الضجيج والضوضى

قالت أشجارُ الغابة لأشجار البستان: لماذا لا نسمع لأغصانك حفيفًا؟ فأجابت: لأنني أستغني عن ذلك بنمو ثماري التي تشهد لي. ثم سألت أشجارَ الغابة قائلة: ولماذا نسمع لأغصانك هذا الصوت القوي؟ فأجابت أشجار الغابة: لكي يشعر الناس بوجودي.

التلمود

كتبت إحدى الجرائد الأميركية فصلًا في مزمار الكنيسة وقيثارها، وقالت: إن العبادة قائمةٌ بالجلال والجمال والاحتيال، والحق بجانب كاتبها؛ إذ إن حياته وحياة جريدته وحياة أكثر الناس إنما تقوم بالتشدق والتبجح، بالضجيج والضوضى، بالزخرف والاحتيال، بالتصنع والتمويه، قال أبو العلاء المعري:

والغيث أهنأ ما تراه عطيةً
ما لم يحث بوارقًا ورعودًا

والحكماء الذين يرتأون رأي أبي العلاء ويقولون قول أشجار البستان في التلمود يعدون على الأصابع؛ فهم — والحال هذه — لا يجدون الكنيسة والصحافة نفعًا. لا سكينة إلا في القبر، والضوضى حياة العالم. كيف لا يكون منشئُ الجريدة مصيبًا بانتقاده إذًا ومعذورًا بتهلُّله، وكيف لا يتأثر المتدينون من كلامه العنيف، فقد شن أحدهم عليه الغارة مسلحًا بأقوال الرسل الأبرار وخرج بالتوراة على الطبل والزمر والقياثر، فمن وجه نرى في حجة المعارض بعض القوة؛ لأنها تتضمن إقرارًا خفيًّا بأن الديانة المسيحية على حالتها الحاضرة وبزياداتها وطقوسها هي غيرُ الديانة التي وضعها المخلِّص.

وبعبارة ثانية هي أكثر مما وضعه بدرجات، ومن وجه آخر نستصوب انتقاد صاحب الجريدة؛ لأننا مهما سمونا بالنظريات نظل أبدًا محاطين بالحقيقة المؤلمة التي تنبئنا عن ميل الجنس البشري إلى كل ما فيه تصنُّع وزخرفة وجمال، وقرقعة وضجيج واحتيال. والإنسان من طبعه حب الهياج والطرب والانبساط، فهو يُعنَى ببطنه أولًا، ثم بقلبه، ثم بعقله. وإذا شئت أن تستميل عقول أكثر الناس فلا تقوى على ذلك إلا بواسطة بطونهم أو قلوبهم. أما الجدل الفلسفي والبرهان المنطقي فلا يجديانك في البدء نفعًا. يجب أن تخاطب بطن الشعب وقلبه قبل أن تخاطب عقله، والمتدينون اليوم لا يختلفون إلى الكنيسة إلا إذا كان هناك شيء يطرب ويلذُّ. وأما فصاحة الواعظ ولاهوتُه وعلمُه الراسخ في أُلوهية المسيح وناسُوتُه؛ فتلك أُمُور قد درج يومها ومضى زمانها وذهب العلم بعِزِّها.

نحن في مرسح كبير يُدْعى العالم وبنو البشر كلهم ممثِّلون، وأذكر أن شكسبير قال هذا قبلي وقد يكون فكري ابنَ فِكْرِه، ولكن ذلك قلما يهم. العالم مرسح كبير، أتُحب أن تغص بيعتك بالناس أيها الكاهن، أتريد أن تعقد جلسة سياسية أيها الخطيب، أتود أن تقترح على الشعب اقتراحًا مفيدًا أيها السياسي. أتُريدون أن تجمعوا حولكم من الرجال رهطًا كبيرًا ومن النساء جمعًا غفيرًا؟ فما لكم إلا أن تعلنوا عن أجواقكم الكبيرة الشهيرة من موسيقيين ومغنين وممثلين، فيجيئكم الناسُ زرافات وأفواجًا، ويلتقفون المقاعد التقافًا، ويزدحمون على الدكات، ويحشرون في الزوايا. فتمثل إذ ذاك أمامهم الرواية فتميد من الجلبة والضوضى البناية. ثم يقوم الخطباء وينتهزُ الفرصةَ الفصحاءُ فيقترحون اقتراحاتهم العديدة ويبدون آرائهم السديدة وتميل قلوب الجمع معهم كيفما مالوا، وتختم الرواية بالهتاف والضجيج وقد فتحت بالصريخ والضوضى. فبئس البداية وبئس النهاية.

ولكن أعلن في الجرائد أن الأستاذ الفلاني سيخطب في ليلة كذا في اكتشاف سيارة جديدة مثلًا، أو الشاعر الفلاني الشهير سيفيض في موضوع الشعر والعصر في يوم كذا. وانظر كم يكون في القاعة من الناس لاستماع خطاب الشاعر أو الفلكي. إن جلستنا هذه هادئة لا جلبة فيها ولا ضجيج، إنها لجلسة بسيطة، جلسة علمية أو شعرية لا طبل ولا زمر فيها، لا موسيقى ولا مغنين؛ ولذاك لا يحضرها إلا النزر القليل من الناس، أتحزنك الحال هذه؟ ولكن ما العمل، نحن في عالم لا يقوم إلا بالضجيج والتبجح ولا ينهض بغير الخداع والجربذة والاحتيال، فارفع إذًا صوتك وضع بجيبك ضميرك وسِرْ مع الجمع كما يسير ودُرْ بالليالي كما تدور.

وأما الكنائس الأميركية التي يمتاز أعضاؤها عن بقية الشعوب بسمو المدارك والتساهل — كما يقال — فهي مثل الملاهي من حيث الموسيقى والترتيل. إني أعرف عن ثقة أن كنيسة في نويرك تدفع لرئيس جوق الترتيل فيها ألفي دولار مُسانهةً، وأعرف أيضًا أن الأجراس — مع ما اتصلت إليه هذه الأُمَّة من التمدن — باقيةٌ في قباب الكنائس تُقلق راحة السكان بقرقعتها. وأؤكد أن نصف من يُصلُّون يذهبون إلى الكنائس ليسمعوا أصوات المرتلين وأنغام الأرغن، فيسمعون عرضًا وعظ القسيس أو الكاهن.

نعم إنها لحال محزنة، ولكن أفي الوسع تغييرها؟ وهل هي في الكنيسة فقط؟ كلا، فهي ساريةٌ في كل جمعية مدنية كانت أو دينية، نصف السياسة في هذه البلاد المنورة قائمٌ بالضوضى والضجيج والاحتيال، كما ذكرت. فانظر إلى مجتمعات هؤلاء الأميركان السياسية وتأمل، نحن الآن في زمن الانتخاب فحاذرْ أن تُصاب أُذُناك بالصمم، اسمع أصوات الأبواق ودوي الطبول وضجيج «النوبات»، سرح نظرك في الشوارع لترى الألعاب النارية والصور الزيتية والفوانيس السحرية والاختراعات الكهربائية وكلها تُستخدم لجمع الشعب فتستميله إلى هذا الحزب أو إلى ذاك.

كلها تُستخدم لبث روح حب الوطن في الناس ولإضرام الحماسة في قلوبهم، أما الخطابة فهي أمرٌ ثانويٌّ فلا تغتر بما تسمعه عن استنارة الشعب واقتناعه بالبرهان. الشعب حيوان عظيم يحتال عليه الزعماء ويهيجونه بآلات الطرب ويستميلونه بأنواع الزخرف والزينات، ويطبِّعونه بالإعلانات، ثم يرشون عليه قليلًا من الفصاحة وشيئًا من البيان فيرقص إذ ذاك رقصةً تُلائم ما يسمعه من الألحان، هذا هو الشعب في الجمهوريات. نعم إن الطبل هو البرهان المفحم والزمر هو الحجة القاطعة ومنطق هذا الزمان الضوضى.

قد تتوق نفوسنا إلى السكينة والهدو لعلمنا أن الرعد والبرق قلما ينفعان وأن المطر دونهما لا يفقد شيئًا من قوته وبَرَكته ولكن أنَّى المفرُّ من الضجيج؟ نود لو مجد الناس الله مناجاةً فقط، نود لو صلى المرءُ في مخدعه، ولكن ماذا يصير في الكنائس والمعابد التي لا بد من وُجُودها، ألا ينبت العشب في أرضها وينعق بوم الخراب في أرجائها لو جُرِّدت من أواني الزخرف وآلات الطرب؟

وأما من شَنَّ على الجريدة الغارةَ مسلحًا بأقوال الرسل الأبرار، طالبًا إبطالَ المزمار والقيثار فأنا أشعر معه من حيث النظريات فقط وأذرف وإياه دمعتين على فساد هذا الزمان المضطرب وآله المقلقين ونندب حظ الدين الذي لا يقوم إلا بالزخرف والضوضى والضجيج كما هي حالة فرع من الديانة المسيحية بالأخص ألا وهو «جند الخلاص» الذي لا أُريد أن يكون خلاصي عن يده المعتادة على ضرب الطبل وعند هذا الحد أُودع عدو القيثار آسفًا وأسأله أن يضع سلاحه الدينيَّ جانبًا وينظر إلى المسألة من وجهها العمليِّ السياسيِّ الدنيوي فيرى — إذ ذاك — أن أكبر قِسْمٍ من الحقيقة التي ظَنَّهَا كلها بجانبه هي بجانب الجريدة وبأولى حجة بجانبي. وخلاصة الكلام أن الجريدةَ مصيبةٌ بانتقادها والمراسل غيرُ مخطئ تمامًا باحتجاجه، وإذا كان الضجيج لازمًا فالاحتجاجُ عليه لازمٌ أيضًا، والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤