ينمو ككتلة من الوبر؛ ولا يُموِّجنَه أو يعقصنه بطرق صناعية فحسب، بل يصبغنه ويقصرن لونه، ويفعلن ذلك علانيةً دون أن تلتفتَ إليهن الانظار. هناك أيضًا التبرج المبالغ فيه، وهي صرعة منتشِرة ومعتدٌّ بها؛ الشفتان المطليَّتان بأحمر الشفاه، والوجنتان المخضَّبتان والمغطَّاتان بالمساحيق، والرموش المزيفة والحاجبان المحددان بقلم الحواجب. كل ذلك يُغير الشكل على نحوٍ جوهري، وبالحيلة يمكن أن يُغيره تمامًا. فبمجرد أن يرتديَ رجلٌ زي امرأة ويتخذَ تصفيفةَ شعر نسائية، مع بعضٍ من أحمر الشفاه وقلم تحديد الحاجبَين، سيكون متنكرًا بدرجة كبيرة في الحال؛ وربما يكون ذلك كفيلًا بأن يجعله يمرُّ على مَن يعرفونه معرفة طفيفة دون أن يعرفوه؛ وإن كان له لحيةٌ أو شارب فيما سبق، فسيتبدل مظهره تمامًا. حتى أصدقاؤه المقربون لن يعرفوه.

لكن تلك الطريقة تخضع لقيودٍ صارمة للغاية. فسيتعذر تطبيقها على أنواع معينة من الرجال. فلن تكون مناسبةً بالمرة لرجلٍ طويل القامة. فامرأة طولها ستة أقدام ستكون لافتةً للنظر نوعًا ما؛ ولفتُ الأنظار هو ما سيحتاج رجل متنكر في هيئة امرأة إلى أن يتجنَّبه. أيضًا تكاد تستحيل على رجل أسمرِ البشَرة والشعر؛ إذ لن يُخلصه أيُّ قدرٍ من الحلاقة من اللحية الداكنة، ولن تُفلح مساحيقُ التجميل أو التلوين في إخفائها. وكذلك ستكون مستحيلة على رجلٍ له صوتٌ جَهْوريٌّ خشن. فمن العسير تغييرُ الصوت لدرجة محسوسة، وأي اشتباه في تصنُّع الصوت سيَلفِت الانتباه. وثمة سماتٌ خاصة أخرى كالأنف الضخم أو غزارة شعر الصدر أو الأطراف، ستُمثل صعوبات.

والآن لنرَ أي نوع من الرجال سيكون ملائمًا حقًّا، متذكِّرين أن الهدف هو خلقُ امرأة من النوع العادي ذات مظهر غير لافتٍ للانتباه. سيكون نقيضًا لتلك الأنواع التي استبعدناها؛ أي إنه سيكون رجلًا ضئيل الجسد، نحيلًا، أشقرَ له ملامحُ دقيقة نوعًا ما، وصوت رقيق، وليس لديه شعرٌ غزير على صدره أو أطرافه. رجل بتلك الصفات إنْ حلقَ لحيته مرتين يوميًّا واستخدم مساحيقَ التجميل بحِكْمة، فربما يبدو كامرأةٍ ذات مظهر عادي للغاية؛ شريطةَ أن يترك شعره ينمو بالقدر الكافي لكي يتخذ شكلًا نسائيًّا ما، قبل أن يظهر بشخصيته الجديدة. وبالضد، إنْ شك أحدٌ في أن امرأةً ما هي رجل متنكِّر، فبإمكانه أن يفترض أن الرجل الذي يبحث عنه هو من ذلك النوع، ومثلُ هذا الشك قد ينشأ على نحو منطقي إن اختفَت امرأةٌ إلى الأبد بعد ارتكابها جريمة مباشرة.»

قلت: «كنتُ أظن أن الصوت كان ليُشكل صعوبة.»

رد قائلًا: «أظن أنك تُبالغ في تقدير تلك الصعوبة. فثمَّة أصوات تكون ذكورية أو أنثوية بوضوحٍ تام؛ لكن ثمة أصواتٌ كثيرة أخرى — أعتقد أن عددها أكبرُ مما نتصوَّر — ليست مميزةَ الجنس على الإطلاق. فلا يوجد اختلافٌ كبير للغاية بين صوت أنثويٍّ عميق، بخاصة إن كانت نبرةُ الصوت الخفيضة هي المستخدَمة في العادة، وصوتٍ رجالي رقيق. فعند سماع صوتٍ كهذا آتٍ من غرفة أخرى، غالبًا ما يصعب الجزمُ إن كان صاحبه رجلًا أم امرأة. الحقيقة أن أفكارنا مبنيَّة على القوالب المتطرفة أو النموذجية.

الآن لنعُدْ إلى نقاشنا. نحن لم ننظر إلا في التنكُّر الماديِّ فحسب؛ أي تغيير المظهر الخارجي. لكن يوجد أيضًا ما قد نُطلق عليه التنكُّر النفسي؛ وهو اتخاذ عادات وأنماط سُلوكية نسائية، وخلق ظروفٍ تدلُّ على شخصية أنثوية. تلك الأمور من شأنها أن تُؤدي مهمتَها بالإيحاء، وتترك لدى الرائي قناعةً راسخة بجنس المنتحِل، وهذه القناعة تكون أقوى لأنها تحدث لا شعوريًّا. لكن الأكثر إقناعًا مما سِواه هو إقامة علاقة غرامية مع رجل، ويُفضَّل أن تكون علاقة فاضحة بعضَ الشيء وتُثير الأقاويل. فالتأثير الإيحائي لهذا سيكون شديدًا. فسيكون من شأنه أن يقطع الطريق تمامًا أمام أيِّ تساؤل محتمَل عن جنس المنتحِل.

بالمناسبة، بإمكاننا أن نُشير إلى أنه سيكون من الحكمة أن يحدَّ ذلك الأخيرُ تعاملاته مع النساء قدر الإمكان؛ فالنساء لديهنَّ دراية عميقة بأساليب بنات جنسِهن، وربما يُلاحِظْن تباينًا ما في عادةٍ أو سلوك قد يقع فيه رجلٌ بسبب جهله بتلك الأمور.

والآن بعد أن بحثنا طريقة «الشخصية الخيالية» نظريًّا، صار بإمكاننا أن نبدأ في تطبيقها عمليًّا على قضية الموقر شيلر.»

سكَت ثورندايك كي يُولي ضيوفَه بعض لفتات الاهتمام البسيطة. ثم بعد أن أعَدْنا ملء الكئوس والغلايين، وبعد أن أنعش بولتون نفسَه بذرَّة من النشوق، شرع في سرد روايته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤