الكتَّاب

يقال إن الكتَّاب صنفان صنف يكتب ليعيش وصنف يعيش ليكتب، وقد فات من قال هذا القول أَنَّ هناك كاتبًا آخر يستحق أن يُرفع فوق الاثنين أَلَا وهو الكاتب الذي يعيش ويكتب، والفرق بينه وبين كتَّاب تينك الطبقتين طفيفٌ في الظاهر. هو قائم بحرف العطف الصغير ولكنه في الواقع عظيم وجدير بالاعتبار.

ولا بأس من التفصيل وإن أَدَّى ذلك إلى التطويل، لا حاجة للقول إن من يكتب ليعيش لا يكتب شيئًا يُذكر فيؤثِّر، هو كاتب مأجور يحرك اليراعة كيفما شاء السيد، هو حوذي الأدب يعلق على عربة علمه تعريفة الحكومة ويسوق القلم كيفما شاء الراكب وإلى حيث يشاء، وقد تَقَرَّرَ عند الإفرنج مقام هؤلاء المسودين المبيضين فلا يعدون عندهم من طبقة المؤلفين وأرباب الأدب، وأكثرهم ممن ينشئون الجرائد ويراسلونها فيمارسون صناعة الكتابة زمنًا طويلًا دون أن يتعدى اسم الواحد منهم إدارة الجريدة المستخدم فيها، وإذا تكلم الناس هنالك في الصحافي مثلًا يتكلمون فيه كما يتكلمون في التاجر أو الإسكافي أو الفلاح أو الصرَّاف، فيحصرون الحديث في الأرباح والخسارة، في عدد المشتركين والمعلنين وقَلَّمَا يذكرون الكاتب أو المدير أو المراسل.

وقد ينشأ من هذه الفصيلة الكبيرة فصيلةٌ أُخرى ممتازة باسمها الجليل ومعروفة على الأقل بين المؤلفين إن لم تكن مُكَرَّمة عندهم ومحبوبة ألا وهي فصيلة الجهابذة الناقدين، أولئك الذين ينظرون بالكتب الجديدة التي تُصدرها المطابع دون انقطاع فينتقدون ويماحكون ويغالطون. وهم قَلَّمَا يقرظون ويمدحون، نعم الناقد كاتب مجهول يقصر عن التصنيف فيقضي حياته الكتابية في انتقاد التآليف الجديدة، وقلما يَشتهر فردٌ من أفراد هذه القبيلة الغازية الضاربة على تُخُوم الآداب خيامها، وقلما يكون لها قائدٌ أو شيخ أو أمير، فكلهم في الميدان سواء «كُلٌّ إذا عُدَّ الرجال مُقدَّم» ولكن مع كل ما يُحدثونه من القرقعة والجلبة، ومع ما يجيء في طعنهم الشديد من النقد السديد لا يُعدون من طبقة الكتَّاب والمصنفين، هم ممن يكتبون ليعيشوا، هم ممن يعلقون على باب مكتبهم التعريفة الرسمية.

وأما الطبقة الثانية من الكتَّاب — أولئك الذين يعيشون ليكتبوا — فقد تكبر الفائدة في تآليفهم وتصغرُ بقدر ما يعيش الواحد منهم قريبًا من الحياة البشرية المتحركة والحياة الطبيعية الساكنة، فالذي يعيش في مكتبه أبدًا ويؤلف بين الكتب والأوراق والمحابر بعيدًا عن حركة الحياة ومظاهرها يصنف لا شك كثيرًا ولكنه لا يعيش حقًّا، وقد يسقط في كثرة تآليفه سقطة الكاتب الأول في مقالاته المأجورة. الذكاء شيء نادر يا صديقي، ومتى وهبتْ منه الطبيعةُ أحدَ بنيها فبالدرهم والقيراط، وأكثر المؤلفين المشهورين أفرغوا كل ما أُتُوهُ من الذكاء بكتاب أو كتابين من كتبهم العديدة وما سوى ذلك يُعَدُّ من طبقة الكتابة التي يكتبها ذوو التعريفة الرسمية.

عندك من الكتاب الأميركان من يضطر أن يؤلف كل سنة رواية أو روايتين حتى يظل اسمه في أفواه الشعب يردد وفي أنظارهم يتمثل، فلا ينساه إذ ذاك القراء ولا تخسر الشركة في طبع تآليفه، فالكاتب الذي يضطر أن يؤلف على التوالي بلا انقطاع ليظل مذكورًا معروفًا لا يجيء غالبًا إلا بسقط المتاع وإذا كتب شيئًا نفيسًا فبالاتفاق وكبيضة الديك، كتابًا واحدًا من بين تآليفه كلها التي تُعدُّ بالعشرات.

وبين مثل هذا المؤلف الذي يعيش ليكتب وذاك الذي يسوِّد المقالات ليعيش شيءٌ من النسبة والقرابة، فكلاهما يكتب ما يُنسى بعد القراءة الأُولى وكلاهما أسيرُ قلم، يُمارس الكتابة والتأليف كما يمارس التاجر تجارته والدباغ صناعته والفلاح الحراثة، فمن من هؤلاء كلهم يتفرغ مثلًا للذَّات العقلية والتأملات الروحية أو الرياضات الجسدية، من منهم يَخرج من دائرة مهنته الضيقة إلى حقول الحياة ورياضها ولو مرة في الأُسبوع أو في الشهر، من منهم يخرج إلى الطبيعة ليقرأ في كتابها النفيس الفريد ولو صفحة كل يوم أو صفحتين؟

من يكتب ليعيش إذًا يعيش ولا يكتب، ومن يعيش ليكتب يكتب ولا يعيش. وأما الثالث فيقسم وقته تقسيمًا حكيمًا ويُفرد منه للطبيعة وللحياة وللأدب، الثالث يعيش حياة عقلية وروحية وجسدية معًا في حين يعيش الاثنان الأَوَّلان عيشة ناقصة ناشفة الواحد منهما عقلي والثاني ماديٌّ والاثنان بعيدان عن العنصر الروحي العلمي الذي يجب أن يسود في كل ما نكتبه اليوم.

الكاتب الثالث: الكاتب الذي يعيش ويكتب لا يصنف تصانيف فكتور هوغو أو فُلْتِرْ ولا يعيش عيشة ڤرلاين أو أديب إسحاق، وهو لا يكتب إلا في ساعة الإلهام والوحي، خذ لك مثلًا قريبًا يشرح رأيي هذا شرحًا جليًّا، تعالَ نقابل أيها الأديب بين فُلْتِرْ وروسو أو بين هوغو وهَيني، فكم صنف فُلْتِرْ وكم ألَّف، وكم سوَّد من المقالات ونظم من القصائد وكتب من الرسائل، وإذ إنه لم يخرج قط في حياته الخاصة عن الرسميات والتكلف جاء ما كتبه في الموضوعات الاجتماعية ناقصًا ففُلْتِرْ الكثير التآليف لم يختبر العالم مثل روسو والقليل الذي كتبه هذا يوازي الكثير الذي صنفه ذاك.

من منا يذكر اليوم من تآليف فُلْتِرْ التي لا تُحصى سوى رسائله وبعض رواياته، وأما روسو فأكثر الذي كتبه يُقرأ حتى في زماننا الحاضر، ومن لا يقرأ «الاعترافات» أو «إميل» أو «الميثاق الاجتماعي» اليوم على نحو ما كان يقرؤها أبناء القرن الثامن عشر على عهد الثورة؟

عاش روسو الفيلسوف عيشة طبيعية بعيدًا عن الرسميات والتصنُّع وسقط في خروجه عن المألوف سقطاتٍ عديدةً ولم يكتب ما كتبه إلا بعد الاختبار والتأثر، ولم يؤلف كتبه الشهيرة إلا بعد أن قَاسَى ألوان العذاب واضطُهد أشد الاضطهاد، وأما فُلْتِرْ الخفيف الروح الواسع الاطلاع الطويل الباع الذي بَزَّ زملاءه ذكاءً ودهاءً فعاش غالبًا في مكتبته بين المحابر والأوراق، عاش بعيدًا عن الشعب كما يعيش الأميرُ أو الملك وإذا خرج مرة فإلى بيوت الأشراف وقصور الملوك، وهكذا ألَّف ما ألفه وفي نفسه من تأثير هذين الوسطين شيءٌ كثيرٌ، ومثل هذه المقابلة يصحُّ إطلاقُها على هوغو والشاعر الألماني هَيني، وكنت أَوَدُّ لو أذكر كُتَّابنا عوضًا من هؤلاء الإفرنج فعندنا اليوم من المؤلفين من يصح بين بعضهم مثل هذا التنظير، ولكن ماذا يمكنني أن أقول وأنا لم أزل أُردد كلام النبي الذي قرأتُهُ البارح.

قال نبي الإسلام: «ما آتى اللهُ أحدًا علمًا إلا أخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه أحدًا.»

لنقسم الكُتَّاب قسمًا آخر إذًا، لنقل إن الكتاب اثنان أحدهما يكتب ليُرضي الناس والثاني ليُرضِيَ نفسه، الأول يكتم علمه حُبًّا بكيسه والثاني يبثه حبًّا بأدبه، فالذي يكتب ليرضي الناس لا يحتاج إلى معرفة قرائه وما نشئوا عليه من التهذيب والأخلاق ولا يهمه إن اختلفت مذاهبُهم وتباينتْ مزاياهم وتضاربت أذواقُهم فهو يجاريهم على ما يشاءون ويخوض عباب البحر جاريًا مع الأمواج سائرًا مع التيار العام، ومعظمُ ما ينبغي له درسه ينحصر في أحوال قُرَّائه المدنية والاجتماعية وأذواقهم الفطرية، فيكتب ما يلائم ذلك ويبسم ساخرًا وهو يسوقُ بين التهكم والمجون يراعه.

هذا إذا كان عالمًا خبيثًا وأما إذا كان غرًا غبيًّا فيقول قوله معتقدًا أن الحق معه لا مع سواه، ثم يرفع حاجبيه ويُصَعِّر خَدَّيْه ويقول في نفسه معجبًا: حقًّا إن المرء بأصغريه، أما العالم الحقيقي والكاتب المخلص المستقيم الذي يكتب ليرضي نفسه أولًا فهو يحتاج من المطالعة أوسعها ومن الدرس أكثره ومن البحث والتنقيب أدقهما ومن الجراءة الأدبية أَشَدَّهَا. الأول يتذلل لهذا البك، ويتملق ذاك الباشا، ويجامل هذا المطران، ويطنب في مديح ذاك الأمير، ويثني على كل ذي سلطة وسؤدد، عادلًا كان أو ظالمًا، جاهلًا أو عالمًا، صادقًا أو خبيثًا، دنيئًا أو نزيهًا. والثاني يحافظ على كرامة الأدب ليُعزِّزَ ما عنده من العلم ويبثه دون مراوغة ومحاباة فلا يُقال عنه إذ ذاك هو عالم، ولكنه جبان.

فمثلُ هذا الكاتب يُبدي آراءه، سَخِطَ القراءُ أم رضوا، هو لا يكتم علمه أحدًا، هو لا يبعد الحقيقة عن الناس ولا يبعد الناس عن الحقيقة. الكاتب الأول يمحق بأعماله ما اكتسبه من العلوم إذا كان مكتسبًا شيئًا، ويمسي بعد ذلك كعامَّة الناس، فيقف أمامهم لا ليفيدهم ولا ليساعدهم على تحسين حالهم بل لِيَسْلُكَ مسلكهم في كل الأُمور ويقتفيَ أَثَرَهُمْ في كل شيء. والكاتب الثاني يدرس أحوال الأُمَّة متأملًا ويبحث في أخلاق الناس المتباينة فيفيد إذ ذاك إذا كتب ويصدق إذا انتقد، الأول مسئولٌ عما يكتبه لجيبه فقط والثاني مسئول لضميره. والعالم الذي يكتم ما يعلمه خشية أن تكدر القراءَ أقوالُهُ هو كالطبيب الذي يُحجم عن العملية خوفًا من أن يؤلم المريض، أو هو كالقاضي الذي لا يرشد المذنب ويوبخه خشية أن يكدر خاطره الكريم. فما أجمل ما رَوَى نبي الإسلام إذًا:

ما آتى الله أحدًا علمًا إلا أخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه أحدًا.

وما أقبح وأسخف ما يقول أولئك المحافظون المنقادون إلى الذوق العام الفاسد، فإذا قرءوا مقالة مفيدة فيها شيءٌ من الآراء الجديدة يمتعضون ويشمخون ويزدرون صاحبها قائلين: إن هذا لا يوافق القومَ ولا يُلائم أذواقهم ومشاربهم، فلهؤلاء ولمثلهم أقول: كيف يتسنى لكم إصلاح الذوق العام الفاسد إذا كنتم في كتاباتكم لا تقولون ما يكدر ولا تُبدون رأيًا جارحًا ولا تنتقدون انتقادًا صحيحًا إذا كنتم تنوون أن تجعلوا الذوق العام قياسًا عامًّا لكل ما تكتبونه فخيرٌ لكم أن تَسْتَعِفُّوا وتتركوا للشعب القول، فهو يزيدكم في أُصول المجاملة علمًا ويثبت فيكم ما ألفتموه من حب الملاطفة ومراعاة الخواطر.

الكاتب الحر هو العالم الحقيقيُّ الذي يضع أمام الناس نتائجَ علمه وثمار بحثه ودروسه فيفيد الأُمَّة بجميع مظاهرها مع محافظته على كرامة العلم وحُرمة الأدب، هو يقول قوله وإن كان ذلك معاكسًا لمَيْلِ العامة ومخالفًا لأذواق الأفراد وأهواء ذوي السيادة، مَنْ كَتَبَ للمستقبل لا يجازى على عمله في الحاضر ومن كتب للحاضر فلا يبقى له ذِكْرٌ في المستقبل. ويجدر بنا كلنا التمثل والعمل بقول من قال:

جعلك الله ممن يطلب العلم رعايةً لا روايةً وممن يظهر حقيقة ما يعلمه بما يعمله.

وأخيرًا وبكلمةٍ أَفْصَحَ، إذا لم تكن أوضح، الكاتب الذي يكتب ابتغاءَ مرضاة القوم والكاتب الذي يكتب ابتغاء مرضاة الحقيقة — لا تقاطعني فقد انتهيت — أتعرف ما الفرق بين الاثنين؟ الأول هو الثمر من البلح والثاني هو النواة، فكُل الأولَ هنيئًا مريئًا ولكن اعلم — رعاك الله — بأن النواة التي تنبذها خارجًا تخرق الأرض وتتوارى تحت التراب إلى حين ثم يسوق الله إليها سحابًا فتسيل ماءً فيحييها بعد موتها فتبزغ وتنمو ويكبر ظلها ويأكل من ثمارها أعقابُك وأحفادُك وبنوك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤