الفصل الثامن عشر

مراجعة التحقيق

بدأ ثورندايك روايته قائلًا: «سيكون من التناقض أن أقول إن حلَّ المكيدة المعقَّدة لمقتل لوتا شيلر بدأ قبل ارتكاب الجريمة؛ لكن الحقيقة هي أنه كلَّما تنامى إلى علمي أحد التطورات الأخيرة، كان يجد لديَّ مجموعة من البيانات المعتبرة ذات علاقة بحلِّ المسألة المطروحة. في البداية، لم يكن هذا التحقيقُ غيرَ منهجي. فحتى عرض عليَّ بينفيلد قضيته، كنتُ مجردَ مُشاهِد، أراقب بأكثرَ من مجردِ اهتمام أكاديمي تَكشُّفَ سلسلة من الأحداث لا تعنيني شخصيًّا. من ثَم، حين أثِيرتْ مسألةُ افتراض الوفاة، لم أحتج إلى أن أبتدئَ تحقيقًا من الصفر، كل ما كنت أحتاج إليه هو اختبار الاستنتاجات التي كنتُ قد كوَّنتها بالفعل والتحققُ منها.

بالنسبة إليَّ، كانت نقطة البداية هي مقتل تشارلز مونتاجو. المثير للاهتمام في تلك الجريمة من منظور الطبِّ الشرعي هي الطريقة غير التقليدية التي لجأ إليها القاتل؛ إعطاء المقتول السمَّ عنوة. لكن كان ثَمة عناصرُ أخرى مثيرةٌ للاهتمام، وبفضل حماس بولتون، ظللنا على اطِّلاع تامٍّ بجميع ما يُنشَر من وثائقَ وبيانات بشأن تلك القضية. كنا نعرف التفاصيل المريعة للجريمة والفنان الغامض الذي وقع تحت طائلة الاشتباه في بادئ الأمر، وتقريرًا كاملًا عن وقائع جلسة التحقيق؛ لكن الأهم من كل ذلك، كان لدينا لوحة بيدلي الصغيرة المميزة التي رسمها لغابة جريفل-بيت.

كان لتلك اللوحة وقْعٌ قوي عليَّ. ها هي تستقر على رف المدفأة، وإن أمعنتم النظر فيها، أعتقد أنكم ستُدرِكون تأثيرها عليَّ. إنها تُصوِّر هيئات ثلاثة أشخاص؛ الأول، وهو الرجل الطويل، تعرَّف عليه بلاندي بأنه تشارلز مونتاجو؛ وهنا نراه يسير إلى حتفِه. الرجل القصير هو حتمًا القاتل، وبوُسعنا أن نراه هنا يقود ضحيته إلى المكان المحدَّد. لكن الهيئة التي كان لها الوقع الأكبر في نظري كانت هيئة المرأة. مَن كانت، وما سبب وجودها هناك؟ من الواضح أنها كانت تتنصَّت على الرجلين، وتُحاول سماع ما يقولانه فيما يبدو. كان الاحتمال القوي هي أنها على صلةٍ بأحدهما؛ ولَمَّا لم تَمثُل للإدلاء بأيِّ معلومات، كان الاستنتاج الطبيعي أنها على صلةٍ أو علاقة ما بالرجل القصير. فلو كانت على صلة بمونتاجو، لكانت وشَت بالقاتل بلا ريب.

لكن فوق كلِّ ذلك، ما وقع في نفسي هو الوضع المريع التي وضعت تلك المرأةُ التعيسة الحظِّ نفسَها فيه؛ المأزق المخيف الذي وقعَت به. فقد كانت حياتها معلَّقة بخيط؛ خيط صمتها. حتى لو لم تكن قد شهدت جريمة القتل فعليًّا، فهي تعرف قطعًا مَن يكون القاتل. كلمة منها كانت كفيلةً بلفِّ حبل المشنقة حول عنقه؛ وهي الوحيدة في العالم مَن يملك تلك المعلومةَ الخطيرة. كان موقفها مريعًا. فالرجل ارتكب جريمته ثم اختفى دون يترك وراءه أيَّ أثر. لا بد أنه كان يعتقد أنه بمأمنٍ تام؛ لكن في الواقع، كانت حياتُه في يدَي هذه المرأة. إن تسرَّب طرَفٌ من الحقيقة، فستُصبح في عداد الموتى. الوحشية الضارية لتلك الجريمة جعلَت ذلك أكيدًا لا محالة.

لا بد أن أُقِرَّ بأن التفكير في الأخطار التي كانت تحيق بتلك المرأة التعيسة الحظِّ أثار لديَّ قدرًا كبيرًا من القلق، كان يتجدد من حينٍ لآخرَ كلما كنتُ أرى تلك اللوحة معلَّقة في غرفة بولتون، وكان يُلازمني تَرقبٌ مقلق لسماع نبأ مقتل امرأة عاجلًا أو آجلًا، وتتحقَّق هواجسي. لكن مرت الشهور، وبدأت آمُل في أن المرأة كان لديها من الحكمة ما جعلها تحتفظ بالسر، وأن يكون الخطر قد ولَّى.

ثم أخيرًا، جاءت جريمة مقتل إيما روبي، وعلى الفور أُثيرت شكوكي. كانت جريمةً مسرحية غيرَ مألوفة لها العديدُ من السِّمات الغريبة؛ لكنَّ السِّمة التي جذبَت انتباهي على الفور كانت الطريقةَ التي لجأ إليها القاتل؛ وهي إعطاؤها السمَّ عنوة. فتلك لم تكن فحسب الطريقةَ نفسَها التي استعملها قاتلُ مونتاجو؛ بل كان السمَّ المستخدَم هو نفسَه أيضًا.

حين نضع في الاعتبار الآن ميلَ المجرمين المتأصِّلَ إلى تَكرار أساليبهم، يتبينُ لنا أن هذا التشابه في الأسلوب يُشير على الأقل إلى احتمال أن يكون قاتل إيما روبي هو نفسه قاتل تشارلز مونتاجو؛ وإن قَبِلنا ذلك الاحتمال، فإنه يضعُنا أمام احتمالٍ آخر وهو أن إيما روبي المسكينةَ ربما كانت هي المرأةَ الموجودة في تلك اللوحة. بالطبع لم يكن ثَمة دليل على ذلك؛ كل ما يمكن قولُه هو أنهما كانتا تتشابهان كثيرًا في الجانب الوحيد الذي يمكن المقارنةُ بينهما فيه، وهو لون الشعر الذي كان متشابهًا إلى حدٍّ بعيد، حتى إن المرء كان ليحسبهما الشخصَ نفسه. اضطُرِرت إلى أن أدعَ الأمر عند تلك النقطةِ حينها. انتظرتُ آمِلًا أن تُكتشَف هُوية إيما روبي، على افتراضِ أنه حين يحدث ذلك، فإنه سيضعُنا على أرض الواقع. لكن هُويتها لم تُعرَف قط، وبعد فترةٍ من الزمن قررت، وكذلك فعلَت الشرطة حسَبما أظن، أن إيما روبي كان اسمًا مستعارًا وأن النقش على ملابسها كان مدسوسًا عن عمدٍ بغرض تعقيد الأمور. لكن هُويتها الحقيقية ظلَّت لغزًا.

والآن نأتي إلى سمةٍ مميزة أخرى لهذه الجريمة الغريبة. وأعني هنا غياب أيِّ محاولة حقيقية لإخفاء هُوية مرتكبها.»

قلتُ مذكرًا إياه: «أنَسيتَ الباب الموصَد والإيعاز المُحكَم بفكرة الانتحار؟»

أجاب قائلًا: «كلا، لكني لا أعتبرهما محاولةً جدِّية. فالشرطة لم تُسلم بفكرة الانتحار ولو للحظةٍ واحدة، وأنا كذلك. فالملابسات كلُّها كانت تصرخ: «جريمة قتل». ويبدو كذلك أن القاتلة لم تتوقع أن تلك التمثيلية ستكون مقنِعة، وإلا لتظاهرَت باكتشاف الجثة واستدعَت الشرطة بنفسِها. لكنها لم تكن لتُقدِمَ على تلك المخاطرة، بل سلكت النهجَ الأكثر حِكمة وهو الفرار من العدالة، وبذلك تخلت صراحةً عن تمثيلية الانتحار.»

قلت معترضًا: «لكن، لِمَ دبَّرت تلك التمثيلية من الأساس؟»

أجابني قائلًا: «يبدو لي أنه كان ثَمة غرضان منها. الأول أنها كانت «محاولة»؛ رِهان على الفرصة الضئيلة لقَبول ادِّعاء الانتحار. نظرة المجرمة إلى تلك الفرصة يُمكن الحكم عليها من حقيقة أنها لم تمكث حتى تتأكَّد من نجاحها أو عدمه. بل آثرَت إثبات الجُرم على نفسِها بالهرب. أما الدافع الآخر، فسنتطرق إليه بعد قليل.

عودةً إلى الجريمة؛ أُكرر أنه بخلاف تمثيلية الانتحار، لم تُبذَل أي محاولة لإخفاء هوية القاتلة. فالجثة وُجِدَت داخل غرفة لوتا شيلر، التي أُوصِد بابها بمِفتاح لوتا شيلر، أما لوتا نفسُها فلا أثر لها في أي مكان. وفور أن تقرَّر أنها جريمةُ قتل، كانت لوتا هي القاتلةَ البديهية المحتملة. فهي وحدها مَن كانت تستطيع الولوج إلى الغرفة السكنية، ولم تطل أيُّ شكوك أحدًا سِواها. كل ما تبقى للشرطة أن تفعله هو اعتقالها وتقديمها للمحاكمة.

لكن لوتا اختفت، ورغم البحث المكثَّف والنشِط للشرطة عنها، فشلت في العثور على أيِّ أثر لها. والآن، كما أشار جيرفيز منذ قليل، ليس من اليسير جدًّا، في ظل انتشار الهواتف وأجهزة المذياع، وفي ظل وجود مؤسسة شرطية محكَمة للغاية، أن يختفيَ شخصٌ معروف دون أن يترك أيَّ أثر؛ لا سيما إن كان شخصًا لافتًا للانتباه نوعًا ما، مثل لوتا شيلر. ومع ذلك، لم يُعثَر على أي أثر لها حتى لحظةِ العثور على حقيبة اليد في غابة إيبنج.

أنا أميل إلى اعتبار دسِّ تلك الآثار في الغابة خَطأً تكتيكيًّا. فالشرطة لم تنخدع بها قط، مع أن بلاندي أجرى بحنكة شديدة بحثًا مستفيضًا للغاية كي يحسم تلك المسألةَ نهائيًّا. بالطبع أدى عدمُ وجود جثة إلى إفشال تلك الخطة. لو أنَّ جريمة قتلٍ قد وقعَت، لكان لِزامًا العثورُ على جثةٍ داخل المعسكر، ولما عُثِر على تلك الأدلة المختارة بعناية؛ والآثار الظاهرة كان مِن الممكن لشخص واحد أن يصنعها باستخدام حذاءين مختلفَين بسهولة شديدة. كان وقعُها الوحيد على الشرطة هو ترسيخَ قناعتهم بأن لوتا مذنِبة، وحثهم على بذل المزيد من الجهود للعثور عليها.

لكن كما تعرفون، باءت مَساعيهم بالفشل الذريع، مع أن البحث لم يتوقَّف كليًّا قطُّ في العامَين التالِيَين؛ إذ إن شرطة سكوتلاند يارد تملك ذاكرةً طويلةَ الأمد ولا تستسلم للهزيمة بسهولة. ومع ذلك، وبرغم كل هذا البحث طويل الأمد، لم يظهر أدنى أثرٍ للوتا شيلر.

هذا كل ما يخصُّ الجريمة نفسَها. الآن لنرَ كيف بدَت تلك التطورات لمشاهدٍ محنَّك ولديه اهتمامٌ شديد بالأمر. في نظري، كانت الحقيقة الأكثرُ دهشةً هي تلك التي ذكَرتها للتوِّ؛ إقرار المجرمة فعليًّا بارتكاب الجريمة. فبخلاف مشهد الانتحار الذي دُبِّر بغيرِ إتقان، والذي من الواضح أن القاتلة لم تكن تُعوِّل عليه، لم يُبذَل أي جهد لتبرئة ساحةِ لوتا شيلر من جريمة القتل؛ بل كاد يبدو وكأنَّ مسئولية الجريمة أُلقِيَت عمدًا عليها.

هذا التصرف غيرُ المكترِث لدرجةٍ غريبة أثار اهتمامي بشدة. فما عساه أن يعني؟ تلك لم تكن جريمةً عفوية تبعها هروبٌ غير متعمَّد. بل كانت جريمة خُطِّط لها بعناية، دُبِّرَت خطواتها ودُرِسَت سلفًا. التفسير الوحيد الذي لاح أمامي هو أن لوتا شيلر لم تكن في خطر على الإطلاق، وأنه قبل ارتكاب الجريمة، دُبِّرت وسيلة للهرب، وكانت وسيلةً آمنة للغاية جعلَت اتخاذ أيِّ احتياطات أخرى أمرًا غير ضروري. وأعتقد أنه هنا يتبين لنا الدافعُ الأساسي من تزييف الانتحار؛ وهو مواراة ثقة المجرمة في حَصانتها من خطر اكتشاف أمرها.

لكن ماذا عساها تكون وسيلةُ الهرب المنيعة تلك؟ لم يخطر ببالي سوى واحدة؛ وقد كانت الوقائع تتسق معها تمامًا حتى إنني اعتمدتُها كفرضية عملية. قررت أنني، ولأول مرة في مسيرتي المهنية، في مواجهة مجرم طبَّق على أرض الواقع طريقةَ الشخص الخيالي التي ابتكرتها، وأن لوتا شيلر هي شخص متنكِّر صنع لنفسِه شخصية خيالية ثم تخلَّص من التنكر ببساطة بعد أن ارتكب جريمته، ومن ثَمَّ لم يعد لتلك الشخصية وجودٌ فعلي.

سترون كيف تتَّسق هذه الفرضيةُ مع جميع الملابسات وتُفسرها. لقد كانت نسخةً مطابقة من قضية جون دو. فبصفتِه لوتا شيلر التي ينتحل شخصيتَها، يستدرج القاتلُ ضحيته إلى مسكنِه، الذي كان قد جهَّز كلَّ شيء فيه، ويرتكب جريمتَه بسهولة دون أن يكون مُهدَّدًا بأن يزعجه أو يُقاطعه أحدٌ، ويُزيل أي آثار تُدينه، ويُرتِّب، كما حدث في هذه القضية، مشهدَ الانتحار الزائف، ثم يخلع تنكُّره، هذا إن لم يكن قد خلعه بالفعل، وبعد أن يكون قد عاد إلى شخصية جون دو، يراقب دونَ قلقٍ مطاردةَ الشرطة للوتا شيلر التي لا وجود لها. لو كان حكيمًا بمعنى الكلمة، لترك الأمر عند ذلك الحد؛ لكنه لم يكن كذلك، فاختار أن يرتكب تلك الحماقةَ في غابة إيبنج وبهذا منَح الشرطة إيحاءً لم يكن ضروريًّا بأنَّ ثَمة خدعة.

بعد أن سلَّمتُ بهذه الفرضية، سألتُ نفسي سؤالًا آخر: بافتراض أن لوتا شيلر هي شخص متنكِّر، مَن عساه يكون ذلك الشخص حقيقةً وما جِنسُه وما طبيعة تنكُّره؟ هل هي امرأة حقًّا، أم رجل متنكِّر في هيئة امرأة؟ لعدة أسباب، استقررتُ على أنه على الأرجح كان رجلًا. أولًا، وكما أوضحت لتوي، تغيير الجنس هو تنكُّر أسهل بكثير وأكثرُ كفاءة من أيِّ نوع آخر من التنكُّر؛ لكونه تنكرًا طويلَ المدى. ثم إن الجريمة بدَت جريمةً من فعلِ رجل. فالقتل بالسمِّ هو في الأساس أسلوبٌ مميز للنساء؛ لكن ليس إن أُعطِيَ السمَّ عنوة. فهذا يتطلَّب قدرًا من القوة البدنية لضمان إمكانية إتمام الجريمة. ثم هناك نقطة صغيرة مثيرة للاهتمام ظهرَت في أقوال الشهود أثناء جلسة التحقيق، وبدَت لي كاشفةً للغاية. فقد أقسم فاندربوي، في سبيل إثبات أن طبيعة علاقته بلوتا لم تخرج عن إطار اللياقة، على أنه لم يُقبِّلها قط، وأنها كانت من جانبها تمنع تمامًا أيَّ أفعال حميمية من ذلك النوع.

والآن إن افترضنا أن لوتا كانت امرأة، سيكون هذا غريبًا نوعًا ما، باعتبار أن علاقتهما كادت أن تكون علاقةً بين حبيبَين. لكن إن افترضنا أن لوتا كانت رجلًا، فسيكون من السهل جدًّا تفسيرُ ذلك التصرف الخارج عن المألوف. فاللحية الشقراء إن حُلِقَت بعناية، يُمكن جعلُها غيرَ ظاهرة على الإطلاق. لكن لا يمكن جعلها غيرَ محسوسة. فبواسطة حاسةِ اللمس — بخاصة عند الملامسة بواسطة الشفتين اللتين تتميَّزان بالحساسية — سيُكتشَف على الفور شعر اللحية النابتُ غيرُ المرئي. لذا في مثل هذه الحالة، سيكون لِزامًا تجنُّبُ المداعبات الحميمية الجسدية تمامًا.

كان الوضع إذن في هذه المرحلة، حسَب اعتقادي، أن قاتل إيما روبي كان رجلًا مجهولًا لم يكن بوُسعي حتى تخمين هُويته. فقد اختفى دون أن يترك أثرًا؛ أو أحرى بي أن أقول دون أن يترك سِوى آثارٍ مضلِّلة في صورة امرأةٍ معروفة لكن لا وجود فِعليًّا لها.

لكن تظل معضلة إيما روبي نفسُها قائمة. بمرورِ الوقت، وفشلِ الشرطة في اكتشاف وجود أي امرأة مفقودة تحمل ذلك الاسمَ، بدأتُ أُفكِّر في أننا على الأرجح أمام شخصية خيالية أخرى، وأن تلك الملابس التحتية المُنقوشة بالحرفين الأوَّلَين كانت «مدسوسة»، وأنه لا يوجد أي شخص يُدعى إيما روبي. لكن إن كانت كذلك، فمن تكون المرأةُ المقتولة إذن؟ مرة أخرى، كان من المستحيل حتى تخمين هويتها؛ مع أنه في ذلك الوقت حين كنتُ أنظر من حينٍ لآخرَ إلى اللوحة المعلَّقة في غرفة بولتون، كنت أسأل نفسي إن كان من المحتمل أن تكون هاتان الشخصيتان المجهولتان في اللوحة هما إيما روبي وقاتِلَها.

لكن ذلك كان مجردَ تخمين. لم يكن بوُسعي اختبارُ صحته أو التحقُّق منه ولم يَقُدني إلى أيِّ شيء. بعد مرور شهور دون أن تنكشفَ أي حقائق جديدة، بدأ يتراءى لي أن جريمة شارع جيكوب ستُضاف إلى القائمة الطويلة من الجرائم الغامضة التي لم تُحَل. وهكذا، تُرِك الموضوع لسنتَين. ثم جاء السيد بينفيلد، وبدخوله إلى المشهد، تبدَّل دوري من مشاهد لا علاقةَ له بالأمر إلى محقق مُفَوَّض.

لم يكد بينفيلد ينطق ببضع عبارات، حتى أدركتُ أننا بصدد الحصول على معلومات جديدة مهمَّة بشأن تلك المسألة؛ إذ كنا بذلك قد انتقلنا إلى عالم الحقائق حيث التحرياتُ المنهجية ممكنة. لكني ألممتُ بعدة حقائقَ كاشفةٍ من بينفيلد نفسِه أثناء عرضه لقضيته. لنرَ ما هي تلك الحقائق.

أولًا: عرَفنا أن لوتا شيلر شخصٌ حقيقي. لكن قضية بينفيلد كان بها شخصان باسم لوتا؛ واحدة منهما، تاركةً الوصية، هي لوتا الحقيقية، والأخرى، تلك التي كانت تسكن بالمنزل رقم ٣٩ بشارع جيكوب، كانت تنتحل شخصيتَها.

ثم عرَفنا أن ثَمة رابطًا ما بين لوتا وتشارلز مونتاجو. طبيعة ذلك الرابط لم يكن واضحًا، لكنْ بالتأكيد كان ثَمة صلةٌ بينهما من نوعٍ ما.

كذلك عرَفنا أن مونتاجو قد تعرض للابتزاز فيما يبدو، وأنه كان يُعتقَد أن عملية الابتزاز كانت لها صلةٌ ما بجريمة القتل.

ثم كان بوسع بينفيلد أن يُعطيَنا عنوان المسكن الذي كانت لوتا تستأجره حين وردَ عنها خبرٌ آخر مرة، وعرَفنا الحقيقة المهمة التي تُفيد بأن ذلك المسكن المستأجر كان قريبًا من غابة جريفل-بيت.

أخيرًا، قدَّم لنا بينفيلد وصفًا للوتا. كان وصفًا سطحيًّا إلى حدٍّ كبير، لكنه مع ذلك، بدا متسقًّا بوجه عامٍّ مع ما نعرفه عن شكل لوتا مستأجرةِ المسكن (كما سنُشير إليها من باب التيسير، كي نُفرق بينها وبين تاركة الوصية التي سنُشير إليها باسم لوتا فحسب). لكنه كان يتفق بالدرجة نفسِها مع المرأة التي في الصورة ومع وصف أولدفيلد لإيما روبي.

ها هي إذن معلوماتٌ جديدة قيِّمة؛ وفور أن تفاهمتُ بصفة نهائية مع بينفيلد، شرَعت أصنِّف الحقائق وأسعى للاستزادة منها. بدأت بالاطلاع على وصية لوتا في السجلِّ المدني بسومرست هاوس ومحاولةِ حفظ توقيعها في ذاكرتي، وكإجراء روتيني، حصَلتُ على نسخةٍ من وصيتي مونتاجو وباربرا دالتون. لم تُضف لي وصيةُ ذلك الأول جديدًا، أما وصية باربرا فلم تُضف سوى حقيقةٍ تافهة تبدو في ظاهرها بلا أيِّ أهمية؛ ألا وهي أنها أوصَت بجميع مقتنياتها إلى أختِها ليندا، باستثناء كمانها، الذي تركَته للوتا؛ وكان الاستنتاج المنطقيُّ من ذلك هو أن لوتا تُجيد العزف على الكمان. لكن مع ملاحظتي لتلك الحقيقة، لم أرَ لها أيَّ صلة بتحرِّياتنا.

وحينها سألتُ نفسي السؤالَ المهم حقًّا: هل كانت المستأجِرة القاطنةُ بشارع جيكوب هي نفسُها لوتا صاحبةَ الوصية؟ كان المصدر الأرجح للحقائق ذاتِ الصلة هو السيدَ توماس بيدلي، وبناءً عليه، تواصلت معه دونما تأخير، وبعد أن تلقَّيتُ منه دعوة كريمة بالزيارة، حلَلتُ عليه ضيفًا وصديقي جيرفيز في الموعد المحدد.

لا بد أن أُقِر بأنه أيًّا كانت توقُّعاتي، فقد فاقت نتائجُ تلك المقابلة أقصى طموحاتي منها. فقد كان توم بيدلي منجمَ معلومات. كان ملاحظًا من الدرجة الأولى، ويتمتع بذاكرةٍ لا تُمحى، وموهبةٍ لا تُقدَّر بثمن في نقل معرفته عبر الرسم. لا داعي للخوض في التفاصيل؛ إذ إن معظمها معروفة لكم بالفعل، لكني سأذكر النتائج بالترتيب.

أولًا: عرَفنا أن لوتا المستأجرة كانت فنانة زائفة؛ زائفة تمامًا، ومدَّعِية بالكلية. افترض بيدلي أنها تعمَّدَت الادِّعاءَ لسببٍ مجهول له. وكانت هذه حقيقةً مهمة؛ إذ إنها عند ذلك الحدِّ على الأقل، كانت تنتحلُ شخصية مزيفة.

ثانيًا: عرَفنا أنه على الرغم من أن صداقةً وطيدة نوعًا ما ربطَته بها لعدةِ أشهر، لم يكن بيدلي يعلم أيَّ شيء على الإطلاق عن ماضيها أو أصدقائها أو أقربائها، إلا أن لها زوجًا غامضًا. كانت كَتومة حدَّ السرية بشأن كلِّ ما له صلةٌ بها.

ثم عرَفنا حقيقتين مهمتين للغاية. كانت إحداهما أن توم لم يرَ قط خطَّ يدِها، ولا أي أحد غيره فيما يبدو؛ إذ لم تُراسل توم أو فاندربوي مطلقًا، وتجنبت استخدام الشيكات بدفع إيجارها نقدًا. حتى لوحاتها لم تكن تُوقِّعها. أما الأخرى، فهي رفضُها المتعنِّت لأن تُرسَم صورتُها أو تُلتقَط لها صورةٌ فوتوغرافية من أجل وضعها في القِلادة، هذا بجانب حقيقة أن الصورةَ التي رسمَتها لنفسِها لم تكن تُشبهها على الإطلاق. الدلالة الكبرى لهاتين الحقيقتين هي أنه حين اختفَت المرأة، اختفت معها كلُّ الآثار الدالةِ على شخصيتها أيضًا (كما كانت تظن هي). فلم تترك خلفَها صورةً شخصية يُمكن أن تُعرَض أو تُدرَس، أو تُقارَن بأي شخص معروف، أو قُصاصة مكتوبة بخطِّ يدها، ولا حتى ذكرى له، كي تُقارَن بالخطابات أو المستندات. هاتان الحقيقتان مجتمعتان كانتا تُشيران بوضوح إلى استعدادٍ للاختفاء.

كان للصداقة القسرية والإظهار البيِّن للعاطفة — الذي كان شفهيًّا تمامًا دون أن يُصاحبه أيُّ قبلات أو ملاطفاتٌ جسدية — دلالةٌ مهمة، لا سيما أنه لم يَبدُ أنه كان للمرأة أصدقاء آخَرون حتى وصل فاندربوي وصار هدفًا لعلاقةِ حب أفلاطونية مماثِلة. لكني سبق أن أشرتُ إلى قيمة المغازلة باعتبارها داعمًا للتنكُّر «بتبديل الجنس».

والآن نأتي إلى أمر الوصف ودفتر الملاحظات الذي لا يُضاهى. لقد كان وصفًا متقَنًا للغاية، وبالنسبة لي كانت غنيمةً غيرَ متوقعة. فإذا صحَّت شكوكي بأن لوتا المستأجِرةَ هي رجلٌ متنكر في هيئة امرأة، فسيكون ذلك الوصف الزاخر بالتفاصيل الدقيقة هو وصفًا لذلك الرجل نفسِه في الأساس. وهكذا عرَفنا أن طول المرأة كان نحو خمسِ أقدام وسبعِ بوصات دون حذائها ذي الكعب العالي، وأنَّ لها أذنَين لهما شكل مميز (أعطانا توم رسمًا لهما)، وأن لون عينيها عسلي مَشوب بخُضرة. كانت تلك سماتٍ لا يمكن لأي تنكُّر أن يُغيِّرها بدرجةٍ محسوسة. لذا كان ذلك يعني أن الرجل، إن كان له وجود، فلا بد أن طول قامته نحوُ خمسة أقدام وسبع بوصات، وأن أذنيه لهما ذلك الشكلُ المميز وعيناه عسليتان مَشوبتان بخُضرة. لكن توم استطاع أن يدعم ذلك الوصفَ برسمٍ بارع من الذاكرة لم تكن لوتا على دراية بوجوده.

لكن الغنيمة الحقيقية كان الشعر. ففور أن سمعتُ وصف توم له، أدركتُ أننا حصَلنا على وسيلة للتعرف عليه على نحوٍ قاطع وأكيد؛ إذ كانت قِلادةُ فاندربوي تحتوي على عيِّنة أصلية كان بالإمكان فحصُها. فقد كانت له طبيعة شاذة غيرُ تقليدية. اشتبهتُ في أنه مرضُ الشعر المحلقن؛ إذ لم يَبدُ أن ثمة احتمالًا آخر؛ لكن أيًّا ما كان، فسيكشف المِجهَر طبيعتَه. وهكذا حصلنا على دليل غير متوقع تمامًا.

لكن ذلك لم يكن الدليلَ الوحيد. فقد انكشف أمرٌ آخر ذو أهمية كبيرة وغير متوقعة حينما كان يُناولنا توم دفترَ ملاحظاته؛ إذ أطلَعَنا على بصمات أصابع إيما روبي المسكينة. لم يبدُ أنَّ لها أيَّ أهمية إذ إن المرأة تعيسةَ الحظ كانت قد تُوفِّيت وُورِيَت الثرى، لكني نظرتُ إليها كي أرى نتيجة طريقة بولتون المرتجلة؛ حينها اكتشفت اكتشافًا مثيرًا للاهتمام. فقد أظهرَت بصمات الأصابع أن إيما روبي كانت عازفة كمان.»

قاطعه فاندربوي بحماس قائلًا: «وكيف أظهَرَت ذلك؟»

أجاب ثورندايك قائلًا: «عبر آثار الضغطِ والاحتكاك على الأنامل. لا تنس أن بصمات الأصابع تُبيِّن أشياء أخرى بجانب نمطها المميز؛ على سبيل المثال وجود أجزاء سميكة في طبقة الجلد السطحية نتيجةً لاستخدام اليدَين بطرقٍ معيَّنة. وهكذا، فإن عازفةَ كمان محترفةً أو عازفةً تعزف بانتظام، سيظهر على أطراف الأصابع الأربعة من يدها اليسرى التي تستخدمها في تثبيت الأوتار رُقَع غليظة؛ أو جسآت صغيرة في الواقع. تلك الجسآت لا تظهر على أصابعِ من يعزفون عَرَضًا؛ لذا فهي تدلُّ على عازفٍ محترف أو جادٍّ. والآثار التي تتركُها على بصمات الأصابع مميزة جدًّا؛ إذ إنها تكون بارزةً عن السطح العام، ونظرًا إلى صلابتها، يميل نمطُ البصمات إلى التآكُل حتى الاستواء. بالمناسبة، هي لم تكن مميزةً بوضوح على الإطلاق؛ بل كانت مجرد رُقَع صغيرة مطموسة في منتصف كلِّ بصمة. لكنها كانت واضحة ولا تُخطئها عين، وكانت تُثبت دون أي مجال للشك أن إيما روبي كانت عازفةَ كمان تعزف بانتظام.

لكن أهمية ذلك الاكتشاف لم تكن قد ثبتَت بعد. كنت قد استنتجتُ أن لوتا شيلر كانت عازفةَ كمان؛ لكنه استنتاجٌ ربما كان خاطئًا. في الوقت نفسه، كانت الأدلة، على قلتها، تدعم احتمالَ كونِ لوتا شيلر وإيما روبي شخصًا واحدًا.

كانت هذه هي الحقائق الأساسية التي عرَفناها من توم بيدلي، وسترَون أنها كانت غنيمةً كبيرة؛ إذ إن كانت تلك الحقائق هي الأساسَ لحُجتي. حين غادرنا المرسم، كانت الخطوط العريضة للقضية قد اتضحَت تمامًا في ذهني. بالطبع كانت تلك القضية افتراضية كليًّا، وربما تكون باطلةً تمامًا. كان الاختبار الوحيد لصحتها أو بطلانها هو إجراءَ مزيدٍ من التحقيق؛ لذا مضيتُ قُدمًا في مهمة التحقق من صحتها.

كانت الخطوة الأولى هي فحصَ القلادة التي تكرَّم فاندربوي بوضعها تحت تصرُّفي. على الفور، أخذتها إلى المعمل وفحصتُها تحت المجهر مع تسليط ضوء قويٍّ عليها من الأعلى. من نظرة واحدة تبينتُ أن الشعرة محلقنة، مع أنه بسبب لونها الفاتح، لم يكن بالإمكان تمامًا تمييزُ الحلقات بالعين المجردة أو حتى بعدسة مكبَّرة ضعيفة. لكن بعدسة مكبرة قوية، كانت واضحة تمامًا؛ وهكذا صار لدينا معيارٌ أكيد يُمكننا بثقة إخضاعُ أي شخص يُشتبَه في أنه لوتا المستأجِرةُ إليه.

لكن كان علينا أولًا إيجادُ ذلك الشخص، وكان علينا البحث عن أدلة إضافية تُثبت إذا كانت لوتا المستأجِرة شخصيةً خيالية أم لا. لكن هذه المسألة كانت وثيقةَ الصلة بمسألة هُوية إيما روبي. فلو صحَّت شكوكي في أن إيما هي لوتا شيلر، فذلك يعني حتمًا أن لوتا المستأجِرة هي شخص آخر. بالتبعية، حوَّلت اهتمامي إلى هذه المسألة، وبدأت بالتثبُّت من آخرِ تاريخ شُوهِدَت فيه لوتا الحقيقية على قيد الحياة. عرَفنا من الإفادات الموثقة للشهود أن أحدًا من أصدقائها لم يرَها بعد أن غادرت مسكنها المستأجَر في لينتون جرين. منذ ذلك الحين، لم يَرِد أحدًا منهم خبرٌ منها حتى ذاع أمرُ اختفائها في الغابة.

لذا كان أول شيء يجب فعله هو معرفه التاريخ المحدد لاختفاء لوتا من مسكنها المستأجَر؛ ولهذا الغرض أرسلت سنوبر العزيز إلى لينتون جرين للتحري عن لوتا من السيدة وارتون، صاحبة المنزل الذي كانت تسكن به لوتا. بدأ بسؤالها إن كان بإمكانها أن تُعطيه عنوان السيدة شيلر الحاليَّ، وهو ما لم يكن بإمكانها بالطبع؛ لكنها عوضًا عن ذلك، ذكرَت له التفاصيل التي سمعتموها في شهادتها.

هذه المعلومات لم تُساعدنا على الإطلاق كما بدا؛ فقد تركَت لوتا مسكنها المستأجَر صباح يوم ١٣ يونيو ١٩٣٠م والمستأجرة لم تظهر في شارع جيكوب إلا بعد شهر من ذلك التاريخ، إذن لا يوجد ما يُوضح أنهما قد لا يكونان الشخصَ نفسه. لذا كان عليَّ البحثُ عن أدلة في مكان آخر، ولم أعرف أين أبحث. كان الموقف مثيرًا للغاية. كانت معي بصمات أصابع إيما روبي، ولو استطعت فقط مقارنتها ببصمات لوتا شيلر، لحُسِمَت المسألة. لكن أين يجب أن أبحث عن تلك البصمات؟ ثمة مكانٌ واحد فقط يُمكن قصده لإيجاد بصمات أصابع الأشخاص المجهولين؛ شرطة سكوتلاند يارد. لكن بدا لي أن البحث عن بصمات أصابع إيما روبي في ذلك المكان لن يُجدِيَ نفعًا. فسواءٌ كانت لوتا شيلر أم لا، كان يُفترض أنها امرأة محترمة. ومع ذلك، لم يكن من المستحيل تمامًا ألا تكون بصماتُها هناك؛ ولما لم يكن أمامي بديلٌ آخر، ولكي أشعرَ أني لم أترك احتمالًا إلا وتأكدتُ منه، صنعتُ صورةً فوتوغرافية جيدة لبصمات الأصابع الموجودة في دفتر الملاحظات، وتوجهت إلى سكوتلاند يارد متسلِّحًا بها، قاصدًا صديقَنا القديم ميلر. لم يُبدِ اعتراضًا على اصطحابي لقسم البصمات وعرض الصورة الفوتوغرافية التي صنعتها للبصمات على ضابط البحث. وحينئذٍ، حدَثَت المعجزة! كانت بصمات إيما روبي موجودة في مِلفَّاتهم فعلًا؛ وبالطبع كان لديهم كذلك الصورُ الفوتوغرافية التي التُقِطت لها عند سجنها وملخصٌ بالتفاصيل.

في البداية، بدا أن هذا الاكتشاف لم يُساعدنا كثيرًا؛ إذ إن الاسم المرفَق مع صور السجن كان لويزا سوندرز. لم أرَ سوى أنه قد صار لدينا شخص مجهول آخر لا أكثر. لكن تفاصيل القضية كانت كاشفةً أكثرَ بكثير مما أتوقَّع. فقد أشير إلى أن الملابس الداخلية للسجينة كانت منقوشةً بالحرفَين الأوَّلين «إل إس»، وهما يتماشيان مع الاسم الذي أعطَتْه لمسئولي السجن، لويزا سوندرز، ولكنهما اتفقا أيضًا مع اسم لوتا شيلر. غير أن الحقيقة الأكثر دهشة أن لوتا شيلر أُلقِي القبض عليها عصر يوم ١٣ يونيو ١٩٣٠م، وهو اليوم نفسُه الذي تركَت فيه لوتا مسكنها المستأجَر، وبعد أن غادرَته. كان الاتساق تامًّا لدرجة تكاد تكون حاسمة.

لكن كان ثمة اتساقٌ آخَر. فقد علم السيد سنوبر من السيدة وارتون أن لوتا في الواقع كانت عازفةَ كمان محترِفة. لكن بصمات أصابع لويزا سوندرز كان من الواضح أنها لعازفة كمان تعزف على نحوٍ دائم. فآثار الجسآت كانت مميزةً للغاية؛ وعندئذٍ فهمتُ لم كانت آثارُها مبهَمة تمامًا في بصمات إيما روبي. أثناء الفترة التي قضَتها في السجن، ضمرت الجسآت جرَّاءَ عدم الاستخدام وتلاشت تدريجيًّا.

تلك الحقائق التي انكشفت لي لم تدَع في ذهني مجالًا للشكِّ في أن لويزا سوندرز هي في الحقيقة لوتا شيلر، ولما كان من المؤكَّد أن لويزا هي إيما روبي، استتبعَ ذلك أن تكون إيما روبي هي لوتا شيلر. ومن ذلك، لزم أن تكون لوتا شيلر المستأجِرة هي شخصًا آخَر، وكان السؤال، مَن عساه يكون ذلك الشخص؟ والآن صار من الممكن اقتراحُ إجابة لذلك السؤال. من المؤكد أن لوتا لم تكن هي مُرسِلةَ البرقية التي تلقَّتها السيدة وارتون؛ إذ كانت البرقية ستكشف عن عُنوانها الذي رفضَت الإفصاحَ عنه للشرطة. لكن لأن كارل شيلر حضَر إلى المسكن المستأجر لاحقًا كي يدفعَ الإيجار المستحَق ويأخذ متعلَّقات لوتا، كان من الواضح أنه يعلم مكان زوجته. على ما يبدو أنه هو مَن أرسل البرقية كي يمنعَ السيدة وارتون من التفتيش عن مستأجِرتها المفقودة. وهكذا يتَّضح أن ثَمة مبررًا منطقيًّا للاشتباه في أن لوتا المستأجرة هي في الواقع كارل شيلر. لكنه كان مجردَ اشتباهٍ لا أكثر. كان يجب التأكدُ من أن سِماته الجسديةَ تسمح له بأن يتخذَ ذلك التنكُّر، ولم يكن بوُسعي الحكمُ في ذلك حتى أراه أو أحصل على وصفٍ مفصَّل له.

في تلك اللحظة كان من الضروري أن أُفضِيَ بشيء من سرِّي إلى ميلر؛ إذ كنت بحاجةٍ إلى مساعدته في المرحلة التالية من التحقيق. وقد أبدى استعدادًا تامًّا لأن يُزوِّدني بنسخٍ من صور السجن والتفاصيل الأخرى، لكنه طلب مني خطابًا لعرضه على مُساعد المفوض الذي كان يلزم الحصولُ على موافقته، فأرسلت له واحدًا، وكانت النتيجة كما تذكرون أنْ زارني مُحضِرًا معه النسَخ. صنعت نسخًا من صور السجن تلك بعد أن أخفيتُ لوحة الاسم، ووضعتها مع صورة فوتوغرافية التقطتُها للصورة الشخصية التي رسمها بيدلي وبضعِ صور شخصية أخرى تمويهية في حافظة لاستخدامها في المحكمة.

والآن صرت مستعدًا لافتتاح القضية في محكمة المواريث والوصايا، آمِلًا في اتخاذ الخطوة الحاسمة. لكني واجهت تحديًا بشأن النهج الذي سأنتهجُه. فقد كان الإجراء الصحيح هو الإفصاحَ عن المعلومات التي بحيازتي لبينفيلد، الذي سيُفصح عنها بدوره للأطراف الأخرى المعنية. لكن من الواضح أن ذلك كان مستحيلًا. واضطُرِرت مرغمًا إلى أن أسلك النهج المضادَّ وهو المضيُّ قدمًا دون الكشف عن الحقائق الجوهرية أو أمر اكتشافي للمستندات، آمِلًا أن أستطيع إثبات النقاط الجوهرية قبل أن يعترض لوريمر.

لكن يجب أن أعترف أني كنتُ بعيدًا كلَّ البعد عن الثقة في صباح ذلك اليوم الذي انطلقنا فيه إلى محكمة المواريث والوصايا. فقد كان عليَّ أن أحسم مسائلَ معيَّنة، وأن أحسمها بسرعة، وربما لن تسنَح لي الفرصةُ لذلك. وربما تُخالف النتائج توقعي، وفي تلك الحالة كنت سأُضطَر إلى بدء التحقيق من جديد. نادرًا ما أتوتَّر بشأن قضية مثلما كنتُ في ذلك الصباح.

كانت الأسئلة التي كان عليَّ حسمُ إجابتها هي: أولًا، هل لويزا سوندرز هي في الحقيقة لوتا شيلر؟ ثانيًا، هل تتسق سِمات كارل شيلر الجسديةُ مع وصف توم بيدلي للوتا المستأجِرة؟ ثالثًا، هل كان شعره محلقنًا؟ السؤال الأول سيكون من السهل الإجابةُ عليه على الأرجح، لكنَّ السؤالين التاليَين كانت إجاباتهما خاضعةً لاحتمالاتٍ عدَّة. بادئَ ذي بدء، ربما لا يحضر كارل، مع أني كنت أتوقَّع حضوره؛ إذ إن غيابه كان سيَلفت الأنظارَ، بالنظر إلى مصلحته الواضحة من تلك القضية، وحقيقة أنَّ شهادته كان لا بد من قراءتها وأنني طلبتُ حضوره. لكن حتى وإن كان مطابقًا للوصف، كان ثَمة صعوبةٌ في الحصول على عيِّنة من شعره. ناقشت هذا الأمر مع سنوبر وبحثنا عدةَ خُطط، لكن في النهاية اضطُرِرت إلى أن أترك لعبقريته وجاهزيته أمرَ انتهاز أية فرصة تلوح أمامه.

أنتم تعرفون النتيجة. حين قُدِّم لنا شيلر، رأيتُ على الفور أنه يُطابق الوصف تمامًا. كان طوله نحو خمسة أقدام وسبع بوصات، وعيناه عسليَّتان مَشوبتان بخُضرة، وأذناه تُشبهان تمامًا رسم بيدلي، وأذنه اليمنى بها نتوءٌ دارويني صغير خلَت منه اليُسرى؛ وكان الجزء الذي لا تُخفيه لحيتُه من جانبِ وجهه يتطابق تمامًا مع الصورة الشخصية التي رسمها بيدلي، وأثناء حديثه مع جيرفيز، لاحظتُ أن صوته الرقيق ذا النبرةِ الحادة يُمكن أن يحسبَه المرءُ صوتَ امرأة. كان التطابقُ تامًا. لم يكن ثَمة اختلافٌ واحد حتى، ولم يكن لديَّ أدنى شك في أنه لوتا المستأجِرة، قاتل لوتا شيلر.

لكن اعتقادي لم يكن مكتمِلَ الأركان، ولم يرْقَ إلى مرتبة اليقين؛ فقد ظلَّت مسألةُ الشعر المحلقن غيرَ محسومة. كان ذلك هو الاختبارَ الأخير، وستُلاحظون أنه كان بمثابة سلاحٍ ذي حدَّين. فلوتا المستأجِرة كان لها شعر محلقن قطعًا. إن كان شعرُ هذا الرجل محلقنًا، فهو قَطعًا لوتا المستأجِرة. أما إن لم يكن شعره كذلك، فهو قطعًا ليس لوتا المستأجرة، بغضِّ النظر عن مطابقته التامة لجميع الأوصاف الأخرى. لذا كان يتعيَّن التثبتُ من هُوية هذا الرجل، وتساءلت في نفسي بقلق شديد ما إذا كانت الفرصة ستسنحُ للحصول على عيِّنة الشعر اللازمة للإثبات أو النفي. بدَت مهمةً شبهَ مستحيلة.

نظرت باتجاه سنوبر، الذي تبعَنا إلى قاعة المحكمة، وأشرتُ له بالإشارة المتفَق عليها إلى فريسته؛ فبدأ عمله بتلك الكاميرا الصغيرة المضحِكة خاصته ونجح في التقاط صورتين فوتوغرافيتين جانبيتَين له. ثم تراجع إلى مقعده وجلس ينتظر ضحيتَه؛ الذي ما لبث أن اتخذ لنفسه مقعدًا قريبًا منه، وأسند رأسه إلى ظهر المقعد مطبِقًا جَفنَيه حين كان لوريمر يُلقي خطابه الافتتاحي.

كنتُ أراقب سنوبر في تلهُّف ولاحظتُ أنه ظل يحوم على مَقربة من رأس شيلر. لكن لم يسَعْني رؤية أكثرَ من ذلك؛ إذ إن سنوبر يمتلك مهارةَ حاوٍ في إخفاء حركاته وقدرته على إلهاء الناظرين. ما فعله حقيقةً هو أنه انتظر حتى رفع شيلر رأسه للحظةٍ، وفي تلك اللحظة ترك لطخةً سميكة من مادة لاصقة سريعة الجفاف على ظهر المقعد حيث كان رأسُه يستقر. كان في فعله ذاك جُرأةٌ شديدة، لكن من الواضح أن أحدًا لم يُلاحظه، حتى شيلر نفسُه. ونجح نجاحًا باهرًا، كما أدركتُ من عاقبته؛ إذ في المرة التالية التي حاول فيها شيلر تحريك رأسه، وجده عالقًا بقوةٍ في ظهر المقعد وكان على سنوبر أن يُحرِّره بمقصه. حينها رأيتُ ما حدث وراقبتُ سنوبر بصبرٍ نافدٍ وهو يكشط اللاصق — متظاهرًا بتنظيف مسند ظهر المقعد — خشية أن يتدخَّل القاضي ويُصادر اللاصقَ المكشوط لفحصه. لكن كل شيء جرى على ما يُرام، واستغل سنوبر فرصةً مبكرة للهرب؛ حينها أدركتُ أن العيِّنة صارت في مأمن، بغضِّ النظر عما ستكشف عنه.

أنتم تعلمون النتيجةَ في الواقع. حين وصلنا إلى تيمبل في استراحة الغداء، وجدتُ سنوبر في انتظاري بفرحةِ انتصار متواضعة بنجاحه، وتسلمتُ منه الكاميرا الصغيرة ومظروفًا مطويًّا يحوي بداخله مادةً دبقة وخصلةً صغيرة من الشعر. لا حاجة بي إلى أن أقول إني أخذتُها على الفور إلى المعمل لفحصها. هناك التقطتُ بضع شعيرات ووضعتُها على شريحة ومعها نقطة من زيت البرجموت وفوقها غِطاء زجاجي، ثم وضعت الشريحة على منصة المجهر ووضعت عيني على منظاره.

كانت لحظة حاسمة؛ إذ كانت حياة كارل شيلر تعتمد على إجابة سؤالي. وقد حصلتُ على الإجابة من النظرة الأولى. كانت الشعيرات محلقنة بوضوح ودون أيِّ شك، وهكذا صار من المؤكد قطعًا أن لوتا المستأجرة وكارل شيلر هما شخصٌ واحد. لكن ذلك الشخص هو قاتل إيما روبي، والسؤال الأخير الذي كان لا يزال قائمًا هو ما إذا كانت إيما روبي هي لوتا شيلر.

عدتُ إلى المحكمة وأنا واثق من قدرتي على إيجاد إجابة هذا السؤال قبل أن يأتيَ الاعتراض المحتوم. وقد كان. حين تعرفَت ليندا دالتون على صور السجن، اكتملَت أركان قضيتي. فقد تعرفتُ عليها عن ثقةٍ وتأكيد لم يتركا مجالًا للشك في ذهني، وصرتُ أعرف أنه بالإمكان الحصولُ على تأكيدٍ إضافي. جاء اعتراض لوريمر متأخرًا جدًّا عن أن يعيق طريقي؛ إذ كان بإمكاني اتهامُ كارل شيلر في التوِّ واللحظة إن شئت.»

سألته: «لِمَ لَم تفعل إذن؟ لِمَ مضيتَ قُدمًا في القضية بمحكمة المواريث والوصايا؟»

أجابني قائلًا: «كان الجزء الباقي من إجراءاتي يصبُّ في صالح الشرطة. فقد كانوا سيَودُّون بناء قضية ذاتِ أدلةِ إثبات ظاهرية قبل أن يُلزِموا أنفسهم بالقبض عليه، بجانب أنني في الحقيقة وعدتُ ميلر بأن أُقدم له دليلًا كافيًا لذلك. لكن الأمر كان يعنيني بقدرِ ما يعنيه؛ إذ كان علينا ضمانُ صدورِ أمر إحالة. ولو أن القضية فشلت في المحكمة الجزئية لكانت كارثة. بجانب أن الجزء الأخير من الإجراءات كانت نوعًا من التمرين؛ إذ مكَّنَتنا من أن نرى على وجه الدقة الأدلةَ التي بإمكاننا أن نُقدمها في المحاكمة.

ها قد استرجعتُ معكم مسار التحقيق وصرتم تعرفون كيف ظلَّت مجموعة الأدلة الظرفية تتراكم كلما انكشفَت لنا الحقائق واحدةً تلو الأخرى. لا داعي للخوض في تفاصيل إعداد القضية، مثل مجموعة الصور الفوتوغرافية وباقي الأحراز التي عرَضناها أمام المحكمة، أو التفكير في الأسئلة التي لن نعرف إجاباتها قط.»

قال بيدلي: «كل ذلك رائع جدًّا للمحامي والعالم المحنَّك يا سيدي، لكن البسطاء من أمثالي سيودُّون الحصول على إجابات لتلك الأسئلة. على سبيل المثال، أود كثيرًا أن أعرف سبب اختيار ذلك الشيطان شيلر لأن يسكن في المنزل المجاورِ لي ويتخذَني صديقًا حميمًا له. لا يمكن أن تكون تلك مجردَ صدفة.»

وافقَه ثورندايك قائلًا: «هذا صحيح، فلا يُعقَل أن تكون كذلك. لكن إن كان تخمينُ دوافعه لذلك سيُريحك، فأنا أعتقد أنَّ لديك أساسًا تنطلق منه. لقد كان يبحث عن حيٍّ مناسب لا يعرفه فيه أحدٌ وعن غريبٍ ملائم يتَّخذه صديقًا. رأى اسمك وعنوانك مذكورَين في الصحف باعتبارك «الفنان الغامض»، ولما لم تتقدَّم للإدلاء بما لديك من معلوماتٍ وبدا أنك لستَ على علمٍ بالجريمة، ربما لاحظ أنك قطعًا لستَ شخصًا فُضوليًّا يتدخل في شئون الغير. كان الحيُّ الذي تسكن به ملائمًا تمامًا له، ومِهنتُك مثالية لكي يُدبِّر صدفة للتعرف بك، شريطةَ أن يستطيع انتحالَ شخصية فنانٍ زميلِ مهنة؛ وقد جعلَت النزعة الحاليَّة تجاه الرسم الطفوليِّ والهمجي، مقترنة بالاستخدام الحصيف لمصطلحات المِهنة المتداولة حاليًّا، ذلك ممكنًا جدًّا. أعتقد أنه أحسنَ الاختيارَ للغاية.»

قال بيدلي معترضًا: «أظن أن رؤيتي له في الغابة ذلك اليوم كانت ستثنيه عن ذلك.»

«لكن يا عزيزي بيدلي، هو لم يكن يعرف أنك رأيتَه. يبدو أنك نسيت. إن الشرطة لم تُفصِح عما أدليتَ به من معلومات. ولم تَظهر في الصحف قط. بجانب أنك في النهاية لم تتعرَّف عليه مع أنك رأيتَه. كلا يا صديقي، لا أظن أن ثَمة لغزًا كبيرًا وراء اختيارِه لك؛ لكن ثَمة أسئلة أخرى إجابتها أصعب بكثير.»

قلت مقترحًا: «هل تعني مسألة تَقبُّل لوتا لإدانتها بجُرم لم تقترِفْه؛ إذ إنني أعتقد أن شيلر هو من دسَّ لها تلك الأوراق المالية المزورة عمدًا، وأنها عرَفَت بالأمر، إلا أنها لم تستطع تخمين قصدِه من وراء ذلك بالطبع. لكن لماذا لم تُفصِح عن مصدرها؟»

أجاب ثورندايك: «ربما كانت مرتعبة منه؛ لعِلمها بأنه قاتل، فلم تَجرُؤ على إلقاء اللوم عليه، ومن المحتمل حتى أن تكون قد قَبِلت بالسجن طواعيةً كملاذٍ لها منه. لكننا لن نعرفَ قط الحقائقَ الفعلية، ومحاولة تخمينها لن يُفيد كثيرًا.»

قال فاندربوي: «لقد تحدثتَ يا جيرفيز عن غرضه من دس تلك الأوراق المالية لها. فماذا كان غرضه من ذلك؟»

قلت: «أعتقد أن غرضه كان إزاحتَها عن الطريق بطريقة آمنة ريثما يُجري استعداداته لانتحال شخصيتها ويستعدَّ لقتلِها حين تَخرج، قبل أن يُتاح لها وقتٌ كافٍ للتواصل مع أصدقائها، وأعتقد أنه كان يعلم أنها تُفضِّل دخول السجن تحت اسمٍ مستعار على إثارة فضيحةٍ واستفزازِه. ما رأيك يا ثورندايك؟»

«أعتقد أنك مُحق على الأرجح، لكننا لا نعلم يقينًا ولن نعلم قط. كما أن ذلك لا يعنينا حقًّا. لقد عرَفنا ما يكفي لهزيمة مجرمٍ بارع للغاية، وعلينا أن نقنع بذلك.»

قلت: «حتى إن كان ذلك يهدم خُطةَ جون دو المنيعة؟»

رد بحِدَّة: «وهل يهدمها حقًّا؟ أعتقد يا جيرفيز أنك تُغفِل بضع حقائقَ جوهرية للغاية؛ أولًا، شيلر لم يُنفِّذ خطة جون دو بحذافيرها، وحِيادُه عنها كان السببَ في هلاكه. فجون دو، بعد أن يرتكب جريمته، يخلع تنكُّره ويختفي دون أثر، ومِن ثَم لا يترك خلفه أيَّ أدلة. لو أن شيلر فعل ذلك، لما أُثيرت حوله أيُّ شبهات. لكنه اختار أن يُدبِّر تلك الجريمة الوهمية في الغابة، وبهذا ترك وراءه طرَفًا سائبًا.

ثم إنك تُغفِل النتائج الهائلة للصدفة غيرِ المتوقَّعة. فقد كان احتمالُ الشعر المحلقن واحدًا في المليون، واحتمال أخذ بولتون لبصمات أصابع القتيلة، واحتفاظ بيدلي بها ليس أكثرَ ترجيحًا منه. لكنك إن طرحتَ هذَين الظرفَين المستبعَدين تمامًا، لما وُجِدَت قضية من الأساس. ولأصبح شيلر في مأمنٍ تام؛ إذ لم أكن لأستطيع قط أن أصلَ إلى أبعدَ مِن مرحلة الاشتباه.

وبعد، فإنك أغفلتَ حقيقةَ أن مخطط شيلر نجح بالفعل، رغم الدور الذي لعبَته الصدفةُ ضدَّه. فقد ظل حُرًّا طليقًا على مدى عامَين، ولم يشكَّ به أحدٌ على الإطلاق. إنها لحقيقةٌ فعلية أنه حين قصدَني بينفيلد، لم يكن لدى أيِّ شخص في العالم، عداي، أيُّ شك في أن مَن اختفت في الغابة كانت بالفعل لوتا شيلر. حتى الشرطة التي لم تقتنع بجريمة القتل الوهمية، لم تتَشكَّك في هُوية ضحيتها.»

قلتُ في إصرار: «لكن الحقيقة التي لا يُمكن إنكارها أن مخططه قد باء بالفشل، وأنه سيُعدَم شنقًا.»

قال ثورندايك مؤيدًا: «أجل، لقد أجهَضَ مخطَّطَه ما لم يكن في الحسبان، وما لا يُمكن وضعُه في الحسبان. إنَّ فشله يُبرهن على حقيقة مقولة هيربرت سبنسر بأن الظواهر الاجتماعية معقَّدة لدرجةٍ تجعل التنبؤ بنتائجها مستحيلًا. ولكن دون التنبُّؤ، لا يمكن وضعُ خُطة يكون من شأنها أن تُسفِر عن الآثار المرجوَّة حتمًا. هذا هو سبب فشل المصلِحين الاجتماعيين وغيرهم من المخطِّطين. فهم لا يضعون في حسبانهم العواملَ المجهولة. لكن عادةً ما يحدث أن تكون تلك العوامل المجهولة هي العواملَ المؤثرة، كما حدث في قضية كارل شيلر.»

قال فاندربوي: «هذا صحيح جدًّا يا سيدي، والعامل المجهول المؤثر في تلك القضية كان وجودَ رجل يُدعى جون ثورندايك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤