روح اللغة

إن لِلُّغة جسمًا لا ينمو إلا بالغذاء الجديد، وإن لها روحًا لا يعلو أدبٌ عليها ولا يدوم أدب دونها، ولكن الأجسام عرضة للأسقام، وآراء الناس في الأرواح لا تخلو من الأوهام. فاللغة إذًا تحتاج إلى رجل الدين حينًا، ورجل الطب أحيانًا، أما إمامها فهو شاعرها، وأما طبيبها فهو أديبها، وما العمل إذا مرض الأديب وعجز الشاعر؟ العياذ بالله، وبما هو صحيح من روح اللغة، العياذ بمن يرى الصحيح فيستخدمه ليداوي ما اعتل فيها فيجدد قواها ويفسح لها من الحياة أجلًا زاهرًا. اقطع الغصن اليابس ولقِّح الغصن الطري، تسلم الشجرة فتنمو وتزهر، كذلك فعل دنته في اللغة الطليانية، وشكسبير في اللغة الإنكليزية، وفكتور هوغو في اللغة الفرنسية،١ ولا ريب أن في سوريا ومصر اليوم من يحاولون شعرًا ونثرًا — وإن عُدَّ إحسانهم قليلًا — تجديد حياة اللغة العربية وتوسيع نطاقها لفظًا وبيانًا.

إني ممن يتعشقون هذه اللغة الشريفة، وإذا كانت الإنكليزية تسابقها أحيانًا إلى خيالي، وتجلس مكانها في معقولي، فهي لا تزال على لساني، وفي قلبي، وطي أحلامي، ليعذر مني القارئ هذا الإفصاح؛ فمن العادي الفطري أن يحب المرء لغة أجداده، ولكن لحبي غير الفطرة تؤيده وتحميه، فهو ناشئ عن إعجابي العظيم بالجميل الخالد من الآداب العربية، وما هو بالقليل إذا قسناه بغيره من مثله في لغات الأجانب.

لا يلمني القارئ إذًا في تقديم العاطفة على البحث والبرهان، بل لا يلمني إذا جاءت كلمتي في روح اللغة أقربَ إلى شواذِّ البحث منها إلى أُصوله، فهي كلمةُ عاشق، هَزَّني إليها صديق لي قديم سمعت حديثه أمس في دار الكتب العمومية، سمعته في نيويرك وهو في بيروت، وها أني أسرع إلى إزالة العجب: كنت مارًّا في شارع هذه المدينة الكبيرة، وكانت ساعة ليس لسواي حقٌّ بها، فدخلت المكتبة وسرت إلى الدائرة الشرقية منها فوقع نظري هناك على مجلة الهلال وفيها مقال ممتع للأستاذ جبر ضومط في اللغة العربية، فطالعته شيقًا إلى استماع حديث هذا الصديق الفاضل في موضوع هو ابن بجدته — كما يقال — أو بالحري هو محيط محيطه، وقد راقني منه خصوصًا تعداد محاسن اللغة العربية والمقارنة بين آدابها وآداب سواها من اللغات، ثم استشهاده حتى علماء الإفرنج في ما لا يحتاج عندي إلى غير برهانه أحسنت يا صديقي الأستاذ، أحسنت، ولكنك في ذكرك إياي وسؤالك استهويت واستزللت، فإني بين اللغتين مثلي بين معشوقتين لا أدري — والله — أيتهما أجمل ولا إلى أيتهما أنا أَمْيَل.

على أني قرأت صفحة في جمال الاثنتين، وألممت بما في الهامش من شرح الغامض ناهيك بغموض الشرح، فكان حظي من بعض الأسرار يسيرًا، إلا أن من ذا اليسير ما يعد في عرف العارفين كثيرًا، كيف لا «وبضدها تتبين الأشياء!» فالورد في الأحراج أجمل منه في البساتين، وحسنات آداب اللغة في الجاهلية — على قِلَّتها — أبهى منها قياسًا في حضارة هذا الزمان، وذلك لأن دائرة نورهم تلألأت في الظلام، ودوائر نورنا تكاد تختفي في الكبيرة البهية من الأنوار. ما العمل؟ ومن الملوم؟ إن لا فضل لنا إذا كنا نرضى أن نكون مثل من نظموا ونثروا في الجاهلية وفي صدر الإسلام، بل نحن الملومون إذا كان نورنا اليوم لا يشع بين أنوار الأُمَم المتمدنة فترنو إليه الأبصار مدهوشة مستهدية.

•••

من جميل ما قلت يا صديقي الفاضل: إن رُقِيَّ اللغة في رقي أبنائها المشتغلين بها. هذه حقيقة كبيرة أستأذنك بتقديم أختها الصغيرة، وهي: إن رقي اللغة لفي الخروج على السمج العقيم من مألوفها مع المحافظة على روحها. ولكن الخارجين من الكتاب اليوم — على المألوف وعلى الروح معًا — كثيرون، فيخيل إليك وأنت تطالع ما ينشرون أنك تقرأ لغة أجنبية في ألفاظ عربية، ولكني أفضل هذا الإنشاء — وفيه من غرابة وركاكة ما فيه — على إنشاء عربي لا غبار على «سيبوياته» وقد أخذت معانيه كلها ومبانيه من «الفرائد الدرية» وغيره من «المحنطات» اللغوية.

وعندي أن ضرر مثل هذه الكتب أشد من ضرر لغات الأجانب في من لا يحسنون من الكتاب حتى الترجمة، بل لا يحسنون حتى التقليد، وأننا إذا علمنا التلميذ أن يقول كتابة «تمشى الأمير» مثلًا فيكتب «تحركت ركابه» أو «أخفق المرء سعيًا» فيكتب «عاد بخفي حنين»، أو «نكث عهده» فيدهشنا ببلاغة «قلب له ظهر المجن» وغيرها من ثمار البيان الشبيهة بثمار صدوم، فإننا نعلمه حديثًا لا يفهمه أبناء زمانه، وإن فهموه فلا يهمهم، ولا يفيد. إن في مثل هذا القديم بل هذا التقليد جمودُ اللغة وعقمها، وكلنا نعلم ما يتبع الجمود والعقم.

أجل أستاذي، إن رقي اللغة في نموها الدائم، والنمو في الحياة، والحياة في ما نألف اليوم ونكتشف غدًا، والاكتشاف في الفكرة والنظرة والإرادة، والفكر والنظر والإرادة لا تدوم عاملةً بغير الحكمة، والحكمة في أن نَخبر المألوف فنتجاوزه إلى سواه،٢ من الحسن، أن أُلم بشيء من شوارد اللغة، وأحسن من ذلك أن أفهم إذا استطعت٣ أصول الشوارد، فأنتفع بالأسباب إذا كانت شاملة، وقد أتخذ من القوالب ما ترتاح إليه وفيه، أفكاري، ولَعمري إن أوضاع اللغة، لا أساليب أرباب الإنشاء فيها، خير ما يتعلم التلميذ ويقتبس الكاتب العصري، ولا بد له — إذا ذاك — إذا تفرد في ذكائه، أنْ يتفرد في أُسلوبه فينبذ السمج والعقيم من مألوف الأوضاع، ويعود إلى لوح الوجود وإلى حاضر الأُمَّة في حياتها الجارية فيتخذ من الاثنين مادة لبيانه، إنه ليجد في الاثنين غذاءً طيبًا جديدًا لأسلوبه ولأفكاره، لمجازه أيضًا وخياله.

على رأسي امرؤ القيس والمتنبي، على رأسي ابن خلدون والغزالي، ولكن في رأسي عينين تريانني أرضًا رحبة إلى جانبي الطريق التي سلكوها، ومن الحكمة إذا سرت في الحقول مستكشفًا مستوحيًا، أو متنزهًا، أن أُراقب من حين إلى حين منعطفات الطريق فلا أهجرها تمامًا، ولا أسلكها عماوةً، وهذا ما أَعنيه في نبذ المألوف والمحافظة على روح اللغة.

•••

كان يوم وكانت «الفرائد الدرية» لي بستانًا، و«نهج البلاغة» ميزانًا، و«المقامات» ديوانًا وخوانًا وإني لأذكر أول مرة فتحت القاموس فوقع نظري في حرف الخاء على مادة خرج فقلت: وسفر الخروج، نقرؤه في المروج، على أنه حدث قبل ذلك حادث استقام فيه نوعًا أمرنا، أمر هذه اللغة وأمري. (ولا بأس بالإشارة هنا إلى ما قد لا يشير إليه سواي إلا معتذرًا فمن حسناتي — كثرت أو قلَّت — أني حكيم في ما لا يهم الناس في الأقل ولا يضر بالكون، وهي حكمة لا يجوز التواضع عندها، ولا التفاخر بها، إني ذاكرها فقط وفي رأس الطير ورأس الحية أيضًا ما ينسيهما الدنيا في ما هما فيه مباشرةً.)

عندما أزمعت إذًا هجر ما أَلِفْته من ضروب الإحسان، في البلاغة والبيان، أقمت والقاموس سنة، عددتها من أيام أهل الجنة، فنسيت في خزعبلات اللغة خزعبلات الحياة كلها، وأعذب الخزعبلات أبعدها من الأصول، ومن المعقول، فما القاموس — على رأي الشدياق — بكابوس، ولا هو تاج العروس، القاموس مستودَع قمح فيه من الزوان والحصى والتراب شيء كثير، وقد تزودت من بعد الغربلة «أنا على سفر لا بد من زاد» ما قد لا يكفي في نظر علماء الأزهر ابن أسبوع في الكتاب الكريم، ولكن القناعة كنز لا يفنى، وما كلف الله نفسًا فوق طاقتها — إن في الأمثال وفي الكتاب تعزية للكتاب والحق يقال إن خلاصيَ منوط غالبًا بالاقتصاد، وكثيرًا ما ألجم قريحتي فنسير الهوينا في الموعرات، أو أستوقفها فنجلس نستريح في ظل السكوت ونعيمه، فيشكرنا إذ ذاك القارئ، وتشكرنا كذلك اللغة.٤

لست في المفردات الشدياق، ولست في الأوضاع اليازجي، ولا أنا من الطامعين بمثل هذا الغنى، ولكني أعلم أن للألفاظ — مثل ما للغة — من التاريخ والتطور ما يفيد اللغوي معرفته، وقد يستفيد من الإلمام به بعض الكتاب، وأعلم أيضًا أن مزية الألفاظ إنما هي فيها، قائمة بنفسها، وقلما تزيدها لدى الشاعر، صقلًا أو خشنًا، المعرفة بأصلها وشأن تطورها.

ها هي أمامك في القاموس، اضرب صفحًا عما فيه من الوحشيات والخنفشاريات، من المستهجن والعقيم والبذيء (حبذا قاموس مجرد منها) وقس الألفاظ بما عندك من حسن سمع وحسن ذوق، وحسن نظر٥ فإن للألفاظ ما سوى الرنة والوزن بل الموسيقى والشكل؛ ألوانًا أيضًا وروائح في ما دَقَّ وشَفَّ وتماوج وفاح من معانيها.

أجل إن من الألفاظ ما تعد من الأحياء، لها من مرونة البان، وصلابة السنديان، وسلاسة الماء الجاري، وشذا الرياحين وزمزمة الرعود، وصفير البلابل، وهمس النسيم، وإيماء الألوان ما يجعلها لَدَى الكاتب كنزًا في الإنشاء والإبداع. اللهم إذا كان يعرف حب الآس من حب البلان، أو القمح في الأقل من الزوان، فلا يتزود من القاموس دون غربلة، ولا يغرف جشعًا وجزافًا من كتب اللغة.

ليس الكاتب النابغة من كان يبدعيًّا فقط (اللفظة للأستاذ ضومط) بل من كان أيضًا حسن الذوق في الفنون الجميلة كلها، في الغناء والموسيقى والشعر والنحت والتصوير، فيستعمل الألفاظ كما يستعمل العواد الأوتار، وينظم المعاني كما ينظم الرسام الألوان، ويبني جُمَلَه مقالًا كما يبني النحات نصبًا أو تمثالًا، ويمزج أدبه وعلمه وخياله كما يمزج صانع العطور عطوره، فتجيء فيها روح الفنون كلها، أي التناسب والتوازن والتباين في التشابه، خلا الإبداع نظرًا وفكرًا وأسلوبًا، وهذا لعمري الجمال بعينه، بل هذا شيء من الكمال في الآداب.

واللغة العربية تُمكِّن الكاتب الذي يتعشَّقها، فيجهد النفس في افتهام بعض أسرارها، من الكثير من ذا الجمال كما برهن عن ذلك الأستاذ ضومط. بل في اللغة ذاتها براهين لا تعد، وحجج لا تُرد، وقد تجسمت في من تجلت لهم روحها السامية من الشعراء والعلماء. كان أبو الطيب، فجاء الشعر منه في أوج الصناعة، فإن في أنيق مبانيه، وجديد معانيه، وجزل ألفاظه حقيقةَ ما قلت. وهو في مقدمة من أحاطوا علمًا بكل ما في الألفاظ من أسرار المعاني وأظلالها وتموُّجاتها فكان — في اختيارها — موسيقيًّا، ورسامًا، وعطارًا، ونحاتًا معًا.

وكان أبو العلاء، فجاءت فلسفته الشعرية، وفيها من أصالة الرأي، ودقيق النظر، ورقيق الشعور، وغور الخيال، وحرية الفكر، ما جعل المستشرقين يقولون: إنه وُجد ألف سنة قبل أوانه. وكان الفارض، فقال لهذه اللغة الشريفة: أريد منك مادة ذهبية لأسرار إلهية، أريد جلبابًا هفافًا لكيان خفي علي، أريد أن أبني بناءً فخمًا لربة الحب والرؤيا، فقالت اللغة: لبيك! فنظم تلك القصائد الفريدة في لبها المنقطعة النظير حتى في الدواوين الإنكليزية والفرنسية التي أعرفها.

•••

وهل أنا أنقض ههنا ما قلته في فن الإنشاء؟ عفوًا أيها القارئ … إذا كان لي أن أتطال إلى الجوزاء فأين لي أن أصلها؟ ولا تلوم البصيرة اليد في هذا العجز، ولا اليد البصيرة، على أن الشوق حسنة من حسنات الطالبين ولا حد له عندهم. وإني حتى في حبي هذه اللغة طالبٌ، متصوف، فتعذرني، ويعذرني المقربون منها، إذا سرت حول بستانها هائمًا، وقد طالما ظننت الجدار الوهاج نهجًا أو ستارًا، فسقطت مرات عنده كذبابة تحاول الدخول من شباك زجاج مقفل. على أني تسلقت الجدار مرة؛ لجهلي مكان الباب منه، ولشدة ابتهاجي مما شاهدت سقطت في عليقة تحتي.

وسرت زمنًا بين العليق والرياحين، في جادة تنتهي عند كل خطوة من خطواتي، أزرع ما قد لا يليق إذا نوَّر، بعرش اللغة، زينة أو تقدمة، ولكني أؤمل أن ثباتي في ما هويت وقاسيت يجعلني — في الأقل — من المقربين. فها يدي ولم تزل دامية وثوبي ولم يزل مزقًا، ويشهد عليَّ سيبويه أني ما آثرت يومًا ثمرة طيبة في بساتين الغرباء على زهرة اللهم ذات أريج في بستانه، لا واللهِ حتى ولا على عنقود جميل اللون والشكل من عُلَّيْق علمه — رحمه الله.٦

وهل أدناني هذا من روح اللغة؟ لا أنكر أنه استمالني وشَوَّقَني، وعلمني — فوق ذلك — السلامَ عند اللقاء، على أني — والحق يقال — ما رأيت غير أظلال وبعض أشعة من روحها في كتب النحو والبيان، وفي القاموس اقتفيت أثرها ولم أظفر بها، وفي دواوين الشعر ورسائل المترسلين، وقفت مرات عند هياكل لها فارغة، وقد تبقَّى عليها من الطيب، ونثر الأزاهر الذابلة، وسائل الشموع، ما يثير حتى في الوثني الشوق والتوقى. وبكلمة بسيطة: إن في كتب اللغة يا صديقي أدلاء فقط، وهم — وإن تعددت آراؤهم في «حتى» وسخافات شتى — يشيرون إجماعًا إلى الحقيقة الكبرى، وهي: أن روح اللغة في تطورها.

فها مثلًا أبو العلاء: إن طريقته في النظم غير طريقة أصحاب «المعلقات» قبله وأصحاب «الموشحات» بعده، وإن أُسلوب البهاء زهير لَغير أسلوب سمية بن سلمى، والمتنبي في بعض الاصطلاحات والأوضاع غير ابن زيدون فيها، وكفى بالقارئ أن يعود إلى ما هو معلوم من أطوار الشعر العربي فيبدو له من الفرق بين الجاهلين مثلًا والمولدين ما لا يحتاج إلى برهان.

إن روح اللغة كامنة أيضًا في عادات أبنائها — أبناء حاضرها وماضيها — وأخلاقهم وتقاليدهم واصطلاحاتهم العامة. والكاتب العصري من درس هذه العادات والاصطلاحات واتخذ منها مادة — أو في الأقل — دليلًا لإنشائه، فيجيء وفيه من المعاني والمباني ما هو جلي، حي، وقريب من أفهام أبناء زمانه. ومن الخطأ أن يُظن أن كل ما جاء به عرب الجزيرة إنما هو منتهى الفصاحة والبلاغة، وأن استعاراتهم كلها جميلة في كل مكان وزمان. ومن الوهم أن نتصور في الماضي رب العصمة والكمال، كما أنه من الوهم أن نحصر نبوغ زماننا في إحسان لغة مضر وقحطان، أو في الخروج عليها.

إني من الخوارج، ولكني أحترم من الماضي ما كان موافقًا الحاضرَ ومفيدًا له، أو ما كان فيه — في الأقل — حقيقةً ثابتة، أو جمالًا لا يغيره الزمان ولا ينكره المكان. ولست أرى شيئًا من هذا في كثير مما ألفناه، فلا فائدة في أن نضع لسان قحطان في فم المصري، أو لسان حمير في فم الشامي، فينطقون بحرف اللغة ويعبثون بروحها، بل جل الفائدة في أن نتعلم أن نقتبس روح اللغة ونتشربها مما لدينا من نفيس آدابها وأوضاعها الجميلة، ومما هو حيٌّ مثمرٌ من عادات أبنائها وتقاليدهم.

ولا شك أن اللغة العربية حافلةٌ بالألفاظ والأوضاع التي تمكِّن من الإفصاح عن أدقِّ الأفكار، وأرقِّ العواطف، وأبعد التصورات، ولكنها تقصر عند الغريب الجديد من مظاهر الحياة في هذا الزمان، لذلك هي تحتاج إلى مجمع علمي٧ يُدخل إليها بعض الألفاظ الفنية والعلمية الحديثة، ويجيز بعض الاصطلاحات العامة، كما فعل في الماضي العلماء في بغداد وفي قرطبة، وهذه من ضرورات الحياة لكل لغة من لغات الدنيا.
هل أجبت في هذه الجولة سؤال الأستاذ ضومط؟ ولا بأس — مهما كان من نتيجة ما قلت — بكلمة أُخرى فيها زيادة إيضاح، نعم، قد كتبت في اللغة الإنكليزية أصف جمال الطبيعة في بلادنا كما كتبت في العربية٨ ولا يختلف أسلوبي في اللغتين إلا في النظر إلى الموضوع من الوجهة التي تُفهم ولا تستغرب تمامًا، وفي بعض الاستعارات والآراء الاجتماعية التي تتخلل ما أكتب؛ فلكل لغة — كما قلت — روحٌ يجتهد الطامع بشيء من شرف التأليف أن يملك بعضها، فتستملكه إذا فاز وتهديه. وفي هذا الفقير إلى رحمة شكسبير والمعري روحان قضت بهما الولادة والهجرة، فإذا كتبت في الإنكليزية أفكر غالبًا وأُعبِّر عن فكري على طريقة الإنكليز، فلا أقول مثلًا: «خيَّم الليل على المدينة» وأهل هذه اللغة من غير أهل الخيام٩ ولا أكتب باللغة العربية: «هَزَّ يَدَه» لعلمي أن هز اليد عندنا لا يفيد المصافحة، وهذا مثل واحد من أمثال لا حاجة إلى تعدادها.
إلا أني أُشير إشارةً إلى الفرق الأكبر بين لغتنا ولغتهم، وهو أننا ننظر إلى الأشياء غالبًا من خلال المحسوس فتندرُ الحقائق المجردة في استعاراتنا. كأننا لا نفقه المعاني إلا إذا صُوِّرت أمامنا فتدركها الحواسُّ منا قبل أن يدركها العقل، وهم ينظرون إلى الأشياء غالبًا من خلال المعقول فتندر الاستعارات في حقائقهم المجردة١٠ والنادر دائمًا عزيز، لذلك ترانا اليوم نُجلُّ الفكر فوق كل إجلال في التأليف، فنُبالغ أحيانًا في التجريد، وهم — رغم مدنيتهم المادية العملية — يرغبون في شيء من الخيال ويرتاحون — بالأخص — إلى الاستعارات الشرقية، أو ما استطاعوا رده منها إلى لوح الوجود العام فيفهمونه.

أما الاستعارات المنوطة بمظاهر الأخلاق في الأُمَّة وبعاداتها وتقاليدها فلا يفهمها غالبًا غير أبنائها، ولا تروق سواهم، والترجمة الحرفية من لغة إلى أُخرى سمجة مستهجنة. وأسمجُ منها التقليد في المحسوس دون المعقول، في الحرف دون المعنى. هذا المتنبي مثلًا — وله بين الشعراء عندنا المقام الأول — فلو ترجمنا بعض غلوه في مدح سيف الدولة الذي لا تغيب الشمس إلا بإذن منه، ولا غرو فهو رب الأفلاك وقاهر النجوم؛ لضحكت من ترهاتنا الأُمَم.

وقد زعموا أن النجوم خوالد
ولو حاربته ناح فيها الثواكلُ
(شيء محزن!)
فما كان أدناها له لو أرادها
وألطفها لو أنه المتناول
(شيء مضحك جدًّا!)

بيد أن مِنْ غُلُوِّه ما لا يُبكي ولا يُضحك، بل من غلوه ما هو جميل ومؤثر جدًّا؛ لأنه مبني على حقيقة في الحياة يَخبرها كل من تعددت أحزانهم فلا يبالون بالجديد منها، ولا أظن أن شكسبير أو ملتن أو هوميروس أَبْدَعَ في وصف هذه الحال من حالات النفس إبداعَ المتنبي إذ قال:

رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال

على أن شكسبير لا يستعير في هذا المعنى النبال للغشاء، ومع أن ما يسمونه في الإنجليزية المجاز المتباين يكثر في شعره فهو يتحرى غالبًا التناسب، فلا ينسج غشاء من الحراب أو من مادة صلبة. وشعراء الإفرنج أكثر تناسبًا، وأقل غلوًّا، وأقرب معقولًا في استعاراتهم وتصوراتهم منا، إلا إذا جاءت في باب المجون والهزل، أما نحن فنجدُّ حتى في «محاربة النجوم».

•••

وليست هذه أكبر عيوبنا اللغوية، قلت في بدء كلامي إني أَتَعَشَّق هذه اللغة، فلي فيها إذًا أمانٍ يجوز الإفصاح عنها، وأمانيَّ الآن ثلاثٌ لا غير، قد ذكرت القاموس، ونبهت إلى الألفاظ الفنية، وأشرت إلى أبي العلاء، فمن أمانيَّ إذًا:
  • أولًا: أن يُعاد تأسيسُ مجمع علمي؛ لينظر في ما تحتاج إليه اللغة من الألفاظ الجديدة الفنية والعلمية، فيجيزها بعد إعرابها وينشرها.
  • ثانيًا: أن يطبع المجمع العلمي أو إحدى شركات الطبع قاموسًا عصريًّا مجردًا من الألفاظ الوحشية والمترادفات البدوية والأمثال التي لا تنطبق على حياتنا اليوم، قاموسًا مجردًا بالأخص من المواد البذيئة كلها، ولا أريد بهذه إسقاط ما قد يتبادر إلى الذهن من المفردات الجنسية، بل أريد — وكل من لجأ إلى القاموس من الكتاب يعلم ما أريد … هل تخلو صفحة منها؟ وكم من مادة لا تبدأ إلا بها؟ أَوَما حان لنا أن نعفو تلك «الناقة» وتلك «الجارية» المسكينة من الخدمة في القاموس؟ عار واللهِ علينا — وآداب لغتنا تعد من آداب العالم الخالدة — أن تظل قواميسنا حافلة بالوحشيات والبذاءات، وها أننا بدأنا نشعر بوجوب تعليم البنات وتهذيبهن، والمدارس المختصة بهن تزداد عددًا يومًا فيومًا، فهل بين قواميس اللغة ما يليق أن يستعملنه في دروسهن، أَوَلا يحيط الكاتب علمًا باللغة إلا إذا حفظ الأمثال المضروبة بالناقة والجارية كلها؟ إن أُمنيتي الكبرى أن أرى قبل أن أموت قاموسًا عربيًّا عصريًّا نظيفًا.
  • ثالث أمانيَّ: أن ينشر أحد الطابعين منتخبات من لزوميات المعري؛ لأن فرائده الشعرية، ودرر فلسفته العقلية، تضيع في الكثير مما تكلفه من الترهات اللغوية، ومما تنحصر أهميته في أحوال زمانه، لذلك يقل من يطالعون اللزوميات، ويكثير من لا يقرنون المعري بغير الكفريات، فلو اخترنا من المجلدين الضخمين ألف بيت مثلًا ونشرناها في كتاب جميل، لَمَكَنَّا الكثير من العلم بشعره علمًا لا ينحصر ﺑ «غير مُجْدٍ في مِلَّتِي واعتقادي.»

و«في اللاذقية ضجة» بل يتجاوزها إلى بليغ حكمته، وسمو فلسفته، وجميل أدبه، ولا يظن أني أريد مجرد ما تدعى منها بالكفريات، لا والله، بل أريد مثل هذه الأبيات:

فلتفعل النفس الجميل لأنه
خير وأحسن لا لأجل ثوابا
والغيث أهنأه الذي
يهمس وليس له رعود
أرى اللب مرآة اللبيب فمن يكن
مرائيه الإخوان يصدق ويكذب
فشاور العقل واترك غيره هدرا
فالعقل خير مشير ضمه النادي

ومثلها كثيرٌ من الحقائق والحِكَم التي لم ينطق بها نوابغُ الإفرنج ولا أَلِفَها الأُوروبيون إلا بعد ألف سنة من زمن كانت معرة النعمان فيه كعبةَ الأدب والشعر والعلم، وكان أبي العلاء رَبَّها «الضرير» البصير!

١  وما هؤلاء بلغويين، ولكن اللغوي يتبع الشاعر فينقح كتب اللغة لتشمل ما في جديده لفظًا ومعنًى من الجميل الجلي البليغ.
٢  المحافظة الدائمة على المألوف تليق بمعلم الأولاد والبقال لا بالشاعر وطالب الكمال.
٣  كثيرًا ما وقفت في هذا الباب، وديببت، وعدت نادمًا على خطاياي.
٤  من الزملاء الأذكياء المحافظين على روح اللغة والخارجين عليها مَنْ لا يدركون الحكمة في أظلال الحياة وفي السكوت، وهم يظنون حتى الحجارة إلى جانب الطريق مسرحًا يرقصون عليه أو يخطبون، فيسقطون وا أسفاه! في الأدغال اللُّغوية أو الخيالية، ويهولون لنا منها بأغصان من الطيون والعليق يظنونها آسًا ووزالًا. ربة الوحي زوريهم مرة! ربة الفكر لا تهجريهم إلى الأبد!
٥  ما أقبح ذوقهم مثلًا في قولهم عجنجرة — أي: امرأة خفيفة الروح. وعلطميس — أي: جارية حسنة القوام. وما أجمل وصفهم ما رق وشف من الثياب بالمهلهلة والهفافة، أما: وعجنجرة في قميص هفاف! أعوذ بالله منها!
٦  أنصح الطالب والكاتب الجديد أن لا يغتر بطريقتي فيسلكها، إلا إذا كان عظمه صلبًا والإرادة منه أصلب، أو فليدخل البستان من البوابة عن يد أستاذ عصري.
٧  كتبت هذه المقالة قبل أن تأسس المجمع العلمي بدمشق الشام.
٨  ليطالع من هَمَّهُ الأمرُ وأحب المقارنة مقالة «وادي الفريكة» في الباب الأول من «الريحانيات» والمقالتين: بلادي Nine Own Country وآفاق وطني My Native Horizon في كتاب The Path of Vision.
٩  ولا تُستحسن حتى شعرًا؛ لأنه يتغلب في معنى الخيام عندهم التعسكُر والحرب، والليل لا يجيء المدينةَ محاربًا، ويتغلب فيها عندنا معنى الإقامة والاستراحة، وهذا جميل في الاستعارة العربية ومفهوم.
١٠  نقول مثلًا — حتى في الجرائد اليومية: خطفتْ يدُ المَنِيَّة فلانًا، أو هصرت غصن شبابه، تعكر جو الأمن، ورى زند الضغينة. وهم يقولون: مات فلان، استتب الأمن. ويجردون الضغينة من الزند والنار. في بساطة تعبيرهم دليلٌ على منهجهم العقلي والعملي، وفي استعاراتنا دليلٌ على «دوراتنا» في أُمُور الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤