الخطب

(١) في العزلة١

جاء في الأمثال: إن في الحركة بركة وليس فيكم — على ما أظن — مَنْ يجهل ذلك، ليس فيكم من يُنكر صحة هذا المثل السائر ولا يعمل به، وأما هذا الفقير فإنه لا يعتقد بصحته ولا يعمل بموجبه، وقد خطر لي منذ سنين أن أعكس الآية وأجري على ضدها، فقلت: إن كان في الحركة بركة ففي الفلوات بركات، وفي القعود سعود، وفي الهُدُوِّ نُمُوٌّ وسمو. وأشياء أُخرى من هذا الباب.

ولا يخفى عليكم أن في هذه الأمثال حكمةً تختلف عن حِكْمَةِ المَثَل السابق، بل تختلف اختلافًا جوهريًّا يُحاكي اختلاف النفس عن الجسد، فالحكمة فيها روحانية معنوية وحكمة من يقول: إن في الحركة بركة حكمةٌ مادية عملية تجارية؛ لذلك آثرت الأولى على الثانية، فأوقفتُ عملي وخرجت من الوسط المضطرب لأُفكر قليلًا في ما أنا فيه لأرى أين أنا من نفسي ومن الله، وحقًّا إني تألمتُ لَمَّا وقفت متأملًا، تألمت لما رأيتني قريبًا من الناس بعيدًا عن نفسي وعن إلهي، فتركت الحركة والبركة للعُمَّال ولبني الأشغال وسلكت في نور الحكمة والحقيقة مسلكًا جديدًا.

وهذه حالةٌ لا بد منها لكل من تنبهتْ فيه الروح، هي طور من أطوار الفيلسوف الأولى، هي أول ريشة في جناح الشاعر هي أول حادثة خطيرة في حياة الأولياء والأنبياء، هي أول عُقدة روحية عقلية يعجز عن حلها أكثر المفكرين. وجدتُ نفسي في هذه الحالة متألمًا مُتحيِّرًا مترددًا. تألمت كثيرًا لَمَّا رأيتني في الغربة بين شعب لا يعرف معنى السكينة ولا الراحة ولا الجمال. وجدت نفسي في بلاد فيها الحركة دائمة متواصلة، وأما البركة فيُقال فيها ما يُقال في بعض الأمراض إنها حادة متقطعة.

وجدت نفسي بين قوم يأكلون ماشين، ويقرءون آكلين، ويعدُّون النقود راكضين، ويعبدون الأوثان قائمين قاعدين، بل يقدمون أرواحهم وأجسادهم ضحية لآلهة ما سمعتْ بأسمائها العصور العابرة. عشتْ زمنًا بين قوم يُقال إنهم مسيحيون، ولكنهم في الحقيقة وثنيون، وثنيون بترفهم وبطرهم، وثنيون بأخلاقهم وشعورهم، وثنيون بمطامعهم واستئثارهم، وثنيون بتَعَدُّد آلهتهم. وأما هياكل هذه الآلهة وأصنامُها فإنك لا تشاهدها قائمة في الأسواق، بل ينبغي أن تنظر إليها بعين الروح فتراها في كل حَيٍّ وجماد يتحرك هناك تَعَالَ إذًا معي لأُرِيَك آلهة هذا الزمان الجديد، آلهة هذا التمدن الحديث، تعال معي لأُريك من الهياكل والأصنام ألوانًا وأشكالًا. هذا صنم من القطن لإله البروص وذاك صنمٌ من الفحم لإله المعادن، هذا صنمٌ من السكر لإله الحقول وذاك صنم من الخشب لإله الغابات.

وههنا هياكلُ من المرمر والرخام لإله التجارة، وهناك الهيكل الأكبر المشيد من حجارة الذهب والفضة لإله الآلهة، إله الأُمَّة، إله المال. والناس هناك يعدُّون أموالهم راكضين من هيكل إلى آخرَ ومن إله إلى أخيه، وأبدًا تراهم لهذه الآلهة الغريبة ساجدين، فيعبدونها ويخدمونها ويموتون في سبيلها، يعبدونها في كل حالاتهم، يخدمونها في حركاتهم وفي سَكَنَاتهم، فخرجتُ من بين هؤلاء المشركين طالبًا في البرية ربي مثل إبراهيم، خرجتُ من بينهم وأنا على اعتقاد أن المرء إن قَرُبَ من العالم الجديد بَعُدَ عن الطبيعة وعن الشعر وعن الجمال الروحي وعن الله؛ ولذلك حوَّلت وجهي إلى مشرق الشمس وعدت في طريقي إلى أرض الأنبياء، عدت إلى وطني لأقترب من جمال الشرق الشعريِّ وجماله الطبيعيِّ وجمالِهِ الروحيِّ بل الإلهي، أي: الجمال الدائم الأبدي الذي لا تشينه الحالة السياسية المختلَّة، ولا الحالة الاجتماعية المعتلة.

عدت إلى مسقط رأسي باحثًا عما أضعتُه هناك أيام الصبا، أفلتُّ من أشراك التمدن — والحمد الله — وفررت هاربًا إلى الفريكة. على كتف الوادي وبالقرب من كروم أجدادي نصبتُ خيامي، فوق نهر الكلب وقبالة جبل صنين رفعت رايتي البيضاء عوضًا عن العلم الأحمر الذي وضعتْه في يدي إحدى بنات الحرية في البلاد الأميركية. رفعت علم السلم فوق فلسفتي الاجتماعية بعد أن كان علمي علم القتال وكتبت على بابي: في إصلاح الفرد إصلاح الأُمَّة وفي تهذيب الشعب إصلاح الرؤساء والحكام.

نعم — سادتي — إن التهذيب خيرٌ من التحزيب والتخريب، على أَنَّ ذلك ليس من موضوعي هذه الليلة، فالمجال ضيق لمثل هذا البحث وأضيقُ منه منبر هذه الجمعية.

عدت إلى وطني طالبًا فيه راحةَ العقل وراحةَ النفس وراحة الجسد، بل طالبًا فيه شيئًا أشرفُ من كل ذلك وأسمى، طالبًا في الطبيعة ومنها ما يُنسي المرءَ عقلَه ونفسه وجسده. عدت — يا سادتي — لا كما عاد يوليوس قيصر إلى رومية أو هوجو إلى باريس، عدت قانعًا شاكرًا راضيًا، وتذكرت السندباد لَمَّا عاد من سفراته، وأبا العلاء لما عاد إلى معرته، فشكرت الله كالسندباد على سلامتي في الغربة، ولجأت — كأبي العلاء — إلى العزلة في قريتي هربًا من الحضارة ومتاعبها، وشغفًا بالطبيعة وجمالها، وحُبًّا بالتأمُّل ولذَّاته، وتقرُّبًا من الله وبركاته، فدخلت هذه المدينة كما يدخل الكُهَّان الهيكل أو اللصُّ البيت، دخلتها من باب السر فلم يدر بي من الإخوان أَحَدٌ، وصعدت إلى الجبل ولم يدر بي أحد، وأقمت، هناك زمنًا في ظِلال الصنوبر ولم يدر بي أحدٌ، فاضطجعت على العشب ورأسي في ظل وزَّالة زاهرة — إنا للطبيعة وإنا إليها راجعون — وشكرتُ الله شكرًا جزيلًا، ووددت لو كان بيني وبين المدن أضعاف ما بيني وبينها من الوهاد والجبال والبحار.

وأظنني أخطأتُ مرة فرددت بصوت عالٍ صدى صوت نفسي، وما علمت أن للأشجار عيونًا وللصخور آذانًا، بل ما علمت أن النهر يحمل إلى المدينة صدى صوت الوادي وصدى ساكنيه، ففي صباح يوم من فصل الشتاء سمعتُ حديثًا دار بين شجرة كبيرة من الصنوبر وأُخرى صغيرة، أو بين أُمِّ الغابة وإحدى بناتها، قالت الابنة: من هذا الغريب الذي لا يخاف السكنى معنا في هذا الشتاء؟ فأجابت الأُمُّ: ما هو بغريب يا بنيتي، وإنما هو من نبات هذه الأرض ومن سنديان هذه الجبال، هو من أبنائنا يا بنية، وقد طالما حملته وحَمَّلْته من ثماري لما كان صغيرًا. قد طالما فرشتُ له من ريشي وظلي ما يُزيل تعب الجسد وهَمَّ الفؤاد وبعثتُ إليه من أرج نسيمي ما يُنعش النفس ويُحييها، ومع ذلك فقد هَجَرَنا زمنًا طويلًا وعاد اليوم ليكفِّرَ عن ذنوبه أمامنا وفي ظلنا. حِبِّيهِ يا بنتي فإنه يحبنا.

وبمثل هذا كانت الأشجار تُفشي أسراري إلى النهر، والنهر يحملها إلى البحر، والبحر يلقيها بلا اكتراثٍ على شواطئ هذه المدينة، وقيل إن الصيادين سمعوا ذات يوم في هديرِ الأمواج أصواتًا غريبة مطربة، فظنوا أن أحدًا من الجن يكلمهم بلساننا العربي الشريف، وقيل إنهم فهموا من ألغاز الأمواج شيئًا يسيرًا وأشاعوا في البلد إشاعات تحوَّلت بعد أيام خرافات وخزعبلات، تشير كلها إلى أن في وادي الفريكة ناسكًا تسجد له الصخور وتخاطبه الأشجار وتكلمه السواقي وتستشيره الطيور.

فاستغربتُ الخبر كما استغربه الناس، وبعد أن فتَّشت في الوادي عن الناسك وأعياني التفتيشُ كتبت إلى أحد أصدقائي كتابًا هزأت فيه من هذه الخرافات التي قَصَّها البحرُ على الصيادين وأذاعها الصيادون في المدينة فزاد الكتابُ الطينَ بلة؛ لأن الأُدباء الذين سخروا مثلي بهذه الخرافات اعتقدوا بعدئذٍ صحتها وطفقوا ينشرونها في أندية الأدب، فتجسمت الإشاعة حتى استحالت خرافة وأصبحت في اعتقاد الناس حقيقةً راهنة، وكذلك تنشأ الخرافات وتستولي على الناس. فاهتمَّ بعض أعضاء هذه الجمعية بالأمر وكتب أحدهم إليَّ لأصدقه الخبر، ثم جائني من الجمعية نفسها كتاب تسألني به أن أُتحفها بشيء من أخبار الناسك وأسفاره، وبعبارةٍ أوضح دعتني إلى الخطابة في حفلتها السنوية منذ سنتين، فلبيت الدعوة وبعثت إلى الجمعية بشيء من ثمار نفس الناسك المذكور.٢ ولبثتُ أنتظر جوابها، وبينما أنا أتوقع منها كتاب شكر جاءني الرسولُ بعد أُسبوع ومعه الثمار التي بعثتها، ثماري أُعيدت إليَّ، ردَّت الجمعية هديتي بلا عذر ولا شبه عذر، أرجعت الثمار وأغفلت الاعتذار، وبعثت مع الرسول تقول قد فحص الطبيب ثمارها فوجدها مُضِرَّةً بصحة هذه الأُمَّة، وجد فيها مكروبات غريبة خبيثة عديدة فكانت هذه منها إهانةً فوق إهانة، لكنني قبلتها شاكرًا وحسبتها من جملة ما ينبغي أن يُعرض عنه المرء في عزلته، حسبتها مما ينبغي أن نترك وراءَنا إذا حوَّلْنا وجهنا نحو شمس النفس الشارقة من وراء جبال الحقيقة المرسلة ما فاض من نورها فوق مروج الشعر وبحيرات الخيال.

فظلَّ الناسك — والحال هذه — هائمًا في واديه، ولم يدر أن الجمعية لم تزل تناديه، على أنه لم يكد يرفع طرفه إلى سماء الروح ويلمس بيده ما تجسم أمامه من السعادة الروحية الحقيقية حتى جاء هذا الشتاء وفيه ما كتب له — بل عليه — من الشدة والبلاء، فهجر صومعته في الجبل مضطرًّا واعتاض عن شذا الأودية بروائح الأدوية وعن الأولياء بالأطباء، مع أن الفرق بين الأولياء والأطباء قليلٌ لا يستحق الذكر، فكم من طبيب فاضلٍ يستحق أن يطوَّب قديسًا أو يدعى وليًّا بعد موته، فقد تعرفت بفضل آلامي العصيبة بعددٍ وافرٍ من هؤلاء الأفاضل، وبان لي بالاختبار ما كنت أجهله، تحققت أن الفرق بين الطبيب والكاهن كالفرق بين الكاهن والمحامي، كلهم — نفعنا الله بعلمهم وبِرِّهم — يتعاطون الجربزة، كلهم يتاجرون بشيء من الحقيقة وبكثير من الخزعبلات والأوهام، على أن الطبيب أرفعُ درجة من الكاهن والكاهن أرفع درجة من المحامي.

والثلاثة يا سادتي من سلالة واحدة ومن بطن واحد، نعم إن الطبيب والكاهن والمحامي ثلاثة عقبان من بيضة واحدة، ومن الشرور ما كان لازمًا للبشر، من الشرور ما هو نافع للإنسان، وقد كنت أسيرًا لشيء منها في هذه المدينة لما جاءني رئيسُ هذه الجمعية فأسرني أيضًا بلطفه وجميل أدبه، وكلمني مرةً أُخرى في أمر الخطابة، أَلَحَّ عليَّ الرئيسُ وعددٌ من الأُدباء بأسلوبٍ جعلني أظن أن الجمعية تنوي أن تُحاصرني في الفريكة وتعقد جلستها هناك إذا كنت لا أتكلم في حفلتها هنا، فخفت من المضايقة في عزلتي ونتيجة خوفي — أيها الكرام — وقوفي أمامكم الآن خطيبًا. عفوًا سادتي ما جئتكم خطيبًا الليلة بل محدِّثًا، وسأُحدثكم في موضوع العزلة ومنافعها ومضارِّها.

العزلةُ إما داءٌ وإما دواءٌ وإما غذاءٌ، هي داءٌ لمن لا يجد في نفسه ما يُغنيه عن معاشرة الناس، ولو زمنًا قصيرًا. وهي دواءٌ لمن سئمتْ نفسه من ملاذِّ هذا المجتمع وموبقاته، من سروره وشروره، فيعود إلى أُمِّه الطبيعة لتداويَهُ بنور شمسها وعليل هوائها وشذا رياحينها. وهي غذاءٌ لمن يخرج من الهيئة الاجتماعية والنفسُ نافرةٌ من محيطٍ هي غريبةٌ فيه، يعتزل الناس طالبًا في الطبيعة الراحة التي لا يعرفها الناس، واللذات التي لا يشعر بها الناس، والتعزية التي قَلَّما تعزي عامة الناس.

نفس الأول خامدةٌ جامدة، ونفس الثاني سقيمةٌ عقيمة، ونفس الثالث من الأنفس السامية الكبيرة التي قلما تنام، فهي تفيق من هجعتها قبل صياح الديك فتفتح عينيها في ظلمة الليل الحالكة وتقاسي قبل بزوغ الفجر من العذاب والحيرة أشدهما، تبتدئ هذه النفس بالمقاومة والتمرد، فتقاوم القوات التي تعترضها في طريقها وتتمرد على كل من يحاول إبقائها في الظلمات الدامسة.

تسير بنور مصباحها الداخلي إلى أن تخرج من الظلمات بفضل ما فيها من الشجاعة والإقدام والثبات، فتتدرج من الظلمة متمردةً إلى العزلة هادئة وتعاني فيها بادئ بدءٍ نوعًا جديدًا من العذاب، تعاني هناك عذابًا هو أساس كُلِّ لذاتها الروحية، بل هو العذاب الذي يُقاسيه مَنْ تعودتْ أعصابُه المخدرات والمسكنات؛ إذ ينقطع عنها دفعةً واحدة، ومن العزلة تعود هذه النفس المحررة المستنيرة المتمردة إلى المجتمع لتتمم فيه إرادتها، لتنير ولو زاوية صغيرة فيه بما فاض من نورها.

شبهت الانقطاع عن الناس بالانقطاع دفعة واحدة عن المسكنات التي يعتادها المريض، فهل خطر لأحدٍ منكم أن يستشير ربه بواسطة الطبيعة في أمرِ رُوحه المريضة كما يستشير الطبيبَ في أمر جسده، أيدهشكم قولي لكم إننا كلنا مرضى بوجه ما، وفي هذا المجتمع كما هو اليوم بالأخص بما فيه من دواعي الأمراض والهموم والأحزان تنسينا الحركة الدائمة آلامنا، ولا أذكر الآن أيَّ علماء الألمان قسم الناس ثلاثة أقسام فقال: قسم منهم يولد للمستشفى، وقسم للمارستان، والقسم الثالث للبادية، أي: أن ذلك العالِم الألماني يقول إن الناس إما مرضى وإما مجانين وإما برابرة.

ومع ما في هذا القول من الغلوِّ والضلال والكفر — فقد كفر العالم بالنفس وأساء فهم نواميس الطبيعة وغالَى في تقبيح الإنسان — مع ما في قوله مما ذكرت فهو لا يخلو من الحقيقة، غير أنها حقيقةٌ ناقصة متجزِّئة، وأما الحقيقة كلها، الحقيقة الشاملة الأبدية هي أن الناس كلهم سواء من وجهة الفيلسوف، ومن هذه الوجهة أيضًا يُمكننا أن نقسم البشر إلى قسمين أوليين، قسم الأحياء روحيًّا وقسم الأموات، وهاتان الطبقتان نشاهدهما في كل شعب حضريًّا كان أو بدويًّا، ففي البداوة أناس تتنبه فيهم الروح وتنهض من سباتها كما في الحضارة، بل في البدو تبلغ الروح المتفردة الكبيرة أعلى درجة من السمو والقوة والجمال، فيخرج من البادية رجال كما يظهر في المدن رجال، وإن نبغ في نويرك المخترعون وفي لندرا العلماء وفي برلين الفلاسفة وفي باريس الشعراء وفي فلورنسة المصورون والنحاتون؛ ففي البادية ينشأ الأنبياء.

لكل بلاد مزية طبيعيةٌ ثابتةٌ دائمةٌ، وفي كل نفس بشرية شيء من سماء البلاد التي نشأتْ فيها ومن أرضها، فيها شيء من تبر وطنها ومن ترابه، من خير هوائها ومن شره، من فتوره ومن نشاطه، من هُدُوِّهِ ومن هياجه. فالناس إذًا كلهم سواءٌ من وجهة الفيلسوف، الإنسانُ واحد من بلاد الزولو إلى شطوط النروج ومن ثلوج ألسكا إلى أطراف اليابان، الناس كلهم سواءٌ من حيث إن الأمراض والجنون والتوحش كلها تنتاب كلًّا منا في أوقات مختلفة وبدرجات متفاوتة.

ولا يفوتنا أن نذكر مع هذه الشدائد كلها نعمة واحدة شاملة، فإنا ممن لا ييأسون ولا يقطعون الرجاء مهما توغل الإنسانُ في الجهل والجنون والتوحُّش؛ لأنني على يقين أن النفس في كل منا تُفيق ولو مرة واحدة من سباتها في سياحتها هذه العالمية، تنهض النفس من غفلتها فتجيء ولو بعمل واحد شريف خالص لوجه الله، تُرينا من الشهامة والمعروف والإحسان ما يُزيل عن وجه الحياة شيئًا من تَقَطُّبِهِ وعبوسته، تنهض النفس من ظلماتها، من تحت أثقالها المادية، من بين أغلالها الاجتماعية، من تحت أهوائها وشهواتها وأغراضها الذميمة لتقول للناس: إنني لم أزل حيَّة وأعرف معنى الحب والتساهُل والحنان، إنني لم أزل حية وأعرف معنى الحق والعدل والحرية، فيمكنني أنْ أتسامى إلى ما فوق الشرف المتعارَف بين الناس، إلى ما فوق الفضيلة المصطلح عليها، إلى ما فوق القوانين والشرائع، إلى ما فوق قَدَاسَةِ الأديان وخزعبلات بدعها، أي: لا بد لكل امرئ من ساعة — ولو في حياته كلها — يَظهر فيها بمظهر الفضيلة الصادقة الفضيلة المجردة النامية الحقيقية فيخضع للنفس الأمارة بالخير لا بالسوء لتظهر فيها محاسنها الجليلة.

ولذلك ينبغي أن تقول إن الأمراض والجنون والتوحُّش وحسنات النفس أو يقظاتها تنتاب كلًّا منا على الإطلاق، تنتاب كلًّا منا في أوقاتٍ مختلفة — كما قلت — وبدرجات متفاوتة. ومن هذه الوجهة المرتفعة وجهة الفيلسوف العمومية كلنا — لا شك — متساوون، أي: أننا كلنا مرضى بنوع ما وكلنا نتخذ الأشغال نلهو بها، نُسكِّن بها آلامنا، نخدر بها همومنا، نضمد بها جروح صبرنا ورجائنا نُنعش بها آمالنا، وعندما يقف الواحد منا ليتنفس قليلًا ليتنشق نسيم السحر الجميل أو بالحري ليدع عمله هنيهةً ويستريح تُعاوده آلامه مضاعفةً كما تعاود الأوجاع المريض عند انتهاء فعل المُرفين، وما هي هذه الآلام يا سادتي؟ أروحانيةٌ هي أم جسمانية؟ فالطبيب يقول لنا إنها جسمانية، والكاهن يقول إنها روحانية، والحقيقة ههنا أقرب إلى جانب الكاهن منها إلى جانب الطبيب.

آلامنا روحية أكثر منها جسدية، يعود الرجل من أشغاله في المساء أو من ملاهيه بعد نصف الليل فيستلقي على سريره متكرهًا متأففًا متذمرًا، فيشكو وقد خارت قواه من ألمٍ في أعصابه أو في معدته أو في رأسه، ويظن أن أوجاعه موضعيةٌ، يظنها جسدية، والحقيقة — على ما أرى — هي خلاف ذلك، فالجسدُ لا يمرض من العمل وأعضاؤه تزداد قوةً ومرونة ونشاطًا بالممارسة والتمرين وهذا ناموسٌ طبيعي، من أين إذًا آلامنا وأوجاعنا، ما هي أسبابها أين مصدرها، أيمكن أن يكون لها مسبِّبٌ غير مادي، أيمكن أن تكون آلامنا الجسدية ناتجةً عن ألمٍ أصليٍّ أساسيٍّ جوهري روحي؟

سؤالٌ أُجيبكم عنه حالًا بلا تردُّد وبالإيجاب، نعم سادتي وسيداتي إن مصدر هذه الآلام الروح، فالروح منا تئنُّ وتتأوه وصدى أنينها يظهر في كل جوارحنا وفي كل حواسنا، الروحُ تتألم من الضغط عليها، من احتقار الإنسان إياها، من إهماله شئونها، من اهتضامه حقوقها، الروح تتأوَّه من قيود السلطة كما أنها تتألم من قيود العبودية، فالرئيس والمرءوس سواءٌ من هذا القبيل، الظالم والمظلوم يشكيان من مرض واحد فالروح في كلٍّ منهما تتألم من حيوانية الإنسان الخبيثة، من أهوائه من ظلمه من استئثاره من بغضه من توحشه من ذُلِّهِ من جهله من جنونه، فإذا كانت الأشغالُ تسكِّن آلام النفس فالعزلة تضعف شكوتها ويستأصلها العود إلى الطبيعة.

ورُبَّ قائلٍ يقول أتُريد أن يكون الناس كلهم نساكًا وزهَّادًا وكيف يتسنى ذلك، فالجوابُ أن ذلك غيرُ ممكن وغيرُ مطلوب، فالعزلةُ أنواعٌ، وربما امتهنت حرمة القاموس وتوسعت قليلًا بمعناها المحدود، فقد تكون شوقًا في النفس لسبر غور النفس، لإدراك كنه قواها، لكشف الحجاب عن بعض أسرارها، وهذي هي عزلة الفيلسوف، أو قد تكون اعتصامَ النفس بعالمَي الخيال والجمال فرارًا من مسئولية الحياة الاجتماعية وواجباتها الصناعية، وهذي هي عزلة الشاعر، وهي ممكنةٌ في المدينة وبين الجموع كما في الصحراء أو في الجبال؛ لأن الشاعر وإن خالط الناس وحَدَّثَهم فهو دائمًا فوقهم وبعيدٌ منهم، ثم قد تكونُ العزلة طمعًا في النفس لفتح ممالك عالم النفس، لرفع أعلام الحقيقة والحب والحق فوق صروحها، وهذه عزلة الأنبياء، وهناك أنواعٌ أُخرى من العزلة لا يهمنا ذكرها؛ لأنها تغيرت عما كانت عليه حين قال المتنبي بيته المشهور في وصف الأسد:

في وحدة الرهبان إلا أنه
لا يعرف التحريم والتحليلا

قد اتضح لكم أن الميل إلى الوحدة والاعتزال ينشأ في النفس وعنها، وكما أن النفس تتطلب المعرفة فهي تبتغي شيئًا من العزلة تتغذى أثناءها من المعرفة. يقول الإفرنج في السياحة تكملة التهذيب، أي: أن المرء مهما درس وطالع وتعمق في العلوم وتغلغل فتهذيبُهُ يظل ناقصًا إذا كان لا يعرف من العلم إلا مسقط رأسه أو عاصمة بلاده، فإذا كان في السياحة تتمة التهذيب ففي العزلة تتمة السياحة؛ لأن المرء لا يكون قد ساح قط إذا كان لا يعتزل قليلًا بعد سياحته في العالم ليحاسب نفسه، ليفحص بتأنٍّ وهدوءٍ ما في مخادعها، ليُغربل ما فيها من الحقائق والخرافات والآراء السديدة المختلطة مع الخزعبلات. وبكلمة أُخرى ليسقيَ النفس من ماء الفكرة الذي يتقطر ويتكرَّر في العزلة، ولا تظنوا أن كل من التجأ من المفكرين إلى هذه الطريقة انتفع بها، والذي لا ينتفع منها لا يستطيع نفع الناس.

لما كنت في نويرك قصدت يومًا مدينة كنكرد بالقرب من بسطن (وهي المدينة الصغيرة التي أعطت العالم الجديد أكبر شعرائه وفلاسفته) لأزور فيها بيت الفيلسوف إِمرسن والحرج الذي بنى فيه الشاعر طورو مسكنه أو بالحري كوخه للعزلة فعاش فيه متنسكًا سنتين وأَلَّفَ هناك كتابه النفسي في فلسفة العمران وفلسفة الانفراد، والكاتب الذي كان رفيقي ودليلي في هذه الحجة — وهو شيخٌ جليل في الصحافة وفي السن — كان رفيقًا وصديقًا أيضًا لأكثر شعراء كنكرد وفلاسفتها الغابرين فسألْته عما إذا كان في المدينة اليوم من يُعَدُّ من طبقة هؤلاء الرجال العظام، فقال: إن الطبيعة يا صديقي لا تجود علينا بالنوابغ كل سنة، فهي لا تعطي العالم إلا أفرادًا قلائلَ كل عصر وما كل من اعتصم بالعزلة يصل إلى ذروة التفرُّد والذكاء. فمنذ سنين جاء هذه الأصقاع شابٌّ إنكليزي واختار بيت طورو هذا مقرًّا لعزلته وعاش فيه كما عاش طورو سنتين، ولكنه يئس بعد ذلك وهجر كنكرد ومن ذلك الحين لم نسمع عنه شيئًا.

فعزلةُ طورو إذًا أو عزلة النابغة أثمرتْ من الأدب والشعر والفلسفة ما يُعد من طبقة ما كتبه أكبرُ نوابغ العالم، وعزلةُ الثاني العقيمة أَضَرَّتْ بصاحبها؛ لأنه لم يتدارك الخطر قبل حُلُوله، وفاته أن الوحدة الطويلة الأمد ما عدت لمثله وأن نفسه لا تطلب مثل هذا الغذاء، لذلك لا أُعمم في قولي ولا أُغالي بمحاسن العزلة ومنافعها إذ ما كل من اعتزل تفرَّد ولا كل من تفرد أفاد الإنسانية، على أن العزلة تنفع الكل إذا أخذ منها كلٌّ بقدر ما تطلبه نفسه أو بالحري إذا عرف كل إنسان كمية الجرعة التي ينبغي أن يأخذها، فمن نفس متجمدة لا تطيق العزلة أكثر من أسبوع إلى نفس متوقدة لا ترضى بأقلَّ من سنة أو أكثر وبينهما تتفاوت المدد كما تتفاوت العقول، هذي هي القاعدة، فمن جَرَّبَ العزلة بحكمةٍ واعتدال انتفع لا شك منها فهو ينتفع عقليًّا وجسديًّا وروحيًّا إذا أحسن استعمال الدواء.

وأفضل ما في العزلة للمفكرين أنها تقرِّب الفرد من نفسه، فالحياة الاجتماعية — كما اتضح لكم مما ذكرته — تُبعدنا عن أنفسنا حتى نجهلها جهلًا فاضحًا؛ لأن معرفة المرء نفسه غيرُ ممكنة في أَيِّ حال من أحوال هذا المجتمع المضطرب، وإذا جهل المرء نفسه بَعُدَ عنها بُعْدًا شاسعًا، وإن حاول خدمة الإنسانية وهو بعيدٌ عن نفسه، أي: جاهلها لا يستطيع إلى ذلك سبيلًا مهما أجاد ببيانه وفصاحته، ومهما بَالَغَ في آرائه وأكبر الناسُ دعواه، لا خير في مثل هذا مهما صاح ونادى ودعى القوم وادَّعى. وإن صياح المصلحين ليذكرني دائمًا بهدوء الفلاسفة، بل يذكرني بما جاء في التلمود من حديث دار بين أشجار الغابة وأشجار البستان، قالت أشجار الغابة لأشجار البستان: لماذا لا نسمع لأغصانك صوتًا ولا صدًى فأجابت أشجار البستان: لأنني مشتغلة عن الولولة بإنماء ثماري، ثم سألت أشجار البستان أشجار الغابة قائلةٍ، ولماذا تسمع الناس لأغصانك هذا الدوي وهذه الجلبة فأجابت أشجار الغابة: لكي يشعر الناس بوجودي.

لذلك قلت: إن كان في الحركة بركة ففي الفلوات بركات وفي الهدو نمو وسمو، فالنور — يا سادتي — ينبثق على العالم هادئًا ساكنًا، وإن شمس الحكمة لتحتجب غالبًا عند هبوب العواصف والزوابع، فمن الأنفس السامية المتفردة الهادئة ينبثق نورُ الحب ونورُ الحكمة ونورُ الحقيقة. وفي الأنفس السامية المتفردة الهادئة ينابيعُ الجمال كلها. جمال الفنون وجمال الروح وجمال الحياة السعيدة، وإلى الأنفس المتفردة السامية الهادئة تعود بنا حسناتُ التمدن الحديث لِتُرِيَنَا فيها أسبابها، لذلك كتبت فوق بابي: في إصلاح الفرد إصلاح الأُمَّة.

وفي تهذيب الشعب إصلاح الرؤساء والحكام.

(٢) هنا وهناك وهنالك٣

أيها السادة والسيدات

دُعِيَ مرةً أديبٌ للخطابة في حفلة مثل هذه فلبى الدعوة فرحًا مسرورًا؛ لأنها كانت أول ما جاءه من القوم وكان الخطاب باكورة عمله، فسوَّد الأوراق وبيضها واستعد لخطابه استعدادًا يليق بوقفته الأولى على المنبر، ولكن لما وقف أمام القوم خانتْه الحافظة وجمحت القريحةُ فاعتذر قائلًا: لما دخلت هذا المنتدى لم يكن أحد يعرف من خطابي شيئًا سوى الله والداعي، وأما الآن فبأسف أُخبركم أن لا أحد يعرفه سوى الله، فاستحسن الحاضرون النكتة وعَفَوْهُ من الخطابة، ولا تظنوا — رعاكم الله — أن الكلام الذي أعددته أنا لهذه الحفلة لم يطلع عليه قبل هذه الساعة سوى الْعَالِم بذات الصدور، كلا، فقد اضطرني أصدقائي إلى مراعاة اصطلاحات البلاد وقالوا: ابعث ابنك هذا إلى المستشفى بلا عناد، فبعثته بعد أن دسمته من العين، وقرأت عليه المعوذتين، وهناك استلمه مولانا الطبيب، وكفى بذلك تلميحًا للبيت، وعاد إليَّ بعد أيام حسبتها سنين، وعلى بدنه آثار المبضع والمشرط والسكين، فتصافحنا وكلانا يقول: الحمد لله رب العالمين.

ويجب أن أقف عند هذا الحد في التسجيع والكنايات خوفًا من أن تحسبوني أتلو عليكم شيئًا من سجع الكهان، أو مقامة من مقامات بديع الزمان، وقد يتبادر لذهنكم أني أوردتُ القصة ليكون حظي منكم حظ ذاك الخطيب من قومه ولكنني لا أطلب كل هذا، أنا أدفع الآن نصف ما عليَّ من الدين لهذه الجمعية بشرط أن تعفوني من النصف الآخر، ولكنني أعدكم بدفعه مع الفائدة متى تحسنت الأحوال على أنني أود لو كنت مطلق الحرية لأدفع كل ما عَلَيَّ الآن، إن قوتي — يا سادتي — في حريتي لا في شعري، أود لو كانت وقفتي هذه الأُولى أمام قومي في وطني غير مقيدة بقيود التقية والأحوال، ولكن لسان الحال أفصح من لسان البيان، وقد تكون الكلمة المحفوظةُ في الصدر أشد تأثيرًا في النفس من الكلمة المقولة.

لقيت على شاطئ البحر وأنا قادمٌ ذات يوم إلى المدينة شيئًا ذَكَّرَني بما يليق أن أفتتح به هذه الكلمات القليلة التي تحوم حومًا حول موضوع يتعوذ من ذكره الناس، ذكرني ما لقيته على ساحل هذه البلاد السورية وسأخبركم عما لقيته بعدئذ أو لكم أن تنبهوني إذا فاتني ذلك، ذكرني بمدينة في البلاد الأميركية قضيت فيها خمس عشرة سنة متراوحًا بين قومي والأعجام فلم أَمِلْ كل الميل إلى أولئك الأميركيين ولم أهجر كل الهجر إخواني السوريين، لم يكن جفاء قومي ليقربني من الأعجام ولا إكرام الأعجام ليبعدني عن قومي، ولقد سمعت من أصدقائي الشعراء الأميركيين من الكلام ما يضعف الشعائر الوطنية لو كان فيَّ لمثل هذا الضعف استعداد.

وقد قال لي أحدهم مرة بعد أن قرأ في إحدى الجرائد الأميركية خبر قيام النزالة السورية عليَّ بسبب كتابي الأخير دع ذكر الوطن والأُمَّة والزم الشعر، الشاعر الحقيقي هو ابنُ العالم على الإطلاق وكلُّ وطن صالح هو وطنه، فرَنَّتْ هذه الكلمات في أُذُني ولا سيما الناصح شيخ في السن وفي صناعته، وهجرت — إذ ذاك — قومي إلى حين ونفضت عن أوراقي ودفاتري غبار لغتنا هذه الشريفة وأخذت أنظم في اللغة الإنكليزية وأنقل إلى الأعجام ما عثرت عليه من كنوز العربية، وثبت عندي — إذ ذاك — أن الشاعر الحقيقي يخلص الخدمة لوطنه أولًا ومن ثم يتدرج إلى خدمة الإنسانية، أو يخدم الوطن والإنسانية معًا إذا كان من النوابغ الحقيقيين النادرين في كل أُمَّة وبلاد.

وبعد أن فكرت في أمري هذا وسمعت المباحثة التي جرت بين ذاتي السوري وذاتي الأميركي حَكَمْت للأول على الثاني ورضيت أن أكون من الطبقة الأُولى في الوطنية ولو جعلني ذلك في الطبقة الوسطى من الشعر، وهكذا عدت إلى الكتابة من اليمين إلى الشمال ولكنني حفظت في قلبي زاويةً للغة التي اكتسبتُها في العالم الجديد، ولو أصيخ إلى قول صديقي الشاعر الأميركي لما كنت حظيت بمشاهدتكم هذه الليلة ولكم أن تعكسوا، نعم إن ولعي بلغتي وبوطني لَقَوِيٌّ شديد ولو سألتموني إيرادَ الأسباب التي تُوجب هذا الولع لقلت لكم أُحب لغتي لأنني أحب نفسي وأحب وطني لأنني أحب قومي، وقد يحملني هذا الولع والحب إلى الغلو أحيانًا، فقد قرأتُ مرة أن غالينوس كان يقول: أجودُ هواء في الدنيا هواءُ بلاد اليونان.

وقال ابن رشد: إن أجود هواء لَهَواءُ قرطبة (بلده) وقال ملتن: إن الهواء النقي المنعش لا يُهجَر قط لندره، وأقول أنا — وأظنكم كلكم تقولون معي: إن هواء لبنان لهو نَفَس الآلهة بالذات، وكلنا لا شك مصيبون، وما غُلُوِّي أنا إلا جزء من غلو أولئك الفلاسفة الكرام، هذه الثمرة من تلك الشجرة، ولكن حبذا هواء لبنان وبئس المتنشقون، حبذا ماء الجبل وبئس الشاربون، لا والله هذا كثير، لا يجب أن ألوم اللبنانيين ولا أن أؤاخذهم بما هم عليه من الخمول والانحطاط والاستكانة والضعة.

فالإكليروس وشيوخ القُرى راضون عن مثل هذا الانحطاط والخمول ويجب أن يرضى المقلقون بما يرضي شيوخ القرى والإكليروس، يجب أن نرضى ونسكت، ولكن إذا نحن سكتنا فالمهاجرون لا يسكتون، إذا نحن رَضِينَا فالمهاجرون المقلقون لا يرضون، نعم لا بد أن تشرق علينا شمس العلم والتَّرَقِّي من المغرب كما تشرق علينا شمس الله من وراء جبل صنين، لا بد أن يشرق على سوريا قمر الإصلاح من وراء البحار مثلما يشرق عليها قمرُ السماء من وراء جبل الشيخ، لا بد من التقاء الشمسين واجتماع القمرين وقد تأخر قمر المغرب إلى الهزيع الأخير من الليل، فلتنم الأُمَّة مطمئنة إذًا، ولكن اذكروا كلامي، لا بد من أن تعاينه ذات ليلة من ليالي تموز وهو شهر جليل الذكر عند أعظم جمهوريتين في العالم.٤

وإني لأذكر يوم وقفت أمام قومي في أميركا فذكرت قومي في الوطن، وها أنا الآن أمام نخبة من قومي في الوطن العزيز أذكر قومي في أميركا فتحلو لي الموازنة بين الشعبين إذا لم أقل بين البلادين، ولكن الوقت قصيرٌ والحبل أقصرُ، فمتى يا ترى يعود المهاجرون المنورون إلى الوطن.

وافطنوا أنني لا أُريد سوى المنورين وأما ما بقي من المهاجرين فسواءٌ على الوطن إن عادوا أو لم يعودوا فهم لا ينفعون، الأُمَّةُ بأفرادها لا بجرادها، ولكن حتى مَ هذا الانقسام وهذا التشتيت وكيف تُصان وتعزز الوطنية والمنورون من السوريين ضاربون في أربعة أقطار العالم، تائهون في فيافي النزاع والجدال، فتراهم قائمين بعضهم على بعض في كل صقع وفي كل قطر وفي كل بلاد، الشعب السوري في المهاجر جاهل ولكنه ناهض عامل، والشعب السوري في الوطن منور إلى درجة ولكنه متقاعس متغافل.

هناك ترى السوريين في هرج ومرج وشغب ونزاع وجدال وقتال، تراهم أبدًا قائمين قاعدين ضاربين شاكيين، وهنا تراهم إلى السكينة والاستكانة مخلدين، هناك تضعف الوطنية ويقوى التعصب الدينيُّ من عوامل خارجية، وهنا قد ينتج ذلك عن عوامل داخلية، هناك نهاميون وزرازرة من الإكليروس عاكفون على جمع المال عاملون على إثارة الفتن، وهنا — ولكن قد فاتني أن البحث في شئون ذوي الرئاسة محظورٌ في هذه الجمعية بل في هذه البلاد، هناك صحافةٌ عربية نَمَتْ في ظل الحرية، فوافقها الهواء إلى حد أن صارت صحتها فيه بليَّة، وهنا — ولكن الصحافة بنت الزرازرة والنهاميين فكما راعينا خاطرهم يجب أن نراعي أيضًا خاطر ابنتهم هذه العانس الفضفاضة الوهنانة.

الصحافة السورية في أميركا وما أدراك ما هي، سطور تلمع من خلالها الخناجر والحراب وأعمدة تطفح بالحامض الكبريتيك، وأما هنا فعندنا زنابيل من القش ملؤها قطن منفوش وبخور يحرق في مجامر التدليس حول الأرائك والعروش، ولكن قد فاتني أن الخوض في أُمُور السياسة محظورٌ في هذه الجمعية، بل في هذه البلاد، هناك قومٌ يقدمون على غير هداية، ويخبطون خبط العشواء في البداية، وهنا كرام يرون البقاء في الخيام خيرًا من الهيام في الظلام والجمود خيرًا من التطواف خارج الحدود. هناك حرية يرافقها بطر وأشر وحماقة، وهنا تهذيب ناقص يتراوح بين المراعاة واللياقة، ويسير مستسلمًا مكتئبًا من الخمول إلى الذبول، هناك قيل لا يتبعه عمل وهنا لا قول ولا عمل.

ولعمري هذا الأخير أحسنُ من ذاك. هناك ضجةٌ وقعقعة وضوضاء، وهنا هدوٌّ وقناعة ورخاء، هناك صحافي يقارع كاهنًا وكاهن يصارم صحافيًّا وهنا — كاد يطيش السهم ثانيةً أو بالحري كاد يصيب كبد الحقيقة لو لم ترده هذه الجمعية الزاهرة بمجن التحظير: هنا وهناك وهناك — وهل ينطق من في فمه ماء؟ نعم كدت أنسى ما وعدتكم به، ماذا تظنون لقيت على شاطئ البحر؟ أسمكة من ذهب أو صدفة من الندى المتجمد على الصخور أو لؤلؤة صفراء أو مرجانة بيضاء أو بنتًا من بنات الأمواج الزرقاء اللائي يحلم ويهيم بهنَّ الشعراء أو شيئًا أندر من كل نادر تحت السماء؟ لا، لا، ما لقيت شيئًا من هذا، ما لقيت على شاطئ البحر سوى الأمواج ثم الأمواج ثم الأمواج.

وهذا من مثل كلام المتصوف الذي يختلي بنفسه ويقول: قد وجدت روحي قد لقيت ذاتي ولك أن تسأل هل كانت رُوحُه — قدس الله سره — ضائعةً أم كان هو محجوبًا عن نفسه. ولكنني أعجز عن الجواب؛ لأن الله يفتح عَلَيَّ في مثل هذه الأُمُور، ولهؤلاء المتصوفين ضروبٌ من الكلام لا نلحنها نحو العوامُّ، غير أني أهديك إلى القشيري والسهروردي إذا كنت لا تخاف أن تضيع في براري شطحاتهم وسرداب أسرارهم، وإذا أغلق عليك هناك فإليك بفلاسفة الألمان الروحيين أو ببراهمة الهند القانتين.

وأما كلامي فكلامُ شاعر مفتون، لا كلام متصوف مغبون، نعم، ما لقيت على شاطئ البحر سوى الأمواج القائمة القاعدة، الراغية الزابدة، الهاجمة الهائجة، سوى الأمواج تلاعب الرمل فتترك عليه أثر حنين البحر إلى ما خرج من بطنه من سواحل وسهول وجبال، لقيت هذه الأمواج أو بالحري لقيت فكرًا صغيرًا في موجة صغيرة منها جاءت تلثم قدميَّ ضاحكة وعادت إلى حجر أُمِّهَا راغبة راضية، ففكرت في نفسي إذ ذاك وقلت: أليست هذه الأمواج من ذات البحر الذي تتلاطم أمواجه حول جبل طارق؟

أولا تَنقل أمواج البحر الواحد من مكان إلى آخر في مدار الليالي والأيام فتسافر الموجةُ الواحدة إلى سواحل سوريا كما تُسافر بواخر الميساجري ماريتيم، أولا تمتزج أمواج البحر المتوسط بأمواج البحر الأتلنتيكي عند مجتمع البحرين، أولا تسافر الأمواج من مرفاء نويرك إلى جبل طارق ومن ثم إلى سواحل آسيا الصغرى؟ إذن — وها قد وصلت إلى بيت القصيدة — ما الموجة التي لثمت قدمي إلا رسول خير من بلاد العلماء إلى بلاد الأنبياء، ما هي إلا موجة واحدة صغيرة من بحر النور والهدى يقذفها المغرب إلى المشرق.

إن هي إلا موجةٌ من أمواج العقل والحِجَى، يسوقها الله إلى بلد ميت فيحييها بعد موتها، إن هي إلا موجةٌ من أمواج النفس البشرية النبيلة تحملها الرياح والأعاصير إلى المستضعَفين المستذَلين من العباد في كل بلاد، إن هي إلا موجةٌ من أمواج الحب والحنان يشحذ بها الأصفياء الأحرار عزمَ أولئك المنقادين للهوان المستسلمين للامتهان، إن هي إلا موجةٌ من الأمواج التي تغسل قدمي إلهة الحرية الرافعة نبراسها في مدينة نويرك العظمى، وإني لأقول لكم الآن لا بد أن يرى المستقبل مثل هذا التمثال الجليل الجميل في كل مدينة كبرى من مدن الشرق الأقرب والأقصى.

وإذا لم يكن تمثالًا من نحاس أصفر أو رخام ثمين، فتمثالٌ من نور في قلوب أرطنيين، وهذه شبه نبوة بيد أني قصير الباع في هذه الصناعة، ولكن قد جاء في الحديث الشاعر جزءان من ستة وأربعين جزءًا من نبي، ولعل أحدكم يقول قد جاء أيضًا والشعراء يتبعهم الغاوون وهم في كل واد يهيمون، نعم قد سمعت هذا الحديث ولكنني لا أسألكم أن تتبعوني اذكروا فقط كلامي، ودعوني وأحلامي.

(٣) الحرية والتهذيب٥

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ.

(سورة القصص ٥)

أيها الوطنيون

أنتم المستضعَفون في الأرض، وأنتم — إن شاء الله — الوارثون، ويشهد على ذلك نير ماضيكم وحرية حاضركم، يشهد على ذلك ظلام أَمْسِكم ونور يومكم، فأنتم المفلحون والمحررون بفضل زعماء الآراء الحرة وبفضل الجند العثماني الذي سيبرهن لأوربا اليوم بأن الشرق لم يزل منبت المعجزات، ففي الماضي كانت معجزاته دينية واليوم معجزاته سياسية، بالأمس دهشت دول أُوربا بالمعجزة التي أتتها اليابان واليوم تدهشها المعجزات السياسية والاجتماعية في دول بني عثمان، فأوربا لا تعرف حتى الآن معنى الثورة السلمية وما رأت بين شعوبها المتباينة عناصرها السياسية والمتضاربة مذاهبها الاجتماعية مثلما يسود اليوم في أمتنا من التساهل والمساواة والإخاء.٦ وهذا هو النور الذي ينشق من الظلام، هذه وردة الوئام التي تنبت على ضريح الشقاق والخصام، هذه هي الحرية التي تشيد الأُمَّة هيكلها في روضة الألفة والسلام.

جاء في بعض الأسفار أن الأطباء الأقدمين اكتشفوا العقاقير القتالة قبل العقاقير الشافية، وكذلك يصح أن يُقال في حكومات العالم بأسرها القتالة منها وُجدت قبل الشافية، ولا فرق إن كانت الحكومة أبوية كما في الصين أو أميرية كما في الهند أو استبدادية كدول آشور ومادي وفارس أو كحكومة الروس بالأمس، فكلها من الأدوية القتالة التي يسقيها الحاكمُ المحكومَ ليقتل فيه الروح ويتمكن من إرهاب الجسد وتسخيره واستعباده، فالظالم مجرم أيًّا كان، والحكومة الاستبدادية ذاهبةٌ إلى البوار في كل مكان، ولنا في حكومتنا على هذا أشد وأقطعُ برهان، فبالأمس كانت الأُمَّة العثمانية تتقلب على فراش الموت واليوم تمرح فرحة تحت سماء الحياة وفي ظل الحرية والدستور، لنهنئ أنفسنا إذًا لأننا عشنا — والحمد لله — لنرى الظلم مدرجًا بكفنه الدائم، والاستبداد هاويًا إلى الجحيم.

بالأمس كان خطيبكم يتسنم على المنبر فيجمجم الكلام ويوريه، ويلغز ويرمز، ويعقد مقاله ويلويه، لتخفى على جواسيس الحكومة معانيه، واليوم نراه كما لو كان في باريس أو في نويرك يصدع بالحق ويُجَاهر مصرِّحًا بآرائه ومباديه، والفضل في ذلك عائدٌ إلى زُعماء النهضة الإصلاحية النظريين، وإلى زعمائها العمليين، وإلى الرئيس الأكبر الذي انتهت إليه مطالب هؤلاء العثمانيين. بل الفضل عائد إلى كل مَنْ حَرَّكَ قلمًا لبثِّ روح الحرية والدستور، وإلى جلالة السلطان الذي كلل النهضة بالفوز فصان الدولة من الخطوب والمحن، وخلص الأُمَّة من الهزاهز والفتن، فالأُمَّةُ التي كانت أمس أسيرةَ ظلمه أصبحت اليوم أسيرة فضله، وقد يكون الآسر أكبر من الأسير ولكن العاتق يا سادتي أكبر من الاثنين، فالسلام اليوم على عبد الحميد، والسلام على عهده الجديد، سلامٌ على عصر الحرية المجيد.٧

•••

وجدير بنا بعد هذا التشبيب الذي لا بد منه للخطيبِ البحثُ في ماهية الحرية وأصولها باختصار يوجبه الوقت والمقام، فالحرية اليوم كلمة تملأ أفواه القوم، الحرية جمال يزدهي في أعمدة الصحافة وأندية الأُمَّة، الحرية مجد أنسى التجار أشغالهم، والأتقياء فروضهم وأنفالهم، الحرية آلهة هجرت الأُمَّة معابدها لتعبدها.

كل ذلك جائز كل ذلك حسن إن لم يكن مفيدًا، ولكنني في كل ما قرأته في الجرائد لمن كتبوا وخطبوا ما اطلعت على كلامٍ في الموضوع حري بالنظر والاعتبار، وقد يكون فاتني في عزلتي كثير مما كتب وفات الشعبَ في ابتهاجه وهوسه أكثر من ذلك؛ لأن المعقولات في مثل هذه الأيام قلما تستلفت أنظار الناس والبحث الفلسفي في الموضوع لا يروق الشعب ولا يلائم الزينة في المدينة. على أنني دعيت إلى الخطابة في هذه الحفلة الشائقة فينبغي لي أن أقول الكلمة التي يوجبها العلم ويقتضيها الضمير ويؤيدها الاختبار، ولكم أن تنبذوها بعد أن تسمعوها أو تزرعوها فتستثمروها.

كلُّ انقلاب في الحكومات لا يسبقه انقلابٌ في الأفكار والآراء لا يُرجى منه كبيرُ فائدةٍ، فالحريةُ السياسية جميلةٌ وأما وحدها فمنافِعُها قليلة، ومن الواجب أن يتحرر عقل الأُمَّة وضميرُها ليتعزز شأنها وشأن حكومتها. واعلموا أن ثورة روحية في بلاد الإفرنج هي أصل هذه الحرية السياسية التي نتمتع بها اليوم فرحين مبتهجين، يُقال إن للجند يدًا في هذه النهضة الإصلاحية ولا ريب عندي في ذلك، ولكن الجند في الحكومات الاستبدادية إذا امتُهنت حقوقه وحُبس زمنًا معاشه يقيم السيف في أمره حجة قاطعة.

وكثيرًا ما حدث من مثل هذا الحادث في الحكومات الاستبدادية في سالف الزمان، وأما الآن فنرى أَنَّ الجُنْد العثمانيَّ ينصر النهضة الفكرية الإصلاحية ويثق تمام الثقة بمواعيد زعمائها، والفضل في تغلب الفكر على القوة والعقل على السيف حتى في الجند عائد إلى شيء جميل في مدنيتنا ينتشر في العالم انتشارًا سريعًا، وهذا الشيء الجميل يتجسد أحيانًا في دُعاة الإصلاح الصادقين وغالبًا في الفلاسفة والشعراء الحقيقيين. فالشورى على وجهها البسيط قديمةٌ في العالم، وطريقها من المشرق إلى المغرب يكاد يختفي في ظلمة التاريخ، وأما من المغرب إلى المشرق فمسلكها واضحٌ وآثارها جليَّةٌ، فمن المصلحين العثمانيين إلى المصلحين الروسيين مرحلةٌ قصيرة، وتكاد أسباب مجلس المبعوثين تتصل بأسباب مجلس الدوما وفي الدوما تتجلى لنا أرواح باكونين وتورغانيف وتولتسوي وغوركي، وهؤلاء منبثقون من فولتير وروسو وديدارو وهوغو، وروسو وفولتير وهوغو مديونون لكالفين وجون نُكس ولوثيروس بكثير من الحرية التي تنبعث أشعها من أقوالهم.

فالثورة الروسية إذًا هي ابنةُ الثورة الإفرنسية وكلكم — على ما أظن — تعلمون ذلك، والثورة الإفرنسية — وهذا ما لا أظنكم تعلمون — هي إحدى نتائج الثورة الروحية التي أطلقت ضمير الإنسان من قُيُود الخرافة السوداء، وعقلَه من قيود السلطة الصماء، وقلبه من قيود الطاعة العمياء، فتدبروا هذا، واعلموا أن الحرية الروحية هي رسول الحرية السياسية، وإذا جاءت هذه قبل تلك يعد مجيئها نقصًا لا بد أن تحاسبنا عليه الأيام.٨

•••

ورب قائل يقول: وما معنى الحرية الروحية؟ فقبل أن أُجيب على هذا السؤال أوجه إليكم سؤالًا آخر: أتظنون أن كل من عاش في ظل الدستور صار حرًّا، أتظنون أن كل من تمتع بحقوقه المدنية أصبح حرًّا، أتحسبون الفقراء والعمال في الجمهوريات من الأحرار، أتقوم الحريةُ بهذا الوهم الذي يدعونه في الحكومات الدستورية حق الاقتراع، أتعجبون إذا قلت لكم: إن نصف سكان الولايات المتحدة لا يزالون مكبلين بسلاسل العبودية، فما الفائدةُ للخادم من الحرية التي تتوقف على إرادة سيده الخبيثة الجائرة، ما الفائدة من الحرية السياسية التي يكفلها له القانون إذا كان القانون في قبضة الأغنياء، أفمثل هذا يعد حرًّا وهو لا يستطيع أن يبدي رأيًا مخالفًا رأيَ سيده، أيعد حرًّا من لا يملك نفسه من لا رأي ولا روح له، أيحسب حرًّا من كان وجدانه مقيدًا بوجدان مَنْ يتوقف عليه معاشه، فالتسكسك في الولايات المتحدة أي: بذل ماء الوجه أمام أرباب المال. هو مشتقٌّ من التسكسك في الشرق، أي: تعفير الوجه أمام أرباب السلطة والسيادة، والمتسكسك — يا سادتي — وإن ملأ ماضغيه فخرًا بالحرية والاستقلال والمساواة فما هو إلا عبد تكللة، لا رأي ولا نفس له.

الحرية الروحية إذًا هي أن يكون الفرد مالكًا نفسه، أي: مطلقًا من القيود التي تضغط على روحه وعقله إن كانت هذه القيود عائلية أو اجتماعية أو دينية أو سياسية، الحرية الروحية هي أن تكون روحُ كل امرئ بيده وتصرفه، لا محجوزة ولا موقوفة، ولا مبيعة ولا مرهونة.

وطالب هذه الحرية يتدرج فيها من بيته إلى دائرة أشغاله ومنهما إلى معبده وحكومته. فينعتق أولًا من الواجب الكاذب الذي يُفسد الحبَّ في الأسرة، ومن المصادقة التي تدعى لطفًا وصداقةً، ومن الخرافات التي تشوِّه وجه الدين، ومن التقاليد التي تفسد الحكومة. فواضح إذًا أن الحرية السياسية هي فرع من الحرية الجوهرية الأصلية الروحية أو هي نتيجةٌ من نتائجها، وهذه الحريةُ يحدها ويقيدها الناموس من جهة والتهذيب من الجهة الأُخرى، فبدون الناموس يستبد الحاكم ويوغل في الطغيان، وبدون التهذيب يستبد الشعب ويمعن في العصيان، بدون الناموس يَسُودُ الظلم في الحكومة، وبدون التهذيب تسود الفوضى في الأُمَّة.

فالناموس القويم الحيُّ والتهذيب القويم الحي إنما هما حِصْنَا الحرية المنيعان. وأما الناموس فتُمثله الحكومة في الدستور ويمثله الدين في الإيمان، وتمثله الإنسانيةُ في الضمير، فالضميرُ الحيُّ والإيمان الحي والدستور الحي إنما هي الدعائمُ الثلاث التي تقوم عليها الحرية الحقيقية المعنوية الجوهرية. الحرية الثالوثية التي هي واحدةٌ أي: الحرية الروحية والحرية الأدبية والحرية الدينية.

وإن كان المرء حرًّا سياسيًّا ومقيدًا دينيًّا وأدبيًّا فحريته ناقصة، والحرية الجوهرية الروحية الكاملة لا تسود وتنتشر في الأُمَم إلا بواسطة العلم الصحيح والتهذيب الصحيح. فعلينا إذًا أن نناديَ بإصلاح المدارس بعد أن فُتح لنا باب إصلاح الحكومة، فإن أصلحنا الحكومة وظل التعليم تحت سيطرة مَنْ يقتلون في الناشئة العثمانية عزة النفس وروح الاستقلال وعاطفة حب الوطن ويعطونهم بدلًا من ذلك قليلًا من العلم الذي قلما يفيد، نعود إلى الحال التي كنا فيها وتُمسي حريتنا كجواد الإمبراطور الروماني كاليغولا٩ ودستورنا كطيلسان ابن حرب أو كجبة دِيوجن،١٠ علينا إذًا أن نبث الروح الجديدة في مدارسنا، علينا أن نشيد لحريتنا حصنًا من التهذيب كما شيدت لها الحكومةُ حصنًا من الدستور، علينا بالجهاد والثبات، وبالتيقُّظ والتحذر، تحذَّرُوا أيها العثمانيون وتنبهوا.

تحذروا من انقلاب الأحوال وتقلب الرجال فإن للوزارة في الدولة مقاصدَ تخفى على ممثلي الأُمَّة وعمال الحكومة.

تحذَّروا من رجعات الظلم، تنبهوا إلى عودات الاستبداد فإن في السياسة من الأحابيل والأشراك ما لا يعرفها إلا مَنْ أشرف في السياسة مرارًا على الهلاك، احذروا من كان في عهد الظلم حُرًّا فأصبح اليوم مقيدًا، فبدل الجاسوسية القديمة قد يتألف اليوم من حزب التقهقر جاسوسية جديدة.

احذروا حيل المشعوذين والممخرقين كحذركم دسائسَ المعزولين والساقطين، ولا تغضوا الطرف عنهم قائلين: إن لسمهم درياقًا بالدستور، لا تأمنوا السم بأصفهان، إن كان درياقه بخراسان.

احذروا الخونة والمرائين الذين ينادون معكم اليوم «فلتحيَ الحرية» وهم في قلوبهم يلعنونها.

احذروا من المأمورين من يبتهج ويفرح معكم بالدستور وكان الظلم من طبعه والاستبداد وراثةً فيه، فإن العوسج لا ينبت تينًا، والصخر لا يستحيل ماءً مَعِينًا.

احذروا مَن اتخذ السياسة حرفة والسيادة بابًا للارتزاق؛ فإن المعدة والأهواء والمطامع تنسيهم الشعب والدستور والحرية.

احذروا المصلحين الكاذبين الذين يتزلفون من الشعب اليوم كما كانوا أمس يتزلفون من السلطان ووزرائه، فإن طالب الوظيفة واحد، إن أحرق بخوره أمام الباشاوات أو أمام الجماعات.

تحذروا من جهل الشعب العاتي كما كنتم تتحذرون البارحَ من ظلم الحكومة العاتية، فالتاريخ شاهدٌ على ما ارتكبه الشعب باسم الحرية من المظالم والفظائع، واحذروا في انتخاب المبعوثين نفوذَ رجال الدين فالعضو الذي ينتخبونه يؤثر في المابين مصلحتهم على مصلحة الأُمَّة. احذروا أيضًا نفوذ الأغنياء الذين لا يهمهم من الحرية والدستور سوى ارتفاع الأسعار في البورص وهبوطها. إذا شبع الزنجي بال على التمر.

احذروا من ينتمي إليكم اليوم ممن يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن الحق، أولئك الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون منها في سبيل الأُمَّة والوطن والخير العام.

وبكلمة أَعَمَّ: احذروا الحرية التي لا يُنيرها التهذيبُ والتهذيبَ الذي لا تنيره الحرية.

(٤) الثورة الأدبية١١

سادتي وسيداتي

قبل أن أبدأ بالكلام أُطمئنكم ألا أُكلمكم هذه الليلة بالرموز والألغاز، بل في نيتي أن أُجَرِّدَ الأشياء من زيناتها وأسميها بأسمائها، فإن ذكرت العقاب مثلًا لا تظنوني أُشير إلى شيءٍ خَفِيٍّ تحته أو فوقه أو وراءه أو فيه بل أُريد العقاب بعينه، وإن قلت: هبَّت الشرقية، فلا تقولوا ما أجمل هذا الصور الخيالية، فإني أقصد النار الحقيقية تلك التي لو مرَّ العُقاب فوقها لوقع فيها مشويًّا. قد حان لنا أن ندعو المعول معولًا — على حد قول إخواننا الأميركيين — وبناءً على ذلك سنبقى على الأرض هذه الليلة بعيدين عن القمر والجوزاء وعن تَبَرْقُشِ الشعراء.

لما وقفت أمامكم في السنة الماضية شعرت بوجودي معكم في غور الحياة، بل في أردن الموت، وأما الآن فأراني — والحمد لله — أخاطبكم وأنتم في سهول الصحة تستنشقون هواء الحرية، فمن أردن الموت إلى سهول الحياة وحقول الحرية إنها لَخُطوةٌ خطيرة، ولكنها صغيرة، هي خطوة إلى الأمام ولكنها لا تُغني عن رحلتنا الطويلة شيئًا من الإقدام فإنْ حوَّلنا وجهنا إلى مشرق الشمس نرى الجبال قائمة في طريقنا لا تعترضنا في سَيْرِنَا بل لتشحذ منَّا الْهِمَّةَ وتوقظ فينا النشاط.

وكلما صعَّدنا في جبل نشاهد فوقنا روح ما تجسد من الآمال، وهي تدعونا إلى ما فوقها من الجبال، وإن الأُمَّة التي تستيقظ من سُباتها وتنفض عنها غبار فُتُور الأجيال ينبغي لها أن تُواصل السير بالسرى وإلا تقهقرت فسقطت ثانيةً في الوهدة التي قامت منها. ولا يخفى عليكم أن الطريق وعرةٌ، والزاد قليل، والنفس مضناة من إقامتها طويلًا في الغور، والأحمال ثقيلة، والأدلاء كثيرون، ولكننا سنتوقف — إن شاء الله — في مسيرنا على رغم هذه الصعوبات والعقبات إذا اتخدنا شمس العلم دليلنا، والآداب والفنون زادنا.

إن الشمس المشرقة علينا من المغرب اليوم هي — والحق يقال — شمسُنا، هي شمس آدابنا، هي شمس أدياننا، هي شمس مجدنا الغابر، فإن نظرتم إلى خارطة العالم تروا أن من البلاد ثلاثًا آخذة منه مركز القلب، وهذه البلاد هي سوريا وفلسطين وجزيرة العرب وما بين النهرين، هذه البلاد وطننا، هذه البلاد قلب العالم، وفي هذا القلب ظهرت الأنبياء وفيه نشأت الأديان، ومن هذا القلب أشرقت على أُوروبا في الأجيال الوسطى شمسُ العلم والفلسفة والآداب، فأنارت ظلمات الأُوروبيين وخرجت بهم من مهامة الجهل والتوحش إلى واحات الرقيِّ والعمران.

أجل إن وطننا لَقلبُ العالم ولكن أُوروبا رأسه، وإن كان القلب منشأ الخيال والنبوة فالرأس منشأ العلوم والفنون على أن النور المنبثق من الرأس فقط هو كالنور الاصطناعي الذي يضيئون به المراسح في أوروبا، هو نور باردٌ جامد خاسئ وإن لم يشترك مع نور القلب وحرارته فلا خير فيه للإنسان مهما عظُمت نتائجه في دوائر العمران والفنون إن لم يكن الضميرُ أساسها والإخلاص لبها ونفع البشر غايتها الأولى. هي أفيون لا فُنُون، فإنها تخدر الحواسَّ وتذهب بشيء من الهموم، ولكنها تقتل النفس وتُفسد الحياة.

إن سكان هذه البلاد التي هي قلب العالم لَشبيهون بشجرةٍ ذكرها النبي شجرة مباركة لا غربية ولا شرقية، نحن اليوم واقفون بين مدنيتين متناقضتين معاديتين الواحدة منهما الأخرى، مدنية جديدة ومدنية قديمة، مدنية أوروبية ترفع أعلامها في البلاد كلها، ومدنية شرقية لم يزل لها المقامُ الرفيع بين فئةٍ راقية من نُخبة الأُدباء والفلاسفة في أُوروبا. فإن كان هؤلاء الأوروبيين يجدون في مدنيتنا ما لا يجب تركه، ما لا يجوز اضمحلاله كم بالحري نحن؟

ولي كلام طويل في هاتين المدنيتين أقول الوجيز منه الآن لست بجاهل ما في مدنية اليوم لمن كَثُرَ ماله فقط من دواعي الراحة في المعيشة البيتية المادية والسهولة والسفر والمواصلات، ولا أظنكم تجهلون ما في التعادي والتكالب في سبيل هذه الأشياء أيضًا والبلاء، فإن المدنية التي يدعى التكالب فيها نشاطًا والخداع براعة والقوة حقًّا هي عندي شر المدنيات، وهذه مدنية أُوروبا اليوم مدنية كهرباءٍ هي وبخار، مدنية تجارة وكسب واستغرار، مدنية حروب وفتوحات واستعمار، ليس فيها للضمير والذمة أثرٌ من الآثار، مدنيةٌ جذورها حب الذات والاستئثار، وثمارُها اليأس والانتحار، لا تقولوا بالغت؛ فإن كلامي من الاختبار، لا من المجلات والأسفار.

وأما مدنية الشرق فلست بناكر أنها مدنية فتور وجمود واستسلام، مدنيةٌ أصولها القضاء والقدر ولُبُّها محض أوهام، ولكن فيها من جميل العادات والتقاليد، من جميل العواطف والشعور، من شهامة النفس وكرم الأخلاق، من الاعتدال في العيش والبساطة؛ ما تفتقر إليه مدنيةُ أُوروبا. وهذه الخلالُ الشريفةُ تبعث الحرارة من الحقيقة الباردة القاسية فتُمسي الحياةُ خفيفةَ الأحمال مَرْضِيَّةَ الآمال.

ناهيك عن أنه لم يزل في هذه المدنية القديمة شيءٌ من الضمير الحيِّ والتجرد في الولاء، مما يزيد النفس الشرقية جمالًا. والضمير الحي — أيها السادة — هو ملح العلوم والفنون والآداب، ومن هذه كلها تتغذى المدنية الحقة.

نحن اليوم واقفون بين هاتين المدنيتين، بين مدنية غازية منتصرة وأخرى مُدْبِرَة، فعلينا أن لا نخضع على الإطلاق لهذا الفاتح الغازي، وإن تمسك بما في مدنيتنا من الخير الروحي، ولا ينجينا من استبداد هذه المدنية الفاتحة القاهرة ويحفظ لنا حسنات تلك المدبرة سوى الآداب.

ولا أُريد بالآداب الكتب فقط بل أريد منها آداب النفس أولًا والأخلاق، إن الدين — وهو أب مدنية الشرق — يرفض بتاتًا مدنية الغرب، والعلم المادي — وهو إله مدنية الغرب — يرفض بتاتًا مدنية الشرق. فالدين والعلم في هذا الموقف متغرضان كلٌّ لقومه ولا ينفعنا الواحدُ منهما دون الآخر، وإني لا أجد في كل قوى الفكر والنفس وثمارهما أصلح وأنجع من الآداب تجمع بين الاثنين فينشأ عن ذلك مدنيةٌ جديدةٌ قوامها الصنائع والفنون وشعارها الإخاءُ العام، واعلموا أن الفنون السامية الجميلة هي التي تتغذى من العلم والدين معًا.

والأمة التي تجعل مثل هذه الفنون أساس حياتها الاجتماعية تكون ولا غرو مجد المستقبل وأُمَّ الأُمَم. على شطوط البحرين وفي أودية الرافدين أُحب أن أشاهد مثل هذه المدنية الجامعة بين محاسن المدنيتين، أحب أن أرى في قلب العالم جمالَ روح العالم وكمالها، أُحب أن أرى في بلاد الشام وبلاد العرب ثمار الأنبياء وثمار العلماء على شجرة واحدة. أحب أن تزرع بساتين هذه الأرض المقدسة من تلك الشجرة المباركة، شجرة لا غربية ولا شرقية. وأحب أن أرى الأُدباء والشعراء بعيدين عن السياسة وأوحالها، منصرفين إلى حراثة هذه البساتين الجميلة.

أيها السادة! لا تظنوا أن الانقلاب السياسي يجدي نفعًا إن لم يتبعه انقلاب أدبي، لا تظنوا أن في الحكومة الدستورية دواءً شافيًا لكل أمراضنا، لا تظنوا أن الدستور وحده يخلص الأُمَّة من الأخطار المحدقة بها النامية في قلبها وأن الصحافة الحرة تقف دائمًا — من أجل الأُمَّة — في وجه المشعوذين والمضللين والمفسدين. وهل الدستور والصحافة الحرة رقيتان من رقيات السحرة حتى إذا قلنا مثلًا شولم صحافة! صرنا شعبًا حرًّا، شولم دستور! صرنا أُمَّة راقية؟ لا يا إخواني لا، فإن طلبتم الحرية اطلبوا المعنويَّ منها قبل الحرفيِّ، الجوهريَّ قبل السياسي.

اطلبوا الحريةَ الروحية التي تُحصِّنُها الآداب قبل الحرية المدنية التي تتاجر بها الأحزاب، وإن خفي عليكم الفرق بين الاثنتين اذكروا أن حرية الجسد لا تُجدي المرء نفعًا إذا كانت النفس مقيدة، وإن حرية الفكر والقول لا تغني فتيلًا إذا ظلت الروح أسيرةً ما اعتاده الجسد من الراحة والترف والرخاء أو الذلة وتعفير الوجه والعياء.

إخواني! إن الفرق بين الحرية الأدبية الروحية والحرية المدنية المادية لهو كالفرق بين حرية السياسي في مراوغاته وحرية البدوي في خيمته أو الرجل الصالح الجريء في معاملاته. أجل إن الحرية الحقيقية هي التي تنشأ في النفس لا التي يمنحها الملكُ الرعيةَ، فإن هذه تزعزعها الأهواءُ ويتاجر بها الزعماء وتقتلها رجعات التقهقر الشعواء، وتلك كنز من كنوز النفس الخالدة، والذين لا يناضلون عن مثل هذه الحرية ولا يفادون من أجلها بشيء مما ألفوه من رخاء العيش أو بشيء مما نالوه من المال أو الرفعة والوجاهة فما ضرهم لو دعوا كلابهم أحرارًا وذكروا عزَّت في صلواتهم مرارًا، الذين يتنازلون عن حريتهم ويُتاجرون بها كما لو كانت ثوبًا من الخام أو سهمًا من أسهم البورص فإنْ هم إلا قبورٌ متحركة إذ ما الجسد إلا كالقبر لنفسٍ باعت حريتها. ولكني خرجتُ عن الموضوع.

قلت: إن الآداب التي تجمع بين العلم والدين تكون قوام المدنية الجديدة التي يُقرن فيها بين مدنية المغرب المادية ومدنية المشرق الروحية، ولكن آدابنا لم تزل تحت سيطرة المتدينين والمتنطعين، وأنفسنا لم تزل في ربقة رجال الدين، وإن لم نتجرد من هذا الاستبداد الديني، أو بالحري السفسطي كما تجردنا من الاستبداد السياسي تظل آدابنا مبتذلة جامدة خاسئة ونعود بعد حين إلى ما كنا فيه من الفُتُور والخمول والانحطاط.

خذوني بحلمكم فأقص عليكم بوجيز الكلام قصة لكهان، ونشوء العبادة في قلب الإنسان، لنعد إلى الأكواخ إذًا فنحكي هناك شيئًا من حكاية أجدادنا الأولين، من المعقولات التي لا تنفيها الإلهيات أو الإلهيات التي لا تنفيها المعقولات.

إن أول دعوة لَبَّاها الإنسان دعوة بطنه وشهواته، وماذا يهمنا وقد علمنا هذا فيما إذا كان يمشي على الأربع في تلك الأيام أو على الاثنين، فإن في العالم حتى اليوم كثيرًا من الحيوانات التي لا تمشي على الأربع.

هذا الحيوان الناطق إذًا لم يكن يفهم في بادئ أمره إلا حديث معدته وحديث كبده، فكان لا يحسن غير الصيد والحرب والأكل والسفاح، وبعد فترةٍ من الزمن مقدارها ألفان قرنٍ أو ألفان عامٍ — لا فرق عندي — بدأ يسمع صوتًا آخر من فوق المعدة والكبد، بدأ يشعر بدعوة القلب، فصار يعطف قليلًا على أولاده، إن لم نقل أيضًا على شريكته، بل جاريته، بل بعلته، وعلى هذا الحال عاش سنين — وللعلماء أن يجمعوا الألوف منها فوق الألوف فإن عَدَّها لا يستحق تعب الفكر — عاش سنين وهو لا يرى ولا يسمع سوى ما زينته له الغريزة وحدثته عنه المعدة.

أولا ترون أن بعض الشعوب اليوم فضلًا عن القبائل المتوحشة لم تزل في هاته الحالة المنحطة من الحياة، فإن القوى المدركة لم تظهر فيهم بعد، وفي هذه الفترة الطويلة الأمد نشأتْ — على ما أظن — العبادات والمعبودات التي كانت في بادئ الأمر ماديَّةً محضة؛ لأن هذا الحيوان الناطق بل هذا الصياد الغازي المسافح ما رأى في الأشياء إلا ما ظهر منها، ما رأى في الشمس إلا النور، ما رأى في الشجرة إلا ثمارها وأغصانها وقشورها، ما رأى في النار سوى لهيبها ودُخانها ورمادها، ما رأى في الحيوانات سوى ما بدا منها وما ظهر من حركاتها. في تلك الأيام السعيدة كان كل حيوان ناطق يعبد طاغوته ويحب مرمورته على طريقته الخاصة بمقتضى شعوره وهواه عملًا بداعي القلب والغريزة.

وبعد مضيِّ أحقابٍ وهو في هذا الغور من الحب والعبادة ارتقى قليلًا إلى ما فوق السهول وبدأ يشغل المخيلة منه حتى صار يرى في الأشياء شيئًا تحت القشور وتحت الرماد، وبما أنه لم يدرك أسرارها راح يُسلِّي نفسه بالأشعار ويعللها بالخيالات. وبمقتضى هذا طفق كل إنسان يمثل الخالق في الشكل الذي انطبع في قلبه أكثر من سواه، ولا حاجة لتعداد هذه المعبودات كلها، فلو جئت أعد منها لا أن أعددها لاقتضى ذلك من الوقت ما لا يسمح به المقام. ولكن إذا ذكرنا منها الجعل والشمس فقط نكون قد أتينا على ذكر أولها وآخرها، أوطاها وأعلاها، أصغرها وأكبرها، وحالة الفرد تجاه معبوده في تلك الأيام لم تزل سائرةً اليوم في شعوب الأرض كلها وما ارتقى في الأُمَم سوى الأفراد.

ولكنْ لنعد إلى أجدادنا أصحاب الأكواخ. لما ظهر في الجماعات أُناس أرقى نوعًا من إخوانهم وبدا لهم أن الإنسان يرتاح إلى كل غريب عجيب — والزنجي والباريزي اليوم سواء من هذا القبيل — لما علم هؤلاء الدهاة ما للخيال والوهم من السطوة على الأنفس والقلوب؛ قاموا يؤسسون من هذه العبادات دياناتٍ رسمية، فبَنَوُا الهياكل وحاكوا من أوهام الناس طقوسًا وطرائق وأقاموا أنفسهم رؤساء في الهيكل وبدءوا يتكهنون ويمثلون الله — أستغفر الله — يمثلون الطاغوت على الأرض.

وهذا — في رأيي — أول ما كان من أمر الوثنية والكُهَّان، واذكروا أن الوثنية لم تزل سائدةً في بلادنا والكُهَّان يتعاطون التجارة اليوم في دكانهم القديم. وقد أوضحتُ كيف كان كل امرئ يعبد طاغوته على هوى قلبه قبل أن يُولَد الكاهن، ولكن هذا المرمريت — اللفظة وحشية ولكنها في محلها — أول من ألف من هذه العبادات ديانةً رسمية فشِيدَتْ من أجلها الهياكلُ ونحتت الأصنام وقدمت الذبائح والقرابينُ، وتسربتْ إلى بيت صاحبنا المتكهِّن العطايا والأموال، وذلك قبل أن يظهر في الأرض الأنبياءُ الذين هم أعداءُ الملوك والكهان، فاذكروا هذا ولا تنسوه. إن الأنبياء لأعداء الظلم في الملك والرجاسة في الهيكل والفساد في الجماعات.

وأما الكهان يا سادتي فهم أول من عاثوا في الأرض فسادًا، هم أول من قَيَّدُوا الأنفس البشرية واستعبدوها، هم أول من تاجروا بالخداع والتغرير، هم أول من استولوا على الأمراء والملوك وأيدوا سلطانهم بأنباء من السماء مكذوبة. والكهان اليوم أو رؤساء الأديان كلها هم أعداءُ الحرية الروحية الأدبية، ولا يغرنكم ما بدا منهم من الارتياح إلى هذه الحرية التي منحنا إياها الدستور، فإن العنان لم يزل في أيديهم والأرواح لم تزل في ربقتهم. الكهان هم أعداء الآداب الراقية، أعداء اشتياقات الأنفس السامية إلى الكمالات الفكرية. على الكهان وآلهة الكهان امتشق نبيُّ العرب حسامه في الكعبة، وصب أشعيا نار غضبه في أُورشليم.

على الكهان ومذابحهم وتزاويقهم وأصنامهم ورجاساتهم انقضتْ صواعقُ حزقيال في إسرائيل وزمزمت رُعودُ دانيال في بابل، على تغريرات رجال الدين وخزعبلات العبادات قام عبد الوهاب في نجد ولوثيروس في وتنبورغ وجون نكس في إنكلترا وغيرهم في البلاد كثيرون. فما علينا لو استغنينا عن المتكهنين المدلسين وتَفَلَّتْنَا من ربقتهم واعتصمنا بالله وبدين الله وبأنبياء الله. تدبروا كلامي ولا تسيئوا افتهامي، إني أحترم العاطفة الطينية التي تكاد تكون فطرية في الإنسان، ولكني لا أجد في خزعبلات هؤلاء الناس وفي تَنَطُّعِهم — وقد قيل: هلك المتنطعون — ما يساوي ذرة من نفس امرئ راقية.

ولكن إذا لبس الكاهنُ أو الإمام لغايته ثوبًا من التغرير والخداع ولبس المتعبدون ثوبًا من الجهل والخرافة؛ فذلك لأن الإنسان لا يسير في الأرض عريانًا ينبغي له أن يستر سوءته ولو بسوءة أسوأَ منها.

وقد قال أحد المسلمين: إن من آفات الدين فسق المتكلمين وجهلُ المتعبدين. أيها السادة، المرء يحتاج دائمًا إلى من يذكره بأنه من أبناء اليوم لا من بقايا الأمس، يحتاج دائمًا إلى من يُريه الربقة والقيود على روحه، يحتاج دائمًا إلى من يهمس في أذنه أو يصرخ في وجهه: إنك إنسان حُرٌّ، لا آلة في يد هذا أو ذاك يتصرف بها ساعة يشاء كيف شاء، فيا أيها الشرقيون! إن تحت خريف نفسكم الدائم ربيعًا جميلًا إذا كنتم تعقلون، إن تحت رهوكم موجات عظيمات لو ناهضتم العاصفة ولو مرة في الحياة، فإن مثل هذه النهضات الروحية، مثل هذه الثورات الأدبية — وإن كانت عاقبتها اليوم غير مرضية — فهي غدًا للنفس منعشة محيية، مثل هذه النهضات تعوِّد المرء الفكرة وتروض منه الإرادة وتكسبه المنعة والاستقلال.

إن للماضي أثرًا قويًّا في العروق، إن فتور الترقي وخموله لفي الدم، فإن كان لا يمرن نفسه وإرادته على ما يحرك الدم — دم الجسد ودم الروح معًا — يظل ما دام حيًّا كطل من أطلال الزمان ولا يُنهض الشرقيين من هذا الغور المظلم سوى الثورة الأدبية التي يتبعها انقلابٌ عظيم في الأخلاق.

فها إننا صرنا أُمَّةً حرة ذات حكومة دستورية، ولكن ذلك لا ينافي ما في العائلة وما في الطائفة وما في المدرسة من الجور والحيف والاستبداد، من العماوة والجهل والفساد، ذلك لا ينافي ما في اصطلاحاتنا الاجتماعية — وأكثرها من فضول هذا التمدن الإفرنجي — من الضيم والشقاء ما لا يماثله ظلمُ أظلم حكومة مطلقة.

ألا ترون أن التاجر لم يزل مَحْنِيَّ الظهر تحت أمواله وصكوكه، وأن الصانع لم يزل أسير هذا العبد سيده، والتلميذ في المدرسة أسير جهل أُستاذه، والأستاذ أسير استبداد رئيسه، ألا ترون أن المصلح السياسي مرهونةٌ حريته لخطة حزبه، والكاتب حريته عند قرائه أو في قبضة رزقه، والصحافي حريته في جلده واستقلاله في كيسه — لا تؤاخذوني فقد وعدتكم في البداية بأن أسمي المعول معولًا والعقاب عقابًا — ألا ترون أن المرأة في البيت مقيدة بإرادة زوجها عادلة كانت أو جائرة، وأن الأب لم يزل يعتقد أن أصول التربية في تأييد سلطته، وأن المأمور في الحكومة يتألم من ضغط ذاك الجا لس فوق رأسه، والجندي من استئثار ضباطه، والكاهن من ظلم أسقفه، والأسقف من استبداد بطريقه، والراهب يحترق في نذره ويئن من عنف رئيسه، والفلاح يتأوَّه من جور أميره، بل يصرخ في بعض الأماكن تحت سوطه، شولم صحافة؟ صرنا شعبًا حرًّا، شولم دستور؟ صرنا أُمَّةً راقية.

إي إخواني! اسمعوا التقية تهمس في أُذُن هذا الشيخ: حافظ على مركزك. اسمعوا الخوف يقول لذاك الصحافي: حافظ على مصلحتك. اسمعوا الذلة ترشد أخينا الفلاح قائلة: اتق بطش سيدك. اسمعوا الجبانة تهمس في قلب الراهب: اتقِ الفضيحة وحافظ على ثوبك. فالتقية والخوف والذلة والجبانة هي أعداءُ الإنسان الحقيقية، وإن لم يحرر نفسه منها بنفسه فمائة قانون ومائة دستور لا تحرره. واعلموا أن الإرادة المستولية على أرواحنا لا يخلصنا من ظلمها إلا إرادةٌ أشدُّ وأقوى منها.

لذلك أدعوكم إلى ثورة أدبية، أُناشدكم بالحرية التي بعثت من غور ماضينا حياة جديدة؛ أَلَّا تَدَعوا الخوف والتقية والذلة والجبن تستولي عليكم متى شعرتم بيد تضغط جورًا على أنفسكم، متى رأيتم حريتكم الأدبية مقيدة أمامكم، ارفعوا أعلام الآداب في البلاد شيدوا صروح التهذيب أَسِّسُوا معاهد للفنون، فإن الآداب والتهذيب والفنون هي القوى الأدبية الروحية التي يتآلف فيها العلم والدين ويقرن فيها بين بديهيات الأنبياء ومعقولات العلماء وتمتزج فيها روح الحقيقة وروح الجمال، وتنبثق منها أشعة السلم والحرب والإخاء.

أجل هي القوى التي يتوقف عليها تحرير الإنسان وتحرير الشعوب والأُمم، لنعزز الآداب إذًا والفنون، لنؤيد بالقول والعمل التعاليم السامية، لننصر الآراء الحرة السديدة، ومتى رأينا أن الحزب الذي ننتمي إليه أو الطائفة التي نحن منها والجريدة التي نكتب فيها تحاول تقييد أفكارنا أو الضغط على عقولنا أو المتاجرة بأرواحنا؛ فعلينا أن نخرج منها سريعًا، وننفض عن نعلنا غبارَها. إن شرف المرء في حرية عقله ونفسه، وشرف الأحزاب في حرية رجالها، وشرف الطوائف في حرية أبنائها.

إخواني! ما الناس إلا أُمة واحدة وستجمعهم في المستقبل — إن شاء الله — جامعةٌ واحدة هي جامعة الآداب والفنون، ودينٌ واحدٌ شاملٌ قوامُهُ الأبوية الإلهية والإخاء العامُّ.

(٥) المدينة العظمى١٢

سادتي وسيداتي

قص أرستو الشاعر اليوناني قصة عرَّافة تترائى للناس أثناء الربيع والصيف في صورة ملك سماويٍّ وأثناء الخريف والشتاء في شكل حيَّة رائعة هائلة، وكانت هذه الساحرة تغمر بفضلها وآلائها أولئك الذين أحسنوا إليها وعاملوها بالمعروف في فصلَي الشتاء والخريف. وأما الذين أساءوا معاملتها وحاولوا قتلها وهي في تلك الصورة المخيفة فكانت تحرمهم هذه النعم والبركات، وقد شُبهت الحرية بهذه العرافة العجباء التي تبدو تارةً كالملك وطورًا كالحية الرقطاء.

فالحريةُ في بادئ أمرها تتخذ هذا الشكل المزدوج الغريب الذي يتخوف منه بعض الناس ويُغالي في مدحه الآخرون، في الأُمَم التي أَلِفَت العبودية تظهر الحرية أولًا كالحيَّة فتتحول رويدًا رويدًا إلى ملك سماوي، وما من منكِر أن حرية العثمانيين لم تزل في فصل الشتاء، حريتنا لم تزل كعرافة أرستو في شكلها الهائل المخيف، ومع ذلك علينا أن نصبر عليها ونُحسن استقبالها حتى إذا استحالت ملكًا قريبًا لا نُحرم فضلها وآلاءها.

سادتي، إن الحرية مهما قيل فيها هي ضالة الإنسان المنشودة، هي غايته القصوى في الحياة، هي قِوام الأنفس والعقول، وغذاء الفنون والعلوم، وأساس كل مظاهر الرقي والعمران، وأود لو دعيت المدينة العظمى — التي هي موضوعي الليلة — مدينةَ الحرية وأُطلقت على شوارعها أسماءُ رسل الحرية وأبطالها في كل زمان ومكان.

من الحقائق التي لا ريب فيها هو أن الإنسان مهما ارتقى في سلم الحياة يظل في مكان يرى منه من تقدمه إلى العلاء، ومهما انحط المرء وتقهقر لا يصل إلى القعر الذي لا يُكشف على أحد دونه.

فالسلم والهاوية لا نهاية لهما في الحياة؛ لأن الدرجة الأُولى منهما في المهد والدرجة الأخيرة في القبر، أينما كان المرءُ إذًا يرى كثيرين من الناس فوقه وكثيرين تحته، وكلما ارتقى درجةً في معارج الفوز والفلاح يسمع أصواتًا بعيدة تدعوه إلى ما هو فوقها. وهذه من حقائق الحياة التي فيها لجميع الناس كثيرٌ من التنشيط والتعزية، علينا إذًا أن لا نكون عبيدًا لمَنْ هم فوقنا وألا نستعبِد من هم دوننا. علينا ألا نتصاغر أمام الكبار وألا نتكابر أمام الصغار.

وكما في الناس كذلك في المدن، فلا يحق للوندرا مثلًا أن تصعِّر خدها للقاهرة، ولا القاهرة أن تشمخ أنفها على بيروت؛ لأن حسنات المدينة العظمى قد تكثر في هذه وتقل في تلك، قد تكبر في المدينة الصغيرة وتصغر في الكبيرة. والمدينة هذه التي صوَّرها العقل بريشة الخيال ما هي من مدن هذا الزمان ولا من مدن الماضي. ليس في نيتي أن أكلمكم لا عن نينوى أو بابل ولا عن نويرك أو باريس؛ فإن باريس من أُمَّهَات المدن العظيمات، ولكنها لا تستحق — في نظري — صيغة التفضيل؛ لأن هناك مدينةٌ أعظمُ منها مجدًا وأسمى منها شأنًا وأبعدُ منها جمالًا وأرقى منها فضلًا وعلمًا.

ومَنْ يتجاسر أن يتكهَّن في هذه الأيام، من يدري ما في المستقبل لشعوب آسيا الصغرى، فقد تزهو والمدينة العظمى فوق أطلال بابل، قد يشيدها الزمان على ضريح نينوى، قد ترتفع صُروحُها وأعلامُها وأبراجها وقبابها تحت هذه السماء الجميلة على هذه الشطوط التاريخية المقدسة أمام هذه الأمواج التي شاهدت جنازة مجد آسيا وستشاهد — إن شاء الله — موكب بعثه.

وبأيٍّ تمتاز المدينة العظمى عن سائر المدن؟

أبمراسيها البحرية، أَبِمحطات السكك الحديدية، أبمركباتها الكهربائية، أبأسلاكها البرقية، أبأنبائها اللاسلكية، أبقصورها الشاهقة، أبصروحها الفخيمة، بأنفاقها وجسورها وملاهيها؟ بأيٍّ تُفاخر المدينة العظمى سائر المدن؟ أبشوارعها الواسعة النظيفة، أبساحاتها الكبيرة الجميلة، أبمخازنها الحاوية ما ندر وعز من مصنوعات الطبيعة والإنسان، أبمدارسها العمومية، أبمستشفياتها المجانية، أبمعاهدها العلمية، أبمتاحفها الأدبية والتاريخية، أبمصارفها وبورصاتها وأغنيائها، أبكثرة سكانها، أبتعدد معابدها؟ لا يا سادتي.

المدينةُ العظمى تمتاز عن سائر المدن بنوابغها، بشعرائها وعلمائها وأرباب الفنون والصنائع فيها، المدينة العظمى هي التي يمكنها أن تفاخر سائر المدن لا بكثرة سكانها بل بكثرة الأَصِحَّاءِ فيها، إذ ما هو الخيرُ في مدينة تسعون في المائة من أبنائها مرضى؟ المدينة العظمى إذًا هي التي يخلو هواؤها من جراثيم الأمراض المعدية وتشرق شمسها على عقولٍ سليمة في أجسام سليمة.

المدينة العظمى هي التي تكرم أبطالها ونوابغها لا بإقامة التماثيل ونصب الأنصاب فقط بل بالاقتداء بهم وبالعمل بتعاليمهم، هي المدينة التي يُقرن فيها بين البساطة والجمال في أمنيتها وفي أزيائها وفي فنونها، وبين الرحمة والعدل في أحكام قُضاتها، وبين العلم والدين في تعاليم علمائها، هي التي يحترم المرءُ فيها جسده ورُوحه ويعتني على السواء في نظافة الاثنين، هي التي ينبذ رجالها ونساؤها الشرائعَ التي يسنها الخائنون لتعزيز شئون أفراد من الناس، ولا فرق إن كان الأفراد من الأغنياء والأمراء أو السلاطين، هي التي لا يوجد فيها أَرِقَّاء ولا تُباح فيها النخاسة، هي التي ينهض فيها الشعب نهضةً واحدة على ظلم الحكام وفساد المسيطرين، هي التي يكون شعار كل امرئ فيها:

لا تَسْقِنِي كأْسَ الحياة بِذِلَّةٍ
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

المدينة العظمى هي التي لا يتداخل في شئونها سلطةٌ أجنبية، هي التي يكون كل امرئ فيها سلطانًا بنفسه بل تمثالًا حيًّا للحرية والإخاء. هي التي يُعتبر الحكام فيها كخُدَّام يخدمون بالأُجرة، هي التي يتعلم الأولاد الاستقلال وعزة النفس في مدارسها قبل سائر العلوم، هي التي تُطلق فيها حريةُ القول والعمل ويَكثر فيها التنقيبُ والبحث وتثمر فيها الفنون وتعزز فيها الآداب. هي التي تكون الصداقة فيها أمرًا مقدسًا والإخلاص محترمًا كسر من الأسرار الإلهية.

هي التي لا تُكرَه الامرأَةُ فيها على الإقامة مع رجل لا تُحبه ولا الرجل مع امرأة لا يحبها. هي التي يكون الأَبَوَان فيها صَحِيحَي الجسم والعقل قويين نشيطين مدركين فيُوجِدَا نسلًا قويًّا مدركًا نشيطًا — إن لم تصلح صحة هذا الجيل لا رجاء لنا في المستقبل — المدينة العظمى هي التي تكثر فيها الأُمَّهَات الحزيماتُ العَزُومات المدركات ما سما من مقاصد الحياة فلا يُعَلِّمْنَ أولادهنَّ الخرافة والكذب والمراوغة ولا يعوِّدنهم الطاعةَ العمياءَ والجبانة والخوف — الشرق يحتاج إلى الأُمِّ التي تعلِّم أولاها الاعتماد على النفس فوق كل شيء — المدينة العظمى هي التي تسير النساء في أسواقها مكشوفاتِ القناع ويحضرن الاحتفالات العمومية كالرجال ويشاركن في البحث والإرشاد كالرجال.

هي المدينة التي يستغني فيها أهل الأدب والفنون عن أهل المال، بل هي التي يتأسس فيها دائرة أوقاف لا لخدمة المعابد، وإعاشة رجال الدين بل لخدمة العلوم والفنون، لخدمة النوابغ والعلماء.

سادتي! عبثًا تسن الحكومات الحرة شرائع حرة إن لم تطلق أنفس العلماء وأرباب الفنون من قيود المصلحة ومن هموم الارتزاق.

قيل لبعض العرب ومَنْ سيدكم؟ فقالوا فلان. فقيل بِمَ؟ فقالوا: احتجنا إلى علمه واستغنى عن دُنيانا، فمثله تكون العلماء والأمراء، وبمثله — إن شاء الله — ستفاخر المدينة العظمى سائرَ مدن العالم. وقال أعرابيٌّ آخرُ: أُحب أن أتمثل بأبناء هذه اللغة لتتأكدوا أن مثل هذه المدينة العظيمة لا يستحيل وجودها في بلادنا.

قال سيِّدٌ من العرب لقومه: اعلموا أنني حاسدت عليكم حتى صرت عبدًا لكم أُغدق على سائلكم وأصفح عن جاهلكم وأحوط حريمكم وأدفع غريمكم فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي ومن فعل فوقي فعلي فهو فوقي ومن فعل دون فعلي فهو دوني. فهل يا ترى يوجد بين المتمدنين اليوم من تجتمع فيه هذه الخلال الشريفة كلها، أفلا يحق لمدينة المستقبل أن تفاخر سائر المدن بمثل هذا الأمير.

وبين رجال العرب من كان أعظمُ منه. دخل ابن العباس على علي بن أبي طالب خارج الكوفة وهو يقطب نعله، فقال له: ما قيمةُ هذه النعل. فقال ابن العباس: لا قيمة لها فقال عليٌّ: لهي أحب إليَّ من إمرتكم إلا أن أُقيم حقًّا أو أدفع باطلًا. فالمدينة العظمى هي التي يكثر فيها مثل هؤلاء الرجال العظام الصالحين، هي التي يتعوَّد كل امرئٍ فيها محاسبة نفسه فإذا كان ممن لهم شيء من الشهرة أو المجد أو القوة أو النفوذ أو السلطة أو المال؛ يسأل نفسه كل يوم وما قيمة هذه الأشياء كلها إلا أن أُقيم حقًّا أو أدفع باطلًا، ما الفائدة من هذه السيادة أو من هذه الشهرة أو من هذه الأموال إذا كانت لا تُساعدني على نُصرة الحقيقة وإقامة الحق ودفع الأباطيل والأضاليل، ما الفائدة منها إذا كانت لا تبعدني في الأقل عن هذه الظلمات وسكانها عن أسيادها وعبيدها، وقد قيل شَرٌّ من الجهل نُصرةُ الجهال، وأسوأُ من الضلالة الاحتجاج للضلال.

سادتي! إن المدينة العظمى هي التي تنتصر فيها الحقيقة قولًا وفعلًا، هي التي يروج فيها الصدق كما هو الكذب رائجٌ في العالم اليوم، هي التي يعيش فيها الأدباء والعلماء لا للشهرة والمجد ولا للكسب والمال فقط بل لخدمة الحقيقة فكرًا وقولًا وفعلًا. إن فروسية اللسان لَغير فروسية الجنان، وما كل من هز لسانه فخرًا ومباهاةً يستل حسامه في الغارات، فالنفس الراقية التي تعيش لهواها وشهواتها وأباطيل المجد والسيادة فقط هي كالكلب الإفرنجي الجميل الذي يقضي حياته كلها تحت قدمَي سيده أو تحت رداء سيدته، والعجبُ في أمر هذه النفس أنها كُلَّما أمعنت في اللذات كلما اكفهرت في وجهها آفاقُ الحياة. وقد قال أحد المتصوفين.

إن المَرائيَ لا تُريك
عيوبَ وجهك في صداها
وكذاك نفسُك لا تريك
عيوبَ نفسك في هواها

وها أني ذكرت من المحاسن والأماني ما ستنفرد فيه المدينة العظمى عن سائر المُدُن، وهناك أُمنية أُخرى بل نبوءة لأحد الأنبياء ترددتُ في ذكرها، وليلة كنت أفكر في هذا الموضوع طرق بيتي طارق ففتحت فإذا بالباب شيخٌ جليل عاري الرأس حافٍ، لابسٌ قميصًا بيضاء فوقها رداء أسود مسدول على كتفيه، وقف في الباب ورأسه مُنْحَنٍ فوق يديه المضمومتين على هراوته ولَمَّا فتحت دخل دون استئذان وسار توًّا إلى مكتبي وجلس هناك على كرسيٍّ أمامي، فأخذني من أمره العجبُ ولكن قبل أن بادرته بالحديث قال: جئت أحقق أمنيتك وأمدك بآخر من آرائي، فقلت والدهشة تملأ نفسي: ومن أنت يا سيدي، فقال: أنا هو.

– هو؟ من؟

– هو الذي يخطر الآن في بالك وتحير نبوءته قلبك.

– باللهِ أنت أشعيا بن آموص؟

– نعم أنا أشعيا.

فنهضت على الفور عن كرسي وقبلت يد النبي، ولما رأيته قد تبسم تشجعت وقبلت أيضًا شفتيه اللتين لم تزالا ملتهبتين حتى اليوم. ثم تجاسرت فقلت: جئتنا يا مولاي وقت العشاء فهلا باركت الخوان وأكلت معنا من عدس لبنان؛ ليصير بيننا — كما تقول العامة — خبز وملح، فأومأ برأسه مبتسمًا وتقدمني إلى غرفة الطعام، وبينما نحن في طبخة يعقوب بادرته بالحديث فقلت: ألم تتنبأ يا مولاي منذ أُلوف من السنين بجيلٍ يرعى الذئب والحمل فيه معًا والأسد يأكل التبن كالبقر والناس يطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل؟ فأحنى النبي رأسه مجيبًا بالإيجاب.

أولم تقل في رؤساء أُورشليم إنهم عصاةٌ وشركاء اللصوص وإنهم يحبون الرشوة ويتبعون الأجور وإن الرب سيقطعهم من إسرائيل؟ فأحنى النبيُّ رأسه ثانيةً، فقلت: وها قد مضى على ذلك يا صاحب النبوة أُلوفٌ من السنين والعالم لم يزل كما كان يوم صببت عليه شآبيب غضبك، فأجاب أشعيا قائلًا: إن ألوف السنين التي مرت على نبوءاتي هي كالدقائق في عين الله، والأجيال بالنسبة إلى الأبدية هي كالساعات بالنسبة إلى الأجيال، فلا يريبك كلامي، ردد نبوءتي ولا تخف، بَشِّرْ بالمدينة العظمى في بلادي وبلادك ولا تيأس. قال هذا وهمَّ بالانصراف، فاستأذنْته بسؤال آخر فقلت: وكيف كان يكلمك الله يا صاحب النبوة ويطلعك على غيب الأُمور؟ فقال النبيُّ: مثلما أنا أكلمك الآن، وقبل أن فتحت الباب استحال شعلة نار، وتوارى عن الأبصار.

لا تظنوني مازحًا أيها السادة، فإن للأنبياء المقام الرفيع في العالم الروحي، لم تزل لهم تلك السطوةُ الصالحة على الأنفس السامية، وإنك إذا حككت نفس أكبر نابغة في العالم تجد في لبها شيئًا من روح النبوة. المدينة العظمى إذًا هي التي تتم فيها نبوة أشعيا، هي التي يسير الذئب والحمل والنمر والجدي فيها معًا، هي التي يرتاح فيها الناس من شرور أصحاب السيادة الدينية، هي التي تنقطع فيها سليلةُ أولئك المفترين على الله وأنبيائه، الجالسين على عروش القداسة الكاذبة، القابضين على صولجان الخرافة، المتوجين بتيجان الجهل والتعصب والطغيان.

إن مصيبة الشرق في رجال الدين والكُهَّان لا في الأنبياء والأديان، المدينة العظمى هي التي يسود فيها العلم والحرية والإخلاء والوفاء هي التي تنتصر فيها القوى الروحية على القوى المالية والقوى العقلية على القوى المادية، هي التي تطبع فيها آلات الحرب معاول ومحارث ومناجل، هي التي تُشيد فيها الصروح والمعاهد لأرباب الموسيقى والشعر والتصوير ولربات الفنون والجمال، هي التي يكثر فيها أمثالُ علي بن أبي طالب وأشعيا بن آموص، وذاك الأمير العربي الذي ساد قومه؛ لأنهم احتاجوا إلى علمه واستغنى عن دنياهم. أي سادتي! إن المدينة التي ينبغ فيها أعظمُ الرجال وأعظمُ النساء لَهي أعظمُ مدن العالم، وإن كان سكانها لا يتجاوزون عدد سكان الفريكة.

(٦) قيمة الحياة١٣

أيها السادة والسيدات

عندما وصلتني دعوة جمعيتكم لأخطب في حفلتها السنوية هذه؛ كنت مهتمًا بإنجاز تأليف جئت في بعض فصوله على ذكر أجدادنا الفينيقيين، فسرني أن أرى شيئًا من علو همتهم ونشاطهم في أبنائهم الصيدونيين. سرني أن أرى مصابيح العلم والعرفان تضيء على هذه الشطوط القديمة التي نشأت في ربوعها اللغة وكبرت فيها همة الفينيفي التجارية والعقلية فجاء بما يُدهش الإفرنج حتى اليوم من آيات الفكر الباهرات ومن غرائب الاكتشافات والاختراعات، وسرني أن أرى روح أُولئك الأجداد الكرام تنبعث اليوم فينا فتنهض بنا إلى العلياء، وعجبتُ بصدف ترينا في صدف الحوادث لؤلؤَ الأماني، فلبيت الدعوة على ما كنت فيه من شغل شاغل وتأهب للسفر مزعج؛ حبًّا بزيارة مدينتكم وبمساعدة هذه الجمعية الوطنية في مشروعها — إذا كان في حضوري ما ينفع وفي كلماتي ما يفيد، على أني في قراءتي كتاب الجمعية وقفت عند عبارة مدهشة.

والظاهر أن كاتبه الكريم طويل الباع في طرق الإطراء وأساليبه، فبعد أن غلاني بالغلو وأغرقني بالإغراق، رغب إليَّ أن أُتحفكم بخطبة «لم تفتق رتق سمع، ولا خطب مثلها في جمع» — السجعة له لا لي — فقلت في نفسي: وماذا يبتغي الصيدونيون مني وما أنا بصاحب معجزات أو كرامات، إن خطبة مثل هذه — أيها السادة — في زمن كثرت فيه المنابر والمطابع لا يستطيعُ أن يأتي بها بَشَرٌ مثلي، لا جديد تحت الشمس ولا فوقها، فالمذنَّبات التي لا نراها نحن إلا مرة في حياتنا مثلًا مرَّت — لا شك — في فلك الأرض بمرأًى من أسلافنا مرات عديدة في ما مضى من الزمان، لا جديد فوق الشمس وصوت الحقيقة الذي أُحب أن أسمعكم إياه هذه الليلة طالما ردده قبلي العلماءُ والأنبياء، لا جديد تحت الشمس على أنني أستطيع أن أُحدثكم بلغة لم تسمعوها بعدُ إذا كانت بغيتكم تنحصر في مجرد رؤيتي واستماعي خطيبًا، يمكنني أن أُحدثكم في عُضارطة١٤ السياسة ودهاقينها،١٥ الذين يُلَهْوِجُون١٦ أعمالهم ويلهوقونها،١٧ أو في زرازرة١٨ يمشون في الأرض سبهللًا،١٩ ولا يحسبون سواهم للمجد أهلًا، أو في سباهلة٢٠ يجمشون٢١ العجنجرات،٢٢ ويعدون ترهات العصر آيات منزلات، أو في رعابيب٢٣ يسمدن٢٤ في المركبات، أو يتبهنسن٢٥ في العرصات، ويحسبن المَخْشَلَب٢٦ على صدورهنَّ دُرَرًا وريش الطيور على رءوسهن تيجانًا، أو في صفاريت٢٧ من الأُدباء يطوفون حول القصور المشمخرات،٢٨ عَلَّهم يفوزون بشيء من أعلاق٢٩ السراة، أو في خِرِّيت٣٠ من ولاة الأمر خَيْدَع٣١ إذا استذريت٣٢ به قادك إلى مُحطمه سِجِّيل،٣٣ أو في غطريف٣٤ كبير، ترَّفته الدنانير، وحسدته على أُذنيه الحمير، أو في متنطع٣٥ مُخْرَنْبِق٣٦ دَفْطَسَ٣٧ وقته في حشو جُؤْجُؤَه٣٨ بما لا يفيد من العلوم، أو في — ولكن البساطة أولى وأشفى، ما لنا وخطبة «لم تفتق رتق سمع، ولا خطب مثلها في جمع» فها قد أسمعتُكم ما يفتق الأسماع حقًّا بل يفلق الصخور.

سأُحدثكم الليلة في موضوعٍ قريب منا كلنا، بلغة تسمعونها كل يوم، وبعبارة تفهمونها وأنتم إلى أشغالكم سائرون. موضوعي: قيمة الحياة، وأريد — بادئ بدء — أن أُسدل ستارًا على الماضي وآخرَ على المستقبَل فأحصر الحياة في الحاضر، وأسألكم سؤالًا: لو علمتم — حَقَّ العلم — أن الحياة صدفةٌ من صدف الطبيعة، وأنْ لا سابق قصد لها ولا لاحق، لا قوة مدركة وراء المهد ولا وراء اللحد، فترسلها وتبعثها عقلًا وروحًا.

وبكلمة أُخرى: لو تأكدتم أن الحياة مادية محضٌ والموتَ ضجعةٌ أبدية، كيف تعيشون يا ترى وكيف تعملون لترفعوا من قيمتها وتجنوا الناضج اللذيذ من ثمارها؟ أتجعلون قاعدتها الأساسية قاعدة التجار والمتمولين: أنْ لا حقيقة في العالم إلا المال؟ أتقولون قول السياسيين والمسيطرين: أنْ لا حق في العالم إلا القوة؟ أتذهبون مذهب فلاسفة اليونان الكلبيين: أنْ لا حقيقة في العالم إلا اللذات؟ أو تقولون قول حشَّاشي الزمان القديم أنْ لا حقيقة في العالم على الإطلاق وكل شيء مباح؟ لو تأكدنا أن الكون مُرَكَّبٌ من المادة والقوة فقط وأن الحياة كذلك، أينبغي أن نعيش كالحيوانات؟ وإن نحن فَعَلْنَا أنأمن شر أنفسنا إن لم أقل شر الأقوياء فينا؟

إذا أحب أحدُ الناس أن يعيش كما لو كان هو العالم وبيته الدنيا، واستطاع إلى ذلك سبيلًا أَيستطيع أن يذهب على هواه دون أن تذهب حياتُهُ ضحية الأطماع والأهواء، ولو ضحاني هذا السيد العظيم الأثيم وضحاكم على عرفاتِ قُدْسِهِ ومَجْدِهِ وأهوائه أيأمن يا ترى صولةَ الجماعات حين يستيقظون فينهضون؟ أآمن هو ويدٌ فوق يده تأخذ بناصيته يوم يثأر الحق بأعدائه؟

حكم عبد الحميد ثلاثًا وثلاثين سنة وهو لا يحسب أن في العالم من ينبغي أن تُراعَى حقوقُهم وحياتهم سواه، فماذا كانت عاقبة بغيه وجوره وأثرته.

لا أُنكر أن نظرة عمومية سطحية في أحوال الإنسان الاجتماعية تُرينا الشرير يسعد بشره والصالح يشقى بصلاحه، ولكن ذلك لا يكون إلى الأبد، وإنما يظهر كذلك لمن لا ينظر في الأُمُور إلى ما وراءها لمن لا يرى في الحياة غير ظواهر الحوادث، مات كثيرون ممن قاسَوْا أليمَ العذاب من الدور الماضي دون أن يشاهدوا نكبة سلطانه وأعوانه، ماتوا يائسين من الحياة التي ينتصر فيها مثلُ هؤلاء الأشرار الكبار، ولكن قصر نظرهم فيئسوا.

ولو تشوَّفوا إلى المستقبل وكان إيمانهم شديدًا بالعناية التي لا تَترك الأثيمَ عزيزًا إلى الأبد لَمَا ماتوا يائسين، إن ما نراه نحن اليوم مثلًا ونَفِرُّ منه ساخطين حانقين يراه غدًا آخرون فيَسْتَجْلُون فيه اليقين، إن شر الأمس ليُنتج اليوم خيرًا وخير اليوم قد ينتج غدًا شرًّا. أجل سادتي إن في الأشياء والأكوان عنايةً لا يعقلها الإنسان ولا يدركها أرباب العرفان، إن في الحياة أسرارًا تدك العروش وتزعزع الجبال لو تجلت كلها دفعةً واحدة في آنٍ واحد.

ولكنه — تعالى — عليمٌ رحيم فهو لا يمكِّننا إلا مما نحتاج إليه من القوات الخفية في الحياة، فنستخدمها لخيرنا لو عقلنا لمنفعتنا، ونقف صابرين هادئين ثابتين أمام مفظعات الوجود ومبهجاته، وعندي أن هذه الأسرار تتجلى للإنسان تدريجيًّا على حسب ارتقائه العقلي والروحي؛ ذلك لأن الحياة سُلَّمٌ أوله الحيوان ووسطه الإنسان وآخره الملاك. وقد يأتي يوم يشاهد فيه أبناء الأرض رجل المستقبل العظيم وقد ترقت فيه القوى الحيوية كلها، أي: القوى الحيوانية والبشرية والإلهية، إلى منتهى الدرجات. الإنسان مُرَكَّبٌ من هذه كلها وقواها كامنةٌ فيه إلى الأبد، فإن رعى إحداها دون الأخرى يقف في سلم الارتقاء وطبائع الحياة فيه ناقصة فاسدة.

نعم إني ممن يعتقدون بالنشوء والارتقاء ولا حاجة إلى أن يؤيد العلماء اعتقادي، فإني لَمُؤَيِّده بما أعرفه وبما أجهله من لوح هذا الوجود، من الحياة ومن الأكوان، إن في نُشُوء الأنواع وارتقائها عنايةً إلهية عظيمة، والناموس الطبيعي الذي يكثر من ذكره العلماء إنما هو مشيئة الله في الأشياء. إني لَأرى يد الله في كل مظهر من مظاهر الحياة، وأؤمل أن أرى — ولو بعد موتي بمليون من السنين — روح الإنسان متجلية في كل مظهر من مظاهر الله.

أراني تجاوزتُ الحدود الوهمية التي حصرت هذا الموجود ضمنها، فأصبحت والماضي والمستقبل يتجاذبان فيَّ المعقول والمحسوس، وكيف نستطيع أن ننظر في الحياة نظرةً بعيدةً صائبةً دون أن نَتَلفَّتَ إلى الماضي ونتشوق إلى المستقبل. كيف يمكننا أن نقيسها لنعلم قيمتها وكل شيء فينا وحولنا ينطق بما مضى وبما هو آتٍ مما هو قسم جوهريٌّ من الحياة البشرية. أحببتُ أن أحصر الموضوع في الحاضر لِأُرِيَكم أن الحياة — وإن كانت مادية — لا يستطيع الإنسان أن يذهب فيها حسبما يشاء ويسترسل إلى ملاذِّه وأهوائه دون أن تخثر نفسه، فيغلظ شعوره، فيكثر عثاره، فيشتد بلاؤه.

وإن شقاء الناس اليوم لَنَاتِجٌ عن هذه الحياة المادية الحيوانية التي يُكبرونها ويعزِّزونها ويعرقون دمًا في سبيلها. ألا إننا نعيش اليوم كما لو كانت الحياة منحصرةً في البورص والمخزن وغرفتَي الطعام والنوم، نعيش كما لو كانت قوام الحياة في جمع المال وفي تربية دود الأهواء والشهوات، ويا لها من دود تحوك للنفس وللجسد أكفانًا من الحرير.

نعيش كما لو كنا آلات هضم وأكثرها في هذا الزمان مصدئة، وأنصاب مجد وأكثرها متهدمة، فالسياسيُّ لا يرى في الحق قوة تستحق الاعتبار إن كان الحق لا يؤيده في ضلاله وفساده، ورجال الدين يصمون آذانهم عما جاء في كُتُب الدين من سديدِ التعاليم ويستخرجون من بعض الآيات والعقائد قواعدَ تمكنهم من الضغط على الأنفس والعقول لتكون لهم في ذلك سلطةٌ ما أنزلها الله على أحد من الناس، والصحافيون يزفون ثناءهم لهذا الخاطب ويبذلون شهادتهم لذاك الطالب؛ حبًّا بإعلان أو اشتراك يحرزونه.

أو أنهم يوقفون الحق على رأسه غوايةً ونكاية، أو أنهم يتحاملون على الناس، ويثيرون المفاسد والفتن حبًّا بالظهور والاشتهار، والغنيُّ فينا يعيش كما لو كانت الأموالُ تَقِيهِ الموتَ وتكسبه الخلود، والتاجر يضرب أخماسًا لأسداس ليل نهار فيستنبط طرقًا بل حيلًا جديدة للكسب والإثراء، والوجيهُ الفاضل الواقف على شفير الإفلاس يكتد الفلاحين الفقراء ويعرقهم ليؤيد فيهم منزلته العالية ومقامه الرفيع الشأن.

ترانا نعيش كأن الحياة بنت يومها منحصرة بين شارقة وغاربة، مركَّبة من أمشاج لا أثر فيها للعقليات والروحيات، بلى، نعيش كما لو كنا مركبين من ألسنة ومِعَد وأكباد فقط، فنحسن اللقلقة والكبكبة والشر الثالث الذي ذكره النبيُّ في حديثه الشريف ولا نُحسن سواها، نعيش لأهوائنا وأطماعنا وملاذِّنا … نعيش لمجدٍ في العالم باطل، نعيش لوجاهة فينا فارغة، نعيش لأزياء تستعبدنا، لعادات واصطلاحات تسوقنا إلى المذلات.

وفوق ذلك نعيش في الخداع والجربزة والتلبيس، نخادع لخوف فينا يسودنا، نُلَبِّس على الله والناس لغايات في النفس خبيثة ذميمة، نتآخى طمعًا بربح من هذا الإخاء، نتصادق حُبًّا بما في الصداقة من عائدةٍ مادية بائدة، وقال المتنبي:

ولما صار ود الناس خبًّا
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنام

كانت لامرئٍ كرمة يأوي الثعالب إليها ويفسدون فيها، فنصب هناك مفزعة أو خيال صحراء ليردعهم عنها، فجازت الحيلة على الثعالب وعجبوا لصاحب كرمة يحرسها ليل نهار ليقطع نصيبهم منها! إلا أن أحدهم وكان أشجعهم وأدهاهم بادره الريبُ من ذلك فجاء الكرمة ذات يوم ووقف قليلًا وضربها بيد، فوقعت إلى الأرض، فضحك ثم ضحك ورفع فوقها جنبه وراح يدعو إخوانه إلى اجتماع وطنيٍّ سياسي، وخطب فيهم قائلًا: إن الإنسان لخداع مكار؛ فقد حرمنا نصيبنا من الكرمة بخيال نصبه فيها، ومن رأيي أن نحذو حذوه لنفوز عليه. فأقترح عليكم نصب خيالِ أسدٍ هناك لننال قسمتنا من الكرمة، فصفق الثعالب الجياع له ونصبوا في كرمة الإنسان مَفْزعة بهيئة الأسد، ولما جاء الإنسان في اليوم التالي رأى الأسد واقفًا هناك ينظر إليه وقف شعر رأسه وهرول راجعًا إلى بيته، وكذلك نال الثعالب الجياع قسمتهم من الكرمة، خدعهم الإنسان بخيال فخدعوه بمثله.

وكم من خيالات وبعبعات تحفظ اليوم كياننا وتدفع عن شرفنا الوهمي عارًا وهميًّا، كم في حقول وصحاري السياسة وكروم التجارة من مفزعات لو ضربت مرة لأصبحت مفضحات. أجل، إن الحياة اليوم سواء كانت في أرقى مظاهرها الأوروبية أو في أفخم مظاهرها الشرقية إنما هي حياة خاسئةٌ فاسدة ناقصة، هي عند الغربيين محض مادية تجارية، وأمست عندنا لا مادية تعرف ولا روحية. حياتنا أيها السادة — وإن كنا لم نزل نؤم الكنائس والجوامع كأجدادنا — إن هي إلا أُلعوبة في روحياتها وأضحوكة في مادياتها.

هي مزيجٌ فاسد من الاثنين، هذا سببُ الشقاء والبلاء والفساد في طبقات المجتمع كلها، بل هذا من وجهة خصوصية السببُ الأصليُّ في انحطاط الشرق والشرقيين، ولكني أقول — وحقٌّ ما أقول — إن سيادة الأوروبيين في الشرق لا تدوم طويلًا إذا كان أساسها القوة المادية فقط، وإن نهضة الشرق لا تنجح إن كانت أساسها الروحيات فقط. الكتب المقدسة تُصلح الحياة ولكنها لا تعمر البلاد، والعلوم المادية تعمر البلاد ولكنها لا تصلح الحياة.

إذن كتبكم المقدسة احفظوها وكتب العلم عززوها، وكل كتاب — أيها السادة — يُساعد على حفظ الحياة وتحسينها وارتقائها هو عندي كتابٌ كريمٌ مقدس، والحياة الصحيحة القوية الجميلة السابغة هي التي تتغذى من كل كتاب مقدس روحيًّا كان موضوعه أو ماديًّا؛ ذلك لأنها مركبة من الأضداد، ذلك لأنها مادية روحية عقلية.

ومن النواميس الطبيعية المعروفة أن قوى الإنسان تنمو وتشتد في التمرين والممارسة، فإذا كنا لا نمارس إلا قوانا الحيوانية وفينا قوًى أُخرى عقلية روحية نظل — لا شك — في درجة واطئةٍ من سلم الحياة، بل نظل والجهل والبلاء أكبر ما في حياتنا؛ ذلك لأن القسمين الكبيرين فيها اعتراهما الفساد من الإهمال، ولو مَرَّنَ المرءُ قواه العقليةَ والجسدية فقط لظلت الروح فيه مهملة مغبونة، وكثيرًا ما تكون تشوقات النفس المظلومة سببًا لعوارضَ وأمراضٍ شتى، كثيرًا ما يكون شقاؤنا ناتجًا عن فساد إحدى قوانا العقلية أو الروحية.

وها أني وصلتُ إلى الحد الذي ينبغي أن نُعَرِّفَ عنده الحياة لنَعْرِفَ كيف نقيس قيمتها. مما تقدم يتضح لكم أن الحياة أصلًا إنما هي: قوات عقلية روحية مادية، تظهر في الناس بمقاديرَ متباينةٍ ناقصة ولكنها كامنة بالقوة وغير محدودة في كل نَفْس بشرية.

قلت «إنها كامنة بالقوة» والعبارةُ فلسفية وضعية لا أُحب أن أرددها وأُكثر من مثلها. على أنني أورد الفكر بعبارة بسيطة، أن في كل منا قوًى غير محدودة من هذه الينابيع الثلاثة، تظهر فينا أو في نسلنا بمظاهرَ شتى طوعًا لأحوال نعقلها إذا اعتبرنا ولأسرار لا نستطيع اليوم إدراكها، هذي هي الحياة نظريًّا، مبدئيًّا.

وأما عملًا — آه لو كانت حياتنا الدنيا ابتسامةً دائمة تبتدئ بالسرور وتنتهي بالابتهاج، آه لو كانت حلمًا من أحلام الشعراء أو لحنًا مطربًا مفرحًا من ألحان الموسيقيين! ولكن الحياة في نظر أحد القديسين إنما هي: عقابُ الإنسان في هذا العالم. وفي نظر الفيلسوف هي: سلسلةٌ من حديد المصائب فيها حلقاتٌ قليلة من ذهب العزاء والهناء. وفي نظر الشاعر هي: هيئات هيولية محزنة لأسرار سامية غامضة، هي خيال زائلٌ لحقيقة أزليةٍ دائمةٍ. وفي رأي سيدنا سليمان: كل شيء باطل، وقبض الريح. وفي رأي جمهور الناس: إنما الأرض وادي الدموع.

فالقديس إذًا والفيلسوف والشاعر والحكيم والناس كلهم؛ مجمعون على أن حياتنا الدنيا لا تساوي العناء الذي نقاسيه من أجلها، بل لا تساوي العرق الذي يتصبب من جباهنا في سبيلها. ولكني أرفع على هذه الآراء كلها رأيًا آخر أود لو سمعتموه وحفظتموه وتمثلتم به في كل موقف وفي كل آن: ألا إن الحياة صالحةٌ إذا كان المرء صالحًا، وجميلة إذا كانت نفس المرء جميلة، والإنسان لا يكون صالحًا ونفسه لا تكون جميلة إذا كان لا يربي ويرقي فيه قُواهُ الروحية والعقلية والمادية كلها على السواء. ومن النادر أن نجد في العالم اليوم حياةً تامةَ الأجزاء ارتقاءً ونشاطًا وإدراكًا في شخصٍ واحدٍ، فإذا كانت القوة العقلية عظيمةً في أحد الناس راقيةً تكون القوة الروحية أو الجسدية فيه منحطة.

والعكس بالعكس، ودفعًا لما قد يكون في كلامي من الإبهام أزيدكم إيضاحًا بما أُريده بالحياة التامة الأجزاء ارتقاءً وفهمًا ونشاطًا، فالقوة الحيوانية التي ينبغي للإنسان أن يراها ويتعهدها بالتربية تظهر نتائجها في صحته وصحة نسله، والقوة الروحية تظهر في شعورِهِ الراقي وحبه، والقوة العقلية في إدراكه ونباهته وحكمته. واعلموا أن العالِم مثلًا يكون غالبًا قويَّ الإدراك ضعيف الشعور، والشاعر شديد الشعور ضعيف الإدراك، والفَلَّاح أو البدوي يكون غالبًا شديد الجسم ضعيف الشعور قليل الإدراك. أما قيمة الحياة في كل من هؤلاء وإن كانت ناقصة فتختلف بالنسبة إلى من يأتون به من الصالحات الباقيات، فقد تكون قيمة حياة البدوي في نسله أعظم منها في نسل العالِم، وقد تكون في الشاعر أعظمَ منها في العالِم العلَّامة والحبر الفهامة.

قد لا ينتبه أرقى الشعوب — حتى في هذا العصر — إلى ما في الوجود من دواعي الارتقاء كلها والصحة والسعادة. ففي الشرق نظن الوسخ عرضًا والخمول نعمة والخبل مصدرًا للتجليات الروحية، وعن هذه الأوهام ينشأ التقشف والزهد وما يصحبهما من إذلال الجسد وإماتته. وفي الغرب بدأنا نرفع من أسباب النظافة والصحة إلى حدٍّ لا تعلوه أقصى الغايات. وقد قال الفلاسفةُ هناك: إن واجبات الإنسان الأولية أن يكون حيوانًا نشيطًا قويًّا، ولكن إذا نحن أهملنا ترويض الأجسام فهناك بدءوا يهملون ترويض الأرواح، وفي الأمرين نقصٌ ظاهر، على الإنسان أن يعتني على السواء في تربية وترقية قواه العقلية والجسدية والروحية كلها.

سأضرب لكم مثلًا من هذا النقص في التربية حتى في مشاهيرِ الرجال، في الفيلسوف سبنسر كانت قوة الإدراك راقية إلى حد نادرِ المثالِ عجيب، وأما قوة الإحساس والانعطاف — أي القوة الروحية — فكانت فيه أضعفَ مما قد تكون في أحد سكان أواسط إفريقيا. وفي الشاعر دَنته نجد القوة الروحية عظيمةً في شعره كما كانت في حياته، وأما القوة العقلية إلى — قوة الإدراك — فما هي كذلك. ومثل هذه الموازنة تصح بين ابن الفارض وابن رشد، أو بين البهاء زهير وأبي العلاء. وعندي أن في رجل المستقبل العظيم يتجسد الفيلسوف سبنسر والشاعر دنته أو العالم باستور والقديس أوغسطينوس أو ابن الفارض وابن رشد، سيجبل الله إنسانًا جديدًا كاملًا من الطينتين، من النصفين، وهو على كل شيءٍ قدير.

من هذا يتضح لكم رأيي في ماهية الحياة وأقصى غاياتها، أجل إن الحياة الحقة هي التي تجمع بين محاسنِ فلسفةِ الروحيين وفلسفة الماديين، هي التي يُشارك صاحبها أبيكوروس في لذاته وأفلاطون في روحياته وسقراط في إدراكه وحكمته، هي التي تَعْظُمُ فيها قوة الجسد وقوة العقل وقوة الروح. التي تؤلِّف بين أول درجات سلم الحياة وآخرها، بين الحيوان مصدرها والمَلَاك محجتها، مقل هذه الحياة كنز من كنوز الدنيا وقيمتُها لا تُقَدَّر ولا تُحَدُّ.

أما حياتنا اليوم — حياة عالِمِنَا أو تاجرنا أو كاهننا أو فَلَّاحِنَا — فهي ناقصةٌ ضيقة خاسئةٌ فاسدة وكذلك نتائجها، فكم من عملٍ فيه إخلاصٌ وما فيه شيءٌ من العقل، من عملٍ فيه عقلٌ وما فيه شيءٌ من الإخلاص، ومن عملٍ فيه إقدامٌ وشجاعة بل قِحَة وسلاطة وما فيه ذرة من العقل والإخلاص.

ومع ذلك نستطيع أن نجعل حياتنا اليوم ذاتَ قيمةٍ تُذكر إذا سِرْنَا إلى غرضنا بحزمٍ وعزم ونشاطٍ وثبات واقتطفنا من الأعمال الناقصة، ما هو صحيحٌ ناضجٌ من ثمارها، إذا كنا حقًّا أحرارًا، إذا كنا صادقين مخلصين مُحِبِّينَ مدركين فنعرف أين تنتهي حريتُنا وأين تبتدئُ حرية جارنا. نُمَهِّد بشيءٍ من العلم والسلاح سبيلَ الحياة الحقة التي وصفتها.

الحياة البشرية المستقبلة التامة الأجزاء ارتقاءً وصحةً وفهمًا، نعم إن قمةً مثل حياتنا اليوم لَهِيَ ناقصةٌ تافهةٌ ولكنها بالنسبة إلى ما هو دونها تستحق الاعتبار. حسبنا أن تنقص فينا اليوم الجربزة والتلبيس والخداع فتعلو بالنسبة قيمة الحياة، حسبنا أن يتقدم في كل بلدٍ أحدُ الناس الأقوياء بصلاحهم الجريئين بفكرهم فيضرب إحدى مفزعات الناس ويحطمها، الخيالات والبعبعات والأوهام والخزعبلات. كُلَّمَا زَالَ شيءٌ من هذه ترتفع بالنسبة قيمة الحياة.

قل لي إذًا أيها المحترم ما هو اعتقادُك الحقيقيُّ فأقول لك ما هي قيمةُ حياتك. قل لي يا صاحب السعادة والعزة ما هي آمالُك في أعمالك فأقول لك ما هي قيمة حياتك. قل لي أيها الصحافي الحر ما هي غايتك الكبرى في تسويد الصحف فأقول لك ما هي قيمة حياتك. قل لي أيها الغنيُّ ما هو قَصْدُكَ الأولي في جمع المال فأقول لك ما هي قيمة حياتك. قل لي أيها الإنسان ما هي أسرارُ قلبك أقل لك ما هي قيمة حياتك. قولي لي أيتها الامرأة ما هي غايتك القصوى في الدنيا أقل لك ما هي قيمة حياتك.

إخواني، أخواتي.

إن قيمة حياتنا اليوم ما نزرعه في القلوب من البر والصلاح، وفي العقول من العلم والحكمة، قيمة الحياة ما يعودُ إلينا من ثمار الحب الذي نزرعه في صدور الناس. قيمة الحياة ما يأتي به كُلٌّ منا من الصالحات الباقيات ماديةً كانت أو عقليةً أو روحية. فالغنيُّ الذي يُقَدِّرُ حياته بما عنده من المال يرفع من قيمتها إذا بذل من ثروته لنشر المعارف، واستئصال الأمراض، وتخفيف وطأة البؤس والظلم في العالم.

والعالِم الذي يُقَدِّرُ حياته بما عنده من العلم يرفع من قيمتها إذا مَحَّصَ علمه من الغش والخداع، من السفاسف والأوهام وبثه في الناس صافيًا لوجه الله. والمتقشف الذي يُقَدِّرُ حياته بما عنده من الزهد والتقوى يصنع خيرًا إذا كان تقشفه يفيد في الأقل إفادةً سلبية فيخفف فينا وطأة زُخْرُف هذه الحياة المدنية. على أن العالم والغني والزاهد قلما تنفع حياتهم وقلما تكون أرفعَ قيمة من حياة أحقر الناس وأجهلهم إذا كانوا لا يعملون لغير أنفسهم، وشرُّ الحياة حياةٌ لا انعطاف فيها ولا إخلاص ولا حب ولا حماسة.

وأما رجل المستقبل ذاك الذي تتم فيه أجزاءُ الحياة كلها وتتساوى صِحَّةً ونشاطًا وفهمًا ورُقِيًّا فسيتمكن — إن شاء الله — من الجمع بين حسنات العالِم والغني والمتقشف، بين محاسن العقل والجسد والروح، بين الخيال والحقيقة، بين جمال الشعر وجمال الحكمة وجمال الصحة. مثل هذا الرجل الذي يعيش في الحاضر كما لو كان الحاضر الأبديةَ كُلَّها فلا يعمل عملًا لا يشترك فيه عقله وروحه وقلبه؛ هو يشغِّل رأس ماله في أسواق الحياة الثلاثة فلا يكون عالِمًا عاجزًا لا يحسن التصرف في غير منزلته ولا غنيًّا جاهلًا ولا زاهدًا أخبل.

هو الذي يحيي قواه كلها ويرعاها، فيغذي العقل والروح دائمًا كما يغذي الجسد، هو الذي يروض نفسه للشدائد كما لو كانت من ضروريات الحياة، هو الذي لا يعوِّل في أُموره على أحدٍ من الناس. هو الذي لا يحترم في البشر إلا العلم والذكاء والصلاح، هو الذي لا يُحابي في سبيل العدل أحدًا ولا يخشى في سبيل الحق إنسانًا. هو الذي يعيش لنفسه ولربه وللإنسانية في وقتٍ واحدٍ. إن حياة مثل هذا الرجل لكنزٌ من كُنُوز الدنيا، وقيمتُها لا تقدر ولا تحد.

(٧) هملت وشكسبير٣٩

يتوقع مني بعضُ الناس توجيه كلمة إلى أُولئك الذين أساءُوا فهم خطابي الأخير في الكلية الأميركية، ونشروا على صفحات الجرائد مثالًا من تسرعهم في النقد وبطئهم في الافتهام. ولكنني آليت على نفسي ألا أُوَضِّحَ لأحد وألا أُجادل وأُناقش أحدًا؛ فإن الذين يعرفونني ويفهمونني بغِنًى عن الإيضاح، والذين لا يُحِبُّون أن يعرفوني ويفهموني وإن صرفت ما بقي من حياتي شارحًا مفسرًا موضحًا فإنهم لا يقتنعون ولا يفهمون؛ لذلك لا أُضيع وقتي فيما لا طائل تحته لا لكم ولا لي، لذلك لا أُجادل أحدًا ولا أُناقش بشرًا، بل جعلت مبدأي وخطة حياتي هذه الكلمات الثلاثة «قل كلمتك وامشِ»، فإننا إذا وقفنا لنسمع المَدَّاحين والهَجَّائين الناطقين بالحجارة والناطقين بالأزهار ننصرف عما وُجِدْنا من أجله من بث المبادئ الحرة والتعاليم السديدة في الناس إلى ما يُعرقل سعينا ويُقْعِد بهمتنا ويكدر صفاء أفكارنا ويعودنا مقاتلة الناس لا تهذيبهم ولذلك جعلت شعاري: «قل كلمتك وامشِ.»

هذا هو مبدئي، هذه خطة حياتي الكتابية، وهذه نصيحتي لإخواني الأُدباء أجمعين، وبناء على ذلك سأقولُ كلمة في رواية هذه الليلة كي لا أُخرجكم من الموضوع الجميل الذي أنتم فيه. وإنني لا أستحسن — قطعًا — الخطابة في المواضيع السياسية والإصلاحية في مثل هذه المواقف الأدبية؛ فإنها تصرف أفكاركم عما جئتم من أجله هذه الليلة وتقطع سلسلة الخيال التي تنقلكم من المكان الذي أنتم فيه إلى مكان الرواية وزمانها، وهذه من شروط الإتقان في التمثيل، فإن الممثل الذي لا ينسيني وأنا جالس في تلك الكرسي أمام هذا المرسح كوني في بيروت وفي الجيل العشرين، الممثل الذي لا ينقلني بمغناطيس صناعته إلى الدانيمارك في هذه الرواية مثلًا — لأُشاهد هناك مليكها وأميرها ورجالها وأشباحها يقطعون الحياة ويذيبونها — لا يكون قد أحسن أَوَّلِيَّات هذا الفن.

يسرني جدًّا أنْ أرى روايات نابغة المراسح بل نابغة العالم تمثَّل في سوريا؛ فإن شكسبير من سائر الشعراء كجبل الأرز من سائر جبال لبنان، ورواية هملت من روايات شكسبير كضهر القضيب من جبل الأُرز، بل شكسبير هو أميرُ شعراء العالم، ورواية هملت هي أميرةُ روايات شكسبير. وكم قام بعده من المقلِّدِين من الإنكليز والألمان والإفرنسيس فأجادوا في طريقتهم، ولكنهم لم يَشُقُّوا غيوم مؤلف هذه الرواية الفريدة.

ومن مميزات هذا الشاعر العظيم أنه ما ترك عاطفة من العواطف البشرية كلها — دقيقة كانت أو غليظة، واطئة أو سامية، راقية أو وحشية، ظاهرة أو غامضة — حتى ألبسها من شعره سربالًا شفافًا جميلًا واستخرج منها حكمةً ساميةً جليلة. فإن ذكرنا الحب نرى في «روميو وجوليت» أَرَقَّهُ وأشرفه وأسماه وفي «ترولس وكريسيدا» أحطه وأكرهه وأدناه.

وإن ذكرنا الغيرة يُدهشنا بل يُخجلنا تمثيلُهُ إياها في رواية «قصة من قصص الشتاء» بصورة خبيثة صفراء خالية من ألوان الانعطاف والسماحة والحشمة. ويعجبنا بل يسحرنا في رواية «أوتلو» الشهيرة تلك الرواية التي تستنشق الغيرة فيها أنقى هواء البحار والجبال. وإننا لنرى أن ذاك الشهم الزنجي «أُوتلو» ما فادى «بِدُرَّةٍ أتمنَ من قبيلةٍ كلها» إلا كرهًا وفي سبيل عرضه وشرفه، وذلك بعد أن أفرغ الخائنُ يعقوب كل سُمِّهِ في قلب من أخلص له الوداد، وإن ذكرنا الانتقامَ نُشاهده في أفظع وأوحشِ هيئاته في «تيتوس أندرانيكوس» وفي أشرفِ وأسمى مظاهره في رواية الليلة.

وفي هذه المقارنة تظهر عظمةُ الشاعر الذي يسقط إلى أعمق أغوار الحياة فيستخرج منها درر الشعر والفلسفة، ويرتقي إلى أعلى السماكين فيجيئنا بكواكب من الحكمة السامية والحقيقة الإلهية.

هذه سِتُّ رواياتٍ ذكرتُها موجزًا لأمثل مقدرة الشاعر واتساع نطاق أفكاره وتصوراته وفلسفته وشعوره، فمن «كريسيدا» إلى «جوليت» ومن «أندوانيكوس» إلى «هملت» ومن «بوليكسين» إلى «أوتلو» ننتقل دفعة واحدة من جحيم الحُبِّ إلى سمائه ومِنْ أدغال الانتقام إلى ذرواته ومن أكواخ الغيرة إلى قصورها. وقد تجتمع أسمى مظاهر هذه العواطف كلها في دور هملت؛ لذلك هي أعظم الروايات التي تمثل على مراسح اليوم. هي رواية منقطعةُ النظير فريدةٌ في بابها وجلبابها.

ففيها الضمير والفلسفة يمتزجان فيتماوجان بين التردد والإقدام. وفيها الدقايق والحقايق تسيل حُبًّا فتتلون غضبًا فتهيج انتقامًا، وفيها من الشعر والتصور والفصاحة ما لا يجتمع مثله في روايةٍ واحدة لغيره من الشعراء، وفيها — وهذا أهم ما فيها للممثلين — غوامض أطوار هملت وشذوذاته، فإن دور هملت للممثلين هو كالنور للفراشة. وندر في أُوروبا وأميركا من لم يحرق جنحيه من الممثلين الشهيرين في بادئ أمره مع هملت، ولتتأكدوا أهمية هذه الرواية في عالمي الشعر والتمثيل أقول: إن من مائة ممثل في إنكلترا وأميركا لا يُحسن تمثيل هذا الدور العظيم أكثر من عشرة ممثلين.

وكل واحد من هؤلاء يمثل الدور بطريقةٍ تختلف عن طريقة سواه؛ وذلك لأن المؤلف أكثر فيه من أوابد الفلسفة وغوامض الحكمة وأسرار المعاني البديعة ما يحتمل التخريجات والتأويلات العديدة، لا أقول هذا لأثبط من عزم هؤلاء الشبان النشيطين فإنني أكبر همتهم وأثني على إقدامهم وأرجو ألا يقفوا في درس هذه الصناعة الجليلة وإتقانها عند حد تصفيق الناس واستحسانهم فقد يضر المديح بالشاعر والممثل أكثر من نقد الناقدين وتحامُل المتعنِّتين.

لا شك أن بينكم كثيرين ممن سافروا إلى أُوروبا وشاهدوا فيها تمثيل الروايات، ولكنني لا أظن أن أحدًا منكم دخل العالم الكائنَ وراء الستار هناك فإن المرسح بأدواته وعجلاته وأنواره وأخشابه وأسراره وممثليه وجدران الورق والقماش فيه لَعَالَمٌ آخرُ لمن يَتَسَنَّى له الدخولُ إليه.

أذكر لما كنت أمثل دورًا صغيرًا في هذه الرواية مع أحد الممثلين الكبار في الولايات المتحدة أنني دهشت أول ليلة من أمر الشبح في الرواية وكيفية ظهوره، فلما قال «برناردو»: (ها هو، ها هو) رأيت من كان يمثل هذا الدور يتخطى تحت الأرض، أي: تحت المرسح، فسألت أحد الممثلين وهلَّا يخرج لتُشاهده الناسُ؟ فقال: بل هم يشاهدونه الآن فقلت: وكيف ذلك؟ فأشار إذ ذاك إلى مرآة طويلة في مؤثر المرسح، وقال: ترى الذي يمثل دور الروح واقفًا تحت المرسح أمام المرآة فينعكس خياله فيها فيخيل للناظرين أنه شبح حقيقيٌّ واقف بين الأرض والسماء وإذا تكلم فصوته من تحت المرسح أقربُ إلى حقيقة حاله؛ فإنه أشبه بصوتٍ خارج من القبر، وعندما ينتهي من كلامه لا يخرج كالأحياء ماشيًا بل يتحول الممثل من أمام المرآة فيخيل للناس أنه طار في الفضاء كما لو كان شبحًا حقيقيًّا! إلى هذا الحد من الإتقان والتفنُّن وإلى ما فوقه ترتقي هذه الصناعة هناك.

وقد جاءني منذ أسابيع مجلة إنكليزيةٌ موضوعة للتمثيل والممثلين قرأتُ فيها أن ابن السيدة إلن ترِّي، وهي كسارا برنار عند الإنكليز طَبَعَ رواية هملت على حدة في خمس مجلدات ضخمة طبعةً فريدة في بابها، فنشر فيها صور أشهر مَنْ أجاد في تمثيل هذا الدور من الممثلين من أيام شكسبير حتى يومنا. ورسوم الثياب ووصفها في زمن هملت مع المواعين والأشياء التي تُستخدم على المرسح أثناء التمثيل، وفيها أيضًا وصفُ المشاهد والمناظر وحركات الممثلين وسكناتهم كلها، وكيفية إلقائهم مسنودة إلى تقاليدَ تكاد تكون مقدَّسة عند عُشَّاقِ هذا الفن وأربابه، وتُباع النسخة من هذه الطبعة من رواية هملت بخمسة عشر ذهبًا إنكليزيًّا. فتأملوا!

أذكر هذه لتُقدروا هذه الرواية حق قدرها؛ فإنكم لو جئتم هذا المكان فسمعتموها تمثَّل أربعين وخمسين مرة لَتَجَلَّى لكم كل مرة شيءٌ جديد من رائع حكمتها وبديع معانيها وجميل التصور فيها.

وقد يخطر في بال البعض منكم أنْ كيف تكون يا ترى تأثيراتُ مثل هذا المرسح، ومثل هؤلاء الممثلين في نفس مَنْ مثل على مراسح أميركا، وشاهد هذا الفن في أرقى مظاهره، وعرف شيئًا من أسرار المرسح وخباياه؟ أما الممثلون فإنني وإن كنت لا أستصوب هجومهم دفعةً واحدة على روايات شكسبير وبالأخص أعظمها أُكبرُ همتهم — كما قلت — وأُثني على نشاطهم وأرجو أن يتوفَّقوا في سعيهم واجتهادهم ودرسهم المتواصل إلى شيء راقٍ من هذا الفن. وأما المرسح أو الملهى أو الملعب أو التياترو أو بالحَرِيِّ هذه الأخشاب المسندة التي تُدْعَى تياترو فإنها تُذَكِّرُني بأيام شكسبير لَمَّا كان يمثل بنفسه أدوارًا في رواياته.

فإن فن التمثيل هناك وُلِدَ في مثل هذا المهد الحقير فلا عيب ولا عار في ذلك.

ولا بأس في ذكر شيءٍ من سيرةِ نشوءِ هذا النابغةِ العظيم فإنَّ فيها عبرةً لمن اعتبر، في أيامه، أي: منذ ثلاثماية سنة، كانت لوندرا شبيهة ببيروت اليوم من حيث أسواقها وأبنيتها وملاهيها.

ولم يكن فيها عرباتٌ ومركبات، بل كانت شوارعها دائمًا كشوارع مدينتنا يوم الاعتصاب، فكان الناس يجيئون التياترو راكبين الخيل، فاقتضى لذلك وجودَ أولاد أمام الباب يستلمون هذه الجياد فيحفظونها لأصحابها إلى أن تنتهي الرواية. ووليم شكسبير — أيها السادة — كان من هؤلاء الغلمان، ولكنه عمل عَمَلَهُ بنباهة وأمانة وإخلاص حتى أصبح بعد قليل زعيمَ الساسة وسيِّدَهم، فكان الناس عند وصولهم إلى التياترو لا ينادون إلا شكسبير فيجيئهم هذا ويجيئهم ذاك قائلًا: أنا يا سيدي من رجال شكسبير، وكذلك ترى الرجل العظيم ناجحًا فائزًا مقدَّمًا في أول عمل بَاشَرَهُ، نراه ناجحًا؛ لأنه أتقن عمله وثابر على الصدق والأمانة فيه. ومن دور السائس ارتقى إلى المرسح فأخذ يمثِّل الأدوار الصغيرةَ إلى أن استيقظت في قلبه ربة الشعر فطفق ينظم الروايات ويمثل فيها حتى آخر أيامه.

قلت لكم إن لوندرا منذ ثلاثماية سنة كانت من بعض الأوجُه مثل بيروت، وكان فن التمثيل فيها كما هو اليوم عندنا، وكانت التياترو — خاصة شكسبير وشركائه — شبيهة بهذه فالحالةُ الاجتماعية التي كتب فيها شكسبير أعظم رواياته كانت كحالتنا اليوم منحطَّةً جدًّا عن تصوراته وأفكاره وتشويقات نفسه.

فهل كتب الشاعر ما يلائم طبائع قومه وأمثالهم في تلك الأيام؟ هل راعى خواطر شعب لوندرا منذ ثلاثمائة سنة؟ فإنه لو فعل ذلك لَمَا كنا نقرأ رواياته ونمثلها اليوم، بل هو ألف هذه الروايات لكل جيل ولكل زمان، ألف رواياته والحقيقة آخذة بضميره وربة الشعر تُملي على فؤاده والحكمة تنير زوايا قلبه ونفسه، ألف رواياته ولسان حاله يقول: إن لم يقدرها أبناء اليوم حق قدرها فسيفعل — إن شاء الله — أبناءُ المستقبل.

وهذه من نبوءات الشعراء، فالنابغة يا سادتي يتقن أيَّ عمل أتاه بشرط أن يكون قلبه مائلًا إلى ذاك العمل، ومن مميزات شكسبير في صعوده من أحقر الأشغال إلى المهنة التي تتصل بالآلهة أسبابها أنه كان يفرغ قلبه ودماغه في قالب عمله. وإن حياة هذا النابغة لشبيهةٌ بتمثال حي لما جاء في رواياته؛ فإنه ارتقى السلم من أوطى الدرجات حتى أعلاها ووقف هنيهة في كل منها ليفكر بالحكمة التي فوقها والحكمة التي تحتها.

فإتقان العمل إذًا إن كان في مسح الأحذية أو في النظم أو في التمثيل هو أساس كل ما يدوم طويلًا من الصنائع والفنون، ونحن الشرقيين مفتقرون جدًّا إلى الثبات الذي يتغذى منه الإتقانُ فإننا لا نتقن شيئًا ولا نثبت في شيء، بل ترانا نيأس قبل أن نُتمم عملنا فنضرب به الحائط وظننا أننا صورنا على الحائط صورة جميلة، نتطلب تمام الاستحسان والتقريظ لأعمالنا وقد تركناها وراءنا ناقصة، فعسانا إذًا أن نتمثل بشيء من حياة هذا النابغة الإنكليزي الذي أتقن عمله سائسًا، وأتقنه ممثلًا، وأتقنه شاعرًا.

(٨) حول المساواة٤٠

سيداتي وسادتي

عندما كتبت هذه الرواية الصغيرة لم يخطر في بالي أمر تمثيلها، وقد ألَّفتُها لغرضين غرضٍ أدبيٍّ وغرضٍ سياسيٍّ، فالغرض الأدبيُّ ظاهر للأدباء من خلال الخيال والغرض السياسي نقطة محوره، ومهما كان من أمر الرواية فما هي إلا وقفة أمام الباب الذي لا بد أن يدخله الأُدباء بعد حين، فقد عفنا الروايات المترجمة التي قلما تنطبق على حالنا، وقد حان لنا أن نضع تاريخَ الأُمَم الشرقية وبالأخص تاريخنا على المرسح ليقتفي الناس آثار أجدادنا الحسنةَ ويتحايدوا منها السيئةَ.

ومن العجز أن نتهافت على موائد الإفرنج وعندنا في تواريخنا العربية وحياتنا الاجتماعية من الحوادث والعبر ما كان يكفي ساردو وروستان وأبسن خمسين عامًا لو تفرغوا لدرسها ووضعها في قالب التمثيل. وما روايتي هذه سوى وقفةٌ أمام بابِ هذا الموضوع — كما قلت — وبما أنني أشتغل اليوم في نَظْم بعض حوادثِ تاريخ العرب لتمثَّل في إنكلترا أو أميركا أَوَدُّ لو اهتدى بعضُ إخواني من الأُدباء إلى شيءٍ من هذه الحوادث المهمة فيُفرغونها في قالبٍ تمثيلي على طريقة قريبة بقدر إمكاننا من كمالات هذا الفن.

أما الغايةُ السياسية من الرواية فلا شك أنها ظهرت لأكثركم وتَدَبَّرْتُموها وما عبد الحميد فيها سوى واسطة لإظهار الحقيقة المؤلمة التي طالما شغلت المفكرين.

من الألفاظ الساحرة التي تتدهور على ألسنة الخطباء في هذه الأيام لفظة المساواة، والمساواة أيضًا هي محور الفكرة السياسية في الرواية، ولكنَّ بين ما أرتئيه في هذا الموضوع وما يرتئيه غيري بونًا شاسعًا؛ فالمساواة لفظةٌ طالما تحمس لها الشعوب في ما مضى من التاريخ، ووجدت فيها الأُمَم خلاصًا إلى حين، وإن كان في تاريخ الرومان أو الفرنسيس أو الأميركان، فإن هي إلا فترةٌ مرت فأضرمت في الشعوب هوسًا أبعدهم عن الحقائق الطبيعية والاجتماعية وأعادهم إليها بعد حين، والتاريخ شاهدٌ على هذا، على أن الوقت لا يسمح الآن في استطلاع شواهده، ولولا ذلك لكنت أبين لكم كيف خابت آمال الرومان والفرنسيس والأميركان في عقيدةٍ زال شغفهم بها بعد أن وضعوها في حيز العمل.

على أنني أُصرح أمامكم الآن أنني لست من المعتقِدين بأن الناس وُلدوا متساوين كما جاء في دستور الولايات المتحدة، فالناس لا يولدون متساوين لا في القوى العقلية ولا الجسدية ولا الروحية، وهذه حقيقة لا حاجة للإسهاب فيها. وإنما الناس متساوون اسمًا أمام الشرع أما فعلًا فهم في البلاد التي تدعى مهد المساواة كإخوانهم في البلاد التي كانت في الماضي قبرها. فالأميركي والعثماني شبيهان من هذا القبيل، وفي الأُمتين ذو النفوذ يخنق المساواة بنفوذه، وذو المال بماله، وذو السيادة بسيادته، وذو العقل بعقله، وذو القوة بقوته. ومهما تحمسنا وبالغنا في القول ينبغي أن تكون الحقيقة محجتنا في كل حال.

والحقيقة يا سادتي هي أن المساواة لا حقيقة لها في البشر اليوم، والذي يمكننا أن نصل إليه بعد طويل الجهاد والثبات في مضمار الارتقاء هو أن يعرف كل امرئ مركزه ويجازى كل امرئ على عمله، وهذه — في نظري — هي المساواة الحقيقية، ليجاز، كل امرئ على عمله بعدلٍ وإنصاف، وأنا الكفيل بأن الناس لا تحلم بعدئذٍ بالمساواة.

إذًا ما الفائدة للفاعل يا ترى من معرفته أنه وسيده متساويان إذا كان سيده هذا لا يجازي عمله بعدل وإنصاف! المساواة الحقيقية إذًا هي أن يُجازى كلٌّ على عمله، أن يُجازى المجرم على جُرْمِهِ، والفاعل على عرق جبينه، والعالم على عمله، والذكي على ذكائه الذي يظهر في أعماله، ورب الفنون على عرائس صناعته والشاعر على نفائس شعره.

فالمجرم إذا كان من المتشردين أو من السلاطين ينبغي أن يكون في نظر الشرع واحدًا، وفي نظر القضاة واحدًا، وفي نظر السَّجَّان واحدًا، أي: أنَّ الحقيقة تطلب شريعة واحدة وميزانًا للعدل واحدًا وسجنًا واحدًا لمن ساوت بينهم الجرائم والآثام. ولا فرق بين الصعلوك من هذه الوجهة والأمير وبين الفقير والغني.

أذكر لما كنت في الولايات المتحدة أن المحكمة العليا حكمت على أحد أرباب الاحتكار هناك بالحبس ستة أشهر لخرقه نظام الحكومة المختص بالشركات الاحتكارية، فزُجَّ في السجن كبقية المذنبين، ولكنه لم يعش هناك كما عاش إخوانه السجناء، فقد اختصتْه الحكومةُ بثلاث غرف فرشها من ماله بالطنافس والرياش، وأذنت لأحد المطاعم أن يقدم له طعامه كل يوم في الأوقات المعينة وكان أصحابه وعماله يزورونه كل يوم كما لو كان في بيته أو في مكتبه.

فما قولكم بهذا العدل في أرض تُدْعى مهد الحرية والمساواة، أفلا ترون أن حال عبد الحميد اليوم شبيهٌ نوعًا بحال ملك الاحتكار الأميركي! فالمال الذي تدفعه الأُمَّة اليوم لإعاشة السلطان المخلوع هو ما يحق لكل المجرمين في البلاد أن يطالبوها بجزء منه، هذا ما يدعونه المساواة أمام الشريعة، وهذه هي المحجة التي لم نزل بعيدين عنها. أما المساواة في الهيئة الاجتماعية فالعقدة فيها أشدُّ وأمنعُ، وإن عقدة عقدها الله لا يحلها إلا هو.

ليعملْ كلٌّ منا عمله بإخلاص وإتقان، وليعرف كل منا مركزه، ليجازي كل منا عمالَه على أعمالهم بعدل وإنصاف، لنكن أحرارًا بمعنى الكلمة، فنصبح متساوين فضلًا وإباءةً في عين الله — قلت في خطابي في زحله كلمةً عن الذين يتلبسون بالحرية ويفاخرون الناس بأنهم من الأحرار، وذكرت — على سبيل المجاز — بيَّاع البصل، أو بالحري من لا يعرف كنه الحرية والمساواة، وأصبح يجتمع اليوم والأحرار الحقيقيين في نادٍ واحد، فقام أحد الخطباء يعترض على تحقيري الشعب وعبثي بعقيدة المساواة المقدسة، وهؤلاء الناس يحاولون تعزيز عقيدة لم يعززها الله وما عززتها الطبيعة، فقال: كيف لا يحق لبيَّاع البصل مثلًا أن يكون من الأحرار، وكيف لا يحق له أن يجتمع وسيده الأمير في نادٍ واحد؟

لا يا سادتي، إذا كان بيَّاع البصل أو الأميرُ نفسه يبيع حريته ببصلة فهو من العبيد الذين لا يحررهم إلا الله، إذا ظلَّ المرءُ حرًّا ما زالت حريته لا تضر بمصلحته أو بمنصبه أو بنفوذه فلا الدستور ولا الثورة ولا المصلحون يستطيعون أن يرفعوا عن نفسه سلاسلَ العبودية.

(٩) الشعب والسياسيون٤١

أيها السادة

إن لهذه المدينة مزية طبيعية جميلة، ما رأيت مثلها في مُدُن العالم الكبرى التي زرتها وأقمت فيها. وهذه المزية المبهجة تظهر في هذا الفصل من السنة في أجمل معانيها، فتسير مع النسيم في الليل فتنسي السائرَ حُفَرَ الأسواق وأوحالَها، نعم إن أجمل ما في بيروت جنائنُها، وإن نفحات أزهار الجنائن تُسكرني وتحزنني معًا، فقد طالما سألت نفسي وأنا سائر ليلًا في شوارع المدينة — متى يا ترى تنتشر مثل هذه الروائح الشذية في آدابنا وأدياننا وأخلاقنا ومبادئ زعمائنا، متى يا ترى تصير أرض سوريا صافية كسمائها، متى يا ترى تصير قلوب أبناء سوريا نقية كهوائها، متى يا ترى تصير حكومة هذه البلاد صالحة كأنبيائها؟ سؤالات يطرحها الرجاءُ على اليأس بل النور على الظلمة، سؤالاتٌ طالما رددتْها نفسي، فكنت كمن يقلب جذوة في الرماد، كلما حركتها صغُر حجمها وأمستْ أخيرًا رمادًا.

سؤالات إذا سألها علم العالمين بجلهم يجيب عليها جل من ادعى العرفان، سؤالات إذا سألتْها أزهارُ الحب والتساهل والإخاء نبت حولها شوك التعصب والنزاع والخصومات.

ولكنني لا أيأس من كل ما هو جار اليوم، أنا لا أتشاءم بأخبار الأستانة المكدرة، فإن الأُمَّة هي كالأم ساعة الولادة، الأُمَّة الجديدة كالطفل تولد بالعذاب والآلام.

اعذروني أيها السادة إذا خالفت هذه الليلة رأيي في أمر الخطابة خلال الفصول؛ فإنني وإن قلتُ بإبطال هذه العادة أعلم جيدًا أن ذلك غيرُ ممكن قبل أن يصير عندنا دار خصوصية للاجتماعات العمومية.

وإذا كان الخلط بين الخطابة والتمثيل اليوم لازمًا فالإشارة إلى أن الطلاق كافل سلامة الاثنين لازمةٌ أيضًا.

وبعد هذا الاعتذار ماذا عساني أقولُ؟

إذا قلت كلمة في الحالة الحاضرة أخشى أن تُظهروا استحسانكم بإطلاق الرصاص؛ ولذلك لا أقولها، فإن الصحافيين كثيرون وكلهم في القول يتاجرون، بل كلهم من الأماجد الكرام كما يقول أنطونيوس في جنازة القيصر، والذي يقوله هؤلاء الأحرار الأفاضل لا يتجاسر أن يقوله هذا الفقير، الذي يقوله المسدس والخنجر لا يقوله اليوم القلم والمنبر. الذي تقولُهُ الحماسةُ الوطنية لا تُردِّدُه دائمًا الحكمة، الذي يقوله أنصار الأُمَّة لا يقولُهُ أنصارُ الحقيقة. وأني أؤكد لكم أيها السادة أن لسان الحال اليوم أفصحُ من لسان الاتحاد ولسان التقهقر أطولُ من لسان التَّرَقِّي وبلاء بابل في ألسنتها، ولكن هذه البلبلة لا تدوم، وسينطق غدًا لسانٌ آخرُ هو لسان القوة والحكمة، فيردد صدى كلماته لسان الحال ولسان الاتحاد ولسان الترقي ولسان التقهقر أيضًا وإن غدًا لناظره قريب.

وأما الآن فحرمة للإنسانية أرى من الواجب أن نستلفت أنظار زعماء الفوضيين في أُوروبا إلى حالتنا المبهجة المفيدة فيبعثوا بوفد من قبلهم إلى بيروت ليتعلموا فيها كيف تكون الفوضى، ولا بأس بالفوضى إذا علمتنا شيئًا واحدًا وهو أنه لا يثبت في العالم والناس إلا الانقلاب، لا بأس بالفوضى إذا تعلم الشعب في مدرستها أن يتقيَ زعماءه وأسياده؛ فإن الزعماء الذين يغرون الشعب اليوم على الصحافة حبًّا بالأُمَّة يغرونه غدًا على الأُمَّة حبًّا بالصحافة. عفوًا سادتي قد جاملت من حيث لا أقصد المجاملة، فإن الزعماء السياسيين يُثيرون خواطرَ الشعب لا حبًّا بالصحافة ولا حبًّا بالأُمَّة بل حبًّا بأنفسهم الكريمةِ ومطامعهم السياسية الشرفية، فاتق — أيها الشعب — الزعماءَ ولا تكن في أيديهم آلة صماء.

واتقوا — أيها الزعماء — الشعبَ فإنكم إذا أغريتموهم اليوم على أحد زملائكم يقوم غدًا من يغريه عليكم، لا يثبت إلا الانقلاب، اذكروا هذا أيها الثابتون في التقلب …

وقد قيل: إن صوت الله في صوت الجماعات، وكم هو يا ترى عدد العثمانيين الذين لا يقفون مع الواقف ولا يتزلفون إلى القوي، فالشعب اليوم واقفٌ، الشعب اليوم قويٌّ، ولكن الحقَّ يقف فوق كل واقف، والحق أقوى من كل قوة بشرية.

فإذا قال السياسيون إن صوت الله في صوت الشعب يقولون ذلك يوم يكون الشعب خادمًا لمآربهم السياسية، ويوم ينقلب الشعب تنقلب — لا شك — الآيةُ، يوم تصرخ الجماعات فلتسقط الصحافة الحرة تقول الحكومة المسلولة: إن هذا لصوت الله، ولا تكاد تنتهي من تهليلها حتى تصرخ الجماعات فلتسقط الحكومة! فيقول إذ ذاك الحكام إنه لصوت إبليس، والحقيقة أيها السادة أن إبليس بريء من هذا الشعب وأن الله بعيد عنه. الحق يقال إن صوت الشعب هو صوت أبي براقش لا صوت إبليس ولا صوت الله، الحق يقال إن أبا براقش هو معبود الشعب ومعبود السياسيين.

تبارك الشعب وتباركت صبغاته السياسية، تبارك السياسيون وتباركت نزواتهم الوطنية.

(١٠) في وصف بيروت

أيها البيروتيون

أقمت في هذه البلاد (بلادنا) ست سنوات ولم أستطع قبل الآن أن أقول في بيروت كلمة حق يرضاها قلبٌ شَغُفَ بحب بلاده ولا ينكرها عقل شغف بحب الحقيقة. نظرت إلى هذه المدينة بعينٍ رأتْ مدن أُوروبا وأميركا فاستصغرتْها وندبت حظها ثم نظرتُ إليها بعينٍ شاهدت غيرها من مدن سوريا فأحببتها وأكبرت شأنها، وأنا الآن ناظر إليها بالعينين فأصفها وأنصفها. بيروت أُمُّ البلاد السورية وأُمَّة البلاد السورية، أميرة المدن الآسيوية وأجيرة المدن الآسيوية، بيروت حسنةٌ من حسنات التمدُّن وآفة من آفاته، بيروت لؤلؤة شرقية في صيغة من النحاس غريبة.

هي خلخال في رجل سلطانة المشرق عند الصباح، وأسوار في معصم ربة المغرب عند الغروب، هي درةٌ في أوحالٍ تئن فوقها الكهرباء هي مُرجانة على ساحلٍ اختلط تِبْرُهُ برماله ولجينه بأوحاله. ساحل النغولة مهد أُمِّ المدن السورية وعرشها، فم الأتون بيروت، وأفق النور بيروت، ومطلع الظلمة بيروت، عروسُ الحرية هي وعجوز الحرية، يومًا تتهادى تحت علم الوطن عفةً وكبرًا ويومًا تتوكأ على عصاها كيدًا ومكرًا، يومًا تلبس الرعاة العتاة أكليلًا من الأزهار، تصعِّر يومًا خدها للظالم وأمام سدته تعفر يومًا وجهها، بيروت منبر الدستور ومشنقته، بيروت حسناء النظام وبيروت صخَّابة الفوضى.

مدينة المدن السورية بيروت، منبت الياسمين والقُلَّام، مغرس الورد والشوكران، القُرَّاص فيها يرفع رأسه عزةً تحت أزاهر الليمون، والعُلَّيق يسرح ويمرح في ظل النخيل، مدينةُ الدماء مدينة المدن، مدينة الخلسة والرجاسة، أُخت أورشليم، روحها تئنُّ في الأزقة، نفسها تحشرج في المجاري، قلبها يغرد في البساتين، عينها تدمع في دوائر الحكومة، جسمها يذوب في الموبقات، وعقلها يدق على سندان التفريق في المدارس.

بيروت إحدى وصيفات باريس، هي قمر ينعكس فيه نور المغرب فيضيء المشرق وتنعكس فيه أيضًا ظلمة الغرب فتزيد الشرق ظلامًا. بيروت منبت العلوم ومغرس الخرافات، هي حقل خصبة التربة تزرع فيها أُوروبا قمحها وزؤانها ووردها وقُلَّامها ومع ذلك نراها سائرة إلى الأمام ساهرة صابرة. إذا أقبلت سوريا بيروتُ أمامها وإن أدبرت بيروتُ وراءها، إذا كانت اليوم كآذار من السنة تتراوح في رعدها وبرقها بين الظلمة والنور غدًا تصير كأيار بل كتموز، كأيار بأزهارها، كتموز بثمارها، إذا كانت اليوم أسيرة شياطين التفريق غدًا تُصبح ربة الأُلفة والإخاء، إذا كانت اليوم عرش التعصب الديني فهي غدًا قبره.

مدينة المدن السورية بيروت وإثمها مثل مجدها كلاهما عظيم، إذا بكت هاج بكاؤها بكاء الأُمَّة، إذا غَرَّدَتْ رددت أنغامها بلابل حلب وشحارير الشام وحساسين لبنان وحمام الجليل، إذا وردت بحيرة الإصلاح «ورد الفُرات زئيرها والنيلا»، وإذا أفسدت أفسدت بناتها في السواحل وعلى شواطئ العاصي والأولى والأردن وبردي، كلمة باطل تنطق بها بيروت تمسي حجة في دمشق كلمة حق تصدع بها بيروت تروي غليل القرى الظمآنة وتبعث في مدن السواحل والسهول روح الجهاد.

أم المدن السورية هي وعجوز المدن السورية، تعلِّم بناتها الفضيلة يومًا ويومًا تعلمهنَّ الرذيلة، تحمل إليهن نورًا وتحمل إليهن سمًّا، إثمها مثل مجدها كلاهما عظيم وأعظم من الاثنين واجبٌ فرضه الله على الأُمَّهات، أحسني القدوة يا بيروت يُحسن بناتك الاقتداء. في المروج والجبال وفي السواحل والسهول بناتك يستقين من ينابيع علمك وأدبك، من مدارسك من صحافتك من منابرك من مطابعك، فصفي مياهًا تسقينها بناتك. اخفري السُبُل، صوني المناهل، تعهدي المسارب، اقطعي يدَ كل أثيم يشتغل اليوم في تعكيرها أو تخريبها أو تسميمها، اقطعي الأيادي التي تحمل إليها سرًّا فضول الأديان وأوحال التعصُّب وأوساخ سخافات الأدب والسياسة، طهِّرِي ينابيعك، ارحمي بنيك وبناتك.

أشهد أن لا نور ولا دخان ولا وحول في سوريا اليوم غير ما كان مصدره بيروت، وأشهد أن بيروت وجه سوريا وأن الهوتنتوتي في هذا الزمان يغسل وجهه، بيروت قلب سوريا، والعلم يقضي بأن يكون العقل كالقلب والجسم نظيفًا نقيًّا، ولكن المدينة التي تدعى درة تاج آل عثمان هي درةٌ في أوحال وغبار تئنُّ فوقها وتحتها الكهرباء. وتبضُّ حولها حباحب الأدباء.

أوحالٌ وأقذارٌ وغبار في أسواق المدينة، وفي آدابها وفي سياستها وفي أديانها، ودرة العلم ودرة الدين ودرة تاج آل عثمان في هذه الأوحال والأقذار غائصاتٌ ضائعاتٌ، وماذا يُزيل الأوحالَ والأقذارَ والغبارَ، لا الصحافة ولا قرض البلدية ولا قصائد الشعراء ولا كلماتي تزيلها، هذه الأقذار من فضول الأعصُر والأجيال ولا يزيلها أبدًا سرمدًا غير التربية الحقة والتهذيب الصحيح، تربية أساسها الشجاعة والحمية والصدق والنظافة وتهذيبٌ أساسُهُ النزاهة والأمانة والإقدام وحب العدل والوطنُ متى تأصلت هذه الفضائل في الرعاة وفي الرعية وفي السائدين والمسودين تصلح جادات المدينة وتستقيم جادات الأدب والدين والسياسة. أصلحوا الحياة تصلحوا الحكومة، أصلحوا الحياة تصلحوا المدينة.

(١١) في لبنان٤٢

إخواني، أبناء وطني

إذا كان في حضوري حفلة هذه الجمعية ما يسركم وفي كلماتي ما يفيدكم فأنتم مدينون بذلك لرسول الجمعية إليَّ، جاءني هذا الرسول الأسبوع الماضي فذكَّرني بعد أن قص قصته بمخبري الجرائد الأميركية، بأولئك الشبان الأقوياء الذين يتسقطون حتى من السماء الأخبار، وينالون بغياتهم بالجد والثبات، طلبني في محلات عديدة بالمدينة فما وجدني، سأل عني بعض الأصحاب فثبطوا من همته، علم أني سأخطب في بيروت خطبتي الأخيرة وأتأهب للسفر وما كان ذلك ليوقفه عن سعيه، عَضَّ على نواجزه وراح وجاء باحثًا طالبًا حتى لقيني فحاصرني واستولى عليَّ.

أعجبني من الشاب نشاطُهُ وجَدُّهُ وثباته، فأحببتُ أن أُنوِّهَ بها في هذا المقام، وحبذا هذه المزايا الحميدة في شبابنا بل في كهولنا وفي نسائنا، حبذا العزم في الأعمال والثبات في الأعمال والإخلاص في الأعمال، فلا التربية في بيوتنا نحن السوريين ولا التهذيب في مدارسنا يغرس فينا مثل هذه الأخلاق الطيبة، مثل هذا العزم والجد والإقدام، الشاب الذي نوهت به من متخرجي الكلية والمزايا التي أعجب بها إنما هي من محاسن الأخلاق الأميركية، وحبذا لو تخلقنا بمثل هذه الأخلاق فنأخذ عن أصحابنا الأميركان والإنكليز أماثيل العزم والجد والإقدام ونترك لهم عبادة المال والتكالب في سبيل الإثراء.

فكم من خوار هلوع إذا قامت في وجهه عقبةٌ واحدة يُعرض عن غرضه ويعود إلى خموله خائبًا، وكم من رسول لفساد في خلقه وضعف في عزيمته يخدع مرسله ويخونه، وكم من مأمور يركب إلى غايته مطيةَ الغش والتلبيس ويطلي عقد الأُمُور بالأكاذيب ويدور حول العقبات مثل كديش الناعورة فلا هو يذلل العقبات ولا هي تعززه، الإخلاص في الأعمال والأمانة في الأعمال والجد والثبات في الأعمال هذا ما أنصح به لإخواني أبناء وطني.

فالجد يدني كل أمر شاسع
والجد يفتح كل باب مغلقِ

وإن من يمد يده إلى السماء راغبًا عازمًا جادًّا متشوقًا لَتدنو منه كواكبُ السماء وأقمارُها.

ولكن الطبيعة تنفر من الإلحاح ونواميسها تكره العجلة، وقلما نرى نحن السوريين ما لا يُعاكس الطبيعة ونظام الأشياء، إذا شَاقَنَا أمرٌ طلبناه كالأطفال ضاجِّينَ مُلِحِّين صارخين صاخبين مئات السنين نريد أن يحشرها الله من أجلنا في برهة صغيرة، نريد أن ينير من أجلنا الشمس في الليل والقمر في النهار، نُريد أن يصلح شئوننا ونحن إما نائمون وإما صاخبون، ولا الصخب — وايم الله — ولا النوم، لا العويل والفوضى ولا التلبط والقنوط تصلح الشئون.

أكعكة تريد يا بني؟ اصبر تنلها. وأما هذا التلبط منك فلا يفيد، وهذا الصراخ لا ينفعك، بمثل هذا الكلام تخاطب الأم ابنها اللجوج والأُمَّة بنيها، نريد في لبنان تهذيبًا وحريةً وعمرانًا، نريد في لبنان إصلاحًا، وايم الله لا نريد في لبنان إلا الوظائف. أقول وحقٌّ ما أقول إن بلاء لبنان وفساد حاله لَمِنْ مُصْلِحِيهِ، مصيبة الجبل أولئك الذين يصيحون في الأودية حبًّا باستماع صدى أصواتهم، أولئك الذين يضربون على وتر الإصلاح حبًّا بالاشتهار أو خدمةً لمآرب أحد المفسدين الكبار، أولئك الذين يصطادون بشبكة التمويه والتغرير الدينار.

بلية لبنان أولئك الذين يزحفون على بيت الدين باسم الدستور فينصبون في باب السراي مشنقةَ الدستور، أولئك الذين يصطبغون بصبغة الأحرار وإذ يتبوءون كراسي السيادة يولون للحرية الأدبار، أولئك الذين يصطبغون بصبغة الماسون يومًا ويومًا بصبغة المارونية فلا ماسونيين يعرفون ولا بكركيين، مصيبة هذا الجبل العزيز في أمثال أولئك البنائين المحترمين الذين يناهضون الإكليروس يومًا ويومًا يتزلفون إليه ليسلبوه النفوذ والسيادة، كنا في الماضي نقول: إن بلاءنا من الإكليروس، وأما اليوم فيا ما أُحَيْلَي الإكليروس إلى جانب هؤلاء الذوات المصلحين، مسكين الإكليروس اللبناني؟ صرخة واحدة أقعدته وكأني بالبنائين والمصلحين يصرخون اليوم في وجهه قائلين: اشلح تربح، هذه حال الإكليروس اليوم وحال المصلحين.

بليتنا يا أسيادي من هذه الأحزاب، هؤلاء الزعماء والسياسيين العتق منهم والجدد، ما أكثر المصلحين فينا وما أقل الصالحين، ما أكثر الواعظين وما أقل المتَّعِظين، عودوا إلى بيوتكم أيها الناس فالزموها، عودوا إلى أنفسكم فأَصْلِحُوها، أفسدتم بإصلاحكم البلاد أهلكتم بسياستكم الناس أقول ولا أخشى لومة لائم إن كل ساسة لبنان الموقرين سواءٌ في الضلال والفساد، وما أشرنا مرة إلى أحد معجبين ممن اشتهروا بغير الضلال والفساد وكان عند رجائنا فيه، قلنا في هذا الرئيس قولًا جميلًا كذبه بأعماله، مدحنا الزعماء الوطنيين فحبقوا في الطحين ما كدنا نقول في هذا النائب ما شاء الله حتى اضطرنا أن نقول إنا لله، كلهم في الفساد والضلال سواء عودوا إلى بيوتكم أيها الزعماء الأعزاء، إلى حقولكم، إلى أملاككم، فتعهدوها بالتربية، أصلحوها — أصلحكم الله — بارت أرضُ لبنان من اشتغال أصحابها عنها بالسياسة، غاضت مياه لبنان من إهمال الغابات فيه والأحراج، وسيذهب لبنان ضحية إصلاح المصلحين — ويلهم مصلحين — يهملون أرضهم وعيالهم وأملاكهم ليصلحوا حكومة لبنان، لله درهم ما أشد غيرتهم على لبنان.

أقول — وحق ما أقول: لو سكت الزعماء والمصلحون العُتَّق منهم والجدد وعادوا إلى بيوتهم يحترفون لهم حرفةً شريفة لأُصلحت عاجلًا شئون لبنان السياسية وأما شئونه الاجتماعية والعمرانية فلا يصلحها غير المدارس الراقية والتربية الحقيقية، لا يصلح حالنا أدبيًّا ودينيًّا غير المدارس الإعدادية العلمانية الوطنية والتربية الأميركية الحقيقة أما الإصلاح السياسي فلا ينفع كثيرًا بل لا ينفع قطعًا في مثل أحوالنا اليوم، وهاك ما قاله طومس كَرْلَيْل في هذا الصدد، أنا قارئ ما عربته من سديد حكمة هذا الفيلسوف العظيم.

«قد قيل مرارًا وينبغي أن يقال أيضًا تكرارًا: إن كل إصلاح غير الإصلاح الأدبي لا يُجدي نفعًا، فالإصلاح السياسي مع شدة الحاجة إليه يُحصر فعله في استئصال الأعشاب البرية كالشوكران القبيح السام والنباتات المشوكة التي يكثر نموها وتَقِلُّ فائدتها، ولكن الأرض وقد أصبحت بعد ذلك بورًا تَقبل البذور الكريمة كما تقبل ما قد يكون أخبث وأَضَرَّ مما استُئصل منها.

أما الإصلاح الأدبي فهل يتحقق يا ترى رجاؤنا فيه إن لم يزددْ يومًا فيومًا عدد الرجال الصالحين فينا، أولئك الذين ترسلهم العناية الكريمة ليبثوا روح الصلاح في الناس ليزرعوه كما تزرع الشجرة الحية بذروها؟ فالرجل الصالح إنما هو قوةٌ سريعةٌ حيةٌ مثمرةٌ، وكذلك في كل زمان ومكان يكون، ونفوذه إذا تدبرناه لا يُقاس؛ لأن أعماله لا تموت.

هي أبدية؛ لأنها بنت الأبدية، وقد تتحول فتنمو وتنتشر في أشكال جديدة ولكن جوهرها الحي المحيي هو واحد. فيا أيها الصارخ من خبث الزمان ولؤمه القائل إن ديوجن في يومنا يحتاج إلى مصباحين في رابعة النهار اعلمْ أنْ لا سُلْطَةَ لك على الزمان، وليس لك أن تُصلح البشر، أن تنقذ عالمًا منغمسًا في الغش والفجور والنفاق، وإنما كُتب لك أن تصلح رجلًا واحدًا فيه وأُعطيت لذلك قوة عظيمة مطلقة فأنقذ هذا الرجل، أَصْلِحْه قَوِّمْ أوده إن في اهتمامك هذا شيئًا بل أشياء تذكر، وحياتك وأعمالك لا تكون بعدئذٍ باطلة.»

وكلنا هذا الرجل، وكلنا نستطيع أن نُصلحه إذا سعينا في هذا وكنا ثابتين في سعينا صادقين، أما الإصلاح السياسي فهو يُنَقِّي الأرض ويحصبها فقط، والإصلاح الأدبي الذاتي يُعطينا بذورًا صالحةً نزرع منها هذه الأرض المنتخبة الطيبة، وأما إذا حصبناها ونقيناها وكانت بذورنا رديئة فاسدة يجيء كل إصلاح سياسي شرًّا من الآخر. وبأسف أُخبركم أَنَّ ما في جراب بذارنا اليوم غير بذور الحنظل والقرقفان والعوسج والقراص، فإذا كانت لنا غيرةٌ على بلادنا، وكان في قلبنا حب لأرضنا حقيقي نأبى أن نتعبها ونهلكها بالإصلاحات السياسية العقيمة، لنسع في تنقية البذور قبل تنقية الأرض، اطرحوا إلى النار جراب السياسة وما فيه — غيره آسفين — وخذوا لكم جرابًا جديدًا تملئونه من بذور النفس المصلحة الجديدة فقد أُعطي كل منا كما قال كَرْلَيْل قوةً عظيمة مطلقة ليصلح نفسه وكل منا يستطيع إلى ذلك سبيلًا إذا سعى قليلًا.

ونصيحتي لإخواني اللبنانيين لأبناء وطني المحبوب أن يبتعدوا عن السياسة ويقتربوا من الحقول، إن فلاحًا في كَرْمِهِ وراء محراثه لأشرف من كثيرٍ من ذوات لبنان، إن صانعًا في مَعْمَلِهِ لأطهر ذيلًا وأَنْزَهُ نفسًا من ساسة لبنان، إن حائكًا في نوله لأسلم قلبًا من مصلحي لبنان. جبالنا المقدسة! أيهجر بنوك أطلال السكينة فيك ليتلوثوا بأوساخ السياسة وأوحالها؟ أيهملون أرضك فتصير بورًا وأحراجك فتصير صخورًا حبًّا بمنصب في الحكومة يذل النفس ويفسد الحياة؟ إلى الحقول أيها السياسيون إلى الحقول، بارت أراضي جبالنا من الإهمال، تصخرت أحراجُ جبالنا من الإهمال، غاضت مياه جبالنا من الإهمال.

أَتَشْقَوْنَ في السياسة إخواني والمحراث ينشدكم نشيد الهناء والحبور؟ أتتمرغون في أوحال الوظائف والأرض تحنُّ إليكم حنين الأُمِّ إلى أولادها أتستذلون وتستضعفون وتستعبدون في دوائر السياسة والحقول تدعوكم إليها لتلبسكم تاج الاستقلال، لتعيد إليكم شرف الرجال، لتمتعكم بحرية الفكر والعمل والمقال؟ إلى الحقول إخواني، إلى الحقول، ليرع كل منا خويصة نفسه، ليشتغل كل منا عن إصلاح الناس بإصلاح شئونه، ليتعهد أرضه وأملاكه بالحراثة والتربية فيصطلح عندئذٍ لبنان ويصطلح شعب لبنان، وتصطلح لبنان.

(١٢) التساهل الديني (خطبة أُلقيت في احتفال جمعية الشبان المارونيين في نويرك ليلة ٩ شباط سنة ١٩٠٠)

تنبيه

هذه أول خطبة ألقيتها في لغتي وقد انتشرت في سوريا ومصر وأميركا وقرظتْها الجرائدُ والمجلات هنا وهناك؛ لذلك أحببت أن أُبقي عباراتها على ما كانت عليه في الطبعة الأولى.

مقدمة الطبعة الأولى

قد طبعت هذه الخطبة لاعتقادي أننا بحاجة كلية إلى التساهل الديني فأملي أن تصادف من المتساهلين استحسانًا ومن المتعصبين قبولًا تكون نتيجته الارتياح والاستحسان على ما أرجو، فيزول — إذ ذاك — التعصبُ ويسود التساهلُ وتبرزُ بعد ذلك أُمَّتُنَا السورية إلى عالم الوجود قائمة على صخرة لا تقوى عليها نيرانُ الجحيم.

نويرك في الشهر الخامس من سنة ١٩٠١

مقدمة الطبعة الثانية

وهذه عشرُ سنواتٍ مضت والتساهلُ الدينيُّ — أي: هذه الخطبة — لم تزل من الأدوية الناجعة دليلٌ على أن داء التعصب الدفين لم يزل متأصلًا في الصدر. وقد قال لي أحدُ كبار الاتحاديين: إن الجمعية تود لو انتشرت هذه الخطبة في كل أقطار المملكة، فلتتكرم الجمعية إذًا وتترجمها إلى التركية، أبدلوا «الأمة السورية» في الخطبة بالأُمَّة العثمانية ولا تَخْشَوْا اللوم والتثريب؛ فإن عناصر هذه الدولة كلها كالعنصر الذي عالجته، وإن ما نئن منه نحن المسيحيين لأشد وطأة عند إخواننا المسلمين أفيُسقمنا التعصب ويجهز علينا التمويه؟

اتقوا الله أيها الناس، فقد صاح بكم الأحرار الأصفياء: عودوا إلى كتبكم. ظنًّا منهم أنكم تعودون إلى الحسن السمح السامي من آياتها. فخاب ظنهم. لذلك أقول: ارفعوا أعلام الوطن ولا تعودوا إلى كتبكم في غير المعابد؛ لأنكم تعودتم أن تُسرعوا إلى ما خُطَّ فيها من آيات فتفسرونها بما لا يقتضيه حالُنا اليوم بل لا يُجيزه. عودوا إخواني إلى ضميركم إلى وجدانكم إلى عقولكم إلى حكمة موروثة فيكم، وساعدوا هذه الدولة الجديدة فتساعدكم، ساعدوها أيها الرؤساء والأسياد في بث روح التساهل الديني والجنسي في الناس، وسيف — واللهِ — يرفع عليَّ شر من سيف أرفعه على إخوانٍ لي في الوطنية. وشر من الاثنين — أيها العثمانيون — سيف يُرفع علينا أجمعين.

بيروت في ٦ نيسان سنة ١٩١٠

التساهل الديني

أيها السيدات والسادة

لَمَّا علم بعضُ أصدقائي بأني انتقيت موضوعًا دينيًّا أُلقيه على مسامعكم في هذه الليلة الحافلة انتشر الخبر في جاليتنا السورية وأخذ كل رجل يبني عليه العلالي والقصور ويستخرج النتائج ويقدر العواقب ويفسر الموضوع بحسب مبلغ ذوقه وإدراكه وهواه، وقد اتفق هؤلاء المفسرون في شيء واحد وهو أني سأتعرض للدين تعرضًا خبيثًا وهم ينوون توقيفي عن الخطابة؛ لأنهم للآن لم يألفوا حرية القول والانتقاد فعسى أن يصادفوا الفشل وخيبة الأمل؛ لأنهم حكموا عليَّ قبل أن يسمعوا كلامي ويتدبروا براهيني.

وهذا شيء يُناقض الشريعة والعدل ويأباه الرأيُ المستقيم والذوقُ السليم فالقاضي الذي يحكم على مجرم بالقتل قبل أن يسمع دفاعه يكون ظالمًا مجرمًا جاهلًا، فلا تحكموا قبل أن تسمعوا ولا تقصدوا الشر قبل أن تتبينوا شرًّا أكبر يستوجبه، وقد يظن البعض أن البحث في الأُمُور الدينية متعلقٌ برؤساء الأديان فقط ومحرَّمٌ على سواهم، وهذا عين الضلال والغلط، فالمرء لا يرى مساوئه ولا ينتقد الحرفة التي يتوقف عليها معاشه، ورؤساء الأديان لا يتكلمون عن الدين شيئًا مشينًا ومضرًّا به على مسامع الشعب ولو لم يكن منافيًا العدل والإصلاح بل كل مباحثهم الفلسفية وكل أقوالهم العلمية هي مستنتجةٌ من مقدمة تسبق كل بحث وكل تنقيب، يطبعونها في جنانهم قبل أن يُقْدِمُوا على الكتابة والجدال.

وهي هذه: الدين تأييده واجب وتعزيزه أوجب وإذا أفسده الزمان ولوى فيه الألسنة بعضُ رؤساء الأديان فلا يعلن الفساد للشعب، فإذا كانت المقدمة على هذا المنوال فهل يرجى منهم انتقادٌ جهريٌّ يكشف للعلمانيين ما لا يظنونه موجودًا. إن ذلك لا يكون فالرؤساء لا يرجى منهم إصلاح جهاري في الدين إذ إن ذلك يضر بمصالحهم ويضعف سلطتهم ويسقط سيادتهم، وإذا سألتموني لماذا تبحث وتتكلم في الدين وأنت لست من رجاله فأُجيبكم كما أجاب روسو الفيلسوف الإفرنسي الشهيرُ لما سئل عن تعرُّضه للبحث في السياسة، وهو ليس أميرًا ولا حاكمًا.

قال: أنا لست أميرًا ولا حاكمًا ولكنني من أجل هذا كتبتُ فإني لو كنت أميرًا أو حاكمًا لَمَا أضعت الزمان بكتابة ما ينبغي أن أفعل بل كنت أفعله وألزم السكوت، وأنا لست قسيسًا أو مطرانًا ومن أجل هذا أخطب بموضوعٍ دينيٍّ فلو كنت قسيسًا أو مطرانًا لأصلحت وحسنت واستغنيت عن الخطابة ولزمت السكوتَ فالبحث في أيِّ موضوع كان محرمًا على الحيوانات العجم فقط أما الناطقة العاقلة فمن حقوقها أن تخوض عباب أَيِّ موضوع شاءتْ.

ولكن الذي أوقعني في مثل بحر من الاضطراب هو الطلب الذي طلبتْه مني عمدة هذه الجمعية (جمعية الشبان المارونيين) كي أعدل عن الخطابة بهذا الموضوع تجنُّبًا للشر وهربًا من العواقب الوخيمة حسب زعمهم، ولعمري لا ينجم عن البحث والتفتيش المصحوبين بالمعرفة والحكمة إلا كل شيءٍ مستحسن ومفيد، البحث أُمُّ الحقيقة، ماذا أفعل إذن، أأرمي نفسي في بحر البحث والتنقيب أم أُسلِّم تسليمًا غير شرطي دون أن أنبس ببنت شفة، من وجه لا أُريد أن أخون ضميري وأُعوِّد نفسي التردد فالشاعر يقول:

إذا كنت ذا رأي فكن فيه مُقْدِمًا
فإن فساد الرأي أن تترددا

ومن وجهٍ آخر أَوَدُّ لو راعيت خواطرَ أعضاء الجمعية التي أنا عضوٌ منها وأجبت سؤلهم، فإن تكلمت استاءوا وإن لم أتكلم استاءت الحقيقة، وهذه هي الورطةُ التي وقع بها ذاك الخطيبُ المُفَوَّه إسكندر أفندي العازار لما تكلم عن «الجرائد وجرائدنا» في مدينة بيروت فأخذ في البدء يسرد تاريخ الجرائد مبتدئًا بالصين ومنتهيًا في أُوربا، ووقف يتبصر لما اتصل به البحث إلى جرائدنا وحالتنا في تلك المدينة، والموقف يستوجب كثرة التبصُّر إذ كانت تلكم القاعة غاصة برجال الحكومة وأصحاب الجرائد ونخبة الجواسيس، وكلهم كانوا واقفين للخطيب بالمرصاد يتوقعون منه كلمة واحدة ضد الجرائد أو المكتوبجي ليشوا به ويسعوا بتوقيفه وحبسه فبعد أن تبصر قليلًا قال: جرائدنا … أحسنُ صبغة للشعر عند عيد عون … جرائدنا … أحسن دواء لوجع الرأس عند أبي نحول، جرائدنا … جرائدنا … فنهض أحد أصحاب الجرائد في ذاك الثغر وقال له «ما معناك لم لا تتكلم؟» فأسكته الخطيب إذ قال: «الله يضيق على من يضيق.»

أما نحن فلسنا في بيروت الآن ولسنا مُحاطين بالوالي والمكتوبجي والجواسيس، ولا توجد فوق رُءُوسنا أيدي رجال حكومة ظالمةٍ جائرةٍ مستبدةٍ من شأنها الضغط على العقول وتوقيف كل من نطق بالحقيقة وصرَّح عن أفكاره بحرية وإخلاص. نحن في بلاد طرحت فنمت في ربوعها بزور الحرية منذ نشأتها نحن في جمهورية عظيمة يحق لكل من وطئ أراضيها المباركة أن يتكلم بحرية تامة بشرط أن لا يمس حرية غيره، وهذه الحكومة العادلة قد كفلت لشعبها الحرية بأنواعها كافة: كحرية الأديان وحرية الصحافة وحرية الخطابة وحرية التعليم وحرية العمل. ولعمر الحق هذا أكبر باعث لتقدمها السريع ونشأتها الغريبة، فما لنا إذًا ومراعاة الخواطر عند البحث عما يعود بأكبر الفوائد على السوريين في بلادهم وفي المهاجر … موضوعي التساهلُ الديني أتُريدون أن أتكلم (فجاء الجواب من الجمهور اخطب! تكلم!)

– أأتكلم؟

– تكلم، تكلم تكلم!

– سأتكلم إذًا — وعلى الله الاتكال.

موضوعي في هذه الليلة الحافلة متشعب، الأطراف جليلُ الشأن جزيلُ الفوائد ذو أهمية تأثيرها في المجتمع الإنساني لا يُقاس ولا يُحدُّ، هو الموضوع الذي انقسمتْ عليه الرجالُ في الأعصار الغابرة فالمتوسطة حين كان يدافع عنه كل المدافعة العلماءُ والفلاسفة والأحرارُ ومحبو البشر الأبرار ويعارضهم — كل المعارضة — الرؤساءُ والأمراء والملوك وكل من فضل قطعة معدن تدعى خطاءً تاجًا على ذلك الشيء الخفيِّ السري الإلهي الذي يُسمَّى ضميرًا.

تعريفُ التساهل

التساهلُ هو التسامحُ بوجود ما لا يُستصوب بتمامه٤٣ وهذا تحديدٌ كليٌّ، أما الجزئيُّ فهو إجازة العقائد الدينية والطقوس الطائفية التي تُخالف الطقوس والعقائد المختصة بالدولة، وهذا تحديدٌ لا يطابق حالتنا ولا يوافق الظروف الحاضرة، فإليكم إذًا تحديدًا يأتي بالمراد: التساهل الديني هو الاعتبار والاحترام الواجب علينا إظهارهما نحن المذاهب المتمسك بها أبناء جنسنا ولو كانت هذه المذاهب مناقضة لمذاهبنا وتقاليدنا وطقوسنا على خط مستقيم.

يجب علينا أن لا نُمكن ما لا يستصوب بتمامه من أن يُفرق بيننا ويُشتت شملنا ويقسمنا على أنفسنا.

التساهل لا يكون في الأُمُور الدينية فقط بل في كل المسائل التي تطرأ على عُقُول البشر، ويعمل بها الكبار والصغار عدا ما يُستصوب بتمامه، ولا نستطيع أن ندخل هذا الباب دون أن طرق بابًا آخر فالتساهلُ نجم عن التعصب وهاتان الكلمتان ضدان وهما ثانوية من ثانويات الطبيعة كالنور والظلمة والفضيلة والرذيلة والخير والشر والعدل والظلم فلولا ذاك لما كان هذا، لولا الأول لما كان الثاني، فالتعصب إذًا ولد التساهل والتساهل ولد السلام والسلام ولد النجاح والنجاح ولد السعادة مثلما إبراهيم ولد إسحاق وإسحاق ولد يعقوب ويعقوب ولد يهوذا وإخوته، فالسليلة واحدة لكن الترقي يأخذ مجراه حسب سنة النشوء والارتقاء والتعصب يسبق في كل الأحوال ليستوجب التساهل؛ لأن القضيب المستقيم يكون تقويمه اعوجاجًا.

ولكي يكون الشيء صريحًا والبرهان جليًّا أجعل لكم تشبيهًا ثانيًا، التساهل هو الابن والتعصب هو الأب ولحسن الطالع لم يوجد في العائلة البشرية برمتها أب وابن يتفقا ويتواليا في زمانهما قَطُّ إلا هذين الاثنين فالأبُ المتعصب يكره الابن المتساهل والابنُ لا يستطيع أن ينظر الأب فاستعرتْ بينهما نيرانُ الفتن وحمي وطيس القتال في الأجيال المتوسطة التي يدعوها المؤرخون الأجيال المظلمة، وكان الفوز أحيانًا لهذا وأحيانًا لذاك حتى دخل المتحاربون القرن التاسع عشر فأخذ الابن يفوز على الأب، أخذ التساهلُ ينتصر على التعصب وأخيرًا شق قلبه بخنجر العدل وفراه بسيف الرحمة، مات التعصب ولكن وا أسفاه! كان موته إلى حين! أي: أن روحه عند خروجها من جسمه الديني تقنصت بقوتها الأصلية الجسم السياسي.

خرجت من الجسم البشري ودخلت الجسم الحيواني، عوضًا عن التعصب الديني الذي سَوَّدَ صفحاتِ التاريخ في الأجيال الغابرة قد ابتُلينا بأيامنا هذه بتعصُّبٍ سياسيٍّ أو دولي إذا شئتم لم نرَ له مثيلًا في تاريخ العالم بأسره، فما هذه الحروب التي تشهرها الدول الأوروبية على الشعوب الحقيرة والقبائل الضعيفة الصغيرة إلا نتيجة التعصب الدولي، نتيجة الفكر الفاسد الذي تتمسك به الدول وتعمل بموجبه، فإنكلترا تعتقد نفسها أصلحَ من فرنسا، وفرنسا أرفع وأعظم من جرمانيا، وجرمانيا أقوى وأحسن من الاثنين … إلخ وإذا راقبنا حركات الدول، واطَّلعنا على أسرارها، ودرسنا سياستها، وكشفنا الحجاب عن خفاياها، وتأملنا الحروب العديدة التي تهدم هيكل المجتمع الإنساني؛ وقفنا منذهلين مندهشين سائلين أنفسنا السؤال المضحك: أنحن من الجيل التاسع عشر، جيل التمدن والنور، جيل المبادئ الديمقراطية والاشتراكية والرحمة المسيحية، أم نحن على باب القرن العشرين؟ أجل نحن من الجيل التاسع عشر … قبل المسيح وليس بعده، وقد تميز هذا الجيل بالتعصب الدولي؛ ولذلك دعوت خطابي: التساهل الديني الناتج عن التعصب الديني؛ لأميزه عن التساهل السياسي. أما المبدأ الأساسي لهما فهو واحد لا يتغير منه سوى التكوين الخارج والأحوال الظاهرة.

ثم التساهل يكون إما من الدولة وإما من الشعب، وإما أن يكون طوعًا واختيارًا وإما كرهًا وجبرًا. أما التساهل الدولي الدينيُّ فهو يشمل الآن الدول الأُوروبية بمعاملاتها بعضها مع بعض، ولكنه لا يشمل الشعوب التي يدعوها الأُوربيون متوحشة، فالدول لا تتساهل مع هؤلاء المساكين الضعفاء، بل تتساهل بعضها مع بعض؛ لأنها تضطر إلى ذلك وليس حُبًّا بالمبدأ الشريف، فكثيرًا ما نراها تُشهر الحروب على القبائل الضعيفة وتدعوها حروب الإنجيل وذلك لكي يعتنق «البرابرة» الدين المسيحي كرهًا وجبرًا. وهذا هو التعصب الدولي الديني، هذي هي الاضطهادات التي كانت تُمارسها الدول الأُوربية المسيحية ضد بعضها والآن تمارسها ضد «البرابرة» — كما تزعم — والبرابرةُ قوم يشعرون ويريدون مِثْلَنَا.

هذه هي حروب شارلمان واضطهادات الملكة حنة الإنكليزية والملك كارلوس الإفرنسي هذه هي مذبحة ليلة القديس برتلماوس، فعوضًا عن حدوثها في باريز وفي الجيل السابع عشر تحدث الآن في صحاري إفريقيا وفيافي آسية وتلول السودان وفي آخر الجيل التاسع عشر، يا للعار ويا للشنار! عبثًا يكتب العلماء ويندِّدُ المصلحون ويبحث الفلاسفة، عبثًا أتى السيد المسيح إلى الأرض لمثل هؤلاء الاقوام.

أما بين الدول المسيحية بمعاملاتها مع بعضها فلسنا نرى للتعصب الديني أثرًا فصار الكاثوليكيون بأمن وسلام في الجزائر البريطانية، والبروتستانيون يأمنون على أنفسهم في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا واليهود، لا خوف عليهم من الأخطار والطرد في أيِّ بلاد حَلُّوها — ما عدا الروسية — وصرنا نرى في مجالس الأُمراء الإنكليزية اللوردة والنواب الكاثوليكيين واليهود، وفي الدولة العثمانية نرى الموظفين على اختلاف نِحَلِهِم ومذاهبهم من المسلمين والمسيحيين والدروز. فالتساهل إذًا في الدولة موجودٌ غير أنه بين الملل والشعوب المختلفة مفقود؛ لأن الكاثوليكيين في هذه البلاد الحرة كطائفةٍ لا يحبون البروتستانيين والبروتستانيون يكرهون الكاثوليكيين، وقس على ذلك في كل الأُمَم لا سيما في الأُمَّة السورية، فلو كان بوسعنا نحن السوريين كلنا لاضطهد بعضنا بعضًا وشهرنا على بعضنا الحروب الدموية، ولكن الدولة لا تُساعدنا على الاضطهاد الديني ورؤساء الأديان لا يستطيعون ذلك وحدهم، ولعلهم لو استطاعوا لا يترددون.

عندنا نحن شيءٌ أقبح من الاضطهاد وأضر من الحروب، عندنا السياسة السرية والأيدي الخفية والأعمال الباطنة الشيطانية، فكل هذه المنكرات تُشير إلى غرضٍ واحد، وهي أكبرُ باعث على ابتعادنا وانقسامنا على بعضنا وقيامنا ضد بعضنا، فالسياسةُ الخفية هذه أقبحُ من الاضطهاد؛ لأننا بالاضطهاد نستأصل دابر مَنْ خالفنا بالمذهب فلا يبقى لنا مُعانِدٌ مفاخر ولا عدوٌّ مكابر.

ولكن السياسة السرية تفسد القلوب وتقتل في الإنسان كل عاطفة شريفة، السياسة هذه هي الجبن والضعف واللؤم والخيانة والغش والنفاق والأيدي التي لا تظهر مخالبها إلا في الظلمة الكالحة يدعو عليها بالكسر كلُّ حُرٍّ صادق وكل شجاع، هذه سياسة سيئةٌ غايتُها وخيمةٌ عاقبتُها، وأبناء أُمَّةٍ واحدة يبقون بسببها منقسمين منفردين عاجزين عن العمل مشمولين بالخمول ومكتنَفين بالجهل، فيتسلط عليهم شعبٌ آخرُ وأُمَّة غريبة فيبقون أذلاء جبناء إلى ما شاء ربك، هذه سياسةٌ لا طائلَ تحتها ولا نجاح وراءها، بل إن صاحبها يَلْقَى الفشل ويُبتلى بخيبة الأمل قبل أن تمتد نيران فتنته فتفضي بالأُمَّة إلى البوار.

أيها السوريون نحن أُمَّة لا يتجاوز عددها ثلاثة ملايين نفسًا، منهم مليونٌ متشتت في أربعة أقطار المعمور، فإذا وجد فينا خمسة عشر حزبًا أو ملة فماذا يا تُرى تكون عاقبةُ شقاقنا وانقسامنا.

ألا يكفينا الضعف الذي يشملنا بكوننا أُمَّةً صغيرة حقيرة حتى نُبتلى أيضًا بضعف الانقسام، وماذا تكونُ قوة كل حزب أو كل طائفة إذا شرعت تعمل عملًا خطيرًا يستغرق الوقت الطويل والسهر والكدَّ والاجتهاد، ويستوجب تضحية المال والنفوس وخيرات البلاد.

أي عمل قامت به هذه الطوائف الصغيرة وكانت فوائده أكثر من أضراره؟

فلو كان عددُنا مائة مليون لَمَا ضرنا انقسام الأحزاب إلى عشرين حزبًا ولا خمسة عشر طائفة فعندئذٍ يكون الحزب قويًّا، وإذا شرع يعمل عملًا أو ينهض نهضةً سياسية أو أدبية كللها بالفوز والظفر. هذه الأُمَّة الأميريكية يبلغ عدد سكانها ما فوق الثمانين مليونًا، ومع ذلك لا نرى فيها أكثر من خمسة أحزاب سياسية. وأما الطوائف الدينية فكثيرةٌ ولكن لا قوة ولا ذكر لها في الأُمُور السياسية والوطنية والمدنية، قد سُلبت منها سلطتها أو بالحريِّ قُتلت بيدها؛ ولذلك هي ضعيفةٌ ذليلةٌ. قد قالت الحكومة الجمهورية لهذه الطوائف الدينية ما معناه: لكل دين حقُّ البقاءِ ولا حق لدين أن يُبيد دينًا آخرَ بالقوة الوحشية.

لكل دين حقُّ البقاء! افتكروا في ذلك وأَبْقُوا هذه الآية في حافظتكم، ودولتُنا العثمانيةُ تنهج نفس المنهج، فالمسلمون يتساهلون مع النصارى ويسمحون لهم بممارسة دينهم حسب طقوسهم وتقاليدهم. وبما أن الإنسان يجتهد ليستفيد من كل شيء أنتجت الدول — ولا سيما الدولة العثمانية — نتيجةً حسنة تئول إلى سياستها بالراحة تعويضًا عن لذَّةِ الاضطهاد الوحشية، فغدا التساهل ضربًا من السياسة الدولية بواسطتها تستميل الدولة الرؤساء والرؤساء قادة الشعب وسادته، فتصبح البلاد بواسطة هذه السياسة براحة وطاعة، راحة لا تُشكر ولا تُراد وطاعة لا تُحمد ولا تُحدُّ. إني أُفَضِّلُ الاضطراب والعذاب على هذه الراحة، إني أفضل الثورة على هذه الراحة الممقوتة، راحة الذل والخمول، راحة الجهل والعبودية.

وكانت قد اتخذت هذه الخطةُ الدولة الرومانية التي كانت تتساهل بوجود الأديان في الأجيال الأولى للمسيح. وقد وصف هذا التساهل المؤرخ الشهير غِبُنْ بكلام وجيزٍ مفيدٍ فصيحٍ، قال: «إن أنواع العبادات على اختلافها كانت سائدةً في العالم الروماني، وكان الشعب يعتقدها كلها صحيحةً والفلاسفة يعتقدونها كلها خرافية والحُكَّام رَأَوْهَا كلها نافعة مفيدة.» هذا كلامُ فيلسوف ومؤرخ مدقق، افتكروا به وهكذا انتشر التساهل وجلب على الشعب ليس فقط السلام والراحة بل الائتلاف الديني والجامعة المدنية، فالحاكم هنا رأى في الديانات المختلفة شيئًا مفيدًا، وقال في نفسه: فلندعهم يختلفون ما زال اختلافهم يسبب غبطتنا وسعادتنا، ويؤيد سلطتنا ويعظِّم شوكتنا، ويرفع مجدنا.

والدولة العثمانية تتساهل مع النصارى كي تبقيهم أذلاء شاكرين ولرؤسائهم مطيعين ولسلطتها خاضعين.

قد برهنتُ لكم كيف الدولة تتساهل مع النصارى، ولا أظن أحدًا منكم يشك في تساهل المسلمين معنا، ولكن عجبًا! كيف أن النصارى لا يتساهلون مع بعضهم؟ الأجانب يتساهلون معنا ونحن لا نتساهل مع بعضنا، ولا نخالط بعضنا، ولا نواري اختلافاتنا عند مصلحة أُمَّتِنَا، ولا نتناسى ضغائننا عند محبة وطننا ونجاحه.

ولربما قال بعض اللاهوتيين: كيف نتساهل مع من لا صحة لدينهم ولا حق في معتقدهم فأقول: إن التساهل مبنيٌّ على التناقض والخلاف في صحة من ادعى الصحة وبوحي من ادعى الوحي، ولو لم يكن ذلك لَمَا تساهلت الحكومةُ مع الطوائف المخالفة لمذهبها؛ لأنها الغاية القصوى من غايات الحكومة المتعددة هي أن تُحامي عن كل مبدأ صحيح وتكفل لكل رجل حرية القول والفعل إذ لم تمس حرية غيره.

فلو تأكدت الحكومة أن الدين الفلاني هو الدين الصحيح لَمَا كانت تساهلتْ مع بقية الأديان، ولا أَجَازَتْ ممارسة دين يخالف هذا الدين الصحيح إلا لغايةٍ سياسية كما ذَكَرْت، ولكن لَمَّا كان الخلاف سائدًا والتناقض شائعًا والحكومة المدنية تهتم بسياستنا، وكل من رؤساء الأديان يدعي صحة دينه ضاع صوابُ الشاعر في ضوضاء أقوالهم فأنشد قائلًا:

في اللاذقية ضجةٌ
ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق
وذا بمأذنة يصيح
كل يعظِّم دينه
يا ليت شعري ما الصحيح

الله لا يفضل أُمَّة على أُمَّة ولا طائفة على طائفة، الله لم يصطف له في الأرض شعبًا خاصًّا من حيث إنه ذريةٌ لها حق الانتماء إلى اختيار الله لها دون غيرها، وما يُقرأ في التوراة من تفضيل الإسرائيليين على غيرهم فلكون عبادة الأصنام والمنحوتات وسائر المخلوقات هي من خرافات الدين.

فلو تركها قومٌ من المغضوب عليهم كما في التوراة واستساروا بحسب الناموس الطبيعيِّ لكانوا كالإسرائيليين الذين استلموا الوصايا؛ إذ الوصايا العشر كلها طبيعية يفهم ضرورتها العقل المتنور ويغلط من يفهم اختيار الله للإسرائيليين أنه اختارهم ليعضدهم ويهديهم دون غيرهم، فلو كان هذا هو المفهوم لبقيت عجائبه فيهم بعد مجيء المسيح أيضًا.

ولكن عدل الله أرفع من أن يحصر خلاصه بذرية دون غيرها؛ ولذلك قال في الإنجيل الطاهر: اذهبوا وبَشِّرُوا كل الأُمَم، أن من سار حسب الشرائع الطبيعية فعَمِلَ الخير وابتعد عن الشر كما يرشده عقله ولم يتوصل إلى معرفة الدين الحقيقي فإنه لا يهلك؛ لأن الله رءوف ورأفته لا منتهى لها؛ ولذلك أقول مع محمد ما الناس إلا أُمَّة واحدة. هذه آية منزَّلة وهي عين الحكمة التي أوحاها الله لأوليائه، ما الناس إلا أُمَّة واحدة، افتكروا فيها، إنها لآيةٌ فلسفية سامية وما الدين التوحيديُّ إلا دينٌ واحدٌ، فكلنا نتحد يا رب، وكلنا نعبد إلهًا واحدًا.

قلت: إن التساهل مبنيٌّ على الخلاف وادعاءِ الحق اللذَيْن قد يكونان أوصلا الشبطيقيين إلى الشك في كل شيءٍ، فقالوا عن كل أمر: «لا ندري» وهم اللا أدرية المسخور بهم؛ لأنهم يقولون لا ندري عما هو حقيقةٌ مدركة لا لأنهم يقرون بقصورهم عن إدراك مسائلَ شتى وحقائق فوق العقل. ففي مثل هذه الحال تفتخر العلماء والحكماء بقولهم لا ندري جوابًا عن المسائل التي تَفوق مداركهم والكنوه الإلهية التي يعجز عن تحديدها العقلُ البشريُّ، فلم نتعصب ولم نستبدَّ ما زلنا نتذبذب من ضعفنا عن البحث في أُمُورٍ دينية كثيرة لم يصل إليها. العاقل من قال لا أدري جوابًا عن مسألة لا علم له بها، فقد برهن عن صحة عقله وسلامة ذوقه وحسن رأيه وعمق حكمته وثاقب فطنته.

وقول القائل: لا أدري كما قال العلَّامة الشيخ إبراهيمُ اليازجي خيرٌ من أن يُقال له أخطأت. وقد عُدَّ ذلك من جملة مآثر ذوي العلم وأدلة كماله فيهم، حتى إن السيوطي عقد بابًا في كتاب من مؤلفاته في من سُئل من العلماء عن شيء وقال: لا أدري. فذكر عِدَّةً من مشاهيرهم كالأصمعي وابن دريد والأخفش وأبي حاتم … وغيرهم من أهل هذه الطبقة. قال الزعفرانيُّ: كنت يومًا بحضرة أبي العباس الثعلب فسئل عن شيء فقال: لا أدري.

فقال له بعض من حضر: أتقول لا أدري وإليك تُضرب كبار الإبل وإليك الرحلة من كل بلد؟ فقال: لو كان لأمك تمر بقدر لا أدري لاستغنت، وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري. فقيل له: فبأي شيء تأخذ رزق السلطان؟ فقال: لأقول فيما لا أدري: لا أدري.

ويقرب من ذلك ما حكاه بعض علماء العصر من الفرنسيس قال: إن إحدى خواتين الأشراف تصدتْ يومًا لأحد مشاهير العلماء في مجلسٍ حافلٍ، فقالت له: أَمَطَرٌ يكون بعد الهلال أم صَحْوٌ؟ فقال: لا أدري. قالت: إذًا ما علة اتصال الغيث في هذا العام؟ قال: هذا مما لا نعلمه، قالت: أتظن سكان المشتري يكونون على خلقنا؟ قال: أيتها السيدة إني لا أعلم شيئًا عن ذلك. قالت: يا عجبًا فلِمَ يتبحر المرءُ في العلم إذًا؟ قال: ليقولَ أحيانًا إنني لا أعلم شيئًا.

فلنتساهل إذًا في الدين، إذ إننا لا ندري، والذي يدعي المعرفة هو هو الذي لا يدري بأنه لا يدري بل يخبط في الأُمُور خبط عشواء، فليبق كل على دينه إذا دله عقلُهُ على صحته بعد التنوُّر الكافي والترفُّع عن الأهواء ولا ينتظرنَّ أحدٌ رؤيةَ دين غير مستصوب بتمامه كما يَرَى الحقائق الرياضية والعلمية مثلًا مما هو مستصوب بتمامه.

ولتجمعنا الوطنية إذا فرقنا الدين والله لا يريد التفريق.

لا تأخذوا كلامي على غير مأخذه ولا تحملوه على غير محمله وتقذفوا عليَّ — لحق ظاهر — بكلمة فتقولوا: وا أسفاه! على من لا يعرف الدين الصحيح. فإن قلتم ذلك فأنا أنشد معكم قائلًا: أسفًا على العالم بأسره ما أكثر الضلال فيه، واصغوا إذا شئتم لأقص عليكم رؤيا رأيتُها ذات ليلة، وكنت قبل ذهابي إلى الفراش أترصد النجوم والكواكب وأستطلع طلعة البدر تحدجني السماء بعينها الزرقاء وأتأمل في ما رصعتْها به يدُ القدير من الدراري الزاهرة كالمصابيح الباهرة.

حدث لي ذلك لَمَّا كنت في جبل لبنان الجبل العزيز الذي كثرتْ فيه الخرافات وتعددت بين سكانه البسطاء المذاهب والديانات. الجبل الذي ترى فيه أكثر جهاته الشمامسة والكنائس والأديرة والقلانس، الجبل الذي ابتزت خيراته الكثيرة رؤساء الدين والدنيا وكثرت فيه خيرات الرهبانيات العديدة وضاعت بين كيس هذا وجراب ذاك، وملكت أرزاقه الرهبانيات العديدة الوطنية والأجنبية، وفي مقدمتها الرهبانية اليسوعية.

كنت في تلك الليلة أتأمل في الكواكب والبدر والثريا ودرب التبان التي تُدْعى أيضًا نهر المجرة، وقد شبهتها بدرب التساهل على الأرض؛ لأنها بيضاءُ نقيةٌ تسري بها النجوم في مناطقها لا تلتطم فهن مؤتلفات مفترقات لا تتساقط منها الشهب ولا تتنافر أجرامها في دورانها.

فلكثرة تأملي في الخالق والعزة الإلهية في تلك الليلة البهية حلمت بأني صعدت إلى السماء حيًّا في مركبة من نار، ولما دخلت تلك الجنة الإلهية التي يعجز عن وصفها بيان الإنسان رأيت هناك عرشًا مرتفعًا عظيمًا ينبهر النظر منه لشدة تألُّقه ولمعانه، ورأيت أمام ذلك العرش أربعة رجال منتصبين ممتثلين أمام الديَّان العظيم كل منهم يرشق الآخر بنظرة الغضب والبغض فسألت أحد الملائكة عنهم، فأجابني قائلًا: إن هؤلاء هم ممثلو أديان العالم في السماء فهذا سفيرُ المسيحية، وذاك سفير الإسلام، وهذا سفير البوذية، وذاك سفير اليهودية. فقلت: وماذا يبتغون من العزة الإلهية، فقال: قد أقلقوا راحة الملائكة وسكان هذه الديار بخصوماتهم واختلافاتهم المتواصلة وجاءوا الآن يستغيثون ربَّ السماوات والأرض، وبعد أن تشاغبوا وتشاكسوا وأوشك أن يفضي بهم الأمر إلى القتال نظر الديَّان العظيم إليهم برأفة وحنان وقال: كلكم يا أبنائي صادقون، كلكم صادقون.

قلت في بدء خطابي يجب علينا أن لا نُجيز ما لا يُستصوب بتمامه أن يفرق بيننا ويشتت شملنا ويقسمنا على أنفسنا كوننا أُمَّة ضعيفة صغيرة، نحتاج إلى التناصر والتعاون غاية الاحتياج. ولم أقل ذلك إلا بعد أن رأيت كيف أخذ الدين منا كل مأخذ فنخلطه بكل أشغالنا ونتخذه حجةً بكل أعمالنا فالتجارة عندنا تجارة دينية والجمعيات جمعيات دينية والنُّزُل (اللوكندات) نزل دينية والعتال عتال ديني … وقس على ذلك. وهذا الذي يبعث بنا إلى الانقسام الذي يسببه التعصب الديني الذميم.

فلنتناس الديانة في التجارة ولننبذ التجارة في الاجتماعات السياسية والأدبية ولنسجد لربنا ولنمجده (إذا كان لنا رب غير المال) مفترقين في المعابد والكنائس فقط؛ إذ إنها شيدت لهذه الغاية، وإني لأعجب من التناقض الذي يخالط أعمالنا وعقائدنا فمن وجه نقول: إن الدين هبط من وراء الغيوم، وهو مقدس. ومن وجه آخر نستخدم الدين لتنفيذ مآربنا الدنيئة فنسلب منه القداسة، وننزع عنه الاحترام بإدخالنا إياه الدوائر المدنية من تجارية وسياسية وأدبية.

هل أُوحي الدين ليقينا من الفاقة ويكفل لنا المسرة واللذة في هذا العالم؟

هل أُوحِيَ الدين لنتخذه عضدًا لنا بتحقيق أمانينا الدنيئة وابتغاء الأشياء الزمنية التي لا حَدَّ لها؟

هل أُوحِيَ الدين ليساعدنا على الجشع والطمع والتحامل على أبناء جنسنا والازدراء بهم؟

هل أُوحِيَ الدين ليكون سببًا أولًا للخصام والشقاق والقتال؟

هل أُوحِيَ الدين لتتسلح به فئة من الناس ضد فئة وتستخدمه كسيف تسله على كل من لا يُقِرُّ لها بالسلطة الوهمية؟

هل أُوحِيَ الدين لتأسيس الدواوين التفتيشية التي تألفت في رومية وإسبانيا، والتي أرعبت العالم بظلمها واستبدادها وجرائمها الفظيعة؟

هل وُجِدَ الدين لبعضهم وسيلة لإفساد الهيئة البشرية؟

هل وُجِدَ الدينُ كي يستخدمه الرؤساء آلةً نافعةً لتنفيذ مآربهم الخصوصية وغاياتهم الشخصية؟

هل وُجِدَ الدينُ كي يتعصب به خَدَمة الأديان ويستأثروا بالسلطة المسلوبة، فيظلموا العباد ويضطهدوا مَنْ خالفهم في الرأي، ويحتقروا مَنْ هو أعظمُ منهم علمًا وفلسفةً وعقلًا؟

هل وُجِدَ الدين كي نفسده ونصلحه ونغيره ونقلبه بطنًا لظهر؟ كلا ثم كلا ثم كلا.

لو نظر الله — عَزَّ وجَلَّ — كما ينظر البشر إلى نتيجة وحيه لَمَا كان تعذب وتنازل ليكلم موسى وعيسى ومحمدًا صلواته عليهم جميعًا، ولو نظر أيضًا إلى أن عاقبة الدين الذي أنزله ستكون الاضطهاد والطرد والحروب والشقاق والخصومة لكان أبقاه عنده في السماء ولكن الله … الله أعلم.

الدين إما مُوحًى وإما غير مُوحًى، إما مقدس وإما غير مقدس، فإذا كان مُوحًى ومقدسًا فلا يحق لنا أن نتخذه واسطةً لتحسين أشغالنا التجارية وتنفيذ غاياتنا الشخصية فنُلحق بأُمتنا الضرر الجسيم إذ إننا نكون حجر عثرة في سبيل الجامعة التي يجب أن تجمعنا كسوريين، ونحن بحاجة كلية إلى الجامعة الآن قلت وأقول ذلك مرارًا، وأما إذا كان الدين غير مُوحًى وغير مقدس فأرى من وجه الحكمة أن لا نتمسك إلا بالجيد منه وننبذ الباقي ظهريًّا نبذ النواة. ولكن الدين مُقَدَّسٌ؛ ولذلك يقدم له الشعب الاحترام ومنه ما قدسته العوائد التي مكنها الزمان وثبتتها الممارسة، وكفى بذلك قداسة تَفرض علينا الاحترام والتوقير والاعتبار.

لماذا إذًا نستخف بالدين ونتخذه كألعوبة نلتهي بها في الشوارع والحوانيت، نحن بإخراجنا الدين من الكنائس لغاية عالمية نرذله ونجدف عليه، ومن التعصب الممقوت أن نميز كل حانوت وكل بيت تجارة وكل إدارة أو كل جمعية بدين مخصوص، فنقول هذا التاجر مارونيٌّ وذاك الطبيب أرثوذكسي، وهذا الصحافي كاثوليكي … وما شاكل ذلك. ما هذه الحالة التي وصلنا إليها، أينقصنا شيء إلا أن نضيف إلى أسمائنا أسماء طوائفنا ونقول: زيد الماروني، وعمر الأرثوذكسي، ومحمد المسلم؟ فتشوا معي لأريكم كيف تنقسم تجارنا وجرائدنا ونزلنا وأطباؤنا وجمعياتنا، أولًا عندنا التجار المارونيون والتجار الأرثوذكسيون والتجار الكاثوليكيون والتجار البروتستانيون.

وأي من هؤلاء التجار المستقيمين يبيع سلعه وسبحه ودبابيسه لقديسينا المكرمين، أيتعامل التاجر الأرثوذكسي مع مار متري ومار نقولا، أيتعامل صديقنا الماروني مع أبينا مار مارون، وعندنا الجرائد المارونية والجرائد الكاثوليكية والجرائد الأرثوذكسية، وعندنا المطاعم المارونية والمطاعم الأرثوذكسية والمطاعم الكاثوليكية والمطاعم البروتستانية، وأي منهم نزل طعامها من السماء وهل يريد القديسون أن نمجدهم بالكبة والهريسة والمجدرة، وعندنا الجمعيات الخيرية المارونية والأرثوذكسية والكاثوليكية، وما ضرهم لو كانت كلها جمعية واحدة، جمعية خيرية سورية.

ونارٌ إن نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رماد
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا
ولكن لا حياة لمن تنادي

وهذه الحالة تعتور كل أعمالنا وأشغالنا وحرفنا.

متى تزول الشقاقات الدينية ويُداس التعصب تحت نعال المدنية؟

متى نؤلف جمعية التساهل، ونبني كنيسة التساهل، ونشيد مدرسة التساهل، ونؤسس جريدة التساهل، ونفتح محل التساهل ولوكندة التساهل، وتصير أعمالنا كلها تساهلًا بتساهل، أي: متى تشملنا هذه الحالة السعيدة؟

أنا الآن أقترح على أصحاب جريدتنا العربية في الثغر خصوصًا وفي العالم العربي عمومًا إذا كان صوتي هذا الضعيف يصل إليهم أن ينشروا على صفحات جرائدهم الغراء إعلانًا بأحرف ضخمة كبيرة عن التساهل الديني وأنه يعطى بلا ثمن. ومن أراد أن يقتنيه ويعمل به فليطرقْ باب ضميره، فهو البائع وهو الشاري، هو الواهب وهو الموهوب. ولو كنت ذا قدرة مالية لَنَشَرْتُ هذا الإعلان على نفقتي فيسدني الحسابَ اللهُ يوم الغنيمة، يوم لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا، فلنتساهلْ إذًا، فلننشر إعلان التساهل.

التساهل أيها الشيوخ الأجلاء، التساهل أيها الشبان الأدباء، التساهل أيها الصحافيون والأدباء، التساهل أيها التجار والرؤساء، التساهل أيها السوريون الأحباء، التساهل! لو كان لي ألف لسان ولو تكلمت من الآن إلى يوم الدين لَمَا عييت من تكرار وترديد هذه اللفظة العذبة السهلة اللطيفة، لفظة كرهتْها الأجيال المتوسطة وكلف بها الجيل التاسع عشر، لفظة عززتها الجمهورية في هذا الجيل، لفظة انفتحت لها قلوب المتمدنين المخلصين لأبناء جنسهم، وتأهلت بها الضمائر الحرة والعقول الصحيحة، لفظة طِيبُ شذاها يملأ الفضاء وذكاء عرفها ينعش الصدور، هي أحسن وأظرفُ وألطفُ وأبدعُ وأَمْتَنُ وأجمل وأرفع وأسهل لفظة وُجدت في معاجم اللغة.

التساهل هو أساس التمدن الحديث وحجر زاوية الجامعة المدنية، التساهل شدد عزم الأحرار فبرزت من عقولهم أسمى الأفكار.

التساهل أَوْجَدَ الترقي والتقدم في كل فروع العلم والدين والفلسفة.

التساهل أيد سلطة الضمير ومحق السلطة التي لم ينزل الله بها من سلطان.

التساهل أعطى كل امرئ حقه فتمتع به ومارسه بحرية واستقلال.

التساهل وضع حدًّا للاضطهادات الفظيعة وكسر السيف الذي استخدمته الدول لاستئصال شأفة من خالفها بالمذهب.

التساهل أطفأ بنَفَسه القويِّ النار التي أضرمها الإكليروس لحرب اليهود والكفار.

التساهل جعل كل رجلٍ صحيح العقل والجسم أهلًا للوظائف في الدولة وأهلًا للانتخاب.

التساهل قوَّض عرش التعصب وبدَّد جحافل الجور والعسف الدينية.

التساهل قال للكنيسة: أنت سلطانةٌ وقال للإنسان أيضًا: أنت بذاتك سلطان، وكلٌ له حدود، وأينما وجدت الحدود كانت الحقوق وأصبح الأمر خارجًا عنها ظلمًا والإنهاء جورًا.

التساهل هو اللين والرفق والمسامحة، وهو الحلم والسلام والحكمة.

التساهلُ يحسم الاختلاف ويمهِّد سبل الائتلاف.

التساهل يزيد الإنسان غبطة وسعادة ونجاحًا في الحياة الدنيا، ولا يضيره في الآخرة.

التساهل هو الطريق الوحيد الذي مِنْ تحته تجري الأنهار وعن يمينه ويساره الأشجار، طريق يدر لبنًا وعسلًا، طريقٌ مستوٍ مستقيم لا يميل بنا عن روض السماء.

التساهل هو الدواء لكل داء أدبي أو ديني أو سياسي أو علمي.

التساهل أصيلٌ لا تُنكره التوراة ولا الإنجيل ولا القرآن ولتأكيد ذلك نذكر بعض الآيات الإنجيلية والقرآنية.

«من لطمك على خدك الأيمن فحَوِّلْ له الأيسر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فدع له رداءك أيضًا، ومن سخرك ميلًا فسِرْ معه اثنين (مَتَّى ٦٥ و٤٠ و٤١) إن الله لا يُحابي بالوجوه، فكل رجل من أَيِّ أُمَّةٍ كان يصنع الخير ويكره الشر فهو مقبولٌ عند الله «بطرس.»

افعلوا بالغير ما تريدون أن يفعله الغير بكم أو كما قالها كنفوشيوس الذي عاش قبل المسيح بأربعمائة سنة «لا تفعلوا بالغير ما لا تريدون أن يفعله بكم»، وهذه الآية هي منزلة، هذه الآية الذهبية الفلسفية هي كل الدين وكل الأدب وكل الشريعة وكل العدل وكل الفضيلة.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة البقرة).

بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَه وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة هود).

من أسلم وجهه لله وهو محسن. ما قال: وهو ماروني أو أرثوذكسي أو مسيحي أو يهودي أو محمدي، قال: من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ما أجمل هذه الآية وما أشرف تلك الآية الذهبية التي مَرَّ ذِكْرُهَا، إِنَّ هاتين الآيتين عظيمتان الواحدة منهما من الإنجيل والثانية من القرآن، إنهما منزلتان ذهبيتان فلسفيتان، أني أبيعكم كل الكتب المقدسة بهاتين الآيتين.

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ (سورة المؤمنين) أليس هذا ضربًا من التساهل وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (سورة العنكبوت) أَيُشْتَمُّ من هذه الآية رائحة التعصب؟

التساهل إذن هو الناموس وهو الطريق وهو النور وهو معطي الحق وهو الحياة وهو روح الله. هو أول نجاح العمران وآخره هو الألف وهو الياء.

التساهل هو البابُ ومَنْ يدخل فيه لا يهلك فلندخل إذًا فلندخل! فلندخل! فلندخل!

١  خطبة أُلقيت في جمعية شمس البِرِّ، ببيروت في ١٩ آذار سنة ١٩٠٨.
٢  وهي خطبة «هنا وهناك وهنالك» التالية.
٣  وهي الخطبة التي أعددتُها لحفلة جمعية شمس البر السنوية في السنة الأخيرة من عهد عبد الحميد فرفضتها اللجنة خوفًا من المراقبة.
٤  ليطمئن أنبياء اليوم بالًا فإن صدق نبوءتي هذه لا يطمعني في أن أُنافسهم وقلما يدعي النبوءة من تصدق نُبُوءاته.
٥  ألقيت في حفلة من حفلات الدستور.
٦  وإذا ما رآني القانطون من الحال الحاضرة أردهم إلى المستقبل.
٧  وذنبي صغيرٌ بالنسبة إلى ذُنُوب الشعراء في هذا المقام. ثلاثُ تسليمات يغفرها الله ولكن الثلاث ماية قصيدة … سبحان من لا تخدعه الحوادث. سبحان العالم بذات الصدور وبخفايا الدستور.
٨  وما كنت أظن أنها تسرع بالحساب هذا الإسراع.
٩  حصان قيل إن الإمبراطور منحه لقبًا وكان يعيده.
١٠  طيلسان ابن حرب مثل جبة ديوجين كان كثير الفتوق والرقع.
١١  ألقيت في حفلة جمعية تهذيب الشبيبة السورية في المدرسة الكلية ببيروت.
١٢  خطبت في الحفلة التي أقامتها جمعية طلبة العلم العثمانيين في ٧ أيار سنة ١٩٠٩ في المرسح الجديد ببيروت.
١٣  خطبة ألقيت في حفلة جمعية الخدمة الوطنية بصيدا في ١١ آذار سنة ١٩١٠.
١٤  العضارط الخادم على طعام بطنه والأجير واللئيم.
١٥  الدهقان «معربة» رئيس الإقليم.
١٦  لَهْوَجَ الأمرَ: لم يبرمه. والشواءَ: لم ينضجه.
١٧  لهوق العمل: لم يحسنه.
١٨  الزِّرزار البطرك «أعجمية.»
١٩  جاء الرجل سَبَهللًا، أي: مختالًا وغير مكترث.
٢٠  سبهل: بطال كسل.
٢١  جمَّش: غازل.
٢٢  العجنجرة من النساء: الخفيفة الروح.
٢٣  الجارية الرعبوب: الحسنة الرطبة الحلوة الناعمة.
٢٤  سمد الرجل: رفع رأسه تكبُّرًا.
٢٥  تبهنس: تبختر.
٢٦  مَخْشَلَب: خرزٌ من الزجاج.
٢٧  الصفريت: الفقير.
٢٨  اشمخر: طال، والمشمخر من الجبال العالي.
٢٩  العِلق: النفيس من كل شيء.
٣٠  الخِرِّيت: الدليلُ الحاذقُ الذي يهتدي إلى آخرات — أي: مضايق — المفاوز وطرقها الخفية.
٣١  الخَيْدَع: من يوثق بمودته.
٣٢  استذرى بفلان: التجأ إليه وصار في كنفه.
٣٣  سجيل: وادٍ في جهنم. والمُحطمة: بابٌ فيها.
٣٤  الغطريف: السيد الشريف.
٣٥  تَنَطَّعَ في الكلام وتعمق وغالى وتأنق.
٣٦  المخرنبق المطرق الرصين.
٣٧  دفطس: أضاع.
٣٨  الجُؤْجُؤُ: الصدر. وهذه عشرون وخمس فعلات لغويات، أستغفر الله منها.
٣٩  خطبة ألقيت في مرسح زهرة سوريا ببيروت أول ليلة فيها مثلت رواية هملت.
٤٠  ألقيت أثناء تمثيل رواية السجناء أو عبد الحميد في الأتيني للمرة الأولى في المرسح الجديد ببيروت سنة ١٩٠٩.
٤١  من خطبة في الشعب وزعمائه.
٤٢  خطبة أُلقيت في جمعية الاجتهاد الروحي في برمانا لبنان في ١٤ أيار سنة ١٩١٠.
٤٣  كل عقيدةٍ وكل مذهب وكل تعليم لا تعتبر صحته عند جميع الناس والشعوب فهو غيرُ مستصوَب بتمامه وإن كان صوابًا. الديانة المسيحية مثلًا هي غير مستصوبة بتمامها ليس عند الشعوب الغير المسيحيين فقط، بل عند المسيحيين أنفسهم فالمسيحيُّ البروتستاني لا يستصوب المذهب الكاثوليكي بتمامه والعكس بالعكس وذات الحالة تعتور الشيع البروتستانية العديدة.
والدين الإسلامي هو غير مستصوب بتمامه عند كل الناس حتى عند المسلمين نفوسهم؛ فإن منهم الشيعيين والسنيين والصوفيين والمعتزلة والمجسِّمين وغيرهم من الشيع المتعددة، وكل من هذه الشيع لا تستصوب تعاليم الأُخرى بتمامها، ولا يستصوب بتمامه إلا الحقائق الراهنة التي لا ينكر صحتها أحد على الأرض وهي ما كانت من طوق إدراك العقل لها.
فناموس الجاذبية مثلًا هو مستصوب بتمامه عند كل من عرفه واثنان واثنان تساوي أربعة لا يُنكر أحدٌ صحتها، ولا يوجد رجلٌ على البسيطة له مَلَكَةٌ من العقل يقول لك ٢ و٢ = ٣ ولو قلنا: الخطان المتساويان لا يتحدان مهما أَدَمْت مدهما فهو تعليم يقر بصحته كل من درس الهندسة أو تمعن قليلًا في القضية. هذي هي الحقائق الراهنة، حقائقُ رياضيةٌ قاطعة لا يُنكرها أحدٌ وهي تُستصوب بتمامها، والشيء الذي يُستصوب بتمامه لا لزوم للتساهل به؛ لأن كل الناس تتآلف وتتفق بخصوصه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤