بذور للزارعين

إن حسنةً واحدة تأتيها، لَخيرٌ من ليالٍ بالصلاة تحييها.

إن الأمين — وإن كان كنودًا — لخير من المدغل وإن كان هجودًا.

إن التعبد لَفي الصالحات، لا في تَتِمَّةِ الصلوات.

ورُبَّ صِغار يلعبون أصدقُ إيمانا من شيوخٍ يتورعون.

وربَّ محسنةٍ في موبقات الوجود أصحُّ دينًا من راهبات السجود.

وربَّ كافرٍ عمَّال للخير أحبُّ إلى الله من راهب في الدير.

السالكون عملًا وفكرًا، خيرٌ من السالكين ذكرًا.

أنت السالك، يا من تطابق بين أقوالك وأعمالك.

الندامة حبًّا بالغفران، كالإحسان حبًّا بالشكران.

وقد قال بلزاك: الندامة الشهرية، إنما هي خباثة أبدية.

المؤاساة خير العبادات، وممرضة تضمد جرح الشرير خيرٌ ممن يُصلُّون من أجله.

إن روائح الأدوية عند من أحبت أن تخدم الله لأذكى من رائحة البخور. والنورُ الضئيل المنبعث من عين المريض الذابلة لأجمل من نور الشموع في الهيكل.

بالأعمال لنخدم الله، ولنسبحه بالأعمال.

•••

الحكيم من وجد سعادته في عمله فلا يشغل فكره ولا يضيع وقته في التفتيش عنها في البيت أو في المدينة أو في الجبال أو في قُصُور الوهم والخيال. ومن يتلاهى قانطًا في تشريح نفسه وأفكاره ليقف على أسباب بؤسه وشدته كمن يزرع غصنًا من الورد ويقتلعه كل يوم ليستطلع حال نموه. غصن نفسك تَعَهَّدْهُ بالتربية بدل أن تقتلعه صباحًا ومساءً لترى ما إذا كانت ظهرت فيه جُذور السعادة أم لا، عملك واظبْ عليه فتنسى أنك سعيد، وهذا لعمري السعادة بعينها.

•••

كل عمل يساعد على نمو قُوى الإنسان الحيوية وحفظها — جسدية كانت أو عقلية أو روحية — وعلى حصر لوازم الحياة فيما يتطلبه الناموس الطبيعي فقط؛ هو عملٌ صالحٌ شريفٌ.

•••

الحكيمُ من صار إلى غرضه دون أن يلوي على شيء مما حوله من أشواك الضغائن والأحقاد، ومن أشباح اللؤم والفساد. سِرْ أَخِي في أمان ولا تقفْ بعد أن تخطو الخطوةَ الأُولى، لا تقف فتسبق، ولا تتلفت وراءك فتسقط، نحن في زمن قد يكون الوقوف فيه تقهقرًا، سِرْ في أمان الله وخذ هذا البيت من الشعر ردده في طريقك كلما اجتزت عقبة من العقبات.

وما تجهمني ليل ولا بلدٌ
ولا تكائدني عن حاجتي سفرُ

العمل هو يدُ السعادة اليُمنى ويدُها اليسرى الاقتصاد.

•••

لتكن غايَتُك أكبرُ من مقدرتك فيصبح عملك اليوم أحسن من عملك البارح وعمل الغد أحسن من عمل اليوم.

•••

الفضيلة الكبرى في الأعمال هي أن يكون كل عمل بذاته الغاية والواسطة، أن تكون لَذَّتُهُ فيه لا في نتيجته.

•••

السر في النجاح في أي عمل كان هو أن تقضي نصف وقتك مفكرًا ونصفه عاملًا فتعرف — إذ ذاك — غرضك وتسير توًّا إليه، تعرف — إذ ذاك — الطريق القويمة إلى محجتك فتسلكها، وكم أُناس يفشلون؛ لأنهم لا يعرفون حق المعرفة محجتهم أو لا يهتدون إذا عرفوها إلى أقرب وأقوم الطرق إليها. فهم ينكتون في التراب كالدجاج ويُكثرون من الحركة التي لا بركة فيها ومن الصياح الذي يُجفل أطيار الفلاح، فيُثيرون الغبار ويزعجون الجيران. والجوهرة التي يطلبونها تختفي أثناء ذلك تحت التراب الذي ينكتون فيه ويصيحون، فلو عملوا كالحكماء لا كالدجاج فبحثوا على مهلهم مفكرين لَمَا كانوا يزعجون أحدًا بغبارهم وصياحهم، ولما كانت حركتهم قليلة البركة، لو فتحوا عيونهم وتبصروا لما كانوا يدوسون بأرجلهم الجوهرة التي يطلبونها.

إن مظاهر الحياة وحدودَها عند الغربيين اليوم لُواضحةٌ جلية، ولا ظل يصل طرفي البياض والسواد في حالهم الاجتماعية، لا غَسَق يصل ليلهم بنهارهم ولا طريق تجمع بين عمرانهم ودمارهم. فهذه عندهم منطقة الغناء، وتلك منطقة الفقر والشقاء، هذه سهولُ العمل والتجارة، وتلك حزون البطالة والقذارة، هنا فريقُ العلماء والحكماء، وهناك جُمُوعٌ خَيَّمَ عليهم الجهل والتعصب والبلاء. فالفقير عندهم هو الفقر مجسدًا، والغني هو الغناء موحدًا. والغريب في أمر فقرهم وغنائهم هو أن البقرات العجاف اللاتي تأكلهن البقرات السمان كل يوم يتضاعفن بالنسبة إلى تَعَدِّي هؤلاء عليهن.

هذه حال الغربيين النازعين اليوم إلى الاشتراكية وأما حالنا فليلنا لا يُعرف من نهارنا، وعمراننا لا ينفصل عن دمارنا، إنما نحن ظل الأشياء لا فقر عندنا ولا غناء، ولا علم يذكر ولا جهل، ولا عمال ولا بطالة. غريبٌ أمر الشرقيين، فما هم في حياتهم سوى حرفُ وصل بين الأضداد. وقد تكون هذه حقيقة الحياة وقد يكون الحق في جانبنا، ولكنا إزاء الغربيين الذين بدءوا يُزاحموننا في أرضنا نؤكل لا محال كما توكل عندهم البقراتُ العجاف كل يوم إذا كنا لا نخرج من ظل الأشياء ونشمر عن ساعد الجد والعناء.

•••

إن البلاء لمستقر، في جهاد الإنسان المستمر.

إن رأس الشقاء البشري، في هذا الازدحام الحضري.

أحب في صديقي الإباءة أكثر من المروءة، أحب منه الأنفة وإن كان فيها عنيفًا، ولا أُحب الصغارة وإن كان فيها لطيفًا.

الصديق الأبيُّ الأنوف وإن جمد وجه وداده خيرٌ ممن يقبلك متشوقًا كل مرة يراك وقلبه كتربة أجداده.

الحر الكريم يظل صديقك وإن عاداك، والخسيس اللئيم هو عدوك وإن والاك.

لا تُدقِّقْ في درس أخلاق صديقك «وفتلته»، إن كنت تطمع في دوام محبته.

لا تتوقع من صديقك أن ينصرك إذا كنت مخطئًا، ولا أن يجد بأمرك إذا كنت فيه بطيئًا.

•••

الصداقة الحقيقية مثل كل عمل عظيم هي التي يشترك فيها القلب والعقل والضمير. فالشعور — إذ ذاك — يكون غذاءها، والإدراك مصباحها، والعدل ميزان الاثنين. وإن رجحت إحدى كفتي الميزان فمسير الصداقة إلى الامتهان، وتصبح أخيرًا كعروس الشعر أو كبنت الخوان، أي: أنها تصير إما خيالية وإما مادية، فتعيش يومها مشوهة إما في الحواس وإما في الأوهام، وفي كلا الحالين لا عدل ولا لذة فيها للصديقين.

•••

الحياة مضيق بين أبديتين، ووميض برق بين غيمتين غامضتين.

إذا تخاصم من أصدقائك اثنان، لا تسبق في الإصلاح بينهما الزمان، فهو للعداء خير دواء. وإن عاقبة الإسراع في وصل حبل الوداد هي غالبًا كعاقبة الجرح المندمل على فساد.

•••

أشرفُ الحب حب مَنْ لا يدعك تشعر بولائه، قبل انقضائه، فهو لا ينقدك وداده في السراء ليتقاضاكه مع الفائدة في الضراء.

•••

شر الأصدقاء صديقٌ لا يعتبرك من أكفائه، فإن ظن نفسه أكبر منك يهينك في حبه وتقلُّبه، وإن كان أصغر منك يغيظك في تودُّده وتحبُّبه.

•••

أحبُّ من الجمال ما كان فيه شيءٌ من القباحة، ومن الحركة في الجمال ما كان فيها كياسة وملاحة، ومن السكوت في الجمال ما كان فيه كثيرٌ من الفصاحة.

أفضل أن أُشاهد كل يوم عشر مرات سحنة منكرة وفيها بهاءٌ وغرابةٌ وذكاءٌ، على أن أرى مرة في الشهر طلعةً جميلةً خاسئةً والنفس فيها جدباء.

•••

مَنْ نهج لحاجاته المادية وغاياته الدنيوية منهج التديُّن والورع الكاذب والرياء والتنطُّع كان بعيدًا عن الدين وعن الله بُعْدَ هذه الأرض عن أبعد السيارات من الشمس.

الدينُ الحقيقيُّ ما أنار القلب من الإنسان والضمير، فيهديه في الحياة الدنيا خير طريق إلى خير الأبواب في الآخرة. ومتى كان ضمير جاري كنور الشمس حيًّا نقيًّا، وقلبه كوردة تفتح في الفجر لتستقبل ندى السماء لا فرق — إذ ذاك — عندي إن ذُكر مع الدراويش أو سجد مع اليسوعيين أو اغتسل في نهر القنج مع البوذيين، فهو المؤمن الحقيقي، هو الصادق في دينه، هو رجل الله الأمين.

•••

بحث الفلاسفةُ الأولون في الكون والحياة فبدءوا بأبحاثهم من العلة إلى المعلول من المُرَكَّب إلى البسيط من الأعلى إلى الأدنى. بحثوا فعللوا، فاعتلوا، فماتوا وما أورثوا العالم سوى الأوهام والشكوك. وعلماء اليوم يقلبون الآية فيبحثون في الحشرات والجواهر الحية والمكروبات؛ ابتغاء الوصول إلى ما بدأ به فلاسفةُ الماضي.

وهؤلاء يحللون ويركبون ويعللون، فيعتلون، فيموتون قبل أن يصلوا إلى ما يزيل شيئًا من الأوهام والشكوك. والنتيجة إذًا واحدة إن صعدنا من الأدنى إلى الأعلى أو سقطنا من الأعلى إلى الأدنى، الكون كيفما نظر إليه العالِم يظل فوق علمه. إن هذا السر العظيم وإن رُصدت نجومه بالتسلكوب أو رُوقبت جواهره الحية بالمكرسكوب أو تحللت أنواره وألوانه بالسبكتريسكوب يظل سرًّا عظيمًا، يموت راعي الغنم فيه كموت سقراط أو سبنسر. وسكوت القبور يناجي سكوت النجوم، والإنسان بينهما خيالٌ يزول.

المتعصِّب على رأس الأشهاد وإن كان من طبقة واطية من الحيوانات الناطقة هو خيرٌ من متعصب يتظاهر بالتساهل.

المتعصبون فصيلةٌ غريبة من الحيوانات ذوات الاثنين، ومثل سائر الفصائل الحيوانية فيها أنواعٌ وأشكال. وأهم ما هو معروفٌ منها اليوم ما كان كالثعلب أو كالذئب أو كالبزاقة أو كالعقاب، فالأولُ جبانٌ يتعصب في ظلام الليل، ويخافُ في ضياء القمر خيال ذَنَبه. والثاني يفترسك ويفترسني — لو كان بإمكانه — إن كنا لا نرى ما يراه أو لا نصلي وَرَاه. والثالث لا يهمه من العالم سوى صدفته ونقطة المطر التي يبل فيها قرنه «وحافة» القديس الذي يلتجئ إليها من نور الشمس، وما سوى ذلك فهو لا يدرك شيئًا من وجوده أو مما فوق أو تحت وجوده. والرابعُ يظل في الفضاء مترفعًا مترفِّضًا إلى أن يَشْتَمَّ رائحة الجثة فينقضُّ عليها كما لو كانت من المَنِّ والسلوى. وهناك نوعٌ آخرُ قديم العهد … فهمت معنى إشارتك وسأقف عند هذا الحد في التفصيل … على أن ذاك المخلوق الشريف الجبار الذي يتعصب لحق الله ودين الله، فوا أسفاه! … قد انقرض نوعه من زمن طويل ولم يعد لك أن ترى منه إلا العظام في الأنتكخانة.

•••

الناس أشباح تحركها الأغراض والأهواء، وتتقاذفها في بحار الحب والبغض الرياحُ والأنواءُ.

الدين دينان، دينٌ نظري ودين عملي، فالدين النظري إنما هو رغبة الإنسان في دوام الحياة الروحية، وخشوعه أمام سر الأسرار العظيم، وإدراكه أن هناك صلة خفية تربطه بأبديتين إلهيتين، أبدية وراء المهد وأبدية وراء اللحد. والدين العملي الحي إنما هو العمل بنواميس الطبيعة، أي: شرائع الله المنطبعة على لوح قلب كل إنسان، فإن كنت يا أخي من الذين يَتَّقُون الله فلست إذًا من الخاسرين، ضع آمالك في هذه النجوم فوق رأسك، وفي هذه القبور تحت قدميك وسر في طريقك يا أخي ولا تُبالِ، لا تبال بمن يتجنون عليك باسم الدين ويهددونك بغضبِ السماء وبنار الجحيم إذا كنت لا تعمل بتقاليدهم ولا تسجد لأصنامهم ولا تتمتم صلواتهم، سِرْ في طريقك ولا تُبَالِ. أما إذا كنت لا تستطيع أن تعزز جانب نفسك وحريتك فتنصر الحق على الباطل في كل وقت ومكان وفي أي حال كان، إذا كنت لا تستطيع أن تحافظ على نور الله في قلبك وعلى عدل الله في ضميرك فالأوفقُ لك أن تعود إلى القطيع الذي انفصلت عنه، عد إلى الحظيرة التي خَرَجْتَ منها، فكلب الخراف هناك يحميك — في الأقل — من ذئاب الدهريين.

•••

إن فيَّ وفيك شيئًا من السديم وشيئًا مما وراء السديم، بل فيَّ وفيك سِرٌّ أبدي عظيم، لا يكشف الحديث من العلم غامضَه ولا القديم.

الجرذان في قبوك لا يعرفون ما إذا كان القبو ثابتًا إلى الأبد أو إلى حين، ولا يعرفون من شَيَّدَه ولماذا، إنما هم يعيشون في زاوية منه أو بالحري في ظلماته، فيَجِدُّون في طلب رزقهم، ويدافعون عن أنفسهم، ويهربون من وجه الحيوانات المتسلطة عليهم، فيضاعفون نسلهم ويضاعفون في ذلك عذابك. هذه زبدة حياتهم ومصلها في القبو الذي بنيته لنفسك لا لهم. والبشر في هذه السيارة الصغيرة التي تُدْعى الأرض إنما هم — جل شأنك — كالجرذان، فإننا نعمل كأحقر المخلوقات في الظلمات، ولا نعرف ما إذا كان العالم ثابتًا إلى الأبد أو إلى حين، ولا نعرف الغاية التي من أجلها شُيِّدَ هذا القبو الذي يُدْعى الأرض ولا الغاية من وجودنا فيه، ناهيك عن قصد البناء العظيم الذي … هس! إنما نحن كالجرذان.

•••

على الأديب أن يبدأ بنفسه فيؤدبها بعلمه، وكم نقرأ في الجرائد اليوم من النصح والإرشاد والتنديد والانتقاد، فلا نكاد ننتهي من قراءة المقالة حتى نقف مدهوشين عند اسم كاتبها العظيم، ما شاء الله! وما ضر هذا الناقد الناصح المرشد لو اختلى في بيته وقفل الباب جيدًا وسد النوافذ بالقطن أو بورق الخرنوب وبدأ بنفسه؟ أما ينبغي أن تسمع أُذُنه صوته ويشعر ضميره بما يجترئ عليه قلمُه؟ أعوذ بالرب الأحد من حارض نقد، ومن النفاثات في العقد!

لكل نوع من المادة مزية لا تنفصل عنه، لكل نوع منها فضيلةٌ من شأنها الصعودُ من الأَوْطَى إلى الأعلى. فالغاز مثلًا يتبدد فيتجمد في الفضاء، والماء يتبخر فيتكون غيومًا، والأزوت يحل في النبات فينمو ورقًا وأزهارًا وثمارًا، ويحل في ذوات الأربع فتتنفس وتنشأ وتمشي، ويحل في الإنسان. وهذي هي العقدة التي لا يحلها عقل الفيلسوف ولا يقطعها سيف الإسكندر، فإن كان في الأزوت جرثومةُ الفكر والخيال هل تكون هذه الجرثومةُ كامنة يا ترى في أوراق الشجر وفي غريزة الحيوان كما تظهر نتائجها في حياة الإنسان؟

•••

إن الغناء الحقيقيَّ لَفِي الأشياء التي يستطيع المرء أن يستغني عنها، وسأتولى بنفسي شرح الآية هذه المرة. إذا كنت فقيرًا ولم يكن لي رغبةٌ في نوافل العيش وكشاكشه كالعربات والخيل المطهمة والطنافس والرياش ودواعي الرفاه كلها فأنا — إذًا — الغنيُّ. وإن كنت متمولًا وكان دخل أموالي لا يكفي لأدب المآدب وإحياء ليالي الرقص والغناء، بل لا يكفي لدفع أُجور خدامي وعبيدي وساحة خيلي فإني إذًا لمن الفقراء. كم من الأشياء تغنينا إذا استغنينا عنها وكم من الأشياء تُفقرنا إذا طلبناها كالأطفال واستخدمناها كالمجانين!

•••

في زخارف المدينة المعبودة، مائة مصيبة منقودة.

قد سئمتُ الخير الذي يعمله الأتقياءُ ابتغاء مرضاة الله، قد سئمتُ الإحسان الذي يتخذه بعضُهم مهنة للارتزاق. فما أكثر مثل هؤلاء المحسنين في العالم وما أقل الإحسان الحقيقي، الخالص من كل ريب الصافي من كل عيب. قبل أن تكون محسنًا يا هذا أَحْسِنْ سلوكك وآدابك. قبل أن تعمل مقدارَ ذرة من الخير كن أنت من بنيه.

هناك امرؤٌ أحسنُ من المحسن وهو الذي يعيش لنفسه حياةً صالحة صافية، هو الذي لا يعرف الخير عندما يصنعه، هو الذي لا يبتغي مرضاة الله ولا مرضاة الناس ولا الشهرة ولا المجد من بِرِّهِ وإحسانه. عُدْ إلى كُتُب العرب واقرأ فيها قصة عكرمة الفياض يا سيدي الأمير، ولا تنس أن تقرأ أيضًا قصة عمر بن الخطاب والعجوز، ومتى حملتْك الحمية والغيرة إلى الإحسان فاعمله ليلًا وسرًّا؛ كي لا يراك أحدٌ من الناس فيشوه بِرَّك بمديحه وإطرائه، أنقذ الغريقَ والبس ثيابك وامشِ، فإن اللذة في العمل لا في النتيجة.

•••

كلنا في هذا المجتمع الإنساني ضائعون، كل منا كالولد التائه في الغاب يُغنِّي على ليلاه لينسى خوفه وشجاه. لكل منا نغمة يترنم بها فتنسيه نوعًا حقيقة حاله، تشغله قليلًا عن نفسه، كلنا — بكلمة أوضح — مستعبدون للعَرَض بعيدون عن الجوهر، كلنا نعيش للمنقول لا للمعقول للمصطلح عليه لا للأصلح منه، الطف اللهمَّ بعبادك.

مِنْ أجلِّ ما قرأته في الكتب المقدسة فاتحة القرآن، فهي صلاةٌ جديرةٌ بأن يرددها بقلب حيٍّ كل إنسان كل يوم في السنة.

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أي والله، فإن الإنسان وإن كان من أرقى البريطانيين أو من أرقى العثمانيين، إن كان من باريس أو من نويرك، أو من أطنه أو من داهومي؛ هو في أشد حاجة إلى الهداية اليوم مما كان في أيام النبي داود، أو في عهد عاد وثمود.

•••

إن مَنْ يكتفي بمسحةٍ من العلم والحكمة كمن يكتفي بغسل وجهه إذا دخل الحمام. وليس بالأمر الصعب على مثل هذا أن يفوز بقصب السبق إما في الثقالة وإما في الرعونة، وإذا ركب إلى غرضه فرس سيبويه يعود وفي يديه القصبتين، فنقرأ إذ نراه التعويذتين!

•••

قل: تبارك السر الذي فيَّ ولا تحفل بضجيج الناس وضوضى الأُمَم، عِشْ قنوعًا هادئًا ساكتًا معتزلًا وواظبْ على نظافة العقل والقلب كما تواظب على نظافة الجسد فلا تكن من الخاسرين، تَلَاهَ في العمل والنمو عن عقبات الحياة وهمومها، وبكلمة وجيزة كن مثمرًا ولو بين القتاد، فلا تحزن يوم يجيئك ملك الحصاد.

لا يختلف اثنان في أن الأولاد يطلبون الأشياء دون أن يدركوها فيُلِحُّون ويلبطون ويصرخون وهم لا يعقلون، ومن الرجال الراشدين من هم أيضًا كالأولاد فيطلبون ما لا يدركون من الأشياء ويُصرون على أُمورهم ويلبطون على طريقتهم الخاصة، إما بالأيدي وإما بالأرجل وإما باللسان. وهم أيضًا لا يعقلون، تراهم يروحون ويجيئون دون أن يعرفوا من أين وإلى أين، ويركضون ويضجون وهم كالأولاد لأحكام الحلاوى والقضيب خاضعون. هذه خزانة الكعك والحلواء التي يعرفها الأولاد وهذه العصا التي لا يجهلون طعمها إذا هم أكثروا من الرواح والمجيء إلى الخزانة. وكم أُناس لو كسرت الحكومة عصاها يموتوت أمام خزانة اللذات شهداء الأهواء والشهوات، كم أُناس يسرقون الخبيص ويكبرون على البوليص، أَعُوذ بالرب الجبار، من الصبيان الكبار.

•••

العواصف تقوِّي العواطف وتُثيرها، فالنبت الذي تلويه الأهوية وتطويه يكون أشد من ذاك الذي ينمو وينور في بيوت الزجاج.

•••

الضغط على الأنفُس والعقول إلى حد محدود يولِّد من القوى الكامنة ما لا يخلو من سموِّ الفكرة والإدراك، وأما إذا تجاوز هذا الحد فيولِّد اليأس والخمول، وفي اليأس متى انتفضت عنه غبار الخمولُ قوةٌ خبيثةٌ قَتَّالة لا عقل فيها ولا إدراك.

في كل إنسان جذوة من الخير لا تخمدها رماد الغواية والضلال مهما تكاثفت فوقها، في كل إنسان شيء من الحب والحقيقة مهما أوغل في المنكرات ونكب عن السراط المستقيم. وإن أنا صافحتُ مجرمًا فإنني أُصافح تلك الجذوةَ الكامنة تحت رماد شقائه وذاك القليل من الحب الراقد تحت بلائه، إنني أصافح الشقي الباغي؛ لأنه ساعة يقف أمامي لَمِنَ الصالحين ولو إلى حين. ولا يهمني — إذ ذاك — ما كان من ماضيه ولا ما سيكون من مستقبله، لا، فإنه لا يصدني عن مصافحته سيئةٌ أتاها أو جنايةٌ اقترفها أو عارٌ أحاق به، ساعة أخذ يده بيدي تتصل كهربائية جسمي بجسمه وتؤهله لمصافحتي في تلك الآونة.

•••

خيرُ الكتب وأَنفسُها كتاب لا يتركني بعد أن أطالعه في الحال التي ألفتها، كتاب يحرك فيَّ عاطفة شريفة جديدة، أو قصدًا كبيرًا جديدًا، أو فكرًا ساميًا جديدًا، كتاب يزحزحني من مكاني أو يدفعني لأزحزح مَنْ هُمْ حولي، كتاب يفيقني من سباتي العميق، أو ينهض بي من حمأة الخمول، أو يهديني إلى طريقة أَحُلُّ بها عقدةً من عقد الحياة، ولكن مثل هذا الكتاب — على كثرة ما تُصدره المطابع الحرة اليوم من القصص والروايات — أصبح كالامرأة الفاضلة التي ينشدها سيدنا سليمان.

•••

كليمبروتوس اليوناني رمى بنفسه في البحر بعد أن انتهى من قراءة كتاب أفلاطون في خلود النفس، وفي فعلته هذه الخارقةِ ثناءٌ عظيم على المؤلف وعلى القارئ معًا؛ إذ لو لم يقنع كليمبروتوس بحجة أفلاطون لَمَا كان فَادَى بحياته ليبرهن عن إيمانه، ولو لم يعتقد أفلاطون بما كتبه لَمَا استطاع أن يُفحم كليمبروتوس. فمثل كتابه هذا يزحزح حقًّا ولكنه يزحزح جدًّا، يزحزح القارئ دفعة واحدة عن هذا العالم، فهو إذًا لا ينفع كثيرًا.

ومن حظنا أنه لم يترجم إلى اللغة العربية. على أنني وإن كنت أشك في صحة عقل كليمبروتوس لا أشك قط في شجاعته التي حملتْه على أن يعمل بما اعتقده صحيحًا، فما قولك بالمسيحيين والمسلمين واليهود، الذي يعتقدون — أو في الأقلِّ يقولون — بالخلود، ويبكون أمواتهم كما لو كانت أنفسهم أيضًا للدود؟ فإن كنا في اعتقادنا صادقين، إن كنا واثقين كأفلاطون وكليمبروتوس أن النفس لا تموت؛ ينبغي أن نفرح في الأقل ساعةَ تُطلق من أسر الجسد. على أنني لا أسألكم أن تفرحوا ولا أسالكم أن ترموا بأنفسكم في البحر لتبرهنوا عن إيمانكم العجيب، ولكن لا تصمون الأحياءَ ساعة الموت بالعويل والنحيب.

•••

الحكيم لا يخشى الموت لعلمه بأن الموت بعيدٌ عن الإنسان ما زال حيًّا، ومتى مات الإنسانُ يصبح بعيدًا عن الموت.

خيرُ الإحسان وأجملُه ما جاد به القلبُ والعقل معًا، وما بقي ففيه الكذب والادعاء، جُدْ علي بشيء من القوت فآكله وبعد قليل أُصبح كما كنت قبل إحسانك، فَفُتاتك لا تغير في نفسي شيئًا. ولكن هات منك فكرًا ساميًا جميلًا فيتحلل في القلب والدماغ ويخالط النفس مني فترثه عني الأجيال. في كل قوة أدبية — أي: عقلية روحية — شيء من الخير الخالص النقي، وإذا كان فيك يا أخي شيء من هذه القوة الأدبية فهذا الخير يصدر عنك إن شئت أو لم تشأْ وينفعني أنا إن شئت أو لم أشأْ.

•••

لما حدد «ديكار» المادة أهمل ذكر القوة والحركة اللتين هما من مزاياها، وخصصها بمزية التمدد فقط، أما الحركة التي رُوقبت فيها فعُزيت إلى قوة خارج المادة ومستقلة — أي: إلى الله — ولكننا اليوم نتلقن في المدارس مبدأً أمسى من أوليات الطبيعيات وهو أن القوة والحركة والتمدد كلها من مميزات المادة، وأن في كل جسم جامد أو آلي قوة كامنة تستحيل حركة ميكانيكية، وأن الحركة الدائمة هي من طبيعة المادة، وأن الأجسام مؤلَّفة من جواهر هي أبدًا متحرِّكة، ولكن قد يعود العلماء بعد البحث الطويل إلى غلطة «ديكار» ومتى عرفوا ما هو الأثير واكتشفوا سرًّا واحدًا من أسراره يصححون — لا شك — تعاليمهم الطبيعية.

إن سيئات مشاهير الناس كحسناتهم من حيث إن الغلو يكون غالبًا مصدر الاثنين، وإن ما يقوله فيهم المقربون المدلسون لأخبث مما يقوله الحُسَّد المبغوضون. لَمَّا مات الهر كروب صاحب معامل المدافع الشهيرة أشاع أصحابُه أنه كان يكره الحرب كرهًا شديدًا، فيا لها من إهانة يُلحقها المدلسون بالأموات! وماذا تنفع الناسَ عاطفةُ كروب المكربة وقد استخدم ثروته العظيمة في استنباط أدوات الحرب واصطناع موادها؟ أما إذا كانت المدرعات والمدافع تُصنع لقتل القتال لا لإحيائه فيكون الفضل في إبطال الحروب لبضاعة الهر كروب.

•••

من الناس من يعجب ببعض أبطال التاريخ ليحذو حذوهم في السيئات لا في الحسنات، فينتحل — لحماقته — من شذوذهم الأعذارَ، ويتخذ من عيوبهم مثالًا لعيوبه.

•••

في سَرَاة القوم أو الذوات من لا يمتازون عن أصغر الناس إلا بمن يحوم حولهم من المداهنين والمدلسين والدجالين.

•••

النفوس أدوية يشترك في مزجها اللهُ والإنسانُ، فمنها المرة ومنها الحلوة ومنها الحامضة ومنها المزة ومنها — وهذه أَكْرَهُ مِنْ كل الأدوية — ما لا طعم ولا لون لها.

الحكيم من اشتغل في سفينة نفسه كل يوم وظَلَّ متأهبًا والجاهلُ المغتر بأمواله لا يهتم بذلك حتى يسمع هدير الأمواج ويراها تتصاعد حول قصوره ولكن الطوفان يا سيدي لا ينتظرك، وساعة يجيء لا ينفعك اهتمامك وتجديفك وصراخك «هاتوا خشب، هاتوا مسامير، أين الخدم، أين هؤلاء الحمير» آهٍ يا سيدي إن أُذنيك لأطول من أُذُنَيْ خادمك؛ فهو اليوم في فُلْكه يسبح ويسبِّح وأنت في غيك تموت.

•••

قالت امرأة الفيلسوف لزوجها: أرى الناس ينددون بك ويسفهون أقوالك وينكرون عليك تصرفك، فأجابها الفيلسوفُ: إن هذا من حبهم يا حبيبتي، فلو كنا كالجماد أو كالثيران لَمَا كان الناس يفكرون بنا، لما كانوا يذكروننا لا في خيرنا ولا في شرنا، وقد تتعجبين كيف أن الحب يحملهم على السفاهة والقباحة ولكن إذا قلت لك: إن البغض إنما هو بطانة الحب أفلا يزول عجبك؟ نعم إن هذه العاطفة السرية الخفية وإن شوهها الجهل وأفسدها التعصب وصهر عينيها الحسد؛ تظل حُبًّا على الرغم من صاحبها، ولكن إذا وقفت على رأسها تظهر بطانتها فتبدو سَوْأَتُها فيظنها الناس بغضًا ويكرهونها.

•••

العالِم لا يستنكف من تغيير عقيدة له أو إصلاحها إذا استوجبت ذلك الحقيقة.

ما أفقر الإنسان إذا كان لا يستطيع أن يرفع نفسه فوق نفسه.

•••

حاولت مرة أن أكره رجلًا يحبه قلبي، فركبت في شنآني مركب الغش والخداع وكنت واهمًا أنني أبغضه وأنا في الحقيقة أحبه، وظللت كذلك إلى أن ثارت عليَّ نفسي فونَّبَتْنِي وطلبت إِلَيَّ أَنْ أُصلح الأمر، أن أكفر عن ذنبي تجاه ضميري وتجاه صديقي، فرحت أطلبه لهذه الغاية فما وجدته، بل وجدته طريح الفراش، وجدته وا رَبَّاه جثة باردة. مات صديقي قبل أن أراه وأكلمه وأستغفره، مات قبل أن يسمع الكلمة التي يَعْذُبُ في فمي لفظها، مات ولم يَرَ ثوب الخداع الذي حرقته حول نعشه، مات والموت في عينيه يحدجني ويقول: وهل سمعتَ أنني أمهلت مرة أحدًا من البشر ليُصلح أمره، ليسدد حسابه، وإن كنت لا تراني ولا تسمع صوتي ألا تفهم نفسك نبئي، أفلا يشعر ضميرُك بثقل يدي؟ بلى ورب السماوات، الموت يثأر بالصدق والحق، الموتُ ينتقم من الحب الواقف على رأسه، فإن كنت في شيءٍ من مثل هذا أيها القارئ العزيز عَجِّلْ-عجِّلْ إلى صديقك إلى حبيبك؛ قبل أن يحول الدهرُ بينه وبين حبك، قبل أن يمنعك الموتُ من إصلاح أمرك وتسديد حسابك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤