ابن سهل الأندلسي

في القرب من بيتي رابيةٌ جميلة، يحيط بها غاب من الصنوبر كبير، وتشرف على الكثير من أودية لبنان وأحراجه وجباله وأدياره، وبالقرب من الرابية قريةٌ صغيرة حقيرة ودير للرهبان قديم العهد، فقصدت المكان ذات يوم ومعي الشاعر الأندلسي ابن سهل، ذهبنا معًا دون أن نتحدث على الطريق؛ لأنني ممن لا يعتقدون بجودة العملين اللذين يعملهما المرء في وقت واحد.

وابن سهل هذا من الشعراء الذين صغُر حجمهم ونحُل جسمهم، وقل ادعاؤهم ورقت عواطفهم، ولطفت شعورهم وكثرت دموعهم. هو شاعر صغير ذو شهرة صغيرة، ولكن كل صغير محبوب، وأنا أُحبه؛ لأنه ليس من الشعراء الكثيري القوافي والأوزان القليلي التصور والخيال، ليس من أولئك الذين يهولك لأول مرة طول قصائدهم وتغيظك غرابة ألفاظهم وتزعجك غموضة أقوالهم وتضحكك الشروحات التي هي أضعاف المتن في دواوينهم، ولا هو من أولئك الشعراء العظام الذين ينثرون في بيوتهم الكواكب والأقمار ويثيرون في أبحرهم أمواجَ الأفكار ويضرمون في قوافيهم النار، بل هو شاعرٌ بسيطٌ صغيرٌ حزين لطيف، أحب حبًّا شديدًا مثل قيس العامري وتعذب مثله أيضًا، فهو في رأيي قريب جدًّا من الشاعر الحقيقي إذا لم يكن هو هو بعينه.

كان ابن سهل يعشق على ما أظن عشقًا حقيقيًّا لا عشقًا شعريًّا كأكثر الناظمين والمقفيين. قلت «على ما أظن» لأنني لا أعرف عن حياته الخصوصية شيئًا، وهو لم يحدثني عن نفسه عملًا بعاطفة الحشمة التي توازي فيه عاطفة الحب، ولا يخرج في كل ما أنشده عن موضوع واحدًا شغل قلبه طول حياته وأذاقه أصناف العذاب. هذا إذا صدقنا ما يجهر به في قصائده.

ينبغي للشاعر أن يعيش حقًّا قبل أن يشعر، ينبغي له أن يختبر الحياة ومظاهرها قبل أن يُصاهرها، وأن يشقى ويسعد قبل أن يزف إلى العالم بنات شعره، ينبغي له أن يذوق حلاوة الكأس ومرارتها قبل أن يُطلق خياله من قفص النفس. وإن الفرق بين شعر ينظم في رابعة النهار مثلًا والدمُ فاترٌ بليدٌ وشعر يصبه الشاعر نصف الليل من جنان ذائب ملتهب لَكَالفرق بين بركة ماء عكراء وسلسبيل جارٍ في مروج خضراء.

أجل إن الفرق بين الشاعر الذي يخلو في غرفته ويقول: لنحب كقيس أو كجميل لننظم القصائد الغزلية، لنتحمس كعنترة أو كالمتنبي لننظم القصائد الفخرية

الفرق بين هذا الناظم والشاعر الذي يخوض عباب الحياة فيحب حبًّا حقيقيًّا وينصر الحق فعلًا فيناضل عنه بيراعه وبلسانه وبعمله هو كالفرق بين الأزهار التي نربيها في بيوت الزجاج وتلك التي تنبت وتنور في الحقول عملًا بناموس الله. الأول يتغذى مما هو هو صناعي كاذب قبيح والثاني مما هو طبيعي حقيقي صحيح، شعر الأول تمثالٌ من الشمع أو باقةُ ورد صناعية، وشعر الثاني هو الحياة الشعرية بعينها.

والذي ظهر لي مما أنشدنيه صديقي ابن سهل هو أن في ديوانه قد يتبع الربيع الشتاء، وقد لا يكون فيه من الصيف غير الهجير، فقد زرع المسكينُ ولكنه لم يحصد؛ ولذلك كانت كأسه مرة للغاية، ولكن المر هذا يستحيل في نفس الشاعر شرابًا لطيفًا يلذ طعمه ويسكر شذاه، وخريره بين حصى الأشجان يُطرب الولهان، ولا يفوتنك أن الشاعر هو الداء والدواء والمداوي، فإذا شرب كأس الصبابة والشوق والصد وهام على وجهه بضعة أيام يمزج لنفسه بعدئذٍ كأسًا أُخرى من شعره فيشربه مسرورًا فيزيل مذاق الكأس الأولى، وما أشقى العاشق وأجمله وقد استلقى على مضجعه نشوان من هذه الكأس الأخيرة التي مزجتها له يد الخيال لتداوي جروحات حبه، وعند قراءتي ابن سهل خيل لي أن جروحاته لم تزل تدمي في قصائده.

لنعد إلى رحلتنا، فلما وصلنا إلى الرابية الظليلة في أصيل النهار رميتُ بنفسي إلى الأرض البنية الناعمة تحت صنوبرة شامخة ووقف صديقي الكئيب بين يدي، ولكن جمال الطبيعة أمامنا وطيب عرف الصنوبر الغض حولنا والهواء الشرقي الذي جاء من السهول مارًّا فوق صنين، والسنونو الذي كان يغرد في بستان من الزيتون قريب منا والجنادب التي ملأت الغاب بصريرها؛ كل هذه — وهي أبيات قليلة من القصيدة التي ينظمها الله — أنستني في البدء صديقي، صرفتْ نظري وسمعي عما كان ينشده بشر مثلي.

ولكنني بعد أن استلقيت على الأرض مستريحًا ومستروحًا واستنشقت الهواء الذي يمر في البساتين والأحراج فيجني من طيب شذاها مثلما يجني النحل من الأزهار، وبكلمة أُخرى: بعد أن قرأت بضعة أبيات من قصيدة الله الجميلة عدتُ فقرأت قصيدة من ديوان ابن سهل، نعم إن بين شعر الأول — عز وجل — وشعر الثاني مراحل كبيرة، ولكنه يستحق أن يقرأ هذا بعد ذاك ولو ذهبت الموازنة بكثير من حسناته.

فبعد أن ترى إذن كيف أغصان الصنوبر تخفق حين يمر عليها النسيم وكيف تتصاعد منها الزفرات حين يلاعبها الهواء اقرأ هذه الأبيات:

يعارض قلبي بالخفوق وشاحه
ويحكي امتدادًا زفرتي ليل صده

•••

وجاء لتوديعي فقلت اتئد فقد
مشت لك نفسي في الزفير المصعد

•••

روض حرمت ثماره وقصائدي
من وُرْقِهِ والآسُ نَبْتُ عذاره

أليس في هذه الأبيات شيءٌ من أنفاس الطبيعة، ناهيك بما فيها من الخفة واللطف والشعور؟

ثم مَثِّلْ لنفسك الفراشة الملونة الجميلة التي تتنقل في الشمس على الرياحين، وتختفي بين الأدغال واقرأْ هذين البيتين:

يسائلني من أَيِّ دين مداعبًا
وشمل اعتقادي في هواه مبدد
فؤادي حَنِيفِيٌّ ولكن مقلتي
مجوسية مَنْ خده النارُ تعبد

أليس فيهما خفة الفراشة وجمالها ولطف حركتها واختيالها؟

واقرأ إن شئت أيضًا:

أهواه حتى العين تألف سهدها
فيه وتطرب بالسقام جوارحي

•••

بخده لفؤادي نسبة عجب
كلاهما أبدًا يدمي من النظر

•••

أخشى عليك الفيض من أدمعي
وأنت في عيني كما تدري

فحقًّا إن صديقي الأندلسي كثير الدموع وكنت أود أن أنقل للقارئ غير هذه الأبيات أيضًا، ولكنني أكتفي بالإشارة الآن إلى أبياته الجميلة عن الربيع وقصيدته المشهورة بمطلعها — سل في الظلام أخاك البدر عن سهري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤