أبرشية الفريكة

قد يسر قرائي ما أنا مقتطفه اليوم من جريدة الفريكة١ الرسمية، قال المحرر في محلياته:
قد آب إلى كرسي الأبرشية٢ بعد أن غاب شهرًا حسبناه دهرًا، سيادة أسقفنا الجليل فاستُقبل خارج المدينة استقبالًا عظيمًا وأُقيمت له حفلة تحت البطمة القديمة، نادرة المثال فخيمة، وما كادت تهتز الأسلاك البرقية بخبر قدومه حتى خف إلى ملاقاته أبناء الرعية الكرام، تتقدمهم الجمعيات الخيرية والإصلاحية رافعات الأعلام، هاتفات هتافًا رددت صداه الآكام، ونخص بالذكر من هاته الجمعيات «أخوية الأقاحي» التي توارى تحت أعلامها البيضاء اخضرار الحقول، و«جمعية الشقائق» التي ملأت راياتها الحمراء الربى، و«حزب القندول الوطني» وبنوده الصفراء تنور في الجموع، فتُغْنِي الموكبَ عن الشموع، وما كاد يصل القوم إلى البطمة المشهورة حتى اعتلى رئيس حزب الإصلاح الدكة فكان — وايم الحق — خطيبًا، هز في الفضاء غصن بيانه فتناثرت منه الأزهارُ والأشواك، فهتف الناس صارخين: ما وقف — والله — على منبر سواك، ثم أسفَّ الحسون شاعر سيادته الرسمي، فوقف على ذؤابة قندولة زاهرة وتلى في تهنئة راعينا وتمجيده، بل في نفجه وحلجه وتنجيده٣ قصيدةٌ لو سمعها حافظٌ لكان لها حافظًا، ثم ارتجل السنونو أحد شعراء سيادته الاحتياطيين أبياتًا من على سماقته هي السحر الحلال كما يُقال ولفظ أحد الجداء الحولية كلامًا في إصلاح الطائفة فتن به السامعين، ونثرت إحدى البقرات النجل على سيادته زبدًا من فيها هو ذوب اللجبن، وقدمت إليه طفليها، عجلين توئمين، فقبلهما وباركهما وعلق في رقبة كل منها عوذة العين. ومن ثم استأنف الموكب السير وسيادة راعينا شمس كواكبه فدخل المدينة وأبناء الوادي في الحلل البيضاء والحمراء والصفراء ينشدون مهللين بيتين من الشعر نظمهما الدوري، فبرَّز على المطران جرمانوس فيهما، وعلى الخوري، صاحب ديوان الشَّنَطْبوري.٤

قال شاعر السماقة يتأهل بسيادته:

عدت وعاد الربيع
عدت وعاد الهناء
عليك سلام الربيع
عليك سلام السماء

وقد قال الحسون: إن شعر الدوري هذا من نوع الأناشيد الدينية التي يقيسها ناظموها بالأصابع ويقطعونها كالشعر ليكسبوها في الأقل ظاهر شكله، ووددنا لو كان في إمكاننا إتحاف قرائنا الكرام بقصيدته الغراء — أي: قصيدة الحسون — ولكن مخبري جرائد السماء التقطوا من الهواء دررها الغالية قبل أن تقع إلى الأرض.

على أن سيادة أسقُفنا الجليل أخصنا بما جادت به قريحتُه في المأدبتين اللتين أقيمتا له تحت الزيتونة وتحت السنديانة٥ والخطبتان من نفائس الخطب، في الواحدة منهما ما يسمونه إعجاز الإيجاز وفي الثانية بلاغة عجيبة ما وقفنا على كلام للعرب في وصف مثلها.٦

خطبته تحت السنديانة

قال أعزه الله، وأيد في العالمين مبداه:

يا أيها الذين آمنوا، ثلاث ما قل قليلها، الغربة، والكربة، وأضغان ذوي القربى، وثلاث ما كثر كثيرها، البرية، والحرية، والنعمة الإلهية، جعل الله قسمتكم من تلك قليلة ومن هاته كثيرة والسلام.

ومن خطبته تحت الزيتونة

أربع وعظتني اليوم فأعظكم بها:

رأيت الوردة تفتح للنور قلبها وتميل إليَّ بوجهها وهي تقول: إن فيك — أيها الإنسان — نسمة من جمالي ونفحة من شذاء كمالي، فهلا كنت نزيهًا في حبك مثلي؟

ونظرت إلى زهر المسيح وهو يلوح في شقوق الصخور كأنه واقف في بابه ينتظر عودة أحبابه، فسمعته يقول: تراني — أيها الإنسان — أحن حتى إلى الصخور، فهلا كنت وديعًا مثلي؟

ونظرت إلى جبل صنين وقد بدت ذؤابته السوداء من تحت كوفيته البيضاء فرأيته يخلع قميصه ليستحم في شمس الربيع، وسمعته يقول: لا العواصف تُقعدني — أيها الإنسان — ولا السموم، لا الشتاء ولا الصيف، فهلا كنت ثابتًا مثلي؟

ثم حولت نظري إلى مغرب الوادي فرأيت أشجار الصنوبر الشماء تزدحم على ربوة هناك وقد ضاقت بها التربة فاشتبكت أغصانها وجذوعها بعضها في بعض وسمعتها تقول: إن فوق رءوسنا وتحت أقدامنا ما يكفينا، فهلا كنت — أيها الإنسان — قنوعًا مثلنا؟

فيا أيها الذين آمنوا إن في الجبال، وفي الأشجار، وفي الأزهار لآياتٍ لقوم يسمعون ويُبْصرون، قل: جعلني الله نزيهًا كالورد، وديعًا كزهر المسيح، قنوعًا كالصنوبر، ثابتًا في الملمات كصنين. حديث شريف أسمعنيه الله وإني لحديثه من السامعين وبرسل ربيعه من المؤمنين.

هذا ما اقتطفتُه من جريدة الفريكة الرسمية لقرائي الأعزاء لقوم يبصرون فيستبصرون، ويسمعون فيؤمنون.

وأما المستحجرة قلوبهم والمتجزوتون٧ فإنهم وإن أنذرتهم لا يؤمنون.

هذا، ولقد طالما تاقت النفس إلى كتابة رسالة شائقة، عربية المعنى والمبنى، أي: عربية الحروف والمفردات والجمل، وعربية الحبر والورق أيضًا، إكرامًا لأسيادي المتنطعين فأطرزها بالتفاسير وأكشكشها بالشروحات، فيقول الناس عند قراءتها: لله دره ما أرسخه في اللغة قدمًا وما أطوله باعًا، ولكني أعجز — والله — عن مثل هذا، وجئت خالطًا الآن شيئًا يسيرًا من عجزي في هذه الحفنة من «البذور»، وأستغفر الله بداية ونهاية في ما قد يعده قرائي الأعزاء وأسيادي الأساتيذ تطفُّلًا، وأسأله تعالى سترًا يمتد على تلفيقات ليس لها حدٌّ، ولكنها تلفيقات فيها من الحقائق والرقائق ما لا تخفى أسرارُها على المؤمنين.

١  هذه رسالة خيالية انتقادية شَرْحُهَا لي ومَتْنُها لصاحبه، وقد اجتهدت أن أقتفي ههنا أثر الأساتيذ الكبار — عفى الله عنهم وعني — فجاء الشرح أكبر من المتن فيها جريًا على عادتهم الكريمة.
٢  أي: أبرشية وادي الفريكة وتوابعها لطائفة الطبيعيين الأرثوذوكسيين القويمين رأيًا المعوجين طبعًا وخيالًا.
٣  ما كنت أظن أن المحرر، حبًّا باستعارة جديدة، يسيء إلى المادح والممدوح، فيشبه الأول بالمنجد والثاني بالفراش العتيق، على أن معنى الاستعارة بليغٌ إن لم يكن جميلًا، ومع أن الحسون وصاحبه — على ما أعلم — لا يستحقان مثلها فهي تنطبق على كثيرين من الممدوحين والمادحين، بل كم من فراش عتيق لا يساوي خيطًا من خيوط المنجد المسكين.
٤  سألت محرر الجريدة الرسمية شرح هذه اللفظة المدهشة المرعشة فجاءني ما يلي — شَنَطْبوري «بفتح ثم فتح فتسكين» لفظة مركبة من شنط كقنط من باب علم وضرب أي قدد، وبوري نوع من السمك الردي المعروف، ومعنى اللفظة السمك المقدد ونسبة ديوان الخوري إليها كنسبة السمك المقدد إلى ما في الديوان «احترامًا للقارئ اللبيب أضرب عن إسهاب المحرر صفحًا» إلى أن قال: واللفظة من نحت اللغوي المعين رسميًا لجريدتنا فعساكم أن تشيروا إلى ذلك، انتهى. ولعله يريد أن أنشر للغويه إعلانًا خدمة للمغرمين من الكتاب العصريين بمثل هذه الألفاظ الشنطبورية حبًّا وكرامة، وإلى هذا الإعلان المهم أستلفت بالأخص نظر المويلحي والسيد المنفلوطي.
٥  يريد الزيتونة التي كان الأولاد يتعلمون في ظلها الزبور الإلهي والسنديانة التي دفن تحتها معلم الأولاد، وفي إقامة المأدبتين هناك سرٌّ من أسرار الطبيعيين التي يعجز المحرر والداعي عن كشف غامضها.
٦  يظهر أن المحرر غير مطلع على الحريري والشنافيري والهمذاني والشقشقاني والخوارزمي والخنفشارزمي وغيرهم من فطاحل العلماء ومصاقع الخطباء.
٧  في القاموس — في لسان الإنكليز والإفرنسيس، لا لسان العرب — مادة جزويت كثيرة المعاني والاشتقاقات، فهناك Jesuitize فعل لازم، أي: تَخَلَّقَ بأخلاق الجزويت وفعل فعلاتهم، Jesuitry، Jesuitical وغيرها من الاشتقاقات المفيدة، وكي لا يكون أصحابنا مغبونين عندنا جئت مقترحًا إدخال هذه المادة إلى لغتنا العربية الشريفة بل جئت مدخلها بلا استئذان، فقلت: جزوت يجزوت جزوتة، كشعوذ أي: تخلق بأخلاق الجزويت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤