بيني وبين مدير الجريدة١

زحفت منذ عام على هذ الخواطر رُوحٌ خفية، فطردتها من أعمدة هذه الجريدة الأميركية، أرادت تلك الروح الاستئثار، فآثرت الخواطر على الحضارة القفار، وعلى الدخان النار، وسَمَتْ إلى الطيران في الفضاء دون الاقتراب من الكبار والصغار، هجرت قانعةً وسارت رائدة، فكان للهاجر والمهجور بعضُ الفائدة، والحقيقةُ الآن إلى البيت المطهَّر عائدة، العود إذًا إلى الوطن المحبوب، فقد استتبَّ فيه السلامُ المطلوب، وظهرتْ حسنات وسيئات تلك الحروب التي عززت بعض الحقوق ومكنت في الناس كثيرًا من العيوب.

ختمنا هذه الخواطر منذ عام بالنزاع والخصام، ونفتتحها الآن تحت ألوية الوئام والسلام، وهذا كل ما نكتبه سجعًا رفقًا بالقراء الكرام، فلا تجزع إذًا أيها القارئ ولا تَخَفْ، إن صاحب هذه الخواطر يعتبر الشريعة إلى حد محدود ولا تلذه الكتابة من وراء الحديد، وهو يعدك بأن حريته وحكمته تبقيان غالبًا في القانون، فإذا كانت الحكمة تحبس الجسد الذي يحبس النفس فنحن في غنًى عنها وعن توابعها، أجل قد يكفي هذه النفسَ القلقةَ حبس واحد.

إني أحترم الشريعة ولا أتعشق الحبس؛ وذلك لأن الشريعة تمنحني بعض الحرية والحبس يحرمني إياها تمامًا، فإذًا ما لا يُملك كله لا يُترك جُلُّه، ولكن ما العمل إذا جاءني صديقٌ وأراد أن يُشاطرني هذا القليل أو أن يحرمني منه كل الحرمان، أفلا يصبح هذا الصديق كالحبس الذي لا أهواه، بل هو حبس لا حديد له ولا جدران، هو يريد أن يقيدني بإرادته كما يقيد المأمور السجين، هو يريد أن يحصر حريتي ضمن جدران مصلحته الشخصية، أفليس أوفق — والحالة هذه — أن أُسلم نفسي إلى البوليس فأرتاح من قرقعة هذا العالم ودويه ومن وداد أبنائه ومحبتهم؟

الكاتب العربي خاضع لشريعة عامة وشريعة خاصة، فالشريعةُ العامة تنال احترامي إلى حد محدود — كما سبق — ولكن كيف التملص من الشريعة الصحافية الخاصة؟ يطلب مني صاحب هذه الجريدة وهو الذي يسن القانون وينفذه أن أمتنع عن البحث في المسائل الدينية وأن أجرد هذه الخواطر عن كل ما تُشتمُّ منه رائحة الكفر — بحسب زعمه — ويطلب هذا مني إكرامًا للإكليروس الذي يخدمه مضطرًّا إكرامًا لأولئك الذين حاولوا تقييد أفكاري فنجوت منهم وشكرت ربي.

الشريعةُ العامة لا تُوجب سجن من يبحث في الموضوعات الدينية ورجال الشرطة لا تُلقي القبض على من ينتقد لوثيروس أو ينكر سلطة البابا فالشريعةُ العامة تعضدنا إذًا وتنصرنا على الشريعة الصحافية الخاصة. ومعلوم أن الخواطر هذه لا تُحبس حتى وإن حُبس صاحبها، وجُلُّ ما يستطيعه الصحافيُّ أن يمنع دخولها إلى مملكته فيوقفها في إدارة الجوازات (أي: إدارة التحرير) ويعيدها إلى حيث أتت مع الاعتبار الذي تُوجبُهُ اللياقة والأدب.

ومع أن الحق في جانبنا (وضمير الجمع عائدٌ إلى الخواطر وصاحبها) فالشريعة العامة معنا وهي لا شك تنصرنا على هذه الشريعة الخاصة إذا التجأنا إليها، فنحن نخضع للسلطة الصحافية المستبدة لا لنعلم الناس الطاعة العمياء الخبيثة، بل لنعطيهم مثلًا من هضم النفس الذي يجرِّد فاعله عن السفليات ويرفعه إلى العلويات. وهناك سببٌ آخرُ نهمس به في أذن القارئ وهو أننا لا نريد إلحاق ضرر مادي بصاحب الجريدة وهو لم ينفض عن ثيابه بعد السجن غبار إذ إننا واثقون بالفوز إذا التجأنا إلى القضاة وقد سبقنا ونادينا بالتساهل فلا نخطئ إذا وقفنا بجانب تعاليمنا وعَمِلْنَا بها ولو مرة واحدة في السنة.

نعم إن بذل النفس حَسَنٌ ولكن لا في جميع الأُمور وهو واجب ولكن لا في كل الأوقات والأحوال، هو حسن متى كانت نتائجُهُ صالحةً وثمرتُهُ ناضجةً ومنفعتُهُ شاملةً. هو جميل في قبول المسيح الصلب من أجل تعاليمه، هو حسن في شرب سقراط السم إكرامًا لمبادئه التي كان يعتقد صحتها، هو حسن في قبول غاليلو الحبس وسبينوزا النار وهوغو النفي وجان برون الموت من أجل الحقيقة التي تعشقوها وبشروا بإنجيلها. وهضم الجانب حسن متى توقف عليه حسم خلاف وإزالة خصومة، وإسقاط المرء حقه جميلٌ متى مهد سبيل التساهل والوفاق بين الناس. ومن حقوقي أنْ أبحث في أَيِّ موضوع أشاء فإن تنازلت عن بعض هذه الحقوق فذلك حبًّا بالسلام والوفاق والتساهل.

مهلًا أيها القارئ، فلا تلمني إذا تكلمت اليوم وأسقطت حقي غدًا، سكت مدة — كما سبق — عملًا بالمثل المشهور ولأسباب ذكرتُ بعضها فما الذي أوجب الكلام الآن، حادثٌ جرى في العالم (وقَلَّمَا يهتمُّ لحركة الكون من كان في المستشفى بالقرب من أُخت مريضة) حادث مزق حجاب السكوت واضطرني أن أؤجل التوقيع على المحالفة مع المدير إلى الغد.

إن عروش أُوروبا خاويةٌ خاليةٌ في الوقت الحاضر، ومُلوكُها منقطعون عن أعمالهم ترويحًا لأنفسهم من الجمود المستمرِّ الذي يكتنفُها. ومع أن نزهة الملوك لا تخلو من الألغاز والأسرار فهي لا تُقلق ولا تزعج، ومتى كان هناك أمر ظاهر فلا حاجة لمعالجة الأُمُور المدفونة والأسرار المكنونة، وأما الخبر الذي مس أحد أوتار القلب فتحرك له الفكر طربًا هو أن الملك إدوارد السابع رأس الكنيسة البروتستانية وحامي إيمانها المقدس سيزور البابا لاوون الثالث عشر في أثناء سياحته، هو خبر سار مفرح ولكنه لا يدهش. لا يدهش لأن ترقي العالم الأدبي والديني يجعل مثل هذه الأُمُور طبيعية عادية معتادة، ولكن الخبر المناقض لمجرى الترقي الدائم، الخبر الذي يكدر بقدر ما ذاك يسر هو أن الإكليروس البروتستاني بعث إلى ملكه رسالة برقية بها يحتج على تصرفه ويعترض على هذه الزيارة المهمة المفيدة.

فهل يتعجَّب القارئُ إذا وقفتُ قليلًا في وسط الطريق لأقول كلمة صغيرة، هل أُلام إذا تكلمتُ اليوم وأَجَّلْتُ بذل حقي إلى الغد؟ فحتامَ التعصب يا رؤساء العالم وعلام الاستبداد؟ عفوًا إن الرؤساء الحقيقيين العقلاء يميلون مع الزمان إلى التساهُل والموادعة والوئام، ولكن الصغار المنزوين لا يرضون عن مثل هذا الترقِّي. الصغار المنزوون هم الذين يحتجون ويضجون ليشعر الناس بوجودهم.

كنت أظن بأن الكاثوليك أشد تعصبًا من إخوانهم البروتستان، ولكن الخبر هذا أفسد ظني وصرت أعرف في المستقبل كيف أرتاب وأشك قلت: إن زيارة الملك إدوارد غير مدهشة، ولكنها مُفيدة، أما احتجاج البرتستان فلا هو مدهش ولا هو مفيد، هو صفحةٌ من تاريخ الأجيال المظلمة، هو برهانٌ على تأثير الإكليروس حتى اليوم في الحكام المدنيين.

منذ نُشُوء الديانة المسيحية، وبعبارة ثانية منذ تأسيس الكنيسة حاول رجال الكهنوت أن يتسلطوا على الملوك ويستخدموا قُوَّةَ الجيش لتنفيذ مآربهم، وفي هذه الأيام يحاولون القبض على زمام الأحكام بواسطة المتشرعين المدنيين ولكن هل ينجحون؟ هل نجح الإكليروس الإنكليزي في سن شريعة تجعل المدارس العامة الإنكليزية تحت رعايته وتدبيره ونفوذه؟ كلا، وهل يغني اعتراضه الآن على الملك شيئًا؟ كلا. نحن في تقدُّم من هذه الوجهة على ما يعترضنا من الطوارئ المكدرة.

إن لاوون الثالث عشر مثال الحكمة والمحبة والتساهل، فهل يخطئ إدوارد السابع إذا زاره، ولو كانت تسمح الاصطلاحات الكنسية بالسياحة لرئيس رؤسائها ألا تظنه يزور ملوك أُوربا كافةً على اختلاف مذاهبهم؟ بلى. وأنا أظن أيضًا بأن بعض المطارنة والكرادلة في قصر الفاتيكان يعترضون على صنيعه هذا كما اعترض قُسس البرتستان على ملكهم؛ وذلك لأن في الطغمتين أُنَاسًا صَغُرَتْ نفوسهم فلا يرون ما يراه العاقلُ ولا يوازرون الحق على الباطل. وهم يُعارضون ويحتجون ويضجون ليشعر الناس بأنهم في عالم الأحياء يُرزقون. والذي قاله سيلستين عن البابا بونيفاس الثامن يُطلق على مثل هؤلاء الرؤساء، فهم أيضًا يستولون على المناصب كالثعالب، ويحكمون كالأسد، ويموتون كالكلاب.

١  الذي أوجب كتابة هذه المقالة هو أن أحد المرسلين المارونيين في نويرك كان قد استاء من الخواطر التي كنت أنشرها في جريدة هناك، فدخل بيني وبين مديرها دخولَ الوَسْوَاس الخَنَّاس الذي يوسوس في صدور الناس — كما يقال — وما خالف في عمله هذا مألوف أكثر إخوانه ذوي القلانس، وبما أن صاحب الجريدة مقيَّدٌ بقُيُود الملة أعار المرسل أُذُنًا صاغية وآثر على نفس حرة نفسًا باغية، فنفضت عن أوراقي غبار الإدارة وحبست عنها خواطري إلى حين، وكان هو من الخاسرين. وقد اعترف المدير بذلك بعد أن اختبر رجل الدين ووجد الفضيلة بعيدةً عنه بُعْدَ الخائن الأثيم عن الصادق الأمين فسألني إذ ذاك أن أعود إلى نشر خواطري، ففعلت بعد أن عَقَدْنَا مُحالفة جديدة علمًا مني بأن الفوز لمن صبر، وهذا والله تحرير الخبر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤