الفصل السابع

عداد خطًى ومأساة

في تمام الرابعة، في عصر يوم مشمسٍ من أيام ديسمبر، وصل توم بيدلي إلى مدخل المنزل رقم فايف إيه بشارع كينجز بينش ووك، بعد أن شق طريقه إليه في رحلة مُمتعة عبر الساحات القديمة في منطقة تيمبل.

لبضع لحظات، توقف ليتأمَّل، بذَوق فنان، الرِّواق المُعَمَّد الفاخر المبنيُّ من القرميد الأحمر (الذي عادةً ما يُنسَب إلى كريستوفر رين)، ثم دخل واتبع إرشادات بولتون، فصعد الدرَج إلى الطابق الثاني. عندما وصل إليه، انفتح باب وخرج مضيفه لملاقاته.

قال بولتون وهو يُصافحه بحرارة: «تلك زيارة سارة جدًّا يا سيدي. لا يأتيني زوار في العادة، فأنا رجل كادح أعزبُ مثلُك؛ لذا فزيارتك تلك ستكون مصدرَ سرور بالنسبة لي. هلا تفضَّلت بالدخول إلى المعمل؟ سنَحْتسي الشاي في غرفتي بالأعلى، لكني أسخِّن الغلاية هنا كي أتجنَّب تسخينها على دخان المدفأة.»

عندما دخلا إلى الغرفة الكبيرة، تطلَّع توم حوله بفضول، ولاحظ وجود بعض الأغراض لا تكاد تتماشى مع فكرته عن المعمل، مثل منضدة نجَّار، ومِخْرَطة، وكاميرا نسخٍ كبيرة، وأن ثَمة غلايةً نُحاسية أنيقة، مثبتة على حامل ثلاثي على موقد بنزن، وإبريقَ شايٍ فِضيًّا قديمًا رائعًا يبدو أنهما قد جاءا إلى هنا بالخطأ.

قال توم مقترحًا: «ربما بإمكاني أن أُلقيَ نظرة على عداد الخطى ذلك ريثما تغلي المياه في الغلاية.»

أخرج توم الأداة من جيبه وناوله إياها، ففتح غطاءها الزجاجي الخلفي، ثم وضع عدسة ساعاتي على عينه، وفحص الجزء الظاهر من الآلة.

عقب قائلًا وهو يهز الأداة لأعلى وأسفل كي يختبر ذراع التشغيل: «لا يبدو أن به مشكلةً كبيرة؛ مجرد تآكُل. لقد تآكل زنبرك السقاطة الصغيرُ فصار يميل للانزلاق عن أسنان ترس السقاطة. هذا عطل خطير، لكن يسهل إصلاحه؛ وربما أجد أعطالًا أخرى عندما أُفككها كما يقول أهل المهنة؛ أي أفصِل أجزاءها. على أي حال، لن يَضير كثيرًا أن أُنظفها وأُضيف لها القليل من الزيت الجديد.»

قال توم: «أخشى أني أتسبَّب لك بعناء أكثرَ مما توقعته.»

تطلع إليه توم بابتسامته الغريبة العريضة.

صاح مستنكرًا: «أي عناء يا سيدي! لا يوجد عناء على الإطلاق؛ إنه ليس عملًا حتى. سيَمنحُني ذلك عدةَ ساعات من التسلية الممتعة، وأنا ممتنٌّ لك كثيرًا لإحضارك تلك الأداة إليَّ.»

وتأكيدًا لكلامه، أخرج من أحد جيوبه العديدة مِفكًّا محمولًا صغيرًا، وكان على وشك أن يُهاجم به عداد الخطى، حين تدخلت الغلاية بأن نفثَت دفقة من البخار؛ فأعاد إلى المفكِّ غِطاءه وأعاده إلى جيبه، ثم شرع يُعِد الشاي على نحو ممنهج.

وبينما كان يتقدَّمه إلى الطابق العلوي حاملًا إبريقَ الشاي فيما تبعه ضيفه حاملًا الغلاية، علَّق توم على جمال الأخيرة.

رد بولتون قائلًا: «أجل يا سيدي، إنها غلاية فاخرة قديمة. لم يعودوا يصنعون مثلها هذه الأيام. وجدتُها في متجر لبيع خردة السفن في شارع البرتغال. أظنُّ أن مصدرها مقرُّ محامٍ عجوز في نُزُل لينكن، وكانت مرضوضة وبالية إلى حدٍّ كبير، لكني بذَلتُ فيها شيئًا من الجهد، فعادت وكأنها جديدة. كما ترى يا سيدي، أنا أشبِهُك في ذلك الأمر؛ أحبُّ أن تكون الأغراض العادية التي أستخدمها وأعيش معها جيدة وممتعة للنظر.»

ومما دلَّل على صحة عبارته تلك مظهرُ الغرفة الواسعة في الطابق الثالث التي دخلا إليها الآن، التي استقرت فيها طاولة شاي على جانبَيها كرسيَّان وثيران أمام المدفأة. بعد أن وضع توم الغلاية على حامل حيث لا يطوله لهبُ المدفأة أو دُخَانها، جلس في الكرسي الذي أُشيرَ إليه بالجلوس فيه، وتطلَّع إلى المشهد من حوله فيما كان بولتون يُعِد لوازم طاولة الشاي؛ فلاحظ أرفف الكتب المكتظَّة، وبضع لوحات معلقة على الجدار (بما فيها رسمه الأوَّلي للَوحةِ «المتنصتة»، داخل إطار بسيط لكن أنيق) وحاجز ذي أربع طيات خمَّن أنه يحجب وراءه فراشًا. كانت كلها بسيطة وعادية، لكن الغرفة بكل ما فيها راقت كثيرًا لذوق توم الرفيع، حتى الساعة المزخرفة القديمة الطراز المعلقة على الجدار التي تكاد لا تُعكِّر صفو السكون بدقاتها التي تبعث على الدفء.

قال بولتون: «هذا مسكني الخاص يا سيدي، لكني لا أقضي وقتًا طويلًا به. فالمعمل هو بيتي الحقيقي. أنا ميكانيكي أصيل، أسعد أوقاتي هي تلك التي أقضيها على طاولة عملي. عدَّاد الخُطى خاصتك ذلك يا سيدي بالنسبة لي هو مِنحة لم تكن بالحسبان. هل تَسمح لي بأن أسألك منذ متى وهو بحوزتك؟»

أجابه توم: «أعتقد أنه معي منذ حوالي اثنتَي عشْرة سنة.»

«وهل تجده دقيقًا إلى حدٍّ كبير؟ فخُبراء المساحة يعتبرون عداد الخطى مجرد لعبة لا فائدة لها. فما تجرِبتك معه؟»

أجابه توم: «أجده دقيقًا بالقدر الكافي لحاجتي. فأنا لست خبيرَ مساحة. لا أتعامل بالبوصات، لكني أجده مُتوافقًا بدرجة كبيرة من الدقة مع الخرائط ولافتات الطرق الإرشادية، وهذا كافٍ بالنسبة إليَّ.»

«سبب سؤالي هو أني أفكِّر في شراء واحد للسيد فاندربوي كي يعودَ به إلى بلده. فليس فيها لافتاتُ طريق كثيرة.»

سأل توم باهتمام أُوقِظَ بداخله فجأة: «هل سيعود السيد فاندربوي إلى إفريقيا قريبًا؟»

أجابه بولتون: «ليس في القريب العاجل؛ فقد انضم لرابطة المحامين في المحكمة الجنائية المركزية، ويحضر جلسات المحكمة بانتظام؛ أعني أنه يُحضرها بانتظامٍ منذ أن غادرَت السيدة شيلر.»

سأله توم وقد تملَّكه ذهولٌ شديد: «إذن فقد سافَرَت، أليس كذلك؟»

«أجل يا سيدي؛ وأتمنى ألا تعود؛ فقبل سفرها، كان يُهمل عمله بشدة. أشعر بارتياحٍ كبير لأنها غادرَت.»

«هل تعلم ما إذا كانت قد غادرت بلا رجعة؟»

«أخشى أنه ليس كذلك يا سيدي. بالطبع لم أجرُؤ على طرح أي أسئلة، لكني فهمتُ من السيد فاندربوي أنها سافرت للإقامة مع بعض الأصدقاء في بريمنجهام. لا أعلم كم من الوقت ستغيب، ولا أظن أنه يعلم أيضًا.»

«أظنك لا تعلم ما إذا كانا يَتراسلان؟»

«لا أعلم حقيقةً يا سيدي، لكني لا أظن أنهما يفعلان. فلديَّ شعور بأنه لا يعرف حتى عنوانها. أمر غريب، أليس كذلك؟ لكنها سيدة غريبةُ الأطوار. فرغم أساليبها الطائشة، فهي تُجيد إخفاء خُططها وأفكارها لدرجة غير عادية.»

أثارت تلك الملاحظةُ الأخيرة إعجابَ توم؛ إذ وهو يتأملها الآن، أدرك فجأةً أنه لا يعرف سوى القليلِ جدًّا عن تلك السيدة الغريبة. لكن على أيِّ حال، لم يعد أمرُها يَعنيه الآن بعد أن تبددت مخاوفه بشأن فاندربوي؛ وعندما تحصَّل على المعلومات التي جاء من أجلها، بدأ يتساءل ما إذا كان الوقت قد حان للمُغادَرة. فبولتون لديه مسئوليات من نوع ما، وزيارة مطوَّلة ربما تكون مزعجة له. لكن عندما أبدى تلميحاتٍ متردِّدة بالمغادَرة، اعترض مضيفه قائلًا:

«آمُل ألا تُغادِر بسببي يا سيدي، فالدكتور سيتناول العَشاء بالخارج الليلة وليس لدي أيُّ مشاغل الليلة. كما أنه الآن بعد أن عيَّن لي مساعدًا احتياطيًّا لمباشرة العمل في غيابي، صِرت أنعمُ بحرية أكثرَ بكثير مما اعتدت. بالطبع لن أُلِح عليك بالبقاء إن كنت مشغولًا، لكن …»

في الواقع، كان توم سعيدًا جدًّا بالبقاء، وأخبر بولتون بذلك، وهكذا بعد أن عبَّأ غليونه (بدعوة من بولتون)، مكث لقضاء ليلة ممتعة ومثيرة جدًّا. فقد كان مضيفه، مع كونه «ميكانيكيًّا أصيلًا»، يمتلك كَنزًا من المعلومات في شتى الموضوعات الغريبة وغير المتوقعة؛ وبعد أن انتهيا من معاينة مكتبتِه الفنية المميزة، والصور المعلَّقة على الجدار والساعة القديمة البديعة (وهي أقيمُ كنوز بولتون؛ إذ إنها تَذْكار من البيت الذي قضى فيه طفولته، آلَ إليه بوفاة عمته جودي)، جلَسا في كرسيَّيهما يُثرثران بغير اطِّراد حول الموضوعات العديدة ذات الاهتمام المشترك، مع ميل عام نحو الحديث عن «التحف القديمة».

قال بولتون عندما نهض توم أخيرًا استعدادًا للمغادَرة: «عودةً إلى عداد الخطى يا سيدي، سألقِي نظرة عليه في وقت فراغي، لكن إصلاحه لن يستغرق طويلًا. وعندما أنتهي منه، سأحضِره إلى مرسمك، إنْ أخبرتني بموعد وجودك بالمنزل.»

«هذا لطفٌ كبير منك يا بولتون، لكني أظن أن من الأفضل أن تُحدِّد أنت موعدًا. فبإمكاني دائمًا أن أكون بالمنزل إن أردت.»

«إذن أقترحُ يوم الخميس القادم يا سيدي، في حوالي الثالثة إن كان ذلك يُناسبك.»

قال توم وهو يلتقطُ قبعته وعصاه: «يُناسبني تمامًا.» وهكذا بعد أن تحدد الموعد، صافح مضيفه الذي رافقه حتى الطابق الذي يقع فيه المعمل حيث افترقا، ليذهبَ توم إلى منزله، وليبدأ بولتون على الأرجح هجومَه على عداد الخطى.

خلال الأيام القليلة التالية، لم يُفكر توم في لوتا إلا عرَضًا. فقد اطمئن تمامًا. فلم يَفرَّ العاشقان أو تقع فضيحةٌ من أي نوع، وكان هذا هو كل ما يُهمُّه. أما المرأة نفسها، فلا يسَعُه إلا أن يُوافق بولتون في أمنيته بأن تظل بعيدًا لأطولِ وقت مُمكن؛ وإن لم تَعُد أبدًا، فسيترك غيابها فراغًا ليس مرفوضًا بالكلية. بل إنه في الواقع بدأ يأمُل في أن تكون قد خرَجَت من حياته، وأن يكون قد تخلَّص منها أخيرًا؛ وبالتدريج انتقل من مجرَّد الأمل إلى التصديق بأن ذلك هو ما قد يحدث.

لكنَّ إفاقته من ذلك الوهم جاءت مُفاجئة وصادمة. وتزامنَت مع حلول اليوم المحدد لقدوم صديقه حاملًا عداد الخُطى. ففي تمام الثالثة عصر يوم الخميس، دق جرس المرسم، فخرج توم مسرعًا ليُجيبَه، ليجد السيد بولتون واقفًا على عتبة الباب العريضة. غير أنه لم يكن وحدَه. فقد كان يشاركه عتبة الباب سيدةٌ تبدو عليها أماراتُ القلق عرَف أنها السيدة ميتشنز جارته في المنزل المجاوِر، وصاحبة المنزل الذي تسكن به لوتا. لعدة أعوام كانت علاقتهما لا تتعدَّى التحية بإيماءةِ رأس، لكنه لم يتحدَّث إليها من قبلُ إلا ليتمنَّى لها صباحًا سعيدًا؛ لذا تساءل الآن ماذا عساها أن تريد منه. لكنه سرعان ما عرَف؛ ففور أن ظهر عند الباب، سألته بنبرة مُضطربة:

«هل بوُسعي التحدُّثُ معك قليلًا يا سيد بيدلي؟» (على أثر ذلك حاول بولتون أن يَختفيَ عن الأنظار، وتأهَّب للانسلال عبر الباب الموارب.) «الأمر يتعلق بالسيدة شيلر يا سيدي.»

فورَ أن لفظَت ذلك الاسم، توقَّف بولتون فجأة، وحاول أن يتظاهَر بعدم الإصغاء.

تابعت السيدة ميتشنز قائلة: «لقد قصدتُك يا سيد بيدلي لأنك كنتَ صديقًا لها، وظننت أنك ربما تعرف ما عساه أن يكون حدث لها. فأنا لم أرَها أو أُراسلها منذ وقت طويل جدًّا.»

أجاب توم بابتهاج: «هذا صحيحٌ يا سيدة ميتشنز. فقد غادرَت لتوِّها للمكوث مع بعض أصدقائها في بريمنجهام.»

لكن لم تبدُ السيدة ميتشنز راضيةً بتلك الإجابة. قالت معترضة: «لكن هذا غريب جدًّا؛ فهي لم تذكر لي أبدًا أيَّ شيء حول السفر، ولم تُسدِّد إيجار الشهر، مع أنها دائمًا تُسدِّده في موعده المحدَّد. هل أنت متأكِّد أنها ذهبت إلى بريمنجهام؟»

فكَّر توم لبرهة ثم التفت إلى بولتون وسأله:

«ما رأيك؟ هل أنت متأكِّد؟»

أجابه: «حسنًا يا سيدي، لن أقول إنني واثق حدَّ اليقين. لقد أخبرني السيد فاندربوي أن السيدة شيلر أخبرَته أنها ستذهب للمكوث مع بعض الأصدقاء في بريمنجهام. هذا كل ما في الأمر. نحن لا نعرف ما إذا كانت قد ذهبت بالفعل أم لا.»

قالت السيدة ميتشنز: «إذن، أخشى أنها لم تذهب.»

سألها توم: «لمَ تقولين ذلك؟»

بدَت السيدة ميتشنز تُواجه صعوبة في التعبير. فقد أجابته: «لا أعرف كيف أصوغ ذلك، لكنَّ ثَمة خطبًا ما في مسكنِها. لاحظتُه أنا وزوجي، ويبدو أن الأمر يزداد سوءًا.»

قال توم: «أنا لا أفهم. ما الذي يَزداد سوءًا؟»

أجابته: «يصعب شرح الأمر، لكن إن تكرمتَ بالدخول إلى ردهتها، فستفهم ما أعنيه.»

لم يُبدِ توم أي حماس لقَبول تلك الدعوة، غير أن بولتون، الذي كانت اللهفةُ قد تملَّكَت منه، طلب من السيدة أن تقتاده عبر الطريق وتبعها بهِمَّة فيما تأخَّر توم خلفهما، وراقبها بتجهُّم وهي تُدخِل مفتاح البوابة في ثقبه.

لكن السيدة ميتشنز كانت مُحقَّة. ففور أن دخلوا إلى الردهة وأغلَقوا الباب الخارجي، أدرك كِلاهما تمامًا ما قصَدَته. لكن استجابة كلٍّ منهما لذلك الإدراك كانت مُختلِفة. فقد تراجع توم للخلف تجاه الباب الخارجي وقد ارتسَمَ على وجهه اشمئزازٌ هَلِع، في حين شمشم بولتون الهواء معاينًا إياه، ثمَّ أخذ المبادَرة الحتمية.

قال: «أظن يا سيدتي أن هذا الباب مغلق بالمفتاح، أليس كذلك؟»

أجابت: «أجل. مُغلَق بالمفتاح من الداخل.»

قال بولتون: «حسنًا، يجب أن ندخُل تلك الغرفة فورًا.»

«هذا ما قاله زوجي، وقد حاول فتحه بأحد مفاتيحنا، لكن للأسف المفتاح متروك في ثقبِه، ولم يودَّ أن يفتحَه عَنْوة.»

وافقها بولتون قائلًا: «كلا، من الأفضل أن نستخدم مفتاحًا إن أمكن. هل كان قُفْل الباب يُستعَمَل كثيرًا؟»

أجابت: «أجل، على الدوام. كانت السيدة شيلر دائمًا ما تُوصِد الباب بالمفتاح ليلًا وكلما غادرَت المنزل.»

قال: «إذن ينبغي أن يدور بسهولة.» ثم أردفَ متأملًا، وقد دسَّ يده في جيب داخلي: «أحيانًا يكون من الممكن جعلُ المفتاح على الدوران من الخارج إن لم يكن صعبَ الإدارة كثيرًا. أتساءل إن كان معي بجيبي ما يصلح لذلك الغرض.»

كان معه على ما يبدو؛ ففيما انحنى لينظر من ثقب الباب، خرجَت يده من جيبه مُمسكةً بشيء يُشبه نوعًا ما بريمةَ جيب لسحب سدادات الزجاجات ذات شكل غير مألوف، مثبَّت بها أذرع سلكية متينة ذات زوايا حادَّة. أدخلَ إحدى تلك الأذرع في ثقب المفتاح وحرَّكه داخل القفل، فيما وقفت السيدة ميتشنز تتطلع بترقُّب إلى يده، التي كان تُخفي ثقب الباب والأداة.

قال: «أجل، هذا هو السبب.» وبينما يتحدث، سمعوا تكَّة فتح القُفل، فسحب بولتون الأداة (التي أخفاها على الفور في جيبه الذي أخرجها منه)، وأدار مقبض الباب ليُجرب فتح الباب، ثم ما لبث أن أغلقه على الفور مجددًا.

قال وهو يتنحَّى إلى الوراء مفسحًا لها الطريق: «كما ترين يا سيدتي، الباب ليس موصَدًا بالمزلاج.»

أبدَت إحجامًا طبيعيًّا عن دخول تلك الغرفة الغامضة المشئومة، لكن بعد بِضع لحظات من التردد، أمسكَت بمقبض الباب وأدارته برِفق، ثم فتحَت الباب ودخلت. لكن بمجرد أن دخلت، أطلقَت صرخة خافتة وتسمَّرت في مكانها وهي لم تزل ممسكة بمقبض الباب، وتُحدق أمامها وقد ارتسم على وجهِها الرعب.

صاحت في هلع: «يا للمسكينة! لقد أنهت حياتها. رجاءً تعالَيا وألقِيَا نظرة عليها.»

على أثر ذلك، دخل بولتون الغرفة وتبعه توم، ولوهلة وقف كلاهما عند الباب يُحدقان في الجسد المُريع الذي استقرَّ وقد تهدلَت أطرافه وتدلى رأسه في كرسيٍّ صغير ذي مسند للمرفقَين موضوعٍ أمام الطاولة. تدلَّت الذراع اليُمنى لأسفل مباشرة بينما استقرت اليسرى على الطاولة، وبجوار اليد الشاحبة اللون، استقر قِدحٌ فارغ، وعلى مسافة بضع بوصات منه وُجِد دورقُ ماء زجاجي وقِنِّينة صغيرة تحوي أقراصًا بيضاء اللون.

قالت السيدة ميتشنز نائحة: «يا للمسكينة! أتساءل لِم فعلَت ذلك، وهي مَن بدَت دومًا مرحة ومبتهجة. كم يبدو مظهرها مريعًا تلك المسكينة العزيزة! ما كنت لأتعرَّف عليها أبدًا.»

في تلك الأثناء، كان بولتون يُلقي نظرة متفحِّصة في أرجاء الغرفة، ثم تقدم إلى الأمام وانحنى فوق الطاولة ليُدقِّق النظر في القدح وقنِّينة الأقراص.

سأل توم: «ماذا تحوي تلك القنينة؟»

كان الرد: «سيانيد البوتاسيوم.»

«ذلك سُم قويُّ المفعول، أليس كذلك؟»

أجابه بولتون: «بل سُم مُميت، ومفعوله سريع للغاية؛ ويسهل الحصول عليه أيضًا، كما ترى مما هو مكتوب على ملصَق تلك القنِّينة؛ «أقراص تحميض الأفلام الفوتوغرافية»؛ من السهل الحصول عليها فيما يصعب تتبعُ أثرها.»

عقَّب توم قائلًا: «تتبُّع أثرها لن يكون ذا بالٍ في هذه القضية؛ فهيَ مَن سممت نفسها. السؤال هو لِم فعلت ذلك؟»

نقل بولتون اهتمامه من السُّم إلى الجثَّة، وبينما وقف يُحدق في السيدة المتوفَّاة، ارتسم على وجهه تعبيرٌ من الدهشة والحيرة. في تلك اللحظة، تسلَّل شعاعٌ من ضوء شمس الخريف الشاحب عبر النافذة، فأضاء شعرُها الأشقر جاعِلًا إياه لامعًا كالذهب المصقول. بدا ذلك المشهد وقد زاد من دهشة بولتون؛ إذ اقترب من الجثة وقد أجفل وجهه بوضوح، والتقط برفق خصلةً صغيرة من الشعر الذهبي، ثم قربها إلى وجهه وتفحصها بعناية. وكأنما لم يقتنع بعدُ، رفع الرأس المحنيَّ برفق وألقى نظرة مطولة ومتمعِّنة على وجه المسكينة الشاحب المنتفخ. راقبه توم وصاحبة المنزل بدهشة، ثم سأله الأول:

«ما الخطب يا بولتون؟»

أجاب بولتون وهو لا يزال مُمسكًا بالرأس مرفوعًا بنبرة اندهاش:

«تلك المرأة يا سيدي ليست السيدة شيلر.»

قال صاحبة المنزل مرددةً كلماته: «ليست السيدة شيلر! لكن لا بدَّ أنها هي. فمَن سواها عساها أن تكون محبوسة هنا في غرفة السيدة شيلر؟»

قال بولتون مُصِرًّا: «تلك قَطعًا ليست السيدة شيلر. أُناشدك أن تأتي يا سيدي لترى بنفسك. فقد كنتَ تعرفها أكثر منِّي. سترى أن لون شعرها ليس اللونَ المعهود، والملامح مختلفة.»

قال توم: «لقد لاحظتُ أمر الشعر عندما سقط عليه ضوءُ الشمس، فخطر لي أن لونه قد تغير بطريقة ما. لكن بالنسبة للملامح، فأرى صعوبةً بالِغة في تمييزها.»

أجاب بولتون: «على الإطلاق يا سيدي. إنَّ بشرتها مُنتفخة، لكن الأنف لم يتغير، وكذلك الذقن نوعًا ما. وهاك الأذنان؛ تكادان لم تتأثَّرا على الإطلاق. من الأفضل أن تأتي وتُلقي نظرة عليها؛ فالتعرف على هُويتها له أهمية قصوى.»

بعد أن استحثَّه بولتون، استجمع توم شجاعته للقيام بفحصٍ للجثة عن قرب؛ وفيما أمسك بولتون برأسها مرفوعًا، فحص جانبَ وجهها أولًا ثم أذُنَيها. نظرة متمعِّنة قصيرة للغاية كانت كافية بالنسبة له؛ إذ قال وهو يتراجع عن الجثة:

«أجل، أنت محق يا بولتون. تلك ليست لوتا شيلر. فشكل الأنف والذقن يبدو مختلفًا، لكنَّ الأذنَين حسمَتا الأمر تمامًا. فهما تختلفان تمامًا عن أذُنَي لوتا، وموضعها في الرأس مختلف.»

قالت صاحبة المنزل: «هل تعتقد حقًّا يا سيدي أن تلك المسكينة ليست السيدة لوتا شيلر؟»

أجابها: «لا شك لدي في ذلك، وأشعر بارتياح بالغ كونها ليست هي.»

قالت السيدة ميتشنز: «وأنا كذلك في الحقيقة. لكن كيف جاءت إلى هنا؟ وقد أغلقَت الباب على نفسها من الداخل أيضًا. ذلك لغزٌ محض.»

وافقَها توم قائلًا: «إنه كذلك بالتأكيد. لكنه ليس من شأننا. سيكون على الشرطة أن تحلَّه.»

قال بولتون: «هذا صحيح يا سيدي، مع أنه ربما يكون من شأننا أكثر مما تَتصوَّر. لكن بالطبع سيكون علينا إبلاغُ الشرطة على الفور، وسيكون عليهم معرفةُ هُوية تلك المرأة المسكينة وكيف انتهى بها الحالُ إلى هنا. لكن ثَمَّة مسالة أودُّ أن أحسمها الآن؛ وهي ما إن كانت قد تجرَّعت السمَّ بنفسها أم أن شخصًا آخر أعطاه لها.»

قال توم معترضًا: «لكن الشرطة ستَتعامل مع تلك المسألة. فالأمر لا يخصُّنا.»

أيَّده بولتون قائلًا: «إنه لا يخصُّنا يا سيدي. لكني أود أن أعرف إرضاءً لفضولي فحسب. هل معك قطعة من ورقة مقوَّاة ملساء السطح؟»

بشيء من الارتباك، أخرج توم من جيبِه دفتر الرسم الذي يَحمله معه دائمًا.

سأله: «هل يصلح ذلك؟ إن كان يصلح، فبإمكانك نزعُ ورقة منه، لكن لا تأخذ ورقة بها رسم.»

قال بولتون: «لن أنزع الورقة منه. ستكون أنفعَ لي وهي في الدفتر، كما أني لن أحتاج إلى الاحتفاظ بها.»

أخذ الدفتر الصغير ذا الغلاف القماشي، واتَّجه إلى طاولة كتابةٍ صغيرة موضوع عليها بجانب لوح الكتابة ختمٌ ومَحْبرة، يُراقبه توم وصاحبة المنزل في فضول.

أخذ المَحبرة وحملها إلى الطاولة التي جلست عليها المتوفَّاة، ثمَّ فحص القدح مرة أخرى دون أن يمسَّه قدر استطاعته.

قال مُعقبًا: «بصمات الأصابع تبدو وكأنها لأصابع اليد اليسرى؛ وبما أن اليد اليسرى قريبةٌ من القدح، سنُجربها أولًا.»

برفقٍ شديد تجنبًا لتحريك الجثة، رفع اليد وأمسك بإبهامها وضغَطه على المَحبرة. ثم وضع المَحبَرة وأخذ الدفتر فوضع الإبهام الملطَّخ بالحبر على صفحة فارغة وضغطه بخفَّة ثم رفعه. وبالطريقة نفسِها، أخذ بصمات الأصابع الأربعة الأخرى، مرتبًا إياها في صفٍّ وَفْق ترتيبها الصحيح، وفور أن انتهى، مسحَ آثار الحبر بعناية من أطراف أصابعها بمنديله. بعد أن أعاد يدَها برفقٍ إلى مكانها، وضع الدفتر المفتوح بجانب القدح وأخذ يُقارن بدقةٍ بين البصمات على كلٍّ منهما.

قال توم: «حسنًا، ماذا وجدت؟»

أجاب بولتون: «البصمات الموجودة على القدح هي بصماتُ أصابعها. هل تود أن تراها بنفسك؟»

كانت رغبة توم المسيطرة الآن هي الهروبَ من أجواء مستودَع الموتى التي تعمُّ تلك الغرفة، لكن لما كان واضحًا أن بولتون يرغب في أن يُريَه البصمات، اتجه إلى الطاولة.

قال بولتون: «النسخة التي صنعتُها من البصمات رديئةٌ جدًّا وملطخة، لكن الأنماط تظهر فيها بوضوح. انظر إلى نمط الدوامة الحلزونية الذي يظهر في بصمة الإبهام تلك، وقارِنْه بنظيرتها الموجودة على القدح. سترى بوضوح أن النمطَين متطابقان.»

وافَقه توم قائلًا: «أجل، أستطيع تبيُّنَ ذلك بوضوح شديد؛ لكن أنماط الأصابع الأخرى لا تبدو واضحةً للدرجة.»

قال بولتون موافقًا: «هذا صحيح، إنها تبدو مبهمَة بعض الشيء لسبب ما، بخاصة في منتصف كل بصمة. لكن إن قارنتها بتلك الموجودة على القدح، فسترى أن الأنماط متطابقة.»

قال توم: «سأثقُ بكلامك بخصوص ذلك الأمر؛ فأنت أدرى مني به. وعلى كل حال، لا يعنينا إن كانت قد تناولَت السمَّ بنفسها أم لا. بالطبع ستحسم الشرطة تلك المسألة، وإن أردتَ نصيحتي، فلا تذكر أيَّ شيء عن تلك البصمات. فالسلطات لا تحب التدخلات الخارجية في مهامها.»

قالت السيدة ميتشنز: «أعتقد أن السيد بيدلي مُحق. لا نريد أن نبدوَ بمظهر الفضوليين أو المتطفلين، وقطعًا لا نُريد أن نُثير غضب الشرطة.»

قال بولتون موافقًا إياها: «بالطبع يا سيدتي لا نريد ذلك. سيكون من الأفضل كثيرًا أن نحتفظ بآرائنا لأنفسنا؛ وهذا بالفعل ما كنتُ أنوي اقتراحه. فقد أجريتُ تلك التجرِبةَ لا لشيء إلا لإرضاء فضولي؛ لمعرفة ما إذا كانت تلك قضيةَ انتحار أم قتل.»

قال توم وهو يتقدم ببطء نحو الباب: «حسنًا، ها قد عرَفنا إجابة ذلك السؤال؛ والسؤال التالي هو مَن سيبلغ الشرطة؟»

وبينما يطرح سؤاله، نظر نظرة ذات مغزًى إلى السيدة ميتشنز، التي أجابت باغتمام عندما خرجوا إلى الردهة:

«أفترض أن باعتباري صاحبة المنزل ومؤجِّرتَه للسيدة شيلر، من الأفضل أن أفعل أنا ذلك. لكن لا أستطيع إخبارهم بالكثير، وأتوقع أنهم سيرغبون في استجوابك بشأن السيدة شيلر.»

قال توم: «أتوقع ذلك أيضًا، لكن في الوقت الحالي أظن أنكِ الشخص المناسب للإبلاغ عن الأمر.»

وافقه بولتون الرأيَ بشدة، وبغرض إنهاء النقاش سحب المفتاح برفق من القفل ثم أغلق الباب، وبعد أن أوصده بالمفتاح، سلَّم المفتاح لصاحبة المنزل. ثم غادر هو وتوم بعد أن واسَيا السيدة ميتشنز ببضع كلمات، واتجها إلى المرسم.

قال توم وهو يلتقط بضعة أنفاس عميقة حين خرجا إلى الهواء الطلق: «أُف! يا له من أمر مريع! لكني أظن أنك مُعتاد على مثل تلك الأمور.»

أجابه بولتون: «إلى حدٍّ ما يا سيدي. تعلمت من الدكتور ألا أدع الفظاعة المادية تُشتت انتباهي. لكن يا له من لغز غامض! لا أفهم منه شيئًا. فها هي امرأة، من الواضح أنها غريبة، مغلق عليها باب غرفة السيدة شيلر بمفتاح السيدة شيلر. هذا يُثير أسئلةً شتى. مَن هي؟ كيف حصَلَت على المفتاح؟ لِم جاءت لذلك المكان كي تنتحر … إن كانت قد انتحرت بالفعل؟ وأين هي السيدة شيلر؟ ستحتاج الشرطة إلى إيجاد إجابات لتلك الأسئلة، وأعتقد أن بعضها سيحتاج إلى مجهودٍ كبير للإجابة عنه.»

وافقه توم قائلًا باغتمام: «أجل، وسيأتون إلينا بحثًا عن بعض تلك الإجابات. سيكون ذلك مصدرَ إزعاج مريع.»

بعد أن اغتسلا — وهو الأمر الذي قام به توم بعناية شديدة — في إناء كبير في حوض المرسم، تابعَا نِقاشهما فيما كانا يُعِدان المائدة لتناول الشاي ويسخنان الغلاية. لكن نقاشهما لم يُسفِر عن أي شيء عدا إبراز الاختلاف الغريب في وجهتَي نظرَيهما. بالنسبة إلى توم، كانت تلك المأساة مريعةً إلى حدِّ الاشمئزاز، وكان يجد صلته بها شيئًا مقيتًا للغاية. لم يكن لديه أيُّ اهتمام أو فضول تجاهها.

على النقيض، لم يَبدُ على بولتون أيُّ أثر للصدمة أو الاشمئزاز، بل بدا أنه يستسيغ التفاصيل بتلذُّذ تشمئزُّ منه النفس، ويستمتع بلغز القضية وغموضها؛ حتى إن محاولات توم المتكرِّرةَ لتحويل مجرى الحوار إلى قنوات أكثرَ استساغة باءت بالفشل الذريع، ولأول مرة، كاد يشعر بارتياح لما حان وقت عودة بولتون إلى مهامه.

قال الضيف الموشك على الرحيل وهو يرتدي معطفه ويتمعَّج فيه ليُهندِمه: «حسنًا يا سيدي، لقد كان عصرُ اليوم زاخرًا بالأحداث. وقد استمتعتُ به كثيرًا.» ثم توقف فجأة عن تمعجاته وحدَّق بتوم في ذهول مثير للضحك. صاح قائلًا: «عذرًا يا سيدي، كدتُ أنسى عداد الخطوات. لقد نظفته وأصلحته، ووضعتُ به منظمًا جديدًا ذا لولبٍ ميكروميتري، وألحقتُ به مفتاح ساعة لضبطه به. ستفهم في الحال آلية عمله، لكني دوَّنت لك بعض الإرشادات.»

أخرج الأداة ملفوفةً في منديلٍ ورَقي، ووضعها على الطاولة ومعها ورقة صغيرة. ثم بعد أن استنكر كلماتِ الشكر الممتنَّة التي وجَّهها له توم، صافحه وانطلَقَ في طريقه إلى تيمبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤