القديس أغسطينوس والغزالي

١

الرأي محترم أيًّا كان مبديه، محترم إلى أن يظهر الخطأ فيه، وعلى المفكرين أن يُخلصوا العمل في النقد والتمحيص فيحملون على ما فسد من الآراء والعقائد، ولا يتعرضون لأصحابها. فإذا قال أحد الفلاسفة مثلًا: «إن الله لا يوحي إلى أحد من الناس وحيًا خصوصيًّا ماديًّا كما في الكتب المقدسة» فليس من العدل والإنصاف ولا من التعقُّل والحكمة أن نحمل عليه سبًّا وشتمًا وتعييرًا، فنقول: إنه كافر، قليل الأدب، جاحد نعمة ربه، وقد يكون هذا العالم الملحد أشرف عملًا، وأسلم نفسًا، وأكرم خلقًا، من أدعياء الدين الذين يسفهون ذاك العالِم ويثيرون عليه أحقاد الجهلة وغضب المتعصبين. أَوَما قالوا حتى في نبي الإسلام إنه سَفَّهَ الأحلام وضلل الناس.

إن نظر الغزالي في الوحي الإلهي كنظر القديس أغسطينوس بعينه، وقد أُوتي كل منهما بلاغة جلت الحق تارةً وطورًا بهرجت الضلال، فهُمَا على السواء يحصران الوحي في حادث خطير، منقطع النظير، يخرق نواميس الكون المألوفة، فيتجلى فيه اللهُ لواحد من الناس يدعى رسولًا أو نبيًّا، ولكنهما يختلفان في إثبات الحادث وفي من خُصَّ بالتجلي وبالوحي. والقديس أوغسطينوس من هذا القبيل أشد نزعة إلى التخصيص من الغزالي، وهو إلى قبول العقائد الدينية أسرع منه إلى نفيها أو تمحيصها، ولو أتيح للاثنين أن يجتمعا في هذا العالم لتناقشا وتنازعا وظل كل في وحدته الروحية بعيدًا من الآخر، وإني لأتصورهما في الجنة أو الفردوس أو في ما يلي هذه الحياة من نعيم أبدي، على وفاق تام، وصفاء لا تعد فيه الأيام، يردد كل منهما من حين إلى حين، مذكرًا لا آسفًا، ما طالما ردده في الحياة الدنيا.

فيقول القديس أوغسطينوس: أشعلت نفسي لأنير هيكل الدين وطريق الإنسان، ولكن علم الكلام لا يُصلح النفس ولا يعزز الدين.

ويقول الغزالي:

غزلت لهم غزلًا دقيقًا فلم أجد
لغزلي نساجًا فكَسَّرت مغزلي

اللهم إذا كانا يذكران العالم الذي اختلفا فيه مذهبًا واتفقا مسلكًا، وقبل أن أتوسع في التنظير بينهما أقول كلمة في النظرية الكبرى التي هي أساس الأديان كلها — النظرية التي يتفق القديس أغسطينوس والغزالي في القسم الأول منها ويختلفان في القسم الأخير، أي: أنهما يؤمنان بالوحي الإلهي ولا يؤمنان بكل من ادعاه من نوابغ الأُمم.

٢

إن الله جوهرٌ أزلي سرمدي ينبعث منه جوهر الحياة التي تظهر في الأرض أنواعًا وأشكالًا فتتدرج إلى الإنسان وإلى ما فيه من عقل وضمير وإدراك تميِّزه عن الحيوان، وإذا أوحي إلينا أمر ما ولم يقبل الوحي كل الناس، فمن هو المسئول يا ترى؟ أفلا يجوز التنظير بين الجوهر الأزلي الإلهي ومظاهره في الحياة الموزعة المقسمة في الناس؟ أَوَلا ينبغي أن يكون لما نشأ عن الجوهر الأصلي جاذبٌ قوي فيه؟ وبعبارة أجلى، إذا تكلم الله — عز وجل — بلغة من لغات الأُمَم أفلا يكون كلامه مقبولًا معتبرًا بل مقدسًا عند كل من تكلم في الأقلِّ بتلك اللغة؟ واختيارًا ذلك لا كرهًا وإن لم يكن كذلك فما الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق؟

إذا أنا أبديت رأيًا فمن المستحيل أن يستحسنه الناس أجمعون؛ وذلك لأنني لست إلا بشرًا، وأن ما فيَّ من الجوهر الأزلي الإلهي لقليل جدًّا بالنسبة إلى ما هو متوزِّع في العالم، ولكن مصدر هذا الجوهر يفوق كل ما نشأ عنه وتوزع منه؛ لذلك نقول ونتيقن أن الله عالمٌ بكل شيء، وقادرٌ على كل شيء، وناظر كل شيء. عنده علم الغيب وبيده زمام الحياة والأكوان فإذا أوحى إلينا من لدنه سنَّة ما فمن الضرورة أن تنطبق على حقيقة الأشياء الدائمة الأزلية فلا تقبل تلك السنة التغيير والتبديل وأن ما ينافي سنن الكون لا يمكن أن يكون منزلًا من عند الله.

على أن وحيه — سبحانه تعالى — إلى من خص من الناس بجزء كبير من ألوهيته يكون دائمًا متقطِّعًا، وغالبًا غامضًا؛ لذلك تناقضت الآياتُ في الكتب المقدسة وتضاربت فيها الآراء، وأنا من الذين يُجلُّون النوابغ ويقدِّسون الأنبياء، ولكني لا أستطيع أن أقبل رسالتهم كلها بحذافيرها.

العصمة لله وحده، وما هو منزَّلٌ من لدنه تعالى ينبغي أن يكون منزهًا عن الأغلاط، والمنزَّه عن الأغلاط في الكتب أو في الناس إنما هو كامل تام، والكامل التام لا يقبل التحسين، ولا يحتاج للتأويل ولا ينفعه الشرح العصريُّ والتفسير. والحال أن الكتب المقدسة كلها تؤول اليوم آياتها وتفسر، لا لشرح غويصها وكشف غامضها، بل لتوافِق الانقلابات الحديثة ولتنطبق على مقتضى الحال والمكان والزمان، وفي كل هذه الكتب آياتٌ يُناقض ظاهرُها وباطنها الحقائقُ العلمية، إذن ليست هي منزَّهة عن الأغلاط، وبالتالي ليست هي منزلة موحية.

وقد يكون مصدر هذه الآيات مصدرًا مجهولًا ترتبط أسبابه الغامضة الخفية بنفس الإنسان المتوقدة ذكاءً، السامية خلقًا، البعيدة حجةً، والإنسان — نابغة كان أو نبيًّا — هو عرضة للخطأ والنسيان يجيء في الأحايين بالمناقضات ولا يدركها.

٣

أقف عند هذا الحد لأعود إلى ذينك العالِمَيْنِ الكبيرين المنقطعَي النظير في الروحانيات وفي البلاغة، وإني لَأُفضل حياة قدساها بالعمل الصالح الجليل على كثير من غزير ما سوَّداه من الأوراق في الإلهيات والكونيات.

فإن للغزالي وللقديس أغسطينوس محرابًا خصوصيًّا في مسجد نفسي الحافل بالأنوار، وإن نورهما ليكسف أحيانًا تلك التي أوقدها الذكاء ولم تلمسها الروح، أجل إني لأُفضلهما في الأحايين على كثير من النوابغ والعلماء، ولا أظنني مخطئًا إذا قلت إن العربي واللاتيني على شرعة واحدة من الحق والحقيقة، كلاهما يسلك مسلك التوحيد كلاهما من كبار المتصوفين، وقد قال أحد السالكين: إن التصوف من الصوف، ثلاثة أحرف هي أصول ثلاثة:
  • ص: الصدق والصبر والصفاء.
  • و: الود والورد والوفاء.
  • ف: الفرد والفقر والفناء.

وإلا فكلب الكوفي خير من ألف صوفي.

والغزالي سيد السالكين في الإسلام شبيه فعلًا وقولًا بالقديس أغسطينوس سيد السالكين في المسيحية، وللاثنين نظراتٌ في الدين وفي الكتب المقدسة وإن غربت شكلًا بعضها عن بعض قربت روحًا وتشابهت خطًّا.

وعندي أن كتب الدين مصابيحُ تُنار بها مسالك الحياة لا مقاييس تقاس بها العلوم البشرية، وسيدي الغزالي كأستاذي القديس أغسطينوس يُضعف أسباب الدين وينفي القداسة منه حين يرفعه على العلم. الغزالي يرى في القرآن القسطاس القويم لكل العلوم البشرية، والقديس أغسطينوس يرى ذلك في التوراة والكتابان لا تقبل حجتهما اليوم في سنن الكون كلها وفي أُمُور الحياة كافة، ففي القرآن مثلًا: تجري الشمس لمستقر، وفي التوراة: تقف الشمس إكرامًا ليشوع بن نون، وتلاميذ المدارس اليوم يعرفون أن الشمس لا تجري ولا تقف وإنما تدور على محورها، والأرض تجري في الفلك حولها.

٤

أذكر أني أشرت يومًا إلى هذه الآية في حضرة عالم من علماء المسلمين فكتب إليَّ بعدئذ شارحًا مفسرًا ليبرهن أن النبي كان عالمًا بحقيقة الشمس والسيارات حولها، ولكن في عهد النبي لم يكن أحد يشك في أن الشمس تدور حول الأرض، بل كان هذا الوهم شائعًا في الشرق وفي الغرب حتى بين العلماء، والنبي محمد تتبع ما كان شائعًا فقال: والشمس تجري لمستقر لها، ولكن المدهش شرح سيدي الشيخ، قال: إن اللام في قوله لمستقر، إما بمعنى «على» مثلها في قوله: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ وقوله: «فخر سريعًا لليدين وللفم» أو بمعنى «في» مثلها في قوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أو بمعنى «مع» مثلها في قوله: «وكأني ومالكًا لطول اجتماع لم نبت ليلة معًا» وعلى كل هذه التقادير يكون المعنى تجري في مستقرها، أي: تجري وهي مستقرة في مكانها من دون انتقالٍ عن فراغها الحايز لها، ولعله أشار إلى حركتها المركزية على نفسها.

أدهشني هذا التفسير من سيدي الشيخ ولكنه لم يقنعني؛ فإذا سلمنا بدقائق لغوياته كيف يمكننا أن نسلم بأن الشمس تجري وهي مستقرة في مكانها؟ ولكننا إذا رفضنا قول النبي في طبيعة الشمس وناموسها — ولا لوم عليه في ذلك؛ لأن الخطأ هذا كان عامًّا في ذلك الزمان — فلا نرفض ما سُمِّيَ من نظرياته الروحية والأدبية، ومن شرائعه الاجتماعية التي تُنافي ناموس التطوُّر والارتقاء.

مثال آخر من هذه التفاسير التي لا أبرِّئ الغزالي منها.

فقد كتب إليَّ صديقي الشيخ يقول أيضًا: إن القرآن الكريم يشير إلى بدء خلق الإنسان وعلم الحياة بقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وقد فاته أن هذا الوصف ينطبق على خلق الحيوان أكثر منه على خلق الإنسان؛ لأن أهم ما امتاز به الإنسان إنما هو العقل والروح والضمير، وقد أُغفلت كلها في الآية، وأن ما فيها من وصف لخلق الإنسان لا ينطبق لا على سنن العلم ولا على سنن الدين، «خلقناه من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين» تعالى الله عن مثل هذه السمادير والرطانات، ثم قال شيخي الفاضل: ويشير إلى علم طبقات الأرض في قوله: سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ فإذا حصرنا كل سماء من سماوات الكتاب في سيارة من السيارات وفلكها؛ بان لنا أن عين النبي لم تر غير القليل من سماوات الله، فإن علم الفلك يبرهن ويحقق أنها لا تعد ولا تحد، وأن أكبرها أصغرها في نظرنا وأبعدها منا.

وغنيٌّ عن البيان أن للكتب المقدسة كلها تقاسيم وشروحات زادت غموضها غموضًا وألقت بين الناس الفتن، «أودعتهم أفانين العداوات.»

٥

والغزالي والقديس أغسطينوس من كبار الأساتذة في علم الكلام الذي هو مصدر كل هذه التفاسير والشروحات، على أن روحانياتهما الصافية المجيدة لَتشفع بما جاءا به من سمادير التفسير. ومن الغريب أنهما يتشابهان في كثير من طباعهما وأطوار حياتهما، فالغزاليُّ مثل القديس أغسطينوس كان في أيام حداثته في ضلال مبين على ما يقول، فقد جاء في كتابه «درر القرآن» هذا الكلام الجميل في فئة من الناس.

«لم يدركوا أشياء من عالم الأرواح بالذوق إدراك الخواص ولا هم آمنوا بالغيب إيمان العوامِّ، فأهلكتهم كياستهم، والجهل أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء وكياسة ناقصة، ولسنا نستبعد ذلك، فقد تعثرنا بأذيال هذه الضلالات مدة؛ لشؤم أقران السوء وصحبتهم حتى أبعدنا الله عن هفواتنا ووقانا من ورطاتها.»

أما القديس أغسطينوس فعد إلى كتابه الذي يُدْعى «الاعترافات» تجد في كل صفحة من صفحاته شيئًا من هذا الجهر المدهش المفيد.

وقد قال الغزالي — مشيرًا إلى علم الطب وعلم النجوم وعلم الهيئة والحيوان إن هذه علوم «ولكن لا يتوقف على معرفتها صلاح المعاش والمعاد» ولكنه قال أيضًا: كما يستحيل الوصول إلى اللب إلا من طريق القشر، فيستحيل الترقي إلى عالم الأرواح إلا بمثال عالم الأجسام.

وفي أقواله كثيرٌ من مثل هذه المناقَضات؛ لأنه إذا زعمنا هذا الزعم فلا تصح العلوم الروحية إلا إذا صَحَّت العلوم المادية، والحقيقة في هذه إنما هي باب إلى الحقيقة في تلك، وهو نفسه القائل بها، وقد وضعها في قالب بديع جميل.

«من ذهل عن تدبير المنزل والمركب لم يتم السفر، وما لم يتم أمر المعاش في الدنيا لا يتم أمر التبتل والانقطاع إلى الله الذي هو السلوك.»

العلوم المادية إذًا هي أساس العلوم الروحية، وكتب الدين مصابيح تنار بها مسالك الحياة لا مقاييس تُقاس بها العلوم البشرية.

وقد يتفق كبار العارفين والمفكرين في أُمُور منها أمر التشويش؛ لأن التعمُّق في دار العلوم يؤدي إلى التغلغل في سرادبها.

وجديرٌ بالناظر إلى أسرار الكون في منظار الغزالي أو القديس أغسطينوس أو العلماء الماديين التمثل ببيت للمعري، الفيلسوف العقلي، إذ قال مرددًا صدى صاحب السر الأعلى:

أَوْفِ ديوني وخل أقراضي
مثلك لا يهتدي لأغراضي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤