الأخلاق١

وإنما الأُمَم الأخلاق ما بقيت
فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
شوقي

أيها السادة والسيدات

لم يُخلق الإنسان أميرًا ولا كاهنًا ولا سلطانًا، وما خلق بوذيًّا ولا مجوسيًّا ولا مسيحيًّا ولا مسلمًا، إنما هي الشرائع تسترق والأديان تفرق، أما السيادة فللعقل، وأما التفاضل فبالمآثر والمبرات، أجل، ولا ينبغي أن يُرفع امرؤ على آخر ويُفضل بغير عقله ونفسه وأدبه وأخلاقه. كل منا خُصَّ بلقب من خالقه أشرفُ من ألقاب الملوك والسلاطين، ألا هو لقب «إنسان»، ولكلٍّ منا حقوقٌ طبيعيةٌ متساويةٌ ملازمةٌ غير متعدية لا يستحق أن يدعى بشرًا من ينام عنها أو يغضي عن امتهانها، ولكل منا حقوق سياسية اجتماعية تنشأ في حياتنا المدنية ومنها. عار علينا أن نسكت عمن يهتضمها من أُولي الرئاسة والإمارة.

وأرى ملوكًا لا تحوط رعية
فعلى مَ تؤخذ جزية ومكوس؟

ولكلٍّ منا حقوقٌ أدبيةٌ نفسية ليس فوقها غير سنة الله السائدة في الأكوان والأشياء لا نخضع فيها لسواها، لسنة الله التي تُنير في الإنسان الضمير كما تُنير في السماء الكواكب والنجوم، لسنة الله التي تقرن نور الشمس بنور اليراعة، وقوس القزح بألوان الطاووس، وزئير الأسد بصوت النبي، وتغريد البلابل بقوافي الشعراء، فحقوقنا الأدبية النفسية التي لا نخضع فيها لغير سنة الله إنما هي برهاننا على وجود الله ولا حق أثبت منها وأعلى. قد أُلقَى في السجن فأُحرم حقوقي المدنية، وقد أُحرم قوتي وأُسام العذاب فتُمتهن حقوقي الطبيعية، ولكنَّ السجن والجوع والعذاب لا تُذهب بذرةً من حقوقي الأدبية الروحية.

إنك إذا استطعت حبس نور الشمس، أو إيقاف ريح السموم، أو تقييد أمواج البحار؛ لَتستطيع سلب حق من حقوق أخيك النفسية، ولكنها قد تغفل فيها فتفسد فتضعف فتموت، وكذلك حقوقه المادية كلها. ولا حاجة لأن أضرب لكم الأمثال إيضاحًا، فحرية الحركة مثلًا من حقوقي الطبيعية، وحرية التابعية من حقوقي السياسية، وحرية الفكر والضمير من حقوقي النفسية، وسياج هاته الحقوق كلها الأخلاق، بل الأخلاق الطيبة السليمة المجيدة السامية. فإذا فسدت الأخلاق في أُمَّة نامت تلك الأُمَّةُ عن حقوقها، وإذا نامت عن حقوقها استبد حاكمها، وإذا استبد حاكمها ساء حالها، وإذا ساء حالها خربت ديارها، وإذا خربت ديارها حق لِأُمَّة ياقظة ناشطة راقية أن تتولاها فتعمرها.

ملك أساس الجهل والسفه، وقوامه الاستبداد والجور، ومظاهره الفقر والبؤس والقذارة، له يومٌ من الدهر فيزول، أُمَّةٌ لا تسمع فيها غير التأوُّه والأنين، والصراخ والشكوى، لها يوم من الشقاء فيزول، ثم يبعث الله من يحل قيودها، ويمسح دمعها، ويُنعش بالعدل نفسها، وبالعلم يجدد قُواها. كانت أيام تباد فيها الأمم، يبيدها الجهل أو الوباء أو المجاعة أو الظلم أو الحرب، وأما اليوم فالأمم تجدد شبابها؛ لأن المعارف والعلوم غير منحصرة في فئة صغيرة من الناس، والأوبئة التي تساعد في إفشائها الأضاليل كعقيدة القضاء والقدر وغيرها يكاد العلم يستأصلها.

وعاطفة في الأُمَم الراقية شريفة تمدها أموال كثرت في البلاد المتمدنة لا تمكِّن المجاعات من البشر، والحكومات الاستبدادية لم تعد تطاق، والحروب شبه حروب أتلأ وجنكيز خان أمست في خبر كان. فلا خوف على الأُمَم اليوم إذًا إلا منها وفيها، الخطر على حياتها في قلبها، في نفسها، في حكومتها، في الخاسئ الجامد من علومها ومذاهبها وتقاليدها، في فساد أخلاقها وأحكامها وشرائعها.

وجدت الشرع تخلقه الليالي
كما خلق الرداء الشرعبي

فالاخلاق السليمة السامية المجيدة إنما هي سياج حقوقنا كلها بل هي من أهم أركان الترقي والعمران. إنها لَنور العدل في الملك، ونور الإيمان في الدين، ونور الصدق في العلوم، ونور الحياة الحقة في الأُمَّة. ولنا أن نسأل: ما هو مصدر هاته الأنوار المعنوية وما هي خاصتها وغايتها، وبكلمة أوضح: ما هي الأخلاق؟ وما هي أُصولها وأسباب رُقيِّها؟ وما هي عوامل الفساد فيها؟ وكيف تصلح إذا فسدت في الأُمَّة؟ سأجيب مختصرًا عن كل من هذه المسائل ثم أُقابل بين ما تَسامى من أخلاقنا ومن أخلاق الغربيين؛ لعلنا نهتدي إلى الأسمى فنتخلق بها.

١

الخلق غير الطبع والمزاج، الخلق إطلاقًا ما يظهر من الفكر والنفس، والمزاج ما يظهر من الشعور. وفي القاموس الخلق الطبع والسجية والمروءة والعادة والدين، فجاء في التحديد بين الطبع والدين ما قد يكون من أهم مظاهر الأخلاق وأصولها، ففي الطباع والسجايا شيءٌ من الوراثة التي ليست من بحثي الليلة، وأما المروءة مثلًا فخلق في الناس، المروءة مظهرٌ من مظاهر النفس بل صفحةٌ راسخةٌ من صفاتها لا يحتاج صاحبها إلى اجتهاد أو تكلُّف في إظهارها.

وكذلك الشجاعة والكرم والحلم، وكذلك الجبن والبخل والغضب. هذه أخلاق قد تكون خاصيتها معنوية ومادية معًا، قد تكون في كريات الدم وفي الجهاز العصبي وقد تتصل أسبابها بنجوم السماء. إن مزايا النفس السامية التي لا يأتي عليها كيل ولا قياس ليراها الناس فيقدرونها إنما هي مادية روحية، ومصدر المادة فيها لم يزل غامضًا نوعًا كمصدر الروح.

أما المتطرفون من علماء النفس وعلماء المادة فعلى غير هذا الرأي، على أنه لا ينكر أن مزايا النفس في بعض أحوالها كالكهرباء لا تعرف إلا بمظاهرها؛ ففي الخلق العظيم المجيد شيء من طبع البربري وأشياء من سجية النبي الإلهية، وأما الخلق العظيم عند السالكين — أي: الإعراض عن العالَم والإقبال على الله تعالى بالكلية — فتلك مسألة أُخرى أجيء بعدئذ على ذكرها.

ولهذه المزايا النفسية علم هو علم الأخلاق أو علم السلوك ألَّفَ علماؤنا فيه مجلدات قَلَّتْ فائدتُها — على كثرتها — وقد تستغربون قولي إن في علم الأخلاق عندنا ما يفسد الأخلاق السليمة السامية، كان العرب في صدر الإسلام وفي الجاهلية يقوِّمون المعوج في أميرهم بحد السيف، كانوا يقولون للظالم المستبد من أسيادهم: إما أن تعدل وإما أن تعتزل، ويعملون بما يقولون، فجاء بعدئذ من علَّموا علم الأخلاق بمقتضى الحكمة العلمية فقالوا: «ادفع إليهم ما طلبوا من الظلم ولا تنازعهم فيه وكُفَّ لسانك عن سبهم.» و«لا تجعل سلاحك على من ظلمك الدعاء عليه ولكن الثقة بالله.» وقال مالك بن دينار — والكلام منسوب إلى الله: «لا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم.» وقيل أيضًا — والكلام منسوب إلى نبي الإسلام: «سيروا على سير أضعفتكم.» وكثيرةٌ في كتبنا العربية أمثال هذه الحكمة العملية التي قَلَّمَا تراعَى الحقيقة فيها، وُضعت لتقييد المظلوم وأُنزلت لتأييد الظالم، فأفسدت أخلاق الاثنين.

أما الحكمة الخلقية فبينها وبين الحكمة العلمية تفاوتٌ عظيم وفي تراجم النوابغ من رجال التاريخ مثال حي لهذا التفاوت، خذ أيًّا منهم «يوليوس» القيصر أو نبي العرب أو «لوثيروس» أو «كرامويل» أو «نابوليون الأول»، نوابغ السيف والروح والقلم نوابغ الملك والدين، كل خطير النفس، رفيع الأهواء، بعيد الهمة، كانت شرعته الحكمة الفطرية في ما ناله من جسيم الأُمُور إلى أن صار سيدًا في الناس وربَّ ملك في العالم. فوارس من فوارس السماء أوقدوا في الناس مشعال الحرية والحقيقة فملئوا البلاد نورًا ظنوه نورهم، فرفعوا أنفسهم إلى مقام الآلهة، واتخذوا الحكمة العملية سيفًا لتعزيز شئونهم وتنفيذ مآربهم، وفي الشرق حتى اليوم ملوكٌ وأمراء، لا يستحقون أن يكونوا عبيدًا لأولئك النوابغ الأبطال، يرفعون أنفسهم إلى مقام الآلهة ويكلفون الناس التبخير والسجود.

ومن شر البرية رب ملك
يريد رعية أن يسجدوا له

الأخلاق قوى كامنة في النفس تؤثر فيها الحوادث والأشياء فتظهر عفوًا لغرض أوليٍّ هو ارتياحُ النفس واطمئنانها، ولا يطمح صاحبها — بادئ بدء — إلى معالي المجد أو الشهرة أو الغنى أو السيادة. خذ الغربي الراقي في أُمَّة فسدت حكومتها، فهو يناهضها في الدرجة الأولى طوعًا لحكم ضميره فتطمئن نفسه، ورغبةً بإصلاحها ثانيًا فتُصان حقوقه، وإذا تتبع عمله أصابه في الدرجة الثالثة منه بعض النفع والفائدة، فيغره إذ ذاك الكسب وتستهويه السيادة فيصبح وا أسفاه! سياسيًّا شرعته الحكمة العملية.

أما الشرقي في مثل حاله فقد يتمثل بأقوال الحكماء التي ذكرت شيئًا منها ويستعيذ من الظالم بالله. إذا وقف الغربي عند الدرجة الثانية من عمله كان عمله شريفًا مجيدًا، وإذا تعداها كان عمله مشوبًا مشينًا، وفي كلا الحالين يظل أحسن من أن «ندفع إليهم ما طلبوا من الظلم ولا ننازعهم فيه» إن عِظَمَ الهِمَّةِ، والجرأة الأدبية، ومناهضة الظلم والظالمين، لَأخلاقٌ غربية، وإن التصون والتقية والاستسلام إلى الأقدار لَأخلاقٌ شرقية …

نشكو الزمان وما أتى بجنايةٍ
ولو استطاع تكلمًا لشكانا

٢

قلت إن الأخلاق مزايا راسخةٌ في النفس تظهر في مظاهر شتى لغاية أولية هي إرضاء النفس واطمئنانها، كالاستسلام إلى الأقدار مثلًا عند الشرقيين، أو السعي في مناهضتها عند الغربيين، أو الهرب منها عند السوريين. لننظر الآن في أصول الأخلاق وعوامل التربية فيها، إذا أجلنا الطرف في عالم الحيوان رأينا فيه أمثلة من العمل والصناعة ورقي الحواس قلما نشاهد مثلها في الإنسان.

ولكننا لا نرى فيها عامل الرقي حيًّا ثابتًا دائمًا، فالنمل مثلًا لم يَرْتَقِ في عمله منذ مدحه سليمان الحكيم — كأنه مثل الإنسان يضر به الإطراء — ولا النحل ارتقى في صناعة العسل ولا البلبل في فن الإنشاد، ومهما بالغ الإنسان في تربيتها تظل الغريزة فيها واحدة، وتبقى قواها محدودة، وفي الإنسان شيء أدبي روحي ثابت لا تؤثر فيه الحوادث والأشياء.

الإنسان مدني بالطبع وسيبقى مدنيًّا، وفيه فطرة خير لا يضعفها نكد الدنيا ولا يزيلها البؤس والاستعباد، وفيه عاطفةُ الحب حية أبدية، وفيه نزعة إلى المجد والعلى هي إكليل أهوائه العالية كلها، وفيه مزية سامية إلهية تحبب إليه ما هو ثابت دائم أزلي، فيعجب من مظاهرها في النمل والنحل والطيور، ويأخذه الخشوع والتهيب عند ما يشاهده منها في نظام الكواكب والأفلاك، وعندي أن هاته الخاصية البشرية الإلهية التي تَتَساوى أصلًا في الناس، البدو منهم والحضر، وتتفاوت فرعًا، إنما هي المصدرُ الخفيُّ لِمَا ينشأ فينا من الأخلاق فتَتَباين وتتفاضل عملًا بسنة الأُلفة والانفراد.

فخلق النساك هو واحدٌ، في الهند وفي جبل آثوس، لا يتغير، والوفاء في الكلاب لا يظهر إلا في مرافقتها الإنسان، وأخلاق البدو من العرب كانوا أو من زنوج أميركا هي واحدة. وما يصح في البدو يصحُّ في القبيلة، وما يُقال في الرجل المتمدن يقال في الأُمَم المتمدنة، أي: أنها لا تفضل بعضها بعضًا أدبًا وأخلاقًا، ولكنها تختلف في ذلك اختلافَ عاداتها وتقاليدها وشرائعها.

حرية الإفرنسي الجمهوري مثلًا لا تفوق حرية الإنكليزي الملكي، وليست أخلاق الإنكليز بأفضل من أخلاق الفرنسيس، بل الأُمَّتان تستويان في الفطرة البشرية السامية كما تستوي أفرادهما ولا تختلفان إلا ظاهرًا وعرضًا كما تختلف الطيور في ريشها ولونها وكما تختلف في شكلها أوراق الأشجار — لا يفوتنَّكم أن موضوعي الأخلاق لا الطباع — أما النزعة الشديدة إلى العلم، والطموح وإلى المآثر العالية، والصبو إلى استطلاع ما وراء الأشياء، إلى اكتشاف أسرار الطبيعة ليستخدم ما فيها من القوى الكامنة في سبيل الرقيِّ والعمران — رقي الإنسان وعمران البلاد — فهذه كلها من المزايا الراسخة اليوم في روح المدنية الجديدة.

ولا فضل لأُمَّة على أُخرى إلا بما أحرزتْه من جسيم الأُمُور في مضمار الفكر والبحث والعمل، بما أكسبها نوابغُها من مجد في سبيل الإنسانية ومفخرة. وهذه السجايا الشريفة في الأُمَم إنما هي نتيجة الأخلاق السامية في أفرادها العاملين، وهي السبب أيضًا في ما قد يكون أسمى منها في أبنائها الآتين.

يقال: إن الإنسان ابنُ الأحوال أسير الحوادث، خاضع لأحكام الزمان مقود بزمام القضاء، وقد يكون الحيوان وما في البشر من الحيوان كذلك، أما الإنسان — وفي كل جماعة وكل أمة تجده — فهو فوق الأحوال والجموع والحوادث، وهو في الأحايين يتغلَّب على القضاء، فيكتشف بلادًا جديدة، ويُغير خريطة العالم، ويذلل العناصر، ويسوق إلى غرضه سنن الأكوان ويهدم الهياكل ويؤسس الأديان، يزعزع الممالك ويبيدها وينفخ في الأُمم المائتة روح الحياة. الإنسان حر في إرادته وعمله وفكره مهيمن على نفسه، مالك زمام الحوادث التي ترفع به إلى ما فوق اصطلاحات الجموع وأحكام الناس. ولو لم يكن كذلك لكان اعتقادنا بالله باطلًا، ولو لم يكن كذلك لكانت أخلاق البشر كغرائز الحيوان، لا يعمل بها ناموس النشوء الحي، ولا تؤثر فيها عوامل الارتقاء الثابتة.

يقال: إن سر السعادة هو في تكييف أميالنا لِتُوافق الأحوال التي نحن فيها لا في تكييف الأحوال لِتَكُون لنا سلمًا إلى تشوقاتنا البعيدة وآمالنا العالية. وقد يكون هذا سر النجاح في التجارة وفي السياسة لا سر السعادة، وقد يوافق الصيرفي والإسكاف والبقال، ولكن الإنسان المدرك ما فيه من قوى الأكوان الكامنة الناظر إلى اليد العلوية التي ترصع الأفلاك بالنجوم، وتخط فيها الأسرار، وتنصب منها للنفس البشرية محجة أنوارها لا تنطفئ، الإنسان الذي لا يعيش ليومه ولنفسه، يرى أن عليه أن يسعى أبدًا سرمدًا في ترويض عقله للفكر، وإرادته للعمل، وشعوره لما رَقَّ ودق في الحياة. علينا أن نجاهد في سبيل العلم الذي هو أساس ملك الإنسان في الدنيا وفي الآخرة.

هذه الأرض موطئ قدمَي الله وموطئ قدمَي الإنسان، ما فيها ينبغي أن يكون طوع إرادته، خاضعًا لفكره، عاملًا بمشيئته، البخار والكهرباء والأثير درجات في الفكر والاكتشاف تؤدي إلى درجات في سماء النفس فوقها. من كان ليحلم في الماضي أن قوة كامنة في الفضاء يتمكن الإنسان من تسخيرها لتحمل أنباءه من أربعة أقطار العالم بعضها إلى بعض، التلغراف اللاسلكي اليوم، والتلفون اللاسلكي غدًا، وبعد غد إن شاء الله نخاطب بعضنا بعضًا بواسطة النفس التي هي آلة الفكر الكهربائية، أتقول: إن هذه أضغاث أحلام؟ ولكن أحلام السلف وأوهامهم هي اليوم حقائقُ راهنة.

أجل سادتي، إن هذه الأرض وهي ذرَّة في فضاء الأكوان بما فيها من قوات ظاهرة وكامنة، وبما فوقها وحولها من العجائب والأسرار، إنما هي موضوع مساعي الإنسان الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية، «إن الوجود لسر مكشوف» كما قال الشاعر الألماني الشهير، ولا يرى منه ويدرك — على ما أظن — غير ما نستطيع استخدامه والانتفاع به، وما يرى ويدرك لا يذلِّلُـه غير العقل، ولا يعمل العقل إلا حرًّا مشجعًا، ولولا هذه الحرية وهذا الإقبال على العلم في البلاد العامرة الراقية لَمَا اتصلنا إلى ربع ما نحن فيه ممتعون من ثمار العلوم والصناعات، وإن حب العلم وتشجيع العاملين به لَمِنْ ثمار الأخلاق الشريفة السامية.

٣

ها قد عدنا إلى أُصول الأخلاق بعد أن انتقلنا قليلًا إلى بعض نتائجها، أجل إن أصول الأخلاق لفي هذه النفس الخالدة القلقة السامية المتيقظة، النازعة إلى استطلاع أنباء ما وراء الطبيعة؛ لإصلاح شئون المجتمع، ولرفع شأن الأفراد فيه والجماعات.

والأخلاق في نشوئها ونموها وتنوعها خاضعة مثل مظاهر الكون لعوامل خارجية طبيعية واجتماعية، ولكن طيب شذاها لا يتغير على تنوع عوامل الرقي فيها. غصن ورد تزرع نصفه في تربة حارة في إقليم حار ونصفه الآخر في تربة باردة في إقليم بارد، فلا يتغير في وردهما غير الحجم واللون، أما شذا الوردتين، بل نفسهما، بل خلقهما؛ فهو واحد في الحالين.

هذا في النبات، وفي السياسة إذا تغيرت الأحوال تتغير مبادئ السياسيين، وأما فضائل النفس فهي واحدة في كل مكان وزمان، والنفس الكبيرة السامية لا تعمل فيها الحوادث ولا تفقدها الأحوال فضيلة واحدةً من فضائلها، على أن مسلكها قد يتغير في الناس ويتنوع فتكسبه الأحوال شيئًا من روحها وطبيعتها. قال ابن خلدون: «الإنسان ابن عاداته ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه.» والأصح أنه ابن الاثنين.

من الباحثين في طبائع البشر والعمران أُناس يقولون: إن عوامل الهواء والشمس تغير في جوهرها تغييرًا بينًا. ومن هؤلاء العلماء «منتسكيو» وابن خلدون، أما ظاهر تأثير الهواء والشمس ففي الأجسام كما نشاهده مثلًا في ألوان البشر وريش الطيور.

رأيت في أحد متاحف لندرا نوعًا من الطير من فصيلة واحدة بعضه من إقليم بارد وبعضه من إقليم حارٍّ ولا يختلف سوى لون الريش في الطيرين، أما تأثير الإقليمِ في الأخلاق البشرية ففيه نظرٌ، يقول «منتسكيو»: إن الجبن خُلُق في سكان البلاد الحارة، وإن الشجاعة من أخلاق سكان البلاد الباردة، ولكن الرومانيين قديمًا «سكان إيطاليا الحارة» غلبوا السكسونيين «سكان إيطاليا الباردة» فتأملوا.

وعندنا في العرب شاهدٌ آخرُ، كان عرب البادية أحسن خلقًا وأرقى نفسًا من أهل البلدان المتمدنة التي احتلوها وسادوها. ناهيك بشدة بأسهم وشجاعتهم. فإذا كان صحيحًا ما يقول ابن خلدون و«منتسكيو» إن الحر يذهب بالبأس والمنعة، وهما من الأخلاق المجيدة في الناس، لِمَ لم يؤثر قديمًا في الرومانيين ولِمَ لم يؤثر في العرب؟ أَوَليست شجاعةُ الأُمَم المعنوية الروحية فوق شجاعتها المادية؟ قد فات ابنَ خلدون هذا.

وما قولنا في الحبش وهم جيرانُ العرب يسكنون في منطقة واحدة ولا يفصل بين الأُمتين غير البحر، فأين منهم بأسُ العرب ومنعتهم؟ وأين آدابهم وأين شعرهم وأين نبيهم؟ فهل تُشقي الشمس قومًا وتُسعد قومًا؟ وهل كان الإقليمُ محابيًا في أُمَّة متحاملًا في أُخرى؟

وهاكم مثالًا آخر من بحث ابن خلدون في تأثير الإقليم في الأخلاق، وصف السودانيين بالخفة والطيش وشدة الطرب ونسب ذلك كما فعل «منتسكيو» بعده إلى هواء بلادهم وشمس الإقليم الحارة. وقد كتب «تسيتوس» المؤرخ الروماني فصلًا في الشعوب الألمانية القديمة الذين استوطنوا البلاد الشمالية الباردة فوق نهر الدانوب فوصفهم كما وصف ابن خلدون السودانيين بالميل الشديد إلى اللهو والطرب، فقال: «إنهم في أيام السلم لفي هرج ومرج دائمًا قائمون.»

ولم ينسب المؤرخ الروماني ميلهم هذا إلى العوامل الطبيعية. إن أخلاق القبائل في أُمُورٍ كثيرة هي واحدة — كما قلت — ولا تختلف باختلاف الإقليم — كما يظهر مما تقدم — أما إذا كانت طبيعة الفرح والسرور انتشار الروح الحيواني — كما يقول ابن خلدون — وطبيعة الحزن انقباضه وتكاثفه، فتكون الحرارة سبب الأُولى ويكون البرد سبب الثانية. ولكن هذا نظرٌ سطحيٌّ، فالألمانيون القدماء كانت تغلب فيهم — كما قال المؤرخ الروماني — طبيعة الفرح والسرور، وأهل أُوربا الشمالية اليوم وهم من سليلة أولئك الأقوام تغلب فيهم طبيعةُ الحزن والكآبة، وهواء تلك الأصقاع اليوم هواؤها منذ ألفَي سنة، وإقليمُها واحدٌ لم تتغير فيه شمسه وسماؤه، فما السبب في تغيُّر طباعهم يا ترى؟

لم أكن لأستوقفكم عند هذا البحث لو لم تكن قد اتهمت سماؤنا نحن السوريين بخمود طباعنا، فقال الأُوروبيون: إن لطيف هوائنا وجميل جونا لَمما يدعو إلى الخمود والخمول، ومعاذ الله أن تكون هذه السماء الجميلة سماؤنا أُمَّ هاته الآفات في أبنائها، وإنما هنالك عوامل أُخرى مدنية ودينية وأدبية غير عوامل الشمس والهواء والحر والقر. إن الأخلاق مزايا راسخة في النفس تعمل في إظهارها الأحوالُ الاجتماعية في الدرجة الأولى، ومن هذه العوامل الاجتماعية العادات والتقاليد والشرائع والأديان، فهي تعمل في إصلاح الأخلاق كما تعمل في إفسادها.

وهاكم مثالًا من ترهات أُمَّة شرقية مما لم نزل نحن في بعضها، كانت للتتر أيام جنكيزخان قوانينُ وأحكامٌ سخيفة يُراعونها وينزلونها منزلة الشرائع الإلهية، ومن أغربها أن من يرمي سكينًا في النار يُعدُّ مجرمًا قصاصه الشنق. وكذلك من نام على سوط، أو ضرب حصانًا برسنه، أو كسر عظمًا على عظم آخر. ولكنهم وإن احترموا مثل هاته الترهات من الأحكام لم يروا في نكث العهد عيبًا، ولا في السرقة والنهب والقتل ذنبًا. فالأحكامُ السخيفةُ والقوانين الباطلة أفسدتْ أخلاقهم فأمسوا لا يعرفون من الخير والشر غير ما أجازه الحاكم أو أبطله. والشرائعُ السخيفة الباطلة في أُمَّة لا تعرف غير أميرها سيدًا تذهب بحرمة النواميس الطبيعية والإلهية، ناهيك بما لها من التأثير الخبيث في روابط الأُلفة وفي الجامعة الوطنية.

إن الشرائع ألقت بيننا إحنًا
وأودعتنا أفانين العداوات

ليس الذنب إذًا ذنب سمائنا وهوائنا، بل هي الشرائع كما قال المعري، ولم تزل كما كانت في أيامه تعبث بالعقول وتفسد في الأخلاق و…

كم وَعَظَ الواعظون منا
وقام في الناس أنبياء
فانصرفوا والبلاء باقٍ
ولم يزل داؤك العياء

٤

أما عوامل التربية في الأخلاق فعديدةٌ أذكر أهمها الليلة ولا أفيض فيها لضيق المقام، وإذا حصرت النظر في أُوروبا فلأن مدنيتها خلاصة مدنيات العالم جمعاء، في الأعصر الخالية عند سقوط الدولة الرومانية كان الدين المسيحي العامل الوحيد الصالح في تلطيف أخلاق البرابرة هناك، ولكن الفساد الذي اعترى الكنيسةَ وأربابها بعد ذاك تفشى في البلاد وعَمَّ شعوبَها فخيمت عليهم ظلمات أَمْرُها في التاريخ مشهور.

وكلنا نعلم ما كانت فيه تلك الأُمَم من الجهل والخرافة والخمول يوم أشعل العرب مشعال العلوم في بغداد، فاتصل نوره بالأندلس وشع منه أشعة في صوامع الرهبان في أوروبا. فالرهبان إذن أول من اشتغلوا في إحياء العلوم في بلاد لم يكن ليسمع فيها غير قرع الرماح، وصليل السيوف، وصوت الكنيسة الرهيب.

وللحروب الصليبية فضلٌ في تدميث أخلاق الأُوروبيين، وتلطيف أذواقهم وتحسين نسلهم. ونظام الإقطاعات الذي لا يرى فيه بعض المؤرخين غير الجور والعسف والاستبداد رَبَّى في العامة أخلاقًا شريفة أهمها الوفاء والصدق، وأسس في الأسر الأوروبية سيادة المرأة. والنهضة الإصلاحية الدينية حررت نفس الإنسان من قيود السلطة المطلقة، والثورة الإنكليزية الأولى أعطتْه حجة بحقوقه، والثورة الإفرنسية الشهيرة مَتَّعَتْهُ بها وعلَّمَتْهُ التؤدة والاعتدال. وهناك عواملُ أُخرى عديدة كاكتشاف أميركا، واختراع الطباعة، وإحياء الفنون والصناعات، مما هو مِنْ نتاج العقل الذي يجلو مظاهرَ الأخلاق ويشحذها.

ولا يفوتَنَّنَا أن نذكر بعض الفلسفات الأُوروبية وفضلها في تهذيب الأخلاق كالفلسفة الاستقرائية التي أحياها «ديكرت» في فرنسا و«بايكن» في إنكلترا، فلقنت الأوربيَّ حكمة الريب وعودتْه أن يسأل «كيف ولماذا» في كل عقيدة ومذهب وتعليم وحببت إليه البحث العلمي والتمحيص. ثم الفلسفة الكمالية الألمانية التي غذت عقله ونفسه، ثم الفلسفة الإنكليزية العملية التي غَذَّتْ جسده فاشتد ساعده وصحت عزيمته.

وفي هاته الفلسفات كلها ترى أن المقام الأول في العمل إنما هو للإرادة، فالإرادة إذا ضعفت في المرء ضعفت فيه فضائل النفس والعقل والجسد كلها، والإرادة مثل كل الجوارح فينا ينميها الترويض وتعززها الممارسة. وهل تظنني مغبونًا إذا حرمت نفسي قليلًا مما اعتدته من أساليب الراحة والرفاه أو عملت عملًا صغيرًا أستثقله متعمدًا في ذلك لا إماتة نفسي بل ترويض إرادتي للعمل؟ فإذا مر عليَّ سنة وأنا كل يوم أعزم عزمًا مهما كان صغيرًا وأنجز العمل به أستطيع أن أقول مع الفيلسوف (كَنت): «عليَّ أن أفعل أُذن لي أن أفعل.» إذ ما الفائدة من هذه الأفكار الجميلة أفكارنا، ومن هذه الأخلاق الفاضلة المجيدة، إذا كنا لا نروض أنفسنا لها، ونعمل بها عازمين حازمين، لينتفع بها الناس ولينتفع بها الوطن؟

ولا أُنكر أن الضرورة في الأحايين تغير من أخلاق الناس فتُحسنها أو تفسدها، ضاقت مدينة أثينة على سكانها أيام مجدها والأرض المجاورة لم تكن خصبة فقَلَّت المواشي وعزت فأغفل الناس الأضحية، فأفتى الحكماء، أن هدية تهدى إلى الآلهة لخير من ثور يذبح لها، فاتخذ الأثينيون الفتوى سنَّة؛ لأنهم كانوا أشد من الآلهة حاجة إلى اللحم، وكان هذا سبب اعتدالهم وحكمتهم حتى إن الناس بعدئذ — وقد نسوا أو جهلوا الأسباب — قالوا: إن الأثيني أرقى في خلقه الديني من سواه، ومثل هذا في التاريخ أمثلة عديدة لأمور صغرت أسبابها وكبرت نتائجها.

أما عوامل الرقي الفلسفية والفنية التي ذكرتها فقد لا تلزم لتهذيب الأخلاق في القبائل البدوية، وقد تحرم منها أُمَّة وتكون أخلاقها سليمة كأُمَّة العرب في صدر الإسلام، ولكن الملك إذا اتسع وتعددت فيه المساعي والنزعات قام في ظله من مظاهر الأُبَّهة والجلال، والنفوذ والاقتدار، ما لا تسلم عواقبه ويسلم الملك منها إذا حرم عوامل الرقي الخلقية والعملية والفلسفية والفنية. ولنا على ذلك شاهد من الدول الشرقية الماضية ومن الدولة العثمانية اليوم. ولكن بحثنا الليلة في الأخلاق لا في السياسة.

قد اتضح لكم إذًا أن العوامل الاجتماعية تؤثر في الأخلاق مثلما تؤثر عوامل الإقليم — أي: الحر والبرد — في الحيوان وفي ما هو حيواني في الإنسان. بقي علينا أن ننظر خصوصًا في ما يحط الأخلاق ويفسدها فتخمد في سبيل المجد والعلى ولا ينشط صاحبها إلى نصرة ما فيه إقامة حق أو إزهاق باطل. ولا يطمح إلى مأثرة ولا تسمو إلى منقبةٍ همتُه، بل يغضي على الضيم خاملًا وقد رئم المذلة والاستعباد.

وإن عبدًا لعاداته الذميمة لَكَمِثْلِ عبد الحكومة الأثيمة، ففي الغرب — كما في الشرق — مذاهبُ وعقائدُ وتعاليمُ تذهب بالبأس والمنعة والشجاعة والإباء، فتطفئ في المرء نور الضمير، وتخدر منه الحس والشعور، وتُقعد فيه الإرادة إلا في سبيل الأباطيل والمنكرات. أحقًّا أن الغاية القصوى من الحياة أن ينجح الإنسان في عمله مهما كان وكيفما كان؟ على رسلك أيها المتكالب في سبيل المال العابث بما في الحياة من جوهر الكمال. إن في الحقول وفي الحراج وفي المناجم ما في السماء وفي البحار وفي النفس البشرية من جمال، لا يوزن منه للتجار ولا يُكال، وأنت أيها الزعيم، زعيم العمال، سمعت أناسًا يقولون: إنك تُتاجر بالفقر والفقراء فتُمسي غنيًّا، وأنتم أيها البائسون المؤمنون بمن لا يصدقون ويل منكم ساذجين، يشحذون فيكم الغرائز ويقضون على أخلاق سليمة فيكم خامدة ويغرون عليكم الأسياد، وإلى غاياتهم على بؤسكم يسيرون.

وما انخفضوا كي يرفعوكم وإنما
رأوا خفضكم طول الحياة لهم رفعا

وسيدي صاحب الدولة والرتب العالية إنجيله غير إنجيل المسيح الذي يتبجح باسمه، إنجيله كتابٌ عرفناه، هو: «كتابُ الأمير» رأيناه يتخذه دستورًا لأعماله وأقواله، «وكتاب الأمير» لمكيافلي — أيها السادة — يعلم الكذب في السياسة والمكر والغدر والسفسطة والرياء.»

قال «الكردينال ريشليو» في وصيته السياسية: إن الحاكم لا ينبغي أن يولي صاحب الشرف والوجدان، وفي كتبنا العربية التي تعلم الملوك والسوقة السلوك كثير من هذا، وإن نصيحة «ريشليو» لَتُذكرني بما قاله عمر عندما عزل زياد بن أبي سفيان، قال زياد: لِمَ عزلتني يا أمير المؤمنين ألعجز أم لخيانة؟ فقال عمر: لم أعزلك لواحدة منهما ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس، فالشرفُ إذًا والكياسة والذكاء والوجدان؛ عيوب في صاحب السياسة، غربيًّا كان أو شرقيًّا، إلا إذا استخدمت في المصانعة والكذب والمكر والخداع.

على أن الشرقيين قد لا يرون في مدنية أُوروبا غير آفات أفضتُ فيها في خطاب لي سبق فينفرون منها بل ينبذون من أجلها المدنية كلها زاعمين أن فيها ما لا يُوافق حالهم وشئونهم وطباعهم. ولعمري إن ما فسد في تلك المدنية لا يوافق أحدًا من الناس لا شرقيين ولا غربيين.

وفي أُوروبا وأميركا كثيرون من ذوي الرصانة والحصافة، نوابغُ في العلوم وفي الفنون وفي الآداب، يحملون على ما في مدنيتهم من الموبقات والمنكرات وأكثرها آفاتٌ ظاهرة تعرف الحكومة كيف تتأثرها لتصلحها أو لتستأصلها. وأما في الشرق فآفات المدنية خفية دقيقة يصعب على العلماء معالجتها ويعجز في سبيلها الحكام.

الغربي بما فُطر عليه من حب الحرية والجهر بالأُمور يجرأ على عمل قد يكون مخالفًا سنن العدل المصطلَح عليها، ولا يُخفي قصده عن الناس بل يسير إليه في رائعة النهار ويعززه بحجة عقلية أو سياسية. وقد يكون مجرمًا مع ذلك أو فوضويًّا، أو شاعرًا أو سريًّا. أما الشرقي فنفسه كتاب من الأسرار مختومٌ لا يعلم منه إلا ما نقش على الختم «اللطف، المجاملة، المصانعة، الاستسلام» تُحدث الشرقي في أَجَلِّ الأُمُور أو في أحقرها، وتطلق لنفسك العنان في النصح أو النقد أو التقريع، فيهز رأسه مؤمِّنًا محبذًا، أي نعم، تمام، الحق معك، هذا صحيح، حبذا والله. ثم يذهب في شأنه ثابتًا في ضلاله.

إخواني، في كل أخلاقنا الكريمة الشريفة ما وجدت خلقًا واحدًا يقارن الجرأة الأدبية والحرية الأدبية، شعوب وأُمَم تفرقوا مذاهبَ وهم في حاجة إلى التفاهم قبل كل شيء، ومفتاح التفاهم التصريح بمقاصدنا وغاياتنا، التصريح بما تُكنه أفئدتنا مما يختص بشئوننا الاجتماعية والدينية.

أما هذه الحرية السياسية التي تَرفع في الجرائد وفي الأندية عقيرتها فليست صافية من شوائب التقية والتعصب والمخاتلة. لم يزل هذا الشرقي شرقيًّا — مسلمًا كان أو مسيحيًّا — فيقف مثلًا أمام الحاكم مكتفًا مزررًا، ويتأدب تأدبًا لا يمنعه من الغيبة والنميمة عندما يخرج من الديوان، ويظهر أن سب الحاكم سرًّا، هو خُلق قديم من أخلاق الشرقيين؛ لذلك قيل في الأمثال: ادفع إليهم ما طلبوا من الظلم ولا تنازعهم فيه، وكف لسانك عن سبهم.

٥

على المرء أن يدفع الحجة بالحجة، والظلم بالحق، بل بالتمرد إذا اقتضى الأمر والعصيان، فيكون التمرد — إذ ذاك — حقًّا والعصيان واجبًا، عليه أن يُطالب أبدًا بحقوقه المهضومة مهما كانت، فإذا نام عن صغيرها لا يستطيع صيانة كبيرها، ولكن الشرقي، لوفرة أدبه، أو لكبر نفسه، أو لشدة ورعه، يغضي على الضيم ويعود إلى الله، وقد يتأوه في سره ويشكو الزمان.

والحق يقال: إن في الناس حتى في الغرب كثيرين مثل الشرقيين يسكتون ولا يعارضون ما زالت تجارتهم رائجة، وما زالوا على شيء من العيش رغد هنيء، ولكن هذه المظالم التي أصبحت من المزايا الشرقية المحضة لا تكثر في الأُمَم الغربية، ولا بد للتجار أصحاب الذراع والميزان من المجاملة والمكايسة، فالحضارة تنبه في الإنسان غرائز لا أثر لها في فطرة أهل البادية، وحبذا أخلاق العرب، حبذا البأس والمنعة وعزة النفس والمروءة والإباء والشهامة والوفاء. ولكن الأحكام الشرقية والتقاليد الدينية والمذاهب السياسية ذهبت بأكثرها.

في كل جيل أباطيل يدان بها
فهل تفرَّد يومًا بالهدى جيلُ

ترانا لا نأتي عملًا لا يكون منصوصًا عليه في كتب الدين، ولا نخطو خطوة لم يخطها قبلنا أجدادُنا، ولا نقول في مشاكل الحياة قولًا لا نستطيع إسناده أو إسناد مثله إلى أحد الأئمة الكبار، ولا يمسنا ضُرٌّ أو خيرٌ إلا منه تعالى، فنتوه في جهلنا قائلين: إنا لله! ونتربع على بساط المذلة صارخين: إنا لله! ونركب مطية الجبن والعجز متأوهين: إنا لله! وتحل بنا سبع ضربات مصر فنصرخ مبتهلين: والحمد لله والشكر لله!

جميل هذا التناهي في الورع والتقوى، جميل هذا الصبر والاستسلام، ولكن في المغرب أُممًا أراحوا الله من صراخهم، وشكواهم فأفلحوا، أي سادتي، خلق الله الطير ليطير بجناحيه لا ليتمرغ بهما في أوحال اليأس ويكسرهما على صخرة الإيمان، وأجنحة النفس والعقل في الشرقيِّ لم تزل — والحمد لله — سليمة ولكنها مُكَبَّلة مقيدة، قيدتْها القناعةُ والاستسلام، قيدتها عقيدة القضاء والقدر، قيدتها الأحكام الظالمة، قيدتها السيادة الدينية المطلقة، قيدتها الطاعة العمياء، قيدتها التقاليد والخرافات، بل قيدتها المرأة في قيودها. حلُّوا قيود المرأة الشرقية فتُحل قيود الشرق كلها تدريجًا.

ومن غريب سجايا الشرائع والأحكام أنها تحرر جيلًا من الناس وتستعبد آخرَ، كانت عقيدة القضاء والقدر قديمًا من أكبر عوامل النصر في الإسلام، وهي اليوم من أكبر العوامل في تأخر المسلمين، والشريعة التي حررت المرأة من أحكام الجاهلية وعاداتها أمست اليوم نيرًا على المرأة لا يُطاق، الشريعة التي تقبلها امرأة العصر الخامس لا تقبلها امرأة العصر العشرين، والتي تقبلها امرأة اليوم قد ترفضها امرأة الغد، وهذا هو ناموس الترقي الحي الدائم الذي يخدع المتشرع والمصلح والحكيم، سنن الأدب والدين والسياسة إنما هي من عقل الإنسان، وإنما هي التي أبقتْ عقل الإنسان في قيود الجهل والعبودية زمنًا طويلًا.

على المرء أن يكون متيقظًا عاملًا ناشطًا مفكرًا، فلا يقبل اليوم من الشرائع التي سُنَّتْ لأجداده ما لا يوافق حاله، ولا يساعده في ترقية نفسه وعقله، بل في ترقية قواه الحيوية والروحية كلها. عليه ألا يكون ممن:

عاشوا كما عاش آباءٌ لهم سلفوا
وأورثوا الدين تقليدًا كما وجدوا
فما يراعون ما قالوا وما سمعوا
ولا يُبالون من غَيٍّ لِمَنْ سجدوا

لو سلَّم «كولمبوس» بالمقدر لَمَا سافر سفرته العجيبة، وما أعظم تلك الثقة ثقته بنفسه ونتيجتها. ولو سلم أولئك الإنكليز القلائل بالقضاء، ورضخوا لمظالم حكومتهم لَمَا هجروا بلادهم، وما أعظم نتيجة تلك الهجرة، جمهورية جديدة عظيمة! ولو سلم العلم بأحكام القضاء لكانت الأوبئة والأمراض تُبيد سوريا وقبائل من البشر كل عام.

ومن العقائد التي تعلِّم السجود لغير الله ما هو مجحف بالفضيلة، مفسد للحقيقة الكلية المطلقة، كعقيدة الثواب مثلًا والعقاب، فالجحيم يجعل الإنسان هلوعًا قاسيًا جبانًا، والجنة والسماء تنسيانه واجباته في هذا العالم، وما رأيت ورعًا أجمل من ورع من يُمارس الفضيلة حبًّا بها ومن أجلها، أما عقيدة القضاء والقدر فهي المسئولة عن أكثر ما نحن فيه من الاستكانة والمذلة والخمود.

«عليَّ أن أفعل» فالمقدر للجماد ولِمَا فينا من جماد، لا للعقل المفكر والنفس الخالدة، إن الأحوال الظاهرة لَبنت الفكر، وإن الفكر لَسيد الحوادث، مَنْ سعى سعيًا جميلًا في تكييفها لتوافق نزعات النفس السامية، ولتحقق آمال الفكر العالية؛ كان من الصالحين المقربين من الآلهة. وما يعترضنا في طلب الحقيقة، وفي تعشُّق صورة الكمال من جهل وتعصب وتقاليد وخرافات؛ فمن الشيطان هي، لا من الله. وعلينا أن نناهضها لنذللها ونستأصلها تمامًا.

قال إمرسون: «النفس الخالدة هي التي ترى الخلود في كل شيء، وتُساعد في تكوين العالم.» وفي النفس مرآةٌ إلهية تنعكس فيها صورة الكمال. وكل فكر جميل يصقلها وكل فكر خبيث يُشَوِّهُها، علينا إذًا أن نهجر أميالنا السيئة وآمالنا الباطلة ونزدريها إذا اعترضت الفكرَ الجميل في سيره وسعيه وجده. إن إرادة الإنسان إذا أدركها وروَّضها لَعظيمةٌ، ومتى بدأ يقول «عليَّ أن أفعل أُذن لي أن أفعل»، كما قال الفيلسوف «كنت» ويقرن بالعمل قوله، يتدرج إلى السيادة المطلقة في ممالك الحيوانات والنبات والأثير، وفي ما فوقها للنفس من ملك لا يُحد.

لكل منا دائرةٌ اجتماعية صغيرة يستطيع أن يُنير فيها مصباحَ الفكر والحب والإرادة، ولكل منا سلسلةُ حوادثَ يتألف منها المهم في حياتنا الإصلاحية فيستطيع أن يكفيها لتُوافق ما سما من أفكارنا وما سلم ورقَّ من شعورنا، هذا إذا كانت لنا ثقةٌ بأنفسنا فنُعزز بالعمل الإرادة فينا.

لا بد من سقوط كل عقيدة، دينية كانت أو سياسية أو فلسفية من شأنها أن تُبقي الإنسان في ضعفه وجهله وخموله، ولا بد من اضمحلال مذاهب وتعاليم رُكنُها الأول من الوهم والخرافة، ولا بد من نسخ كل شريعة لا يقرها العقل ولا يخضع لها الضمير. وما نهض بالأُوربيين من مهامه الجهل والهمجية والاستعباد غير تحررهم من خزعبلات السياسة والأحكام، ومن قيود الخرافات والأوهام.

في جزيرة جاوى نوع من الشجر لا ينمو في ظله نبتٌ ولا يعيش حيوان، شجرة في جذعها وأغصانها سم يسم تربتها وظلالها فتراها وما حولها من الأرض الجدباء كأنها واحة في قلب البادية. وهذه لعمري شجرة الخرافة، يزرعها أربابُ الدين في النفس فيَسُمُّون فيها بالفضائل والأخلاق، وتمتد ظلالها إلى العقل وإلى القلب فتفسد فيهما الفكر والشعور. شجرة جذعها من الخوف وسمها من الجهل، وأغصانها من الأوهام، وثمارها — وإن كانت كبيرة جميلة — فكتفاح سدوم قلبها من رماد وكبريت! فمتى يتقلص ظلك في الشرق أيتها الشجرة السامة المهلكة؟ متى يستأصلك العلم من أنفس الشرقيين؟ ومتى يُطرد هؤلاء الكهان الذين يرعونك بالتربية ويتاجرون بسمك وثمارك؟

نكذب العقل في تصديق كاذبهم
والعقل أولى بإكرامٍ وتصديق

أولئك الذين يتاجرون بتفاح سدوم يفسدون في الناس عقيدة الإيمان الحقة، الإيمان سر القوى البشرية من عقلية وروحية وأدبية، الإيمان الحي الصادق يحرِّك صاحبه إلى المفاداة بالنفس والنفيس في سبيل الحق والشرف والعدل والحق والمجد والعلى. وفي سبيل العلوم التي تحبب هذه الفضائل إلى الناس، وفي سبيل الفنون التي تحيي فيها صورة الكمال. قديمًا كان النبي الكاتب الشاعر في الناس، وما كان يتهيب الموت إذا اعترضه في سبيله، فيسجل كلمته على أعداء الحق بل أعداء الله ولسان حاله يقول: على الدنيا السلام. فأين شبه الأنبياء في أدباء هذا الزمان وشعرائه.

تراهم يتزلفون إلى ذوي السيادة ويُصانعون صونًا لمصلحة أو جرًّا لمغنم، أما الإيمان فميت في صدورهم. فالأديب الذي يفادي بسعادته في سبيل أدبه، والسياسي الذي يفادي بمنصبه في سبيل وطنه، والعالِم الذي يُفادي بحياته في سبيل عمله؛ إن هؤلاء وإن عُدُّوا من الكافرين لَمِنْ أجمل الناس ورعًا وأَصَحِّهِمْ اعتقادًا وأصدقهم دينًا؛ ذلك لأن إيمانهم بالله. وبالحري بما في النفس البشرية من القوة الإلهية الكامنة، لحي صادق مجيد، أتمجد الله يا هذا؟ كن عادلًا محبًّا منصفًا آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر عاملًا في تحقيق أملٍ واحد من آمال النفس السامية، فإن في اقتدائك بالمقربين منه تعالى تمجيدًا كافيًا لاسمه.

٦

عقائد في الشرق وأضاليل تفسد العقول والأخلاق فما الذي يصلحها؟ لا أقول قول «منتسكيو» إن على الحاكم أن يستخدم القانون لينبه من أنامهم الدين، أو بالحري الاعتقادات الدينية الباطلة، فالعقائد الفاسدة لا تزيلها غير العقائد السليمة، والقانون لا يجرأ على اقتلاع شجرة الخرافة من أصولها؛ لأن ذوي المصلحة الذين يتاجرون بسمها وثمارها كثيرون.

فالعلم الصحيح وحده ينبه مَنْ خَدَّرَتْه التقاليد والخرافات، وينعش منه النفس والجسد أما القوانين والأحكام فتعجز عن إصلاح ما أفسدته من الأخلاق. إن عصرنا لَهو عصر البحث والنقد والتمحيص، وإذا كانت لا تسود هذه الروح روح الزمان الراقية في آدابنا وأدياننا وسياساتنا واجتماعاتنا، فلا تصطلح أخلاقنا أبدًا ولا تُفكُّ فينا قيود العقل والروح.

في كل الفلسفات الأدبية القديمة والحديثة ما وجدت أصلح من فلسفة الرواقيين وأسمى. مُنشئها «زينون» اليوناني، فإن فيها من المنبهات العقلية، والمقويات الروحية، ما لا نجده صافيًا في الحقائق التي نُلقنها اليوم. فلسفة الرواقيين تعلمنا الواجب الذي لا يتعدى العمل به اللازم المفيد، وتعلمنا الصبر على الشدائد وعظم الهمة، وتعلمنا أن ننظر إلى السرور والحزن بعين هادئة وقلب مطمئن. وتشدد العزيمة فينا فتحصن النفس من طوارئ الدهر وتُعدُّها لنوائب الزمان، وتُحبب إلينا الفضيلة حبًّا بها لا حبًّا بجنات تجري من تحتها الأنهار.

لمذهب الفيلسوف «زينون» الفضل الأكبر في عظمة رومية وبأس أبنائها، بل هو مهد رجالها العظام من قادة وسياسيين وفلاسفة وقياصرة، لو حكم عليَّ بالتمذهُب لَما اخترت غير الرواقية مذهبًا.

لا أنكر أن ماضيَ الشرق غني بالنوابغ العظام، بالذين تفردوا ذكاءً وروحًا وأخلاقًا، فنظموا الشعر، واشترعوا الشرائع ووضعوا التعاليم، فكانوا أعلامًا يهتدي الناس بها، ولكن المعلمين منبهون مرشدون، والأنبياء إلى الطريقة القويمة هادون، على أن «الإنسان لم يخلق ليُقاد بالزمام» بل فُطر على أن يهتدي بمصابيح العلم والحرية، فالعلم ينير الحوادث ودلائلها، والحرية تمكِّنه من الاستفادة بها فكرًا وعملًا.

إن في كل قوم حكمة، ولكل زمان سياسة، وفي كل حالة تدبيرًا يبطل الأخيرُ منها السابق لها، إن تعاليم «كنفوشيوس» السياسية تُغاير الشرائع الدستورية التي تأسست عليها اليوم جمهورية الصين، وفلسفة بوذا الاجتماعية والدينية تتقوض في ظل الأحكام الإنكليزية، وإن ما أنزل على نبي العرب لإصلاح حال العرب ورفع شأنهم أكثره لا يصلح اليوم لإصلاح شئون أُمم كبيرة لا يستطيعون أن يعيشوا كالبدو في بيوت من الشعر.

وفي الشرقيين من أدركوا هذا، ممن عظم خلقهم وكبر قصدهم وبعدت همتهم، وإننا لنرى شيئًا من هذا الإدراك السامي حتى في المتفردين بالتوحش من الفاتحين، رجل رجلاه في الدم وفي رأسه شيء من السماء نظر إلى السماء وقال: إذا كان الله في كل مكان لِمَ لا نعبده في أي مكان كان، ففي أشواك نفس «جنكزخان» الذي هدم الجوامع واعتنق الإسلام وردة جميلةٌ من وردات الحقيقة السامية، وإن كلمته لتذكرني بما رواه لنا «القديس أوغسطينوس» عن «فكتورينوس» العالم الوثني الشهير في زمانه، فإنه أخبر أحد أصحابه يومًا أنه اهتدى إلى الدين المسيحي فقال صاحبه: لا أُصدق حتى أراك في الكنيسة، فقال «فكتورينوس»: وهل الجدران تجعل المرء مسيحيًّا، الحقيقة تتجلى في الأحايين للبربري تَجَلِّيها للفيلسوف.

وإننا لَنجد في الشرق اليوم في أي مدينة كانت أُناسًا تساموا عقلًا وخلقًا، ولكن خاصة أخلاقهم لازمةٌ غير متعدية بين أن الغربيين إذا سمت أخلاقهم صحت منهم العزيمة وبعُد القصد، فيعملون بما أُوتوا من المواهب لخير الناس. وإننا لَنرى هذا الفرق في حكمتنا وحكمتهم — كما قلت — وأزيدكم من ذلك مثالًا، جاء في بعض الكتب: إن الرجل الفاضل الرشيد لا ينبغي أن يُرى إلا في مكانين، إما مع الملوك مكرمًا، وإما مع النُّساك متعبدًا، هذه حكمة الشرق. إنما الفاضل الرشيد من لا يُرى لا مع الملوك مكرمًا ولا مع النساك متعبدًا، بل في معمعان الحياة عاملًا، هذه حكمة الغرب. فالزهد والانقطاع عن الدنيا كالإخلاد إلى نعيم العيش كلاهما يورث الخمول والخبال، وإذا سلمتْ عواقبه فلا يربي في صاحبه غير الفضائل اللازمة أو السلبية. وهاكم قصة تمثل ما أريد: التقيت مرة في الطريق على شاطئ البحر بدرويش اسمه الشيخ عبد الله، وهو من السالكين، طريقته مولوية، فأخبرني أنه وصل إلى سوريا منذ خمسة عشر يومًا قادمًا من الحجاز ماشيًا، وقضى في الطريق خمس عشرة سنة، وأخبرني أنه جاء سوريا ليزور فيها قبر أحد الأولياء في نواحي طرابلس.

تركت ضياء الشمس يهديك نورها
وتبعت في الظلماء لمحة بارق

على أنه بان لي بعد أن حدثته في طريقته وأحواله — ولي نزعة إلى استطلاع أخبار هؤلاء الدراويش — أن الحاج عبد الله على شيء من العلم، وأنه في سلوكه وقنوته لَمن الصادقين، ولم يطلب مثل أكثر إخوانه صدقةً لوجه الله، ولكنني عند مصافحتي إياه مودِّعًا وضعتُ في يده قطعة من نحاس هذه الدولة فقبلها شاكرًا. وسرت في طريقي أتأمل في من جاء ماشيًا من الحجاز — وقضى خمس عشرة سنة في الطريق — ليزور قبر وليٍّ من الأولياء.

أرسلت غربك تبغي الماء مجتهدًا
وما على الغرب لما خانك المرس

وكنت وصديق لي نقصد يومئذ عمشيت لنزور فيها قبر ولية من وليات البر والحجى، هي «هنريت رنان» أُخت الفيلسوف الإفرنسي الشهير، فكنا والحاج عبد الله سويين من هذا القبيل لكلانا مزارٌ تُحركنا إليه عاطفةُ الورع والتقوى، ولكن هذا غير ما أبتغي من القصة. في اليوم الثاني ونحن عائدون إلى بيروت — وكانت السماء يومئذ ماطرة — تراءى لنا خيالٌ أسودُ على حجر إلى جانب الطريق، فاقتربنا منه فإذا به الحاج عبد الله يستريح تحت المطر من عناء السفر — وهؤلاء الدراويش لا يخافون الزوابع والرياح — فحدثناه ثانيةً، وقدم إليه رفيقي شيئًا من المال — وهذه النكتة — فرفضه قائلًا «لم يزل معي والحمد لله مما تفضلتم به البارحة.» القناعة كنز لا يفنى، ولكنه كنز لا يعمر البلاد.

خلق الحاج عبد الله ما يسمونه في لغة المتصوفين خلقًا عظيمًا؛ لأنه أعرض عن العالم وأقبل بكليَّته على الله تعالى، ولا أظنكم تجهلون ما في هذه الطريقة طريقة السالكين والنُّسَّاك من تعطيل الحواس الظاهرة والكفران بالذات. وإن السالك ليقتل إرادته ويخلد إلى السكون الذي يولد الخمول والكسل.

وفي الهند عند البراهمة غرائبُ من أساليب الكسل والخمول. عقيدة البوذي مثل عقيدة المتصوفين في نتائجها وفي بعض أصولها، والغاية القصوى منها اتحاد المرء والمبدأ الأولي الدائم مبدأ اللاشيء — أي: العدم الأزلي — فالبوذي يغمض طرفه ويقول: إنني جزء من هذا اللاشيء الأزلي اللانهاية له، وفي قتلي الإرادةَ، واستئصالي الرغائبَ والآمال الدنيوية من صدري، أفوز على النفس فيتم اتحادي بالظلمة الأزلية الأبدية، وهي تدعى عندهم «نرفانا» أما المتصوف فيدعوها جمع الجمع — أي: العزة الإلهية — وإذا سُئل البوذي ما هي «نرفانا»؟ أجاب: إني حين أُغمض طرفي وأعود إلى نفسي مرددًا: «أم، أم» أظفر بها، «أم، أم»! الله الله! قد يسعد النسك صاحبه، ولكنه يخرب العالم.

مثل هذه العقائد أصولها في أوحال العادات والخرافات، وفروعها في سماء النظريات والأوهام، لا تربي في المرء أخلاقًا سامية مجيدة يتعدى خيرها، ولا يلازم صاحبها وينحصر فيه، ومن سخيف تقاليدها مثلًا ما نراه متبعًا عند البراهمة فعلى البرهمي ألا ينظر إلى الشمس عند شروقها وغروبها، ولا يطأ حبلًا ربطت به بقرة، ولا ينظر إلى امرأته حين تأكل أو تعطس أو تتثاءب، ولا يلبس لطعام الظهر غير ثوب واحد، ولا يستحم عريانًا، وغيرها من آداب السلوك المستغربة المضحكة.

حتى إنه في إزالة الضرورة تراه مقيدًا بخرافات بوذية، فقد حظر على البرهمي أن يزيل ضرورة على الرماد أو في حقل مفلوح أو على ربوة خضراء أو على وكر نمل أبيض، وغير هذه من الأوهام التي يُنزلونها منزلة النواميس الطبيعية بل الإلهية. وهم مع ذلك أصحاب تجلة وكرامة، محترمون في قومهم مؤلهون، فلا غرو إذا كانوا متقاعدين متخاذلين خاملين، لا يعملون عملًا مفيدًا، الجلالة والوقار والكسل قلما ينفصل بعضها عن بعض، وكل أُمَّة يغلب في شعبها وَهْمُ الأبهة والجلالة، تستنيم إلى الضعة، ويخمل منها الحس، ويكثر فيها الكسل.

هؤلاء نساك الروح، رهبان الشرق، براهمة ومتصوفون، يهربون من الحياة ويزدرونها، أما نساك العقل فإليكم خبرهم. في المغرب اليوم عصبة الفلاسفة المتفردين الذين يعرفون الأحكام ولا يقرُّونها، ولا يتعرضون لها مباشرةً، يعيشون في حقولهم بعيدين عن ضجيج المدن والناس، مستقلين مطمئنين، لا يتطلبون شهرةً ولا مجدًا. يعيشون على الفطرة الأولى من الوجهة الجسدية، وعلى أرفع ما اتصلت إليه العلوم والحكمة من الوجهة العقلية والروحية والمعنوية.

ترى أحدهم بدويًّا في غرائزه وطباعه، حضريًّا في مزاجه وأخلاقه، أميرًا وفلاحًا في وقت واحد، وكثيرون من هؤلاء في الولايات المتحدة في البر لا في المدن يعيشون في عزلة عن الناس، كل في دائرته كالنجوم في حبكها، وتشع أنفسهم أشعة الألفة الحقيقية التي تربط كل دائرة بأختها، ولكل منهم مهنتان سماوية نسكية قوامها الآية: «على الأرض السلام وبالناس المسرة» ومهنة دنيوية زراعية قوامها الفكر والعمل، فيحرث أحدهم الأرض، ويربي المواشي، «ويقطر عربة أفكاره بالكواكب السيارة» كما قال «إمرسون» وقد زرت أحد هؤلاء الكبار مرة في بيته فلقيته عند وصولي قدام باب الإسطبل حاملًا جراب قمح يطعم منه الدجاج، وبعد أيام دعيت إلى مأدبة في المدينة جمعت من رجال العلم والأدب أشهرهم هناك وكان صديقي هذا رئيسها وقطب دائرتها.

فتأملوا هؤلاء النساك نساك العقل، نساك الفلسفة، لا ينكفون عن العمل المفيد، مهما كان زريًّا، ولا تأخذهم أوهام الأبهة وخزعبلات الوقار والجلالة، وقد لا تعجبكم أخلاقهم أو بالحري سلوكهم، فهم لا يحفلون بما تلقناه في الشرق من المجاملة والمصانعة في الضيافة، ولا يحسنون من اللطف الشرقي الألف باء، ولكن صدقًا في أقوالهم، وحرية في أعمالهم، وجرأة في حريتهم؛ تقربهم إلى الفطرة البشرية الأُولى التي لا تَعرف القهر والضغط، فيسترسلون مع الطباع، ولكنهم يستعملون في ذلك الفكرة والتمييز. والفطرة الأولى أقرب إلى الخير، على ما فيها من غلاظة وسماجة، لبعدها عما ينطبع في نفوس أهل المدن من سوء الملكات، وقبيح العادات، وفاسد الاصطلاحات، وهذا ما يحمل ذوي الألباب والحصافة اليوم إلى السكنى في القرى أو التنسك في البرية.

ذلك مبلغ نساك العلم والأدب، وتلكم طريقتهم النسكية الفلسفية، ناسك الروح يعطل الحواس منه لوهمٍ فيه أن ذلك يقربه من ربه، وناسك العقل يهذبها ويرعاها أبدًا بالتربية ليقترب من نفسه فيعرفها، شعاره بساطة العيش مع سمو الأدب، فيقرن لذة الحراثة بلذة التأمل، ولذة التأمل بلذة العمل. ناسك الروح يبعد عن الناس ليقترب من الله، وناسك العقل يعتزل الناس ليقترب حقًّا من الناس، فيعيش طبق فلسفته وبموجب علمه فيصير أهلًا لأن يخدم الناس وينفعهم. فما قولكم بالناسكين ناسكنا وناسكهم، وأي منهما أقربُ إلى الله؟

وهاكم مثالًا آخر من أخلاقنا الكريمة التي قلما تفيد. في لبنان يكثر الشحاذون ومنهم نساء من العرب يستعطين ليعيِّشن أولادهن ورجالهن! ومن هؤلاء البائسات بدويتان استوقفتاني يومًا فأدهشني أمرهما، بعد أن جاءتهما الخادمة بشيء من الدقيق جلستا على الدرج قدام الباب وفتحت كلٌّ| جرابها، فأخذت البدوية الصغيرة واسمها حسنى تفرغ من جرابها الملآن في جراب رفيقتها الفارغ، فسألتها السبب في ذلك، فقالت: هي ضرتي ورجلنا يؤثرني عليها ويضربها ضربًا أليمًا إذا عادت المساء وجرابها فارغ، فأشاطرها ما معي لأَرُدَّ عنها الضرب.

فعجبت لكرم أخلاقها ولكني أسفت لما ربيت عليه من الذلة والاستكانة والاستسلام، فهي لا تستطيع ردع زوجها المتوحش إلا بهذه الحيلة الجميلة، ولو حاولت ردعه ساعة غيظه لضربها أيضًا، حبذا شهامة مقرونة بالقوة والعصيان، لحم الضبع يلزم له أسنان الكلب، وإنه لَيحق لمثل هذه المرأة أن تهجر زوجها، ولَباركها الله لو فعلت، ولكن زوجها ممن يدينون بدين يأمر بضرب النساء.

وهاكم قصة أُخرى تمثل ما أُريده بالأخلاق اللازمة المتعدية، مرَّ أعرابي بعجوز فطلب منها طعامًا، فجاءته ببضع حيَّات مشوية وبكوز من الماء المالح، فاستغرب ذلك وسألها السبب، فقالت: هذا كل ما عندنا في هذا الوادي، فتعجب الأعرابي وسأل العجوز كيف تقيم هناك تأكل الحياة وتشرب الماء المالح؟! فقالت: وكيف تكون بلادكم؟ فوصف لها بلادًا فيها دور رحبة واسعة، وثمار يانعة لذيذة، ومياه غزيرة عذبة فقالت العجوز: وهل يكون لكم من سلطانٌ يحكم عليكم ويجور في حكمه؟ فقال الأعرابي: قد يكون ذلك، فقالت آكلة الحيات: إذًا — والله — يكون ذلك الطعام اللطيف، والعيش الظريف، مع الجور والظلم؛ سُمًّا ناقعًا، وتعود أطعمتنا مع الأمن ترياقًا نافعًا. حكمة العجوز بليغةٌ، وجميلٌ إباءُ نفسها، ولكن ذلك لا يردع السلطان عن غَيِّهِ، ولا يكبحه عن جوره وظلمه.

أجل إن قناعة الحاج عبد الله وشهامة البدوية حسنى وعزة نفس العجوز آكلة الحيات لَفضائلُ كلها جميلة ولكنها سلبية ملازمة، شريفة أخلاقهم روحية، ولكن شيئًا كهربائيًّا لينقصها، مثل هذه الأخلاق في الشرق لا تؤهله لمناهضة الظلم والظالمين؛ لأنها غير مقرونة بإدراك النفس ما لها من الحقوق وما عليها، وقد يصح أن نقول: إن في مثل هذه الأخلاق الشريفة نورًا وليس فيها دمٌ. الشرقيُّ يهرب من الظلم معتصمًا بالله «لا تجعل سلاحك على من ظلمك الدعاء عليه ولكن الثقة بالله»، فالهرب إلى البرية من الظالم جبانة، والهرب إلى الله من الحياة كفران بالحياة وبباريها، نفس الحاج عبد الله جميلة ولكنها ضالَّة، ونفس العجوز أَبِيَّةٌ ولكنها مستسلمة، ونفس حسنى البدوية كريمة ولكنها خامدةٌ خاملةٌ، فحيلتُها لا تزيل شراسة الخلق في زوجها، وكان ينبغي لها أن تتفق وضرتها لتهجرا مثل هذا البربري، فإن خفاشًا في كهف لَخَيْرٌ منه.

أقول — وحقًّا ما أقول — إن الشرقي يظل شرقيًّا قاعد الهمة، عاجز الرأي، خامد الطباع متخاذلًا مستسلمًا، قانعًا من زمانه بالضعة والذل، إذا كان لا ينفض عن نفسه غبار السنين من الكسل والخمول، ولا يكسِّر قيودًا من التقاليد والخرافات والعادات، قَيَّدَتْ منه العقلَ والنفسَ والجسدَ.

الإنسان الذي خلقه الله على صورته تعالى ومثاله، إذا تقيد في كل أعماله وأقواله وأفكاره، لا يبقى فيه شيءٌ من صنعة الله حرٌّ جميل، الفكر! انهضوا به من قبور التقاليد، النفس! حَرِّرُوها من خزعبلات الأوهام، الجامعة! ارفعوها على الحكومة والحكام، الأخلاق! رَوِّضُوهَا للعمل المفيد. إن أخلاقنا الروحية لَرأس مال كبير في حياتنا الجديدة، علينا إذًا أن نستخدمه لخيرنا وخير الشرق بل لخير الناس أجمعين. وإن من لا يرجو من هذه الحياة خيرًا لَهو غالبًا ممن لا يستأهلون الخير ولا ينالونه.

كلمات اليأس لا يزيل تردادها اليأس، التأوُّهُ والأنين لا يصلحان الشئون بل يوهنان القوى ويورثان الخبال. لنعوِّدْ أنفسنا ترداد كلمات الأمل والرجاء، فإنها وإن كانت مبنية على وهم مستحب، أو فكرة طائشة، لتعودنا في الأقل العمل، وتوقظ فينا النشاط وتشحذ منا الإرادة. إن أملًا أردده في نفسي كل يوم لا يلبث أن يملكها فيدفعني إلى العمل لتحقيقه. المريض لا يشفيه الأنين، والشقوة لا يزيلها الاستسلام إلى الأقدار، لتبرهن خطتنا في أُمُور الدنيا والآخرة على عقلنا، ولتبرهن قوتنا على خطتنا، ولتبرهن أعمالنا على هذه القوة فينا.

وحبذا الشرقيون والغربيون لو أخذ بعضهم عن بعض مما هو جميل في أديانهم، صحيح في آدابهم، سامٍ في فنونهم، سليم في عاداتهم، سديد في عقائدهم، عادل في أحكامهم وشرائعهم. فالحق يقال: إن خلاصة آداب الشرق والغرب — بل خير ما في الاثنين ممزوجًا موحدًا — إنما هو الدواء الوحيدُ لأمراض هذا الزمان الاجتماعية والدينية والسياسية، فالغربيُّ عندئذ يعود إلى الله، والشرقيُّ يرفع عنه تعالى بعض أثقاله.

١  أُلقي هذا الخطاب في الكلية الأميركية ببيروت عام ١٩١٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤