ما هي السعادة

ما هي السعادة، وأين هي، هل هي في الأعمال الصالحة، هل هي في الحياة النقية التي يعيشها أفرادٌ قلائلُ، هل هي في الصداقة المجردة الحقيقية، هل هي في الاعتزال والوحدة، هل هي في الثروة أو في الصحة أو في الشهرة والمجد، أو هل هي في الحب الجنسي والعيشة العائلية الصالحة؟ فإن لم تكن في إحدى هذه الحسنات أو السيئات أين هي إذًا، هل هي في القبر أو هل هي خيالٌ يزورنا في المنام ويختفي قبل أن يقول: عليك السلام؟ لا يا صديقي إن السعادة منتشرةٌ في العالم انتشارَ الهواء، ولربما قلت لك إن السعادة هي أن تتنشق من الهواء النقي بقدر إمكانك، وأن تمشي في البرية بضع ساعات كل يوم، وأن تستحم في كل بحيرة تصل إليها لتُصبح صحتك كصحة الذئب أو العجل على الأقل. ولكن هذه وسائل حسنة فقط، هي طرق مستقيمة تؤدي إلى السعادة بأقرب ما يمكن أن يصل إليها أحد من البشر.

أما السعادة بالذات فهي إتقان الصانع صنعته والتوفر عليها، السعادة هي في العمل ولا سيما العمل الذي يتطلب إجهادَ الفكر والاختراع. السعادة هي اللذة التي يجدها الإنسان في إتمام عمله على غاية ما يمكن من الكمال، هي اللذة التي يجدها المصور في صورة يصورها، والنقَّاش في تمثال يحفره، والشاعر في قصيدة ينظمها، والكاتب في رسالة يؤلفها والموسيقي في لحن يبتكره، والعالم في اكتشاف حقيقةٍ علمية جديدة، والإسكاف في حذاءٍ يصنعه والخياط في ثوب يخيطه، والفلاح في حقل يحرثه ويزرعه ويحصده. وقس على ذلك.

كل صنعة يتخذها الإنسان هي شريفةٌ مقدسة بشرط أن يُتقنها، بشرط أن يُتابعها بنشاطٍ واستقامة وحكمة وحذق وحماسة. وعندي أن النجار الذي يصنع مكتبة جميلة مثلًا لهو أشرف من الأديب الذي لا يُحسن عملًا مفيدًا، الأديب الذي يحتقر الأعمال اليدوية ويحمِّل نفسه أثقال الهيئة الاجتماعية، فيفادي بمهجته خدمة للإنسانية. خذ لك صنعة شريفة وأتقنها ما استطعت ومارسها باستقامة وقناعة وثبات فتستغن عن السعادة الفاسدة التي يطلبها جمهور الناس، السعادة التي ينهك الجاهل قواه في الركض وراءها ويموت أخيرًا وهو بعيد عنها.

•••

كتبت هذه الفقرة ونشرتها فورد على الجريدة من القراء ردودٌ عديدة فيها كثير من الاعتراضات الفارغة والاحتجاجات السخيفة. وأما الذين قالوا قولًا معقولًا فاثنان، أحدهما صحافي معتزل والثاني قسيس متجول. ولا شك عندي أن الصحافي اعتزل الصحافة ليقترب من السعادة، والقسيس خرج من ديره ليفتش عليها في العالم، وبما أن مهنة الكاهن خارجة عن دائرة الفنون والصنائع المقيدة جاء اعتراضه في محله إذا قال: إن السعادة الحقيقية هي التي يتحد فيها الإنسان مع خالقه، هي قائمة في الصوم والصلاة والقنوت. وغير ذلك من المتاجر الدينية التي يتاجر بها رؤساء الأديان ولو فكَّر حضرة القس وسَبَرَ بِمِسْبَار النقد الناموس الذي أشرت إليه لَأَيْقَنَ بأنني أُوافقه بالحرف إذا كنا لا نتفق بالروح، يعجبني كثيرًا اتحادُ الإنسان مع خالقه، ولكن لو سُئلت وسُئل القس المحترم عما نفهمه بالخالق لَمَا كنا نرى ونسمع بعضنا لما يكون بيننا من بعد المسافة.

أنا روحيٌّ ولست ماديًّا. إني أرى في كل ما حولي من الطبيعة شيئًا من الجوهر الإلهي الذي نُسمي مصدره الأصلي إلهًا أو خالقًا وكلما ترقى الإنسان ازداد في عينه الجمال الطبيعي المحيط به، وكلما درس الحكيم الطبيعة قرب من الناموس الرئيسي السائد في كل جزءٍ منها، وهذا الاقتراب من الناموس هو ما أُسميه ويُسميه القس المحترم أيضًا «اتحاد الإنسان مع خالقه.»

وأما الصحافي فيظن أن تعريفي للسعادة ناقصٌ إذ قلت: إنها قائمةٌ في إتقان الصانع صنعته ومزاولته إياها بصبر وجلد وسرور، بحذق وقناعة وحكمة. واللبيب الذي يُمعن قليلًا ويقرأ ما يتخلل السطور أيضًا يرى بأنني كدت أنكر وجود السعادة في العالم بعد أن فتشت عليها سنين عديدة بالفتيل والسراج. كدت أقول مع المراسل الفاضل: السعادة «على فرض وجودها» هي كذا وكذا. ولكنني وجدت بعد أن فتشت حولي بأن السعادة الحقيقية هي التي تنشأ وتنمو في الداخل، في الروح. أنا أكتب فيما اختبرته فقط، وإذا طابقت اختباراتي اختبارات الغير فلهم أن يستفيدوا بها إما بالاقتداء وإما بالحياد.

لو أجهد المرء نفسه في جمع المال وأفنى حياته في احتكار صنف من البضاعة حتى يقال عنه أخيرًا إنه «ملك السكر» أو «ملك الفحم» أو «ملك القطن» أيكون يا ترى سعيدًا، ولو أصبح أغنى من روتشيلد أو روكفلر وكانت معدته ضعيفة ورئتيه معتلتين أيكون يا ترى سعيدًا، ولو كان صحيح الجسم والعقل وكثير المال والنشاط ولكنه خالٍ من الشفقة والمحبة والحنوِّ، أيكون يا ترى سعيدًا. لو كان غنيًّا في آدابه وفي صحته وماله وفقيرًا في الفضائل التي هي دعائم العائلة أيكون يا ترى سعيدًا. إني أتفق من بعض الوجوه وذاك الصحافي في ما قاله عن بساطة العيش وسذاجته، ولكنني أُنكر أن المجد والشهرة والعظمة لا تأتي أبدًا عن طريق الحياة البسيطة التي تُزينها القناعة وتكللها التأملات الروحية، من كان قنوعًا في حياته من الفلاسفة والحكماء كان — ولا شك — سعيدًا.

أنا قنوعٌ من جهة مادية أرضية، ولكنني غيرُ قنوع من جهة روحية سماوية. روحي تطلب أكثر من معدتي في الأحايين، وعقلي يطلب الآن أكثر من حواسي، وبما أن كلامنا هو عن السعادة الحقيقية الروحية يجب أن نتكلم عن الفلاسفة والحكماء؛ إذ لا سعادة حقيقية إلا في الحياة البسيطة النقية التي عاشوها. ويجب أن نذكر بأن في العالم طبقة كبيرة من البشر ممن لا يفكرون أبدًا في السعادة، هؤلاء الناس يكدون ويأكلون وينامون كأجدادهم الذين عاشوا في العصر الذي عاشت فيه الحلقة المفقودة.

المجد الذي يجده القائد في انتصاراته زائلٌ، والشهرة التي يتطلبها الكاتب زائلةٌ، والسعادةُ التي يجدها الفتى في ماله لا تدوم، والسعادة التي يجدها الفقير في قناعته ومحبة أهله هي سعادة كاذبةٌ ضيقةُ النطاق تَزول إذا صار الفقيرُ غنيًّا أو تنتهي إلى الرضوخ والعبودية إذا ظل فقيرًا، والسعادةُ التي يجدها العاشقُ في عشقه هي غالبًا سمٌّ قاتل.

إن طريق المحبين ملطخةٌ بالدماء، أما السعادة الحقيقيةُ هي التي يجدها الصانع في صنعته على الإطلاق، أي: أن المصور مثلًا يلتذُّ في صورة جميلة صوَّرها، ولكن لذته هذه أيضًا لا تدوم فلربما شغف المصور بصورته مدة أُسبوع أو أُسبوعين أو شهر أو شهرين، ولكن متى زالت هذه العاطفة زالت السعادة فعليه إذًا أن يُداوم العمل، أن يلاحق التصوير، أن يصور صورة أُخرى لتبقى لذته في عمله متواصلة. وهذه اللذة المتواصلة هي عندي السعادة بعينها.

إني أعرف — حق المعرفة — ما في الحب الجنسي من اللذة، فلا تُحدثني عن النساء، بل قل لي لو داوم المحبون التواصلَ كما يُداوم المصور التصويرَ أو الشاعرُ النظم ماذا يا تُرى تكون النتيجة.

وماذا يعني المعترض في قوله إن تنازع البقاء ينفي القناعة والزهد وشظف العيش، وماذا يعني في قوله: إن جهاد الحياة وتطلُّب المعالي يقفان في طريق من عاش عيشة الزهد، ألم تأت الشهرة أولئك الفلاسفة الذين ذكرهم رغم قناعتهم وعيشتهم البسيطة الفلسفية. قد وجد أولئك الحكماء سعادتهم في عملهم لا في نتيجته المادية، وجد ملتون قسمًا كبيرًا من السعادة الأرضية في نظم تلك القصائد الشائقة ولكن بيعها إلى الطابعين ما كان إلا ليكدره ويحزنه، نسي ملتون همومه أثناء نظمه، ولكنه لما انتهى من قصيدة «الفردوس المفقود» وباعها بقيمة زهيدة من المال — بخمس جنيهات فقط — عاد فنظم ونظم ونظم، وهكذا كان يسلي نفسه في عمله لا بنتيجته المادية، كان يُقاتل الدهر في مداومة النظم والإبكار، وهكذا قل عن أبي العلاء وكثير من الشعراء.

يظهر لي بأن الصحافي المعتزل مهتمٌّ كثيرًا بجمع المال في هذه الأيام؛ ولذلك يُكثر مِنْ ذِكْرِ الأرباح الطائلة والجهاد في الحياة. أما أنا فلا أرى في مواصلة مثل هذا الجهاد شيئًا من الحكمة. والغاية من الحياة هي أسمى من أن نُحدِّدَها بالدرهم والدينار ونحصرها بالأصفر الرَّنَّان والدولار. إن الغاية الفُضلى من الحياة هي أن يعيش المرءُ باتفاق تام مع الطبيعة ونواميسها. وماذا تجلب المعالي الدنيوية غير المجد الباطل، فلنطلب العلاء الذي تتطلبه النفس، العلاء الذي يجعل الإنسان مدركًا ما في الطبيعة من المناقضات والمؤتلفات، من البشريات والإلهيات. العلاء الذي يهمس بأذنك بأنك قسم مفيد من هذا الكون العظيم مهما كانت منزلتك منه ومكانتك في أهله.

إن تَمَدُّنَنَا الحاليَّ متوقفٌ على مُداومة العمل ليل نهار، ولكن — بعيشك — قلْ لي ولمَ هذه الحركة الدائمة؟ هل فيها قيراطٌ من السعادة الحقيقية إذا نُسبت إلى واحد في الألف من الفقراء الذين يكدون ويُجاهدون ويعرقون دمًا ليحصِّلوا معاشهم؟ هل فيها قيراطٌ من السعادة الحقيقية لأولئك الأغنياء الذين يجمعون الأموال الطائلة ويموتون في الجهاد بائسين.

أنا أكره كل هذه الحركة كرهًا شديدًا، التمدن الحالي يمنع الناس من أن تفكر وتأكل وتنام على ما يقتضي، وعندي أن نظام الأُسبوع يجب أن يتغير كل التغيير، يجب أن يقلب ظهرًا لبطن، يجب أن نخص يومًا واحدًا بالعمل وستة أيام بالراحة، وليست الراحة التي أطلبها راحة الفيل وهو نائم في فيء صخرة في الصحراء، بل هي الراحة التي يجدها الفيلسوف في درس الطبيعة وفي التأمل، هي الراحة — لا بل السعادة — التي يجدها الشاعر والحكيم والمصور والنقاش والعالم في دروسهم وابتكاراتهم، هي الراحة التي تمهد السبيل إلى ما وراء هذا الكون، إلى العوالم غير المنظورة، إلى الله.

السعيد من جعل فكره مرآة للطبيعة، السعيد من عاش حياة فكرية روحية حسية شعرية لا حياة أرضية مادية محضة، هذا هو الرجل الغني بالعقل والروح، هو يعطيك مال العالم بأسره لو مَلَكَه ويخرج إلى البرية ليمتع هناك بكل ما أَعَدَّتْه الطبيعة لبنيها الروحيين، أنا إذا مشيت تحت المطر أعتبر كل نقطة منه مرسلة لي وحدي، فأقتبلها بيد الروح وأُعيدها بذات اليد إلى الأرض وإلى البِحَار التي أعود أنا أخيرًا إليها، وبيد الروح أُصافح الآن القارئ، إسكافًا كان أو شاعرًا، وأسأله أن يذكرني ساعة يضع جانبًا أدوات صناعته وينظر إلى عمله بعين الرضى والسرور والابتهاج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤