في الحرب وبعدها

في الدرجة الثالثة١

من المشاهد التي لا أنساها حياتي مشهد الجنود الإفرنسية في اﻟ «غاردي لست» واﻟ «غاردي تور»٢ مشهد رهيب خطير طالما استوقفني معجبًا، أضرمني حماسة، هزني طربًا، ضاعف فيَّ حب فرنسا والفرنسيين، فوددت أن أكون منه لا من المتفرجين، غبطت رجاله على ما شاهدوه، غبطتهم على ما نالوه من المجد، غبطتهم على ما خبروه وقاسوه، غبطتهم على حياة أبعدتهم عن سفاسف الحياة وأنستهم ماديات الوجود.

كنت أجلس في القهوة ساعات أتأمل هذا المشهد العظيم فيتغير أمامي ولا يتغير، في أي وقت من النهار والليل كنت أشاهد في المحطة وفي ساحتها أمواجًا منه زرقاء بيضاء تموج رائحة جائية، داخلة خارجة، من ساحات القتال إلى المدينة ومن المدينة إلى ساحات القتال، فلا تكاد المحطة تفرغ من الجنود المسافرين حتى تمتلئ من القادمين، تأملهم أيها القارئ، منذ ساعة كانوا في الخنادق، تحت عواصف المدافع وأمطارها، دخانها لم يزل في عيونهم، أوحال الخنادق وغبارها وأوساخها لم تزل متراكمة على أثوابهم. خوذاتُهم وقد علقت في حقائبهم تفصح عن معارك خاضوها، غير لونَها الدخان، شوهتها شظايا القنابل، منها مكسرة، ومنها مثقبة، ومنها ما أمست أثرًا من الآثار يحتفظ به الجندي كما يحتفظ بأوحال الخنادق وأوساخها.

وتأمل العائدين إلى ساحات القتال بعد فرصة سبعة أيام، إن أثوابهم وحقائبهم لم تزل هي هي، تطليها الأوحال، ويحجب لونَها الحقيقيَّ الغبار، فإن الأزرق أصبح رماديًّا والأحمر بُنيًّا مائلًا إلى الذهب العتيق، أتذكر لون البحر إبان العواصف؟ إزرقاق يتماوج بين لون الغيوم ولون الأُفق المدلهم، هذا هو لون أمواج المجد التي كنت أُشاهدها في تلك المحطة في باريس.

تباركت أرضٌ لا تزال تُنبت مثل هؤلاء الرجال، تباركتْ روح لا تزال منشأ الشجاعة والبسالة فيهم، قدست — واللهِ — غبارهم وقدست الأوحال المتراكمة على جوانبهم، إنهم أبناء فرنسا الحقيقيين، هم مصدر مجدها الباهر، هم أركان عزها وصولتها واقتدارها، هم العاملون في تخليد ذكرها ومدنيتها، هم حماة روحها الجليلة التي أنارت العالم وحررت الشعوب، هؤلاء هم اﻟ «بوالو»٣ أبطال اﻟ «مارن» و«السوم» و«فردون»٤ بل أبطال الحرية وحقوق الإنسان.

وإنه لَيدهشك منهم سيماء وجوههم، لا الغم ولا الابتهاج، لا القلق ولا الضجر، لا الخمود ولا الحماسة تبدو في ملامحها، هناك مسحةٌ غريبة مبهمة بعيدة كالأُفُق، سرها عميق، هادئة باردة ساكنة، هي كالحجاب وقد ألبستهم إياه الحرب، هي من نشأ الخنادق وقد أُشربت نارًا وطليت دخانًا، ترى الجنديَّ منهم فلا تصدق أنه من الأبطال، تنظر إلى عينيه فتنكر وجود الحماسة في صدره، خطواته ثقيلة كحقائبه، نظراته هادئة كنفسه، قلما يبتسم وقلما يتكلم، كأن ما تشاهده منه إنما هو ذاته الهيولية، أما ذاته المعنوية الروحية فكأنها لم تزل في الخنادق، أو كأن شبح الحرب لم يزل ملازمًا له مستوليًا عليه.

أدهشني أمر هؤلاء الجنود وحيرني، ولكني تيقنت حقًّا صدق الآية «المرء بأصغريه» بل بأحد أصغريه في مثل هذه الحال، بقلبه فقط، تباركت هذه القلوب الكبيرة من أبنائك أيتها الأُمَّة المجيدة.

على أنني حزنت لَمَّا شاهدتهم يومًا يركبون القطار في عربات الدرجة الثالثة منه، الدرجة الثالثة لمجد فرنسا! الدرجة الثالثة لأبطال العالم! إنه لَحَيْفٌ — والله — ولكنها الضرورة تقضي بمثل ذا الحيف. وددت مرارًا أن أُشاهد هذا الجندي البسيط في الدرجة الأولى، يزينها ويشرِّفها بغباره وأوحاله، وما الرياش تفترشه السيادة أو الوجاهة في هذه الأيام العصيبة غير ترفٍ ذميم، ولَعمري إن ما يفترشه الجندي لَيليق بالملوك، والدرجة الثالثة في القطار أصبحت الدرجة الممتازة.

لذلك سافرت يوم تركت باريس في الدرجة الثالثة عَلَّني أقترب من هؤلاء الأبطال فأشاركهم ولو يومًا واحدًا في مشقة السفر، وهناك أمرٌ آخر حبب إليَّ الدرجة الثالثة، لما كنت أشاهد الجنود في اﻟ «غاردي لست» كنت أتشوق إلى استطلاع أخبارهم، إلى معرفة حقيقة أمرهم، إلى الدخول إلى مكنونات صدورهم، إلى كشف أعماق سرهم، رأيت الضابط يمرح في أسواق باريس فراقني أناقةُ المظهر، وبهاء الطلعة، وجمال الثوب، وسيماء العزم والحزم والنشاط. ولكني قلت إن ذلك من نتائج التدريب والتنظيم أما داخلهم فقد يكون مضطربًا متزعزعًا، ورأيت الجنود المشاة اﻟ «بوالو» الذين تدور عليهم رحى الحرب، أبناء الخنادق والنار، رائحين جائين من ساحات القتال إلى بيوتهم ومن بيوتهم إلى ساحات القتال، كأنهم من عمال المدينة، لا تهزهم بهجة العطلة ولا يستفزهم الشوق إلى مشاهدة الآل والخلان. ويدخلون المحطة عائدين إلى جحيم الحرب كأنهم عائدون إلى أشغالهم العادية أو إلى بيوتهم، ومع ذلك فقد خامرني بعض الريب مما كنت أُشاهد، فقلت: قد يكون ظاهرهم الهادئُ الصامت نتيجة ما دوَّخت الحرب من داخل أنفسهم.

حدثت بعضهم فكادت تكون لغتهم منحصرة بنعم ولا، كأن أصوات المدافع وأمطار القنابل علمتهم السكوت وأفقدتهم عادة الحديث. فقلت في نفسي: علهم يخشون التبسط والإفصاح بل تيقنت أن المرء في المدينة أيام الحرب — جنديًّا كان أو مدنيًّا — يجمجم الكلام ويطليه، فيخالط آراءَه شيءٌ مما توجبه الحكمة والأحكام من التحفظ. أجل، إن لطفنا مثلًا لا يخلو في المدن من المصانعة وآراءنا لا تسلم من الضغط، وطالما تاقت نفسي إلى مجالسة الجندي في زاوية بعيدة من دوائر الأحكام، من مراكز السياسة، من ضوضاء الأسواق، من همس المقاهي، من ظل الجواسيس! وهذه فرصة اغتنمتها، فرصة في الدرجة الثالثة نادرة.

فضلًا عما كان يهزني من الشوق إلى الاقتراب من هؤلاء الأباسل الأشاوس؛ وددت الاقتراب من أوحالهم، من غبارهم، من روائحهم، من أوساخهم، بل من روحهم الحقيقية الخالدة الواقفة اليوم مجردة من أباطيل المجد وخزعبلاته، الممتشقة سيف الحق والحرية، تلك الروح طي ذاك الثوب الأزرق الكمد البالي إنما هي التي ألبست فرنسا اليوم حلة من المجد لا يبليها الزمان.

ركبت القطار من اﻟ «غاردورساي» قاصدًا إسبانيا، وقد أدهش قصدي بعض الأصحاب، فتفننوا في التذكير والمداعبة، السفر في هذه الأيام جنونٌ، كأنك لا تطالع الجرائد، كأنك جاهل حقيقة الحال، لا فحم ولا عمال، لا بخار ولا كهرباء، قد يقف القطار بك في بادية لا ظل فيها ولا ماء، ومحجتك إسبانيا! قد تصل سالمًا يا صاح لو كان لك هجين تمتطيه. فلم أكترث بمثل ذا التثبيط والمداعبة، يممت المحطة باسم الله ووزير الشحن والنقل، وعددت وأنا على الرصيف عربات القطار فإذا هي أربع عربات من الدرجتين الأولى والثانية وعشر عربات من الدرجة الثالثة، فأعجبني من الشركة هذا النظام والاحتياط، وسررت أن أكون من الأكثرية في صف المسافرين، والأكثرية هذه الأيام ممن وصفت، من الجنود.

ستة منهم رفاقي في العربة، أحدهم جزائري أو إفرنسي في الزي التونسي الذي ذكرني بجيش لبنان المنكوب التاعس، والبقية في الثوب البسيط الأزرق، الأغبر، الأسحم، أو بالحري الملون بلون الخنادق، وبين هؤلاء كهل تجاوز الأربعين سنًّا، عمليق كبير الهامة، شديد البنية، كث اللحية وجهه كالجلد إذا بُلَّ في الماء ونشر ساعةً في الشمس، وعيناه تحت حاجبين رهيبين جمرتان متقدتان، أما صوته فيا لله منه، لا يزال يرن صداه في أذني، ولكن الرجل وضَّاء المحيا تَنسخ ابتسامتُه غضبًا تَمَثَّلَ في جفنيه، وتزيل ما قد يعتريك من الاشمئزاز إذا سمعت صوته الخشن الجهوري، تمثله يصيح باﻟ «بوش» فيرجفون خوفًا ورعبًا، وما فتئت الألفاظ من فمه كجدول من الماء بين الصخور، لها ضجة، وللضجة في صدره صدًى غريب.

جلس هذا العمليق تجاهي وجلس إلى جانبه شاب أمرد، أشقر اللون، أزرق العين، دقيق البنية، لطيف الصوت فَكِهُ النفس، وأخذ يداعبه كأن له عليه دالة الصحبة فوق دالة السلاح.

– لم يتغير عليك شيء حتى الآن، هذه العربات مثل الخنادق، تَكَتَّفْ واطوِ رجليك وقل الشكرُ للوزراء.

– ولكنها خنادقُ متزعزعةٌ يا بني، فها إنها بدأت تتحرك.

– كما يتحرك اﻟ «بوش» أو الفيل.

– لا بأس يا بني، عطلة يقضيها مثلك في القطار خيرٌ من عطلة في المدينة.

– أو في باريس اليوم وقد خلت من أمثالك.

– ومن الفحم والحطب.

فقاطع حديثَهما الجزائريُّ قائلًا: وما أحلى شمس إفريقيا اليوم!

فأجابه أبو اللحية: أما أنا فقد نسيت الشمس وأكاد أنكر وجهها إذا أطلَّ.

ثم أشعل غليونه وبصق على الأرض (نحن في الدرجة الثالثة أيها القارئ، والخنادق تنسي الجندي ما تعوده من آداب التمدين).

أما الجزائري فأخرج لفائف من جيبه ووزع منها على رفاقه ثم أشعل لفافة ووقف أمام الشباك يتنشق الهواء.

– ما قولك؟ أتنتهي الحرب في الصيف المقبل؟

– لو سألتني متى تنتهي حياتي لسهل عليَّ الجواب.

– وماذا يهم متى تنتهي الحرب ما دام وزراؤنا بخير.

– سمعت أن الوزارة متزعزعة وأن وزير الحربية …

الكلام للجندي الأمرد الذي قاطعه العمليق أبو اللحية هامسًا كلمة في أذنه، فنظر الشاب إليَّ — إلى الغريب — وسكت.

التجسس! الحذر من التجسس! عادةٌ ألفناها في هذه الحرب فكادت تمسي ملكة فينا كلنا.

وقد علمت بعد أن تعرفنا وتآخينا أنه ظنني تركيًّا أتجسس للألمان وكان في نيته أن يتبعني حيث نزلت ليتحقق أمري — ليتجسسني — ولكننا شربنا في «تولوز» كأسًا على ذكر خطئه — ضاحكين.

بعدنا عن دوائر الحرب السياسية، ورحاها العقلية، فانقشع الجو قليلًا، فتنفست الصعداء، وكانت كل ساعة تمر تبعد الجنود أميالًا عن ساحات القتال فأحسست ونحن نمعن في السير جنوبًا بارتياح منهم للحديث، وما لبث الأمردُ أن تحقق أمري فقبل مني لفافة تركية، بل مصرية، بل أميركية منتحلة اسمًا عربيًّا! وأجاب متلطفًا على سؤال سألته، أخبرني أنه من فيلق الأغراب الشهير. ولما علم أنني سوري لبناني هتف هتاف الدهشة والاستحسان، ونهض من مكانه فجلس إلى جانبي يحدثني بلهجة لا تَحَفُّظ فيها ولا تردُّد.

– بلادكم جميلة، يا موسيو، أنا لم أزرها، ولكني قرأت للامرتين وشاتوبريان، وكان لي رفيقٌ في الفيلق سوري، طالما حدثني عنها وشَوَّقَني إليها، السوريون شجعانٌ، وأعرف منهم مَنْ نال صليب الحرب، زماني لا أنساهم، قد حاربنا جنبًا إلى جنب في «شمباين» وفي «السوم» وفي «فردون» ونمنا في الحنادق جنبًا إلى جنب، ولي منهم صديق عزيز.

مد إذ ذاك يده إلى جيبه فأخرج أوراقًا بحث فيها عن صورة أرانيها. صورته وجندي آخر معه.

– هذا هو صديقي اللبناني، اسمه سليم، سليم … ولكننا قلما نذكر الأسماء الحقيقية في الخنادق، كنا ندعوه علي بابا — مازحين — وكان خفيف الروح، لطيف المعشر، حلو المزاح، ذكي الفؤاد، ينظم الشعر ويتغنى به. وكم من ليلةٍ في فترات القتال كنت ورفاقي نجلس في الخندق على القش فيقص علينا قصصًا شبيهة بألف ليلة وليلة، ويغني لنا الأغاني العربية فيطربنا ويضحكنا كثيرًا. وكان يخبرنا بما هو جار اليوم في بلادكم فتتساقط الدموع من عينيه. مسكينة سوريا، مسكين لبنان، كنا نستمع حديثه آسفين غاضبين فنَوَدُّ لو كنا هناك لِنكسر رأس التركي، لنشفي غليلنا منه، لنمحو من الأرض ذكره وأثره … مسكين علي بابا! مسكين سليم! يا لِيلِي يا لِيلِي، لم أزل أذكر هذا النغم الذي كان يتغنى به في سكون الليل وظلماته.

ثم مال محدثي بوجهه إلى رفاقه وطفق يسرد هذه القصة، وكنت قد سمعت كثيرًا من مثلها في باريس وتحققت شجاعة السوري في ساحة القتال تحت نار المدافع، وقرأت في الجرائد كثيرًا من وصف غرائب الاتفاق التي خَلَّصَتْ من الموت كثيرين من الجنود المستهترين، ولكن علي بابا — الحديث للجندي.

– في ليلةٍ مُقْمِرَة مثلجة، سكنت هنيهة فيها مدافعُ العدو شعرنا بشيءٍ من الضجر والملل فعقدنا الحلقة ونادينا علي بابا، فلم يجب، خرجت أبحث عنه فوجدته جالسًا على كيس من الرمل خارج الخندق تحت الثلج ورأسه بين يديه، فاقتربت منه فإذا به يبكي، سألته الخبر فقال إنه وصله كتاب من آله في لبنان ينبئ أن أُلوفًا من السكان هناك ماتوا جُوعًا، وإن ألوفًا من المنكوبين يهيمون في الحقول والأودية يلتقطون الأعشاب ليقتاتوا بها. فحاولنا أن نعزيه بما شاهده كل منا من أصناف الموت حولنا، والبعض أساء مداعبته فاستشاط سليم غيظًا وطفق يلعن الأتراك واﻟ «بوش» ويندب حظ بلاده، وفي تلك الآونة استأنفت المدافع هولها فجاء ضابطنا يقول: أُريد منكم متطوعًا، فكان سليم أول من لبى الدعوة، كأنه يئس من الحياة فاستهتر، أو كأنه أراد أن يُطْفِيَ نار تغيُّظه في انتقامه من اﻟ «بوش».

«خرج سليم توًّا ليقوم بواجبه، خرج كالمجنون، فتتبعناه بنظرنا من خلال الأسيجة وهو يدب على الثلج خارج الخندق في ضوء القمر، دبَّ حتى حاجز الشريط فنهض إذ ذاك قليلًا وبين هو يجتازه …»

كمل الجندي عبارته بإشارة أفصح من الكلام، ثم قال: وما هذا بغريب، كثيرون مثله أكلوا الشريط، كثيرون مثله أُلبسوا إكليلًا من الشوك، جاء الضابط ثانيةً يسألنا متطوعًا آخر، فتقدم منا اثنان كنت أنا منهما، فراح الأول يحمل أوامر القيادة وخرجت أنا مسرعًا لأنقذ صديقي علي بابا، دببت إلى المكان الذي سقط فيه فلم أجده هناك، بحثت ثم بحثت عبثًا وعدت حائرًا إلى الخندق، وكانت إذ ذاك مدافع اﻟ «بوش» تمطرنا وابلًا من النار، فقطعت الرجاء من عود السوري وتأسفت كثيرًا عليه.

ولكن بعد ساعة أو أقل سمعت صوتًا خارج الخندق يناديني باسمي، عرفت الصوت وخرجت مسرعًا، فإذا بشبحٍ على بعد بضعة أمتار استوى واقفًا وخطا بضع خطوات وسقط ثانيةً على الثلج، سمعته يقهقه ورأيته يلوح بشيءٍ في يده، فهرولت إليه فإذا به كما ظننت علي بابا وبيده رأسُ ألماني هالني منظره في ضوء القمر … «ابصق بوجهه، رأس تركي، رأس غليوم، قطعته بيدي، خذ ابصق بوجهه …» وكان يئن من جروحٍ في زنده وكتفه دامية، وهو ينطق بمثل هذا الكلام ويهذي كالمجنون أو المحموم، حملته على ظهري وهو قابضٌ على الرأس بلحيته يلوح به، وأسرعت عائدًا إلى الخندق، ولكن قبل أن أصل أحسست برصاصة أصابتني بل أصابت حملي، أصابت علي بابا في ظهره فاخترقت قلبه. مسكين علي بابا، خلصني من الموت يا موسيو، لو لم يكن على ظهري لأصابتني تلك الرصاصة حيث أصابته. هذه تقادير الحرب.

دَفَنَّاهُ في الصباح متأسفين كثيرًا عليه، وقلما تأخذنا عاطفةُ الأسف والحزن ونحن تحت هطل المدافع ولهيب النار، ولكننا تأسفنا كثيرًا عَلَى عَلِي بابا، وإني لأحزن يا موسيو كلما فكرت به، وذاك المشهد الهائل وهو قابض على رأس الألماني بلحيته يلوح به في ضوء القمر، وتلك الضحكة المرعبة ضحكته، لا أنساهما حياتي، ولا أنسى صديقي السوري … سأحتفظ بهذه الصورة يا موسيو، كان سليم خفيف الروح، لطيف المعشر، وكان شجاعًا، حبذا لو كان لي يا سيدي أن أضحي بحياتي من أجل سوريا كما ضحى علي بابا بحياته من أجل فرنسا.

الحق والقوة

قيل: إن الحق يعلو ولا يُعلى عليه. وقيل أيضًا: إن الحق للقوة. وفي كلا القولين شيءٌ من الخطأ وشيءٌ من الصواب، في كلا القولين قياسٌ لسلوك الناس والأُمَم يَرْعَى ويُلغي عملًا بما يسود الحياة من المطامع المادية أو الروحية. ففي القول الأول حقيقةٌ ساميةٌ نصفها ظاهرٌ جليٌّ، ونصفها غامضٌ خفيٌّ، نصفها دائم أزلي، ونصفها يتغير ويتلون تبعًا للزمان والمكان، ووفقًا لمطامع أُولي الأمر والسيادة. مَثَل ذلك: أَنَّا كلنا نقول بإقامة الحق وتعزيزه. هذا هو النصف الأول الجلي من الحقيقة الدائمة، ولكننا لا نتفق كلنا دائمًا على معنى الحق، وهذا هو النصف الثاني الخفي من تلك الحقيقة. النصف الذي لا يدرك إلا ما ظهر منه، ولا يُظهر إلا ما كان منه موافقًا لمصالح أشياعه.

أما القول الثاني: الحق للقوة. فالنظرُ فيه يتوقف على النظر في تاريخ صاحب هذه القوة، فردًا كان أو أُمَّة، وفي الغرض الذي من أجله تُستخدم تلك القوة. فإذا كانت مَثَلًا تُستخدم دفاعًا عن ضعيف مظلوم، أو عن حقٍ مهضوم؛ كان الحق فيها ولها ظاهرًا لا يختلف في صحته اثنان. وإذا استُخدمت في سلب أشياء الناس، ونهب بلادهم، واستعباد الشعوب الصغيرة، وهدم معاهد العلم والكنائس، فتلك قوة وحشية بربرية لا يقوم في جانبها حقٌّ، ولا ينشأ عنها غير الإثم والضلال.

على أن الحق الذي لا يعلو ولا يُعلى عليه إنما هو من الكمالات، إنما هو أُمنيةٌ من أماني النفس السامية، وقد يتحقق كله أو جزءٌ منه في زمنٍ من الأزمنة وفي شعبٍ من الشعوب. يتحقق وا أسفاه! إلى حين؛ إذ من حقائق الوجود المؤلمة المحزنة أن الكمالات إذا وُضعت موضع العمل لا تلبث أن يفسد شيء من كنهها فتمسي في حاجةٍ إلى الترميم والإصلاح، مثل ذلك في تاريخ الأُمَم دعوة النبي محمد إلى الإسلام، ودعوة الثورة الإفرنسية الأولى إلى الحرية، فلولا القوة لَمَا انتشرت الأُولى في المشرق والمغرب، ولما تكللت الثانية بالنصر في أُوروبا جمعاء.

ولكن كمالات النفس والاجتماع كالجواهر الغوالي، إذا تمتع بها الإنسان، وتحلَّتْ بها الأُمم، يذهب شيء من رونقها وجمالها، فتحتاج إلى الصقل والإصلاح من حينٍ إلى حين.

الزمان والإنسان أفسدا العمل برسالة النبي وبرسالة الثورة الإفرنسية، فاستولى على الإسلام الجهلُ والخمول، واستولتْ على الحرية السيادةُ المطلقة والمصالح المادية. ولكن في كلتا الرسالتين — رسالة النبي محمد ورسالة الثورة الإفرنسية — جوهر الحقيقة الأزلية الإلهية، فلا يدوم استيلاءُ الجهل والأطماع عليهما طويلًا حتى يَهِبَّ أبناء من قاموا بتلك النهضتين العظيمتين لِيُعيدوا إلى الإيمان الطهارةَ والعزَّ، وإلى الحرية الصولة والمجد.

وهذا معنى الحرب اليوم في أُوروبا ومعنى الثورة اليوم في بلاد العرب، تداعت أركان الحرية في أُوروبا لعوامل اجتماعية وسياسية ليس من شأننا الآن البحث فيها، فتغلبت عليها في إحدى ممالك الغرب السيادة المطلقة بل السلطة العسكرية، وغرها الطمع فقامت تهدد الحرية في أُوروبا جمعاء، ولكن فرنسا — مهد هذه الحرية وحامية ذمارها — وَثَبَتْ ثانيةً وثبة الأسد، فاستلت سيفها الباتر، وحشدت جنودها الأباسل، لتنقذ من براثن الألمان أشرفَ مبادئ الاجتماع وأعظمَ رُكْنٍ من أركان الحكومات الدستورية الحرة، ففي هذه القوة المجيدة التي أظهرتها فرنسا حقٌّ يعلو ولا يُعلى عليه.

وتداعت أركان الإسلام في المشرق والمغرب من خمولٍ استولى على شعوبه، وأطماعٍ استحوذتْ على أُمرائه وأعلامه، فاغتنم الترك هذه الفرصة لاستخدام ما بقي من قوة فيه لمآربهم الذميمة وأغراضهم الأثيمة. فنهض العرب في البقاع المقدسة نهضة الأشاوش بل نهضة أجدادهم الكرام أنصار النبي لينقذوا الإسلام من مطامع الأتراك وجورهم، ويلبسوه ثانيةً حلة العز والمجد والسيادة، وفي هذه القوة التي أظهرها العرب حقٌّ يعلو ولا يعلى عليه.

فلو لم يكن للإفرنسيين وللعرب قوة تُناضل عن الحق الذي هو إرثهم الروحي وتعززه لظل هذا الحق أُمنية من أماني النفس بل نظرية من النظريات لا أثر لها في سلوك الناس يُذكر ولا فائدة منها للأُمتين.

أفلا يحق لنا إذًا أن نقول: إن الحق للقوة اليوم عند الفرنسيين وعند العرب؟ أوَلا يحق لنا أن نقول: إن الحق في الأُمتين يعلو ولا يعلى عليه؟

أما عند أعدائهما، عند الألمان والأتراك، بل عند من يحاول ذبح الحرية وإذلال الإسلام، فالقوة قوتهم إنما هي قوةٌ ذميمةٌ عقيمةٌ، لم تنشأ عن حقٍّ ما، ولا تعزز حقًّا صغيرًا من حقوق الإنسان.

أجل، القوة التي لا يعرفها الحق ولا تعرفه إنما هي قوةٌ عقيمة همجية، لا تقوم فيها حياة الاجتماع، ولا تدوم معها حياة الحكومات دستورية كانت أو ملكية مطلقة، والحق الذي لا تؤيده القوة ولا تُعزِّزُه الحكمة إنما هو حق خيالي شِعْري لا أثر له يُذكر في سلوك الإنسان والحكومات.

وإني لا أرى بين الأُمَم المتحاربة اليوم غير الأُمَم الكبرى المتحالفة وعلى الخصوص هذه الأُمَّة الإفرنسية العظيمة التي يحق لنا أن نقول في مقاصدها ومساعيها القولين اللذين صَدَّرْت بهما مقالي: الحق للقوة، والحق يعلو ولا يعلى عليه.

أجل، إن الحق للقوة التي تظهرها فرنسا اليوم دفاعًا عن كيانها، دفاعًا عن حريتها وعن حرية الأُمَم جمعاء، والحق الذي يعلو ولا يُعلى عليه إنما هو هذا الحق الكبير المَجِيدُ الذي تُفادِي فرنسا اليوم في سبيله النفس والنفيس فتكلله بالنصر وتعززه، كما هو شأنها في كل نهضاتها وثوراتها الاجتماعية والسياسية.

وهناك في المشرق، في بلاد العرب، في البقاع، المقدسة، أُمَّةٌ صغيرةٌ عدًّا، كبيرةٌ فضلًا ومجدًا، غنية بما أورثها الأجداد من علم وإيمان، فتستحق أن تُقرن اليوم بفرنسا؛ لِما قامت به من مجيد الأعمال حتى الآن في سبيل الحق والحرية والاستقلال، وستحقق آمالنا — إن شاء الله — نحن الناطقين بالضاد، النائين عن الأوطان، والعالمين بالغث والسمين من نزعات الأوروبيين.

باريس، في ١٢ كانون الثاني، سنة ١٩١٧

لا حياة إلا بالحرية ولا حرية إلا بالسيف٥

إخواني أبناء وطني

في هذه الحرب وأهوالها حقيقةٌ كلية علية لا يُطفأ نورها ولا تُزعزع أركانها، هي من أوليات أسباب الوجود، ومن أهم دعائم المجتمع الإنساني، ومن أعظم أركان الأُمَم والحكومات. حقيقة أولية أزلية لا تتبدل ولا تتغير، تزول الأُمَم وهي لا تزول، تضمحل الممالك وهي أبدًا حية ثابتة نيرة منيرة، تتقلب الأحكام وتتساقط العروش وهي قائمة كتمثال الحرية في ميناء هذه المدينة، لا تزعزع الحروب أركانَها، ولا تطفئ مصباحَها كوارثُ الزمان.

والحقيقة هذه هي أن الإنسان لا يُفلح ولا يَسعد ولا يرتقي إلا بممارسة حقوقه الطبيعية، وأن الأُمَم لا تنشأ إلا بنشوء أفرادها، وأن الحكومات الحرة لا تقوم إلا بشرائعَ عادلةٍ تسنها المجالس النيابية، لا بأوامر تصدرها الملوك والسلاطين. وأول حقوق الإنسان الحرية. حرية الفكر، وحرية القول، وحرية العمل.

وأول أسباب الرقي في الأُمَم الحرية الاجتماعية، والحرية السياسية، والحرية الدينية. وأول دلائل الحياة الحرة الراقية أن يتمتع أفراد الأُمَّة على السواء بهذه الحقوق الطبيعية، فيسعون دائمًا في تعزيزها، وينهضون للدفاع عنها عندما تُقيَّد أو تُمتهن. ومن أكبر دعائم الحكومات الحرة المستقلة قانونٌ يكفل لشعبها هذه الحقوقَ الأولية، ويُوجب عليها الدفاعَ عنها يوم ينهض عليها الظالمون يحاولون قتلها.

حقيقةٌ أولية أزلية إلهيةٌ لا تموت في أُمَّة قبل أن تموت تلك الأُمَّة وتضمحل آثارُها، فهل تظنها تموت في فرنسا؟ هل تظنها تموت في إنكلترا؟ هل تظنها تموت في روسيا؟ هل تظنها تموت في أميركا؟ في هذه الأُمَّة الفتاة المجيدة التي أنارت مصباح الحرية منذ مائة سنة، والتي سجلت على الظالمين كلمة ترددها اليوم أُمَم الشرق والغرب، بل تُسَطِّرُها بالدم على لَوْح الوجود: لا حياة إلا بالحرية، ولا حرية إلا بالسيف.

إنما هي هذه الحقيقة التي تبدو لنا اليوم من خلال ظُلُمات الحرب وأهوالها، تُسمعنا صداها المدافعُ، تُرينا سناها الحراب، تحرك القنابل اسمها المجيد، تتغنى بها الجنود في الخنادق وفي البحار، تُسطِّرها الطيارات على جبين السماء وراء الغيوم، ترفع بنودها الأُمَم وتُقيم لها الأنصابَ والتماثيل.

لا حياة إلا بالحرية، ولا حرية إلا بالسيف.

هذه الحقيقة إنما هي التي تُنير قلوب العمال اليوم في معامل البارود والسلاح وتثبِّت في العمل أيديَهم، هذه الحقيقة إنما هي التي تبذل من أجلها خيرات الأرض، وقوى الممالك، وحياة الشعوب، هذه الحقيقة إنما هي التي تحرك اليوم أدوات الحراثة وأدوات الشحن والنقل، كما تحرك يراع الكاتب ولسان الخطيب.

هذه هي الحقيقة الخالدة في قلب الجندي تُحبب إليه الموت في سبيلها، تحدثه بالنصر في ظلمات الليل، تكلِّله بالمجد في ساحات القتال، تُنعشه فتجدد قواه ساعة يستريح. تُضرم في نفسه نارًا ساعة يهجم على العدو، عدوِّها، وتزهر نورًا في كل جرح من جروح أبطالها وشهدائها.

لا حياة إلا بالحرية، ولا حرية إلا بالسيف.

هذه هي الحقيقةُ التي دفعت بالمرأة اليوم إلى دوائر الأعمال الشاقة، فتراها في أُوروبا وفي هذه البلاد تقوم مقامَ الرجال، فتشتغل في معامل البارود والسلاح، وفي دوائر سكك الحديد وتُسيِّر العربات، وتخدم في المطاعم، وتحرث الأرض، وتحارب أيضًا — كما في روسيا اليوم — كإخوانها الفدائيين. هذه الحقيقة يلبس شارتها الرفيع والوضيع في الأُمَّة من نساء ورجال، ويجاهد في سبيلها السياسي والكاهن والفلَّاح. أجل إن الفلاح اليوم يحرث حقله لا حبًّا بالكسب بل دفاعًا عن الوطن، والسياسي يخدم الأُمَّة اليوم لا حُبًّا بالشهرة والمجد بل حُبًّا بالوطن، والكاهن يصلي اليوم لا في سبيل النفوس بل في سبيل الوطن.

لا حياة إلا بالحرية، ولا حرية إلا بالسيف.

من أجل هذه الحقيقة الأولية حاربت الأُمَم الكبيرة والصغيرة ثلاث سنوات، أهوالُها منقطعةُ النظير وفظائعها تروِّع حتى البرابرة. حاربت ثلاث سنوات وستحارب ثلاث سنوات أُخرى إذا اقتضى الأمر، بل ستحارب إلى أن تنتصر الحرية نصرًا مبينًا فيحطم عرش القيصر بل عروشَ القياصرة، ويقضي على حلفائهم الأتراك السفاحين قضاءً مبرمًا. ملايين من شبان فرنسا وإنكلترا وروسيا يموتون في هذا السبيل المجيد، أُلوف أُلوف الملايين من المال تُبذل لهذه الغاية الشريفة. والأُمم الصغيرة، البلجيكيون والصربيون وأبناء الجبل الأسود الأشاوس، يُؤْثِرُون الموت والاضمحلال على أن يعيشوا عبيدًا للألمان أو لسواهم من أصحاب السيادة المطلقة الجائرة الأثيمة.

الألمان يا إخواني هم أعداء هذه الحقيقة الأولية الأزلية الإلهية، هم أعداءُ الحق الأساسي من حقوق الإنسان كلها. أما الأتراكُ حلفاؤهم فهم أعداء الحرية منذ اكتسح هولاغو مدينة بغداد، خُلق الأتراك أعداءها، وعاشوا أعداءها، وسيموتون أعداءها. من هولاغو إلى عبد الحميد إلى جمال باشا. يا لها من سلسلة جهنمية، من بغداد إلى أرمينيا إلى البوسفور إلى سوريا اليوم، إلى كتشانف إلى أطنه، إلى بيروت ولبنان والشام. يا لها من سلسلة فظائع ومظالم، آخر حلقة منها مثل أول حلقاتها، صِيغت من أرواح الناس، وجُبلت بدماء الناس، يا له من تاريخ يبدأ بالسلب والنهب والتدمير وينتهي بالشنق والصلب والتجويع، تاريخ كُتب بدم الأُمَّة، فلا تخلو صفحة من صفحاته من جريمة اقترفها أبناء هولاغو وجنكيزخان.

ولَعَمري إن عهد الحكم الدستوري أكثر عهود الأتراك فظائع، وأشده أهوالًا؛ فقد اقترفوا باسم الدستور جرائمَ يروع ذكرها حتى تيمورلنك ويهول أمرها حتى عبد الحميد، باسم الدستور حاولوا أن يمحقوا الأُمَّة الأرمنية، فأسروا شبابها وقتلوا شيوخها وأطفالها ونساءها، وباعوا في المدن بناتها، باسم الدستور شنقوا أحرار سوريا، وقتلوا شبيبتها الراقية، ونفوا وُجَهاءَها والأشداءَ من رجالها، باسم الدستور نهبوا بلادنا، سلبوا بيوتنا، جَوَّعُوا أهلنا، قتلوا ثلاثماية ألف نفس بين مسلمين ومسيحيين، من أُمَّة بريئة مخلدة إلى السكون.

كلكم تعلمون ذلك فلا حاجة لِأَنْ أصف الفظائع السورية، على أنكم قد لا تعلمون أنه باسم الدستور والملة أيضًا ينقلون الأكراد والأتراك اليوم إلى بلادنا فيهبونهم أملاكنا، ويُسكنونهم في بيوتنا؛ قصد أن يمحقونا تمامًا وأن يجعلوا سوريا كولاية من ولايات الأناضول. ومَنْ منا يا ترى يرضى بذلك؟ من منا يسمع بذا الاضطهاد الفظيع الهائل ويسكت؟ من منا يتصور تلك المشانق — مشانق الذكاء، مشانق الحرية، مشانق الأحرار — وينام بعد ذلك هنيئًا؟ مَنْ منا يفكر بتلك الفظائع ويمثل لنفسه ظلام تلك النكبات التي نُكبت بها بلادنا وأُمَّتُنَا ولا تستفزه الحمية القومية والنعرة الوطنية؟ وُلِدَ الأتراكُ أعداءَ الحرية بل أعداء المدنية، وسيموتون أعداءها، ولكننا نحن السوريين لم نُخلق لنكون عبيدهم إلى الأبد، لا — ورب السماوات — ولو عشت عبدًا حياتي كلها فسأموت — في الأقل — حُرًّا، سأموت مجاهدًا في سبيل حريتي وحرية قومي.

إخواني أبناء وطني، إن الشعوب الصغيرة تنهض اليوم على ظالميها، تمتشق الحسام لِتقطع ربقة الجور والاستبداد، لتحطم قيود الاستعباد، فهلا اقتدينا بالشعوب الصغيرة، وبالأخص إذا كان لنا اليوم من ينصرنا ويساعدنا من الدول الكبرى؟ أو هلا اقتدينا بعرب الحجاز؟ قد ظهر لي بعد رجوعي من باريس أن كثيرين من السوريين يرتابون في أن دولة كبيرة من دول الأحلاف تريد خلاصنا وتتأهب اليوم لأن تُنقذ بلادنا وأُمَّتنا من الحكم التركي الفظيع. فإليكم ما استطلعته وتحققته أثناء إقامتي في باريس، إلى المشككين المترددين أُوجه — على الخصوص — كلامي، وقد حُذر علينا الجهر بمثله قبل اليوم.

عندما وصلت إلى باريس الشتاء الماضي أخبرني شكري غانم، وهو أقربُ السوريين إلى الحكومة الإفرنسية اليوم كما أنه حائزٌ على ثقتها «أن النظارة الحربية تُؤلِّف للزحف على سوريا فيلقًا يُدعى فيلق الشرق وتحب أن يتطوع السوريون فيه ليكون لهم يدٌ في تحرير بلادهم، وسألني عما إذا كانت الدعوة إلى التطوع في أميركا تُصادف استحسانًا وقبولًا»، فأجبته وقتئذ أن السوريين — على ما أظن — لا يلبون الدعوة إلا إذا كانت رسمية، أو بالحري إذا تأكدوا أن الحكومة الإفرنسية نفسها تدعوهم إلى التطوع، ولكن الحكومة في ذاك الحين لم تكن في حالة تُمكِّنها من الجهر بهذه الدعوة، فأهملت وقتيًّا.

ثم مر شهران فدخلت أميركا في الحرب فتأسست على إثر ذلك اللجنة السورية في باريس لهذه الغاية، واللجنة السورية الباريسية إنما هي أداةُ وصل بين فرنسا والسوريين، فقد تأسست برضى الحكومة بل بإشارة منها وحضر جلساتها أحدُ المتوظفين في الدائرة الخارجية ووزير من الوزراء. وهذه اللجنة مؤلَّفة من وجهاء السوريين هناك؛ من أدباء وتجار، فتبرع أعضاؤها بمبلغ من المال، وكان مِنْ أول أعمالها أنها بعثت بوفد إلى أميركا الجنوبية ليدعو السوريين هنالك إلى التطوع.

ولما كنت منذ شهر في باريس قابلت متوظفيها وبعض أعضائها واطَّلَعْتُ على قانونها الأساسي فوجدتُ أن الغاية الأولى منه هو تحرير سوريا ولبنان بواسطة فرنسا من الحكم التركي، ودعوة السوريين إلى التطوع في هذا السبيل تفصح عما يخالج قلب كل سوري وتعبر عن أقصى أمانينا.

وغاية اللجنة الباريسية الأساسية إنما هي غاية لجنتنا بالذات، أي: أنها تنحصر في تخليص البلاد من الأتراك، وهذا هو المهم بل الأهم اليوم. فعلينا إذن أن نخلص البقية الباقية من قومنا في تلك البلاد التاعسة أو نفتح لهم في الأقل بابًا للخلاص، وأُعْلِمُكم أيضًا بأني لم أكتف بمقابلةِ موظفي اللجنة وأعضائها بل حُبًّا بتحرِّي الأُمُور وتحقيق مقاصد الحكومة الإفرنسية قابلتُ بعض المتوظفين في النظارة الخارجية ووزيرًا فيها من الوزراء، وهذا الوزير هو ثقة في المسألة السورية وكلامه فيها يعول عليه، هو حافظ تقاليدها، ودليل سياستها، فترجع إليه الحكومة في الكبير والصغير من مشاكلها، ومما قاله لي هذا الوزير: إن فرنسا تحب أن تساعد السوريين إذا هم ساعدوا أنفسهم، وإنها تريد أن تُخلِّص بلادهم من الحكم التركي وتؤسس فيها حكومة عادلة راقية تكفل لأهلها الأمن والسعادة وتمهد لهم سبل الرقيِّ والنجاح، وستمنح الحكومة كل ولاية من ولايات سوريا — ولبنان منها — استقلالًا نوعيًّا، بمعنى أن سيكون لسائر الولايات مثل ما كان للبنان قبل الحرب مجالس إدارية ونظامات محلية تُوافق حالَها وسكانَها، وأن الحاكم العام سيُعَيِّن للوظائف العالية مَنْ هو أهلٌ لها من السوريين أنفسهم.

قلت للوزير: إني أتكلم بلسان الفئة الراقية من السوريين — أي: بلسان الشبيبة السورية المتهذِّبة الحرة المعتدلة، التي تطمح إلى الحرية والاستقلال تدريجًا — فقال: نحن متفقون، وأول خطوة تنوي الحكومة الإفرنسية أن تخطوها لِتحقق آمال الشبيبة السورية الراقية هي أن تُؤسس في البلاد مدارس عمومية إجبارية مجانية علمانية،٦ وهذه عين الحكمة؛ فإن أساس الحكومات النيابية التهذيب، وسياج الحرية التهذيب، وحياة الأُمَم الراقية التهذيب، ولم أزل أذكر كلمة الوزير الأخيرة، قال عند الوداع: ذَكِّرْ إخوانك في أميركا بالمثل السائر: إن الله يساعد من يساعدون أنفسهم … وقل لهم: إن فرنسا تحب أن تساعدهم ولكنها تحب أيضًا أن يكون لهم يد في تحرير بلادهم.

خرجت من النظارة الخارجية مقتنعًا أنْ لا خلاص لنا اليوم إلا بواسطة فرنسا، وأننا إذا أضعنا هذه الفرصة نجني على البقية الباقية في بلادنا المنكوبة، هي فرصةُ خلاصهم الوحيدة والذنب ذنبُنا لا ذنب الأتراك إذا كنا لا نغتنمها اليوم. تركت باريس وجئت نيويورك مقتنعًا بصحة المشروع بل بلزومه، وكان في نيتي عند وصولي أن أسعى وبعض الإخوان هنا في تأسيس لجنة لهذه الغاية الوطنية الشريفة المقدسة، ولكني وجدت أن اللجنة قد تأسست بفضل بعض الأُدباء الأحرار والتجار، وأن غايتها نفسُ الغاية التي ننشدها، فانضممت إليها مسرورًا، وقد جئنا في هذه الحفلة نُعلن أمرها وندعوكم إلى مناصرتها.

إخواني أبناء وطني، هذه أول مرة في تاريخ سوريا أَسس السوريين لجنة غايتها التحرير من نير الأتراك، وهذه أول مرة في حياتنا السياسية أَقْدَمْنَا على عملٍ لسانُه السيفُ لا القلم وعربونه الدم لا الكلام.

نعم قد نهض اللبنانيون في الماضي يدافعون عن حقوقهم بالسيف ويفادون بحياتهم في سبيل استقلالهم، ولا ننكر ذلك بل نذكره دائمًا مفاخرين، ولكن قد كان في ما مضى بين لبنان والولايات السورية جدارٌ أقامه الفساد والتفريق، فتمتع اللبنانيُّ بحقوقٍ حرمها أبناء الولايات. وأما اليوم فقد قَرَّبَنا المهجرُ بعضنا من بعض وأصبح اللبناني وابن الولاية واحدًا قلبًا وقالبًا، غايتنا واحدة، روحنا واحدة، مبدأنا واحدًا، خطتنا واحدة، ولجنة تحرير سوريا ولبنان ثمرة هذا التقرب وهذا الائتلاف.

زرع الترك فينا بذور الشقاق٧ في الماضي فنبت شوكًا وقلامًا، ولكن مظالمهم الأخيرة حصدت ما زرعوا وتركت الأرض وراءهم بورًا، فعلينا نحن سوريي المهجر أن نزرع فيها بذور الوطنية، قد أَلَّفَت الفظائعُ بين المسلم والمسيحي وبين اللبناني وابن الولاية، لم تعف المشانق أحدًا لدينه، لم يستثن التجويعُ أحدًا لجنسه، ولم يميز بيننا النهب والسلب والنفي والاضطهاد.

إخواني أبناء وطني، لقد جمعتْنا اليوم النكبات فهل تفرقنا العصبيات والتعصبات؟ في هذه اللجنة اللبنانيُّ والسوريُّ والفلسطيني يعملون عملًا واحدًا ويسعون سعيًا واحدًا، كلنا سوريون وسوريا واحدة لا تتجزأ، وهذا مبدأ من مبادئنا الوطنية السياسية.

أما أولئك الذين لم يزالوا ينادون بالعصبية الدينية أو الطائفية ويحاولون زرع بذور الشقاق فينا، أولئك الذين ينفثون في جامعتنا سم الجهل والتعصب والتفريق، لمطامعَ نفسية دنيئة، أو لمآربَ سياسية ذميمة، فإنما هم يقتفون أثر الأتراك المفسدين المضللين السفاحين. لغتُهم عربيةٌ ولكن روحهم تركية، هم أعداء الأُمَّة والوطن، أجل، إن من ينفخون اليوم في بوق النعرة الدينية أو يتسلَّحون على أعدائهم بالنزعة الطائفية لَمارقون خائنون، هم — والحق يقال — رجعيون، والرجعيون إما جاهلون متعصبون، وإما منافقون مجرمون.

السوري اليوم واحد، والمشانق نفسها تنطق بذلك، فما اللبناني والشامي، والبيروتي والحلبي والفلسطيني، والمسلم والدرزي والمسيحي واليهودي؛ إلا أسماء أُولى نسمى بها. أما اسم العائلة عائلتنا فهو سوريا، وسوريا واحدة لا نقبل بتجزئتها، ولا — والله — نحن لا نقبل بتخليص ولاية دون أُخرى من الولايات السورية، ولا الحكومة الإفرنسية تريد ذلك.٨

من جملة ما قاله لي الوزير الذي حدثتكم عنه كلمة أثرت بي وأحزنتني، قال: عجيب أمركم أنتم السوريون، تتفقون في الجوهريات وتختلفون في توافه الأمور، وجدير بكم أن تقتدوا بالأرمن اليوم، الأسبوع الماضي كان جالسًا في هذا الكرسي أمامي نوبار باشا وإلى يمينه نائب بطريرك الأرمن وإلى شماله فوضوي أرمني همَّ يومًا أن يقتل نوبار باشا، فجاءوا يقولون لي: كنا في الماضي مختلفين منقسمين بعضنا على بعض وأما اليوم فلا أحزاب ولا طوائف تُفرِّق بيننا، كلنا اليوم حزبٌ واحد وأُمَّة واحدة، كلنا أرمن، فهلا اقتديتم أنتم السوريون بهم؟

كلمة حق أسكتتْني وأحزنتْني، ولكن أملي بالاتحاد كبيرٌ، وإيماني بأبناء وطني لا يتزعزع، في السنة الماضية جمعت كلمتنا ووحدت قلوبنا لجنةُ إعانة المنكوبين، وستجمع اليوم كلمتَنا وتوحد قلوبَنا لجنة تحرير سوريا ولبنان. ولعمري إن غاية اللجنة هذه لَأشرفُ وأعظم الغايات؛ لأن في إعانة المنكوبين خلاص قسم من الناس فقط وفي تحرير البلاد خلاصُ أُمَّة بأسرها، خلاصها في الحاضر، وخلاصها في المستقبل، وهذه اللجنة بغايتها أولًا لا برجالها، بمبدئها لا بمنشئيها، وأنا ممن ينشدون ويقدسون غايتها، ويسعون في تعزيز مبدئها، ويتشرفون أن يكونوا من أعضائها.

نعم إن مثل المشروع الذي ستقوم به هذه اللجنة يشرف العاملين من أجله، الساعين في تعزيزه، المفادين بأرواحهم في سبيله، وأي شرف — رعاكم الله — أجمل من ذا الشرف وأسمى؟ شرف الجهاد في سبيل الحرية، شرف السعي في تحرير أُمَّتنا من نير العبودية، شرف النصر على السفاحين المدمرين أبناء هولاغو وجنكيزخان، بل شرف القتال جنبًا إلى جنب وجنود فرنسا البواسل جنود الحرية منذ نشأت الحرية، جنود النصر في ساحات الوغى، جنود الحق في حرب الأُمَم، جنود المجد في سبيل المدنية، والسوري والإفرنسي أخوان، يأتلفان ويتحابَّان؛ فقد حاربا في الماضي معًا وحاربا معًا في هذه الحرب أيضًا.

•••

وغدًا يحارب الجنود الإفرنسية فلا بلادنا ليحرروها، غدًا يضحون بحياتهم من أجل الحرية حريتنا، فهلا شاركناهم في هذا الجهاد وهذه التضحية؟ إخواني أبناء وطني، نحن لا ندعوكم إلى الحرب في سبيل أُمَّة غربية أجنبية، بل في سبيل أُمَّتِنَا وبلادنا ندعوكم إلى الدفاع عن بيوتنا، عن حريمنا، عن أهلنا المنكوبين اليوم، ندعوكم إلى السلاح لاسترداد حقوقنا المسلوبة، ولإنقاذ بلادنا من براثن الغول التتري، الوطن يناديكم، البقية الباقية فيه تستنجدكم، تستغيثكم، أرواح الأحرار، أرواح شهداء الأُمَّة، تصرخ بكم، يا أبناء سوريا الثأر! الثأر! الانتقام! الانتقام! أرواح الألوف من قومنا الذين ماتوا جوعًا وتجويعًا تناديكم اليوم يا بني لبنان وتدعوكم إلى الجهاد إلى السلاح، وصوت الأموات إنما هو صوت السماء، بل صوت الله.

مَنْ مِنَّا يسمع هذا الصوت ولا يستجيبه؟ من منا تجري في عروقه دمُ الرجال يسمع هذه الدعوةَ ولا يُلَبِّيهَا؟ ألا يحرك صوتُ الأموات — في الأقل — أرواحنا النائمة؟ ألا يستنهضنا اليوم نداءُ الجياع والمنكوبين الذين لم نَعُدْ نستطيع أن نُعينهم بالمال؟ تجمعنا اليوم على الأخص رابطة الدم، تجمعنا اليوم نزعة الثأر والانتقام، عشنا مئات السنين عبيدًا، أفلا نعيش أحرارًا ولو يومًا واحدًا قبل أن نموت؟

إخواني أبناء وطني، في أُوروبا وفي أميركا اليوم روحٌ تسود كل نزعات الإنسان، وكل أمياله، وكل أمانيه، وهذه الروح إنما هي روح التضحية، روح المفاداة بالنفس في سبيل الحرية ومن أجل الوطن، هذه — وربي — ضحية شريفة يضحيها الإنسان، ولكن هناك ضحية أشرف وأعظم، إلا وهي ضحية المرأة، ضحية الأُمِّ التي تفادي بابنها في سبيل الوطن، ضحية الزوجة التي تفادي بزوجها، ضحية الفتاة التي تفادي بأخيها وبخطيبها.

فعلى النساء السوريات إذًا أن ينهضن اليوم فيناصرن هذه اللجنة ويساعدن في تحقيق آمالها ونجاح دعواتها، يا بنات سوريا، إليكن أُوجه كلامي، ويا شباب سوريا، يا شباب بيروت، يا شباب الشام، يا شباب لبنان، يا شباب حمص وحلب، يا شباب فلسطين، إياكم أُنادي، من منكم في هذه القاعة يحب أن يتطوع في فيلق الحرية تحت هذا العلم؟ من منكم يفادي بحياته من أجل الوطن؟ يلزمنا فدائيون، تفضلوا، ليقف الفدائيون ليقف من أحب التطوع، الموقف موقف عمل، لا موقف كلام، موقف جنود لا موقف وُعُود، قفوا، تقدموا، تطوعوا الآن، ولنتمثلْ كلنا بقول الشاعر:

لا تسقني كأس الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

سنة ١٩٥٠

كذلك انتهت حرب الأُمَم يا بني، الحرب التي ترى أثرًا من أهوالها في وجه أبيك وشيئًا من عبرها في نفسه، الحرب التي أورثتْني عينًا من زجاج وعينًا لوجداني من النور. وأنا واحد من أربعة ملايين نجوا من نيرانها مشوهين ظاهرًا، مطهرين قلبًا ووجدانًا، بل أنا واحدٌ من عشرات الملايين في كل أُمَّة قضوا ثلاثين سنة آسفين على ضحايا تلك الحرب البشرية، قانطين من مساعي الإنسان، يائسين من مناهج الأُمَم، صابرين على عُقْم الأيام.

انتهت تلك الحرب الضروس يا بني، وما كان من نتائجها الظافرة، المخالفة لما تقدمها من الحروب، سوى سقوط الدول الأوتوقراطية الثلاث — أي: ألمانيا والنمسا وروسيا — وظهور الدول الصغيرة الجديدة في قلب أُوروبا، وهي على حداثة سنها غاضبة على ماضيها، غير راضية بحاضرها، ناظرةٌ بعين اليأس والرجاء إلى مستقبلها.

انتهت تلك الحرب عند عقد معاهدة فرساي التي لم يكد يطوي الزمان عامًا عليها حتى نسي العالم تلك الآيات الرنانة التي كان يرددها الوزراء والرؤساء والصحافيون والزعماء، نسينا أو تناسينا «جمعية الأمم» و«حرية الشعوب الصغيرة» و«الحكم الذاتي الاختياري» و«استئصال السياسة السرية» و«تخفيض السلاح» وغيرها من المبادئ، التي سَفك العالمُ المتمدن دمَ شبيبته من أجلها، نسيناها يا بني أو تناسيناها، وعدنا ظاهرًا إلى ما كنا فيه قبل الحرب.

أما تأثير الحرب الأدبي والروحي فظل حيًّا في قلوب الناس وشرع ينمو في الهيئة الاجتماعية التي قَلَّمَا تؤثر السياسة بها، والتي لا يظهر تأثيرها بالسياسة والأحكام إلا تدريجًا، وببطء وغموض تَمَلُّهما النفس، ويكاد ينكر العقل حقيقةً فيهما دائمة، نعم يا بني، قد زرعتْ تلك الحرب بذور السلم في العالم، ولكنها لم تَنْمُ بادئ ذي بدء إلا في الطبقات الواطئة من المجتمع البشري، في طبقات العمال والفقراء، الطبقات التي التهمت نار الحرب رجالها، الطبقات التي لا يكون حربٌ في العالم دونها، بل لا تقوم حرب إلا بها وبضحاياها. وبما أن الذين تَوَلَّوُا الأحكام بعد تلك الحرب كانوا من الطبقة الوسطى التي تُدعى في أُوروبا «بورجوازي» لم يكن الشعب راضيًا بها، ولما نهض العمال والفلاحون في روسيا يؤسسون حكومة منهم ولهم، حالت دون مساعيهم دول الأحلاف، فسقط ما كان يُدعى الحكم البلشيفي، كما سقط قبله الحكم البورجوازي والحكم الأوتوقراطي.

وإذا عدنا إلى التاريخ ودَقَّقْنا النظر في مجرى الأحكام التي أسسها الناس؛ نرى أنها تشير إلى دائرة فيها لم تزل ناقصة، فمن الحكم الأبوي، أي: حكم الحكماء في قديم الزمان، تدرجنا إلى الحكم الاستبدادي، أي: حكم الملوك والأمراء، ومنه إلى الحكم الدستوري أي: حكم الوجهاء والأكابر، ثم الحكم الاشتراكي، أي: حكم العمال الذي نحن فيه اليوم، والذي سيتبعه — ولا شك — هو الحكم الأبوي، الدستوري، الاشتراكي، الذي تتم عنده دائرة الأحكام كلها. ويظهر أنها تتبع بعضها بعضًا على هذه الصورة طبقًا للتاريخ وعملًا بناموس النشوء والارتقاء، فإذا تأسس حكمُ العمال على عرش الحكم الاستبدادي مثلًا لا يلبث أن يسقط فيقوم مقامه الحكم الدستوري البورجوازي، كذلك كان في روسيا عندما سقطت البلشيفية.

إن لحرب الأُمَم من هذا القبيل نتيجةٌ شبيهةٌ بنتيجة الثورة الإفرنسية، إذ إنها أسقطت الملوك الأوتوقراطيين عن عروشهم، ووَلَّتْ مكانهم بعد انقلابات عديدة من ادعوا زعامة الشعب من وجهاء الطبقة الوسطى، طبقة البورجوازي، فلم يكن الانقلاب النهائي الأخير سوى انقلاب سياسي قُضِيَ فيه — ولا شك — على أصحاب التيجان وأرباب الشرف الموروث، وتعززتْ فيه سيادة أولئك السياسيين والزعماء الذين كانوا يُرددون ألفاظ الحرية والمساواة، ويتشدقون بتلك الآيات الذهبية الرنانة، ثم يخدمون بأعمالهم وشرائعهم أمراء المال وأرباب المعامل والتجارة.

أجل يا بني، انتهت حرب الأُمَم ولم تنته حرب الأحزاب، أحزاب ذوي الثورة والسيادة وأحزاب العمال، لم تنته حرب الطبقات بعضها على بعض المتأصلة أسبابها في المجتمع الإنساني بل في أعماق الطبع البشري.

حَكم الأوتوقراطيون زمنًا طويلًا فسقطوا فاندثرت آثارهم، ثم حكم الوجهاء والأكابر، زعماء الطبقة الوسطى، فكان حكمهم شبيهًا من وجوه عديدة بحكم الطغاة أرباب الصولجان والجنود، أي: أن مصالح الأفراد، وتقاليد الدول، ومآرب ذوي الثروة والسيادة، ومطامع السياسيين، بل آفات الهيئة الحاكمة كلها، كانت تظهر دائمًا بمظهر الشرائع والأحكام تارة على العمال وطورًا على أرباب الفكر وأنصار الكمال، ويا لها من شرائع سُنَّت لتعزيز الحكومات، لتعزيز الجندية، لتعزيز الأحزاب السياسية، لتعزيز المشاريع المالية والاقتصادية، يا لها من شرائع سنت باسم الديمقراطية فما انتفع بها غير أعدائها.

ثلاثون سنة ولت يا بني، والشعوب — وقد شبعوا حربًا — راضون بما كان، ساكتون عن مظالم قديمة وجديدة، صابرون على فساد الأحكام وعُقْم الأيام، نعم رضينا بشرائعَ سنها مؤتمر السلم، وبعهود عقدت بين الأُمَم، قَبِلَ العالم معاهدة فرساي كما يقبل المريض الدواء.

ولكني لم أزل أذكر يوم عاد الرئيس ولسن من أُوروبا مكللًا بإكليل الإكرام والإجلال، مزودًا زقوم الخيبة والفشل، ويا له من يوم تمثلت فيه آمال الأُمَّة الأميركية لابسة الحداد، وآمال الدمقراطية مذبوحة على هيكل المطامع الدولية، وآمال الملايين من أبطال الحرب مدفونة معهم على ضفاف اﻟ «مارن» و«السوم» وفي سهول «فلاندرس» و«شمباين.»

حتى إن أعداء الرئيس ندموا على ما بدا منهم من الاسترسال إلى التعصب السياسي والتحزب، وكانوا حانقين على ساسة أُوروبا الذين أكرموا الرئيس إكرامًا جميلًا منقطع النظير، وقد استطاعوا بدهائهم وغموض سياستهم وبمساعدة فريق من الأميركيين أنفسهم أن يَحُولوا دون ما كان يبشر به من الكمالات السياسية ويسعى إلى تحقيقها.

مهما قيل بالرئيس ولسن يا بني، فإننا اليوم متفقون مقتنعون أنه من أعظم رؤساء هذه البلاد، بل من أعظم كبار الزعماء في العالم، وإننا لنرى اليوم أن الأُمَم المتمدنة لم تكن عند انتهاء الحرب مستعدة لقبول كمالاته السياسية، ومع أن أغلاطه كبيرة كثيرة؛ فقد كان بعيد النظر وصادق اللهجة في سياسته الدمقراطية العمرانية، وإن الأُمَّة التي ترفعه الآن إلى مقام «لنكلن» و«واشنطون» لَهي عالمة بمواطن ضعفه، مدركة كل أغلاطه، وأكبر هذه الأغلاط وأضرها بخطته الدمقراطية الصميمة هو أنه أغضب الحزب الجمهوري قبل سفره إلى أوروبا، فإن تقيده في ذلك الزمان بحزبه الخاص إلى درجة التعصب الأعمى حمله على أن يؤثر سيادة الحزب على سيادة الأُمَّة، والحكومة ناشئة من الأحزاب كلها.

نعم قد كان الرئيس من هذا القبيل رئيس حزبه لا رئيس الأُمَّة جمعاء، ولكنه كان أيضًا رئيس الأُمَم الصغيرة المظلومة في العالم بأسره، تلك الأُمَم التي كانت تنظر إليه نظر العليل إلى الشمس والسماء، وهي تؤمل أن يجيئها من يده الخلاص والحرية، نعم يا بني، إني لا أبالغ إذا قلت: إنه وإن كان — سياسيًّا — رئيس الحزب الدمقراطي فقط فقد كان — معنويًّا — رئيس الأُمَم جمعاء، ولكن القوة المعنوية لم تؤثر في سياسة ذلك الزمان الأوروبية، التي تواطأت وأعداءه عليه، وقد كان ولسن من هذا القبيل كمن يفادي مجانًا بنصف ميراثه، كمن يرمي بنصف ثروته في البحر، أجل، قد أفقر الرئيس نفسه سياسيًّا، قد شطر قوته بيده شطرين، وترك عند سفره إلى أُوروبا شطرًا منها وراءه يسعى في مقاومته.

ولا أحد ينكر اليوم أن الحزب الجمهوري ساعد الساسة الأوروبيين في تحقيق مقاصدهم الاستعمارية ومطامعهم الدولية، بل ضرب الحرية ضربة أقعدتها، دوختها يا بني عشرين سنة، أجل، قد غُلب ولسن في ذلك الزمان لا بقوة الحجة، ولا بسداد الرأي، بل بمساعدة أعدائه في هذه البلاد، فعقدت تلك المعاهدة في فرساي، المؤسسة على الانتقام والأثرة، وكانت الغرامة الحربية التي فرضت على ألمانيا أهم ما فيها.

معاهدة فرساي — وحق الغالب لا حقوق الأُمَم معزز فيها — لا تختلف يا بني عن معاهدة فيانا، وقد رضي العالم المتمدين بها؛ لأنه — كما قلت — كان قد شبع حربًا، وقرف السياسة والمتاجرة بالسياسة، بل كان — والحق يقال — منهوكًا، مستضعفًا، سقيمًا.

على أن الأُمَم الصغيرة الجديدة التي ذكرتها تنبهت بعد بضع سنين إلى الخدعة الدولية وعلت فيها صرخة الأحزاب الوطنية، فتضاربت الآراء والمصالح، وتباينت المقاصد والغايات ودُقَّت طبول التمرد والعصيان. فتفجرت براكين الثورة في الشرق الأدنى وفي البلكان، فتدخلت الدول العظمى بشئونها واحتلت بلادها بضع سنين، مثل ذلك احتلال روسيا قسمًا من بولندا، واحتلال ألمانيا قسمًا آخر، واحتلال النمسا قسمًا من أراضي السرب.

أثارت هذه الحركات الرجعية ثائر الشعب العام أو بالحري العمال من اشتراكيين وبلشيفيين وفوضويين فأخذوا يترقبون الفرص للوثوب على الحكومات الجمهورية المالية — حكومات الوجهاء والأكابر — أو بالحري الحكومات القيصرية الجديدة التي تواطأت وأمراء المال وأرباب الكنيسة في قديم الزمان.

قلت يا بني إن ذلك السلم الذي عقدت عهودَه الدول الغالبة إنما كان سلمًا تقليديًّا، أي: أنه كان مبنيًّا على مصالح الدول الأوروبية الكبرى في بلادها، وخارج بلادها، وعلى مطامعها المالية والاستعمارية والتجارية. فقد قيدوا ألمانيا بغرامة تكاد توازي ثروتها كلها، وتقاسموا مستعمراتها، وقطعوا الطريق على تجارتها، زد على ذلك أن إنكلترا احتلت فلسطين والعراق، واحتلت فرنسا سوريا، واحتلت إيطاليا قسمًا من البلاد الإفريقية العربية، ثم استولت على مراسٍ بحرية في الأدرياتيك ادعاها الجوغوسلاف والسربيون، كذلك سادت البورجوازي سيادة مطلقة، فتبنك الوجهاء والأكابر ثلاثين سنة وهم متقلدون زمام الأحكام، قابضون على ناصية الزمان.

أجل، يا بني، إن معاهدة فرساي قسمت العالم المتمدن قسمين كبيرين أساسيين، قسم الحكام وأنصارهم من ذوي المصالح المالية والتجارية، وقسم العمال الذين كانوا يحتجون من حين إلى حين بالإضراب عن العمل وبنهضات ثوروية محلية لم تأت بكبير فائدة.

استمرت هذه الحال ثلاثين سنة عاد فيها العالم المتمدن إلى تقاليده السياسية القديمة، ساد فيها حزب المحافظين بل الرجعيين في كل الجمهوريات وأمعنت الأُمَم بالمنافسات التجارية والتكالب المالي، ومن أشد هذه المنافسات وأخبثها ما نشأ منها بين إنكلترا وأميركا؛ ففي سنة ١٩٢٥ كانت بحرية الولايات المتحدة البحرية الثانية في العالم، وظلت تزداد عددًا وقوةً حتى كادت تفوق البحرية الإنكليزية، وقد جرى بين هاتين الأمتين ما جرى بين إنكلترا وألمانيا قبل حرب الأُمَم من المباراة في بناء الأساطيل والطيارات.

زد على ذلك أن الولايات المتحدة التي لم يكن لها بواخرُ شحن تُذكر قبل الحرب؛ أصبحت بعدها في الصف الأول من قوات البحار والتجارة، ولكنها لم تستطع بادئ ذي بدء أن تجاري إنكلترا في أُجور الشحن؛ لأن النوتيين الأميركيين يتناولون أضعاف أُجور النوتيين الإنكليز، فاضطرت لذلك الشركات الأميركية أن تستأجر نوتيين من الأجانب وفيهم من أتباع المملكة البريطانية، فامتعض لذلك أرباب الشركات الإنكليزية وسعوا لدى حكومتهم فاحتجت مرارًا من أجلهم، ولكن حكومة واشنطون وهي تميل بسمعها إلى الشركات الأميركية لم تسمع احتجاج الحكومة الإنكليزية، التجارة يا بني التجارة! إنما هي أُمُّ الحروب، والزعماء والوزراء والسياسيون والصحافيون آلاتٌ كلهم بيدها.

قلت إن أميركا كادت تفوق إنكلترا ببحارتها وبتجارتها، بل فاقتها واجتازت حدودها كل البحار، فصرنا نرى البواخر الأميركية تحمل البضاعة الأميركية والإنكليزية والإفرنسية إلى الصين واليابان والهند وأستراليا والشرق الأقصى، فضلًا عن جمهوريات أميركا الجنوبية التي حلت أميركا فيها محل ألمانيا التجاري قبل حرب الأُمَم، ولا بد في مثل هذه المناظرة التجارة الشديدة، وهذا التحاسد والتضاغن من شر يستثمره السياسيون ويساعد في تعميمه الصحافيون، والزعماء الطامعون بالثروة والسيادة. لا بد في مناظرة تجارية وسياسية بين أُمَّتين من يومٍ تتفجر فيه براكينُ الطمع والحسد والضغينة، وكذلك كان.

فقد أضرب عن العمل في أحد المراسي الشرقية النوتيون الإنكليز فشاركهم بالإضراب بعض النوتيين المشتغلين في بواخر أميركية كانت راسية هناك، فاستخدمت الشركة الإنكليزية نوتيين من الأهالي، فهددهم المضربون بالقتل إذا اشتغلوا، فحدث بين الفريقين مناوشات اضطرت الحكومة المحلية، وهي إنكليزية، أن تُخمد نارها بالقوة العسكرية، فأطلق العساكر الرصاص على المضربين وبينهم من رفعوا العلم الأميركي، وكان ممن قتلوا بعض النوتيين الأميركيين.

نقل البرق خبر هذه الحادثة فنشرته صحف الأخبار بالقلم العريض: «قد أُهين العَلَم الأميركي، قد قُتل عددٌ من المواطنين الأميركيين.» فثار ثائر الناس، وفي مقدمتهم السياسيون والصحافيون، على إنكلترا، ولكن صحف لندن روت الحادثة على غير ما روتْها صحف نيويورك، وقالت: إن الحق على المضربين، وإن جنود بريطانيا العظمى عملوا الواجب عليهم.

ولما شرعت الصحافة الأميركية تنادي وتصيح: «الحرب الحرب!» نهض العمال والنساء يحتجون عليها وعلى الحكومة، ولكن احتجاجهم لم ينجح. طلب الرئيس من الحكومة البريطانية عذرًا أو تعويضًا فأبت ورفضت بتاتًا، تدخلت فرنسا وألمانيا واليابان في الأمر، ولكن النعرة السياسية والمصالح التجارية تغلبتْ على كل احتجاج وكل اعتراض، أَشهرت أميركا الحرب على إنكلترا وشرعت توًّا تُجهز الجيوش، وكذلك فعلت إنكلترا، ولكن الأيام حبالى بالمعجزات يا بني، ونهضات الأُمَم تنمو سرًّا نموًّا بطيئًا، فتظهر فجأة لتطهر المجتمع من أمراضه وأدرانه.

أجل، يوم صَدَّقَ الرئيس على شريعة التجنيد الإجباري ظهرت في الأُمَّتين الأميركية والبريطانية قوات العمال دفعة واحدة وقد توحدت كلها كلمةً، وقصدًا، وعملًا.

كلمتنا السلام، وقصدنا السلام، وعملنا السلام، وحُجَّتُنا السلام.

عُزلًا وقفنا أمام دار الحكومة نرفض حمل السلاح، لا دفاعًا عن أنفسنا ولا دفاعًا عن الأُمَّة.

عزلًا سرنا في الأسواق، وفي مقدمتنا النساء حاملات البنود البيضاء لا الحمراء، وبينهن أُمَّهَات من سفكوا دماءهم في حرب الأُمَم.

عزلًا اجتمعنا في الساحات العمومية، وبيننا أُلوف ممن خاضوا عباب حرب الأُمَم، ونجوا منها مشوهين مثلي.

لا يا بني، لم ننس تلك الحرب وأهوالها، ولم تنس النساء ويلاتها، ولم تنس الأمهات أحزانهن، نهضنا وإخواننا البريطانيين نهضة واحدة على الحكومات المالية التجارية الطاغية، لست أنسى حياتي يوم أمرت جنود الحكومة بتبديد اجتماعنا أمام دار الحكومة، أُمرنا بالذهاب إلى بيتنا فأبينا، فأمر الجنود بإطلاق الرصاص علينا، تباركت تلك الساعة يا بني، وتبارك الإخاء والولاء، فلما أُمِرَ الجنود بإطلاق الرصاص رموا سلاحهم إلى الأرض وأسرعوا إلينا يعانقوننا. تَعَانَقَ الجنود والعمال يا بني، واتحدنا على العدو، عدو التمدن والإنسانية، نعم، قتلنا في تلك الساعة الحرب في مهدها، وأسقطنا حكومتها وأربابها، في تلك الساعة يا بني أشرقت شمس الإخاء والحرية لأول مرة على العالم.

أجل، قد سقطت حكومة واشنطون وحكومة لندن في أسبوع واحد وأخذت ثورة العمال السلمية تمتد وتنتشر في فرنسا وألمانيا وروسيا والنمسا وإيطاليا، سطع نورها في أُمم أُوروبا وأميركا جمعاء، بُعثت البلشيفية من قبرها وقد طهرها الفشل والزمان، فاستولت وهي عازل على زمام الأحكام في العالم المتمدن، وكانت النساء — تبارك اسمهن وجنسهن — العامل القوي في فوزنا فوزًا مبينًا.

عصينا يا بني، تمردنا، خلعنا نير الطاعة لحكومات تجارية طاغية، انتصر السلم نصرًا مبينًا، فازت الحرية والإخاء فوزًا باهرًا، رفع العمال راياتهم البيضاء لا الحمراء في كل العواصم الأُوروبية، وبعد أن استتب حكمهم الدمقراطي الاشتراكي عقدوا مؤتمرًا في نيويورك قرروا فيه ثلاث مبادئ أساسية:
  • أولًا: استيلاء الحكومة على الشركات العمومية كلها.
  • ثانيًا: تحديد ثروة الشركات التجارية والمالية وثروة الأفراد.
  • ثالثًا: تأسيس شركة للحكومة عمومية في كل ولاية، رأس مالها ما زاد من ثروة الأفراد والشركات الخصوصية، فينفق ريعها على المشاريع العمومية، والمعاهد العلمية والفنية والصحية، وقرر المؤتمر أيضًا مبدأ الرئيس ولسن في الحكم الذاتي الاختياري لكل الأُمَم صغيرة وكبيرة، فجلت إنكلترا عن الهند وعن مصر، وجلت فرنسا عن سوريا وعن المغرب الأقصى، وخرجت ألمانيا وروسيا من بولندا ومن المستعمرات الجديدة التي احتلتها، ثم تأسست جمعية الأُمَم التي استولت على جنديات وحريات الأُمَم المشتركة بها، وكان رئيسها الأول رئيس أحزاب العمال الأميركية.

وحكم العمال الذي نحن فيه الآن يا بني هو الحلقة الرابعة من دائرة الأحكام البشرية التي ذكرتها، فمن الحكم الأبوي، أي: حكم الحكماء، إلى الحكم الاستبدادي، أي: حكم الملوك والأمراء، إلى الحكم الدستوري، أي: حكم الوجهاء والمتمولين، إلى الحكم الاشتراكي، أي: حكم العمال. إلى الغد يا بني، ولكنما الغد لله.

رفيق السفر والمؤتمر

١

قد كان أول اجتماعي به في مؤتمر واشنطون لتخفيض السلاح، وهو يمثل جريدة نيويوركية يكتب إليها رسالة كل يوم دون أن يحضر اجتماعات المراسلين بمحدثي الوفود المختلفة أو يؤم وزارة الخارجية متسقطًا الأخبار، ومع ذلك كان يكتب المقال الذي لا يحتاج إلى كثير عمل ومشقة ويقبل لقاءه مبلغًا من المال، وكان يقبل أيضًا دعوة سيدات واشنطون الغنيات في حال أن ليس بينه وبين أمثالهن ما يحلل الخبز والملح، فهو اشتراكي وهن في غير تلك الحال لا يرين فيه ما يوجب غير التفاتة يمازجها شيء من التنازل والازدراء، إلا أنَّ الغرائب تعددت في أيام ذاك المؤتمر، كيف لا واللورد … يتناول الغداء وأحد المراسلين. إننا يا سيدي في بلاد ديمقراطية، والمسيو ستيفان لوزان «رئيس تحرير الماتان» يمشي إلى إدارة إحدى الجرائد وفي جيبه مقال مكهرب موضوعه لا شيء، عند احتياجه إلى المال، والمستر بلفور — يجيء بنفسه ليحدث المراسلين فيشرح لهم الفرق من وجهة أدبية بين الغازات السامة والطيارات المدمرة، ويتفلسف في شرعية استعمال الطيارات مثلًا وعدم شرعية الغازات.

وهذه بعض الشعوذات السياسية التي نجا صديقي منها، أما زملاؤه المراسلون فما كانوا لينظروا إليه بعين الاهتمام التي كانت لسيدات واشنطون الغنيات، أو لتلك الجريدة التي كانت تنشر رسائله وتعلن عنها كأنها الدواء الوحيد لأدواء العالم كلها، قالوا إن حرفته التشاؤم وكفى، أما أنا فأحببت الاجتماع به؛ لأنه كان ينصر مبادئ طالما روضت هذا القلم في خدمتها، ويجاهد في سبيل الإنسانية جهادًا مبرورًا يستحق احترام كل من أخلص الحب للإنسانية، هذا من حيث التعارف والائتلاف. وهناك أُمُور تناكرت — أو بالحري تناقضت — حببت إلينا الاجتماع، منها أنه يكتب من اليسار إلى اليمين وأنا أكتب من اليمين إلى اليسار، أنه غربي إنكليزي وأني شرقي عربي، أنه ممثل أكبر جريدة في المؤتمر وأني ممثل أصغر الجرائد، أنه مادي محض وأني مادي روحي معًا. كل هذه حببت إلينا الاجتماع فاجتمعنا وكان ذلك في نزله قبل العشاء.

وكنت قد طالعت بعض تآليفه واطلعت على رسمه في إحدى المجلات فأعددت نفسي إلى خبر يكذب الخبر — كما هي العادة في أكثر المؤلفين — ووعدتها بخيبة الأمل، فما كان شيء من الاثنين؛ لأن المستر ولز٩ شبيه برسمه وإن كان غير ما نتصوره في وجوه الاشتراكيين، وإنه لَيصح فيه ما قالته أُم «برنارد شو» في الكاتب المعروف «كننغهام غراهام»: «هذا الرجل لا يشبه الاشتراكيين بل يشبه الرجال الأماجد.» والمستر ولز من الأماجد، ولا غرو، وله فوق ذلك من رونق الشباب ما يدهشك جدًّا إذا علمت ما عدد سنيه وعدد مؤلفاته. أما المؤلفات فلا تقل عن الخمس والأربعين، فهب أنه بدأ يكتب في سن العشرين وكان له في كل سنة كتاب لكانت سنه ٦٥ ولكن الحقيقة هي خلاف الرقمين، فهو في السادسة والخمسين من سنه، وفي السادسة والأربعين من شبابه، يسلب الزمان عشر سنوات وهو مطمئن إلى الزمان، هذا هو المستر ولز، وهذا ما أدهشني منه عند أول مقابلة.

وإننا إذا سلمنا أن هذا الروائي المؤرخ لا يتحرى في ما يكتب الترسل والإبداع أو الاشتهار بأُسلوبٍ خاصٍّ فإن غزارةَ مادته، وسعة علمه، وكِبَر همته التي لا تعرف الكلل، وخلاء وجهه من أثر العمل في التوليد الدائم، بل من دلائل التعب والملل، لَمَا يستحق الذكر ويستوجب الإعجاب، فهو في حركاته وفي وجهه وفي اطمئنان نفسه وفي ظهره الهادئ إجمالًا شبيهٌ بقسيس لم يعمل في حياته عملًا غير تحبير المواعظ أو انتحالها، وللمستر ولز أيضًا مواقفُ في الوعظ، إلا أنها غير مواقف المحترمين أصحاب الإنجيل، فقد وعظ ضد كل شيءٍ في العالم ولم يستثن الديانة المسيحية، وهو تلميذ الأستاذ هُكسلي، ومِنْ أنصار مبدأ النشوء والارتقاء الثابتين.

وما همني من أمره تلك الليلة غير نظراتٍ في الإسلام والأُمَم الشرقية في كتابه «موجز التاريخ» فإنه بعد تأليفه هذا الكتاب، وبعد رجوعه من روسيا، وفي معالجته موضوع «الحرب والسلم» في واشنطون، أصبح شبه نبي اجتماعي بل أمسى طبيب العالم بأسره، وما هو مثل بعض الأطباء يصف الدواء الواحد لكل الأدواء، بل له وصفات خاصة لا تزال تستغوي المطلق من العقول، وأنا في السياسة وفي الدين لا أزال مطلق الرأي والعقيدة، لي في الصحيح من تعدُّد المذاهب شغف يغتفر عنده التنقل والغزل، وقد كان لي بعد موعدي مع ولز موعدٌ مع الزعيم الشاب السياسي الصيني والنغتون كو.

قد اجتمع الشرق والغرب في واشنطون وتنازعا ثم عقدا معاهدة، إلا أنهما لم يتفقا على نظامٍ أدبي واحد في السلوك السياسي تتبعه الدول جمعاء. وهذا لعمري سبب المحنة، بل سبب المحن السياسية كلها في العالم، فإذا كان الشرق يتوق إلى وطنية غير معادية لأُوروبا، بل هي بالعكس بنت التهذيب الأُوروبي، وإذا كان الغرب في تطوره السياسي ينحو نحو اشتراكية تعطف على وطنيات الشرق الناشئة نشأة جديدة، ثم تسير هاتان النهضتان في خط مستقيم الواحدة نحو الأخرى، فإلى متي يا ترى نعمد في حلنا المسائل الأجنبية إلى ما ألفناه من تعصب في التشريق أو التغريب؟ إلى متى تبقى المسألة مسألة شرقٍ وغرب؟ ومتى تصير مسألة عدلٍ وأدب وكفاءة؟ هذه من المسائل التي سألتها المستر ولز تلك الليلة.

ولا أذكر أنه اتقاها أو أجاب صريحًا عليها، قال: «إن أُوروبا سائرةٌ إلى الدمار، ولكن لا يزال عندها أشياء يمكن أن يستفيد الشرقيون بها، وخيرٌ لهم أن يسرعوا.» فقلت: «إذا كانت أُوروبا أو بالأحرى المدنية الأوروبية في حال النزاع، والشرق الحر الناهض الذي يفك رويدًا رويدًا قيوده القديمة ينظر إليها نظر المعترف بالفضل المستمد الإسعاف، فماذا عندكم تمدوننا به؟ ما هي عندك طريق الخلاص؟»

فأجاب المستر ولز قائلًا: «العلوم التقنية (الفنية)، فإن الاستقلال الوطني والاجتماعي موكل بالاستقلال الاقتصادي، ولا تفوز الأُمَم بالاستقلال الاقتصادي إلا بإحسانها العلوم الطبيعية كالهندسة والكيمياء والميكانيكيات كلها، هذا ما يفتقر إليه الشرقيون، ويمكنهم أن يتعلموه في كلياتنا، وخيرٌ لهم أن يسرعوا.»

وهو يقول بالإسراع قولًا ممكَّنًا، كأنه يرى قرب حلول مصيبة أشد هولًا من التي لا تزال تخيم على العالم، ولا يرى للروحيات في المحنة أو في درئها دخلًا أو لزومًا. أذكر أنه قال: إن بعض مصيبة الشرق هو استرسال أبنائه في الشعر.

«وما قولك بالدين؟»

«إنه يتوقف على ما فيه من الخير العملي، كلنا نكره التدجيل كما أنَّا نكره التديُّن الآلي، ولكن في القرآن أشياءُ كثيرة حسنة تكاد تُهمل، فحبذا تجديد الحياة فيها وإهمال القديم المنافي لخير هذا الزمان، المُعادي لطبعه. ناهيك بأن القرآن عروة الإسلام الوُثقى، أو هو — في الأقل — وسيلةٌ يحسن استخدامها في تحقيق الوحدة الإسلامية، وإن وحدة أية أُمَّة من الأُمَم مفيدةٌ لها ولغيرها، فالوحدة تُعيد إليها كرامتَها وتُوجب عليها القيام بعهودها، أما الإسلام اليوم فمشتَّتُ الشمل، مبدد القوى، ولو لم يكن لدى المسلمين من واسطة إلى الاتحاد لَوجب عليهم اختراعها، ولكن كتابهم خير واسطة. خذ لك مثلًا شخصيًّا: لست ممن يؤمون الكنيسة للصلاة، ورأيي في الدين أنه لا يزال في حال الامتحان والتجربة، فالكلمة المتناهية حكمةٌ لم يُنطق بها بعدُ لا في الكنيسة ولا خارجها، ولا في الشرق ولا خارج الشرق، ومع ذلك إني على يقينٍ تام من أمرٍ واحد، فإذا كانت انكلترا في خطرٍ من الاحتلال الأجنبي — العربي فرضًا — وكان أبناؤها مشتتين مبددين في أربع زوايا الأرض دون رابطة تربطهم بعضهم ببعض فلا أتردد في دعوتهم إلى الإنجيل بل أتخذ الكتاب المقدس شارة جنسية، وعَلَمًا وطنيًّا، وعروة شاملة في الوحدة القومية.»

قلت: «مِنْ رأيك إذن أن يتمسك المسلمون بالقرآن ويتعلموا العلوم الطبيعية؟»

قال: «أوَلا ترى أن ذلك خيرٌ لهم؟»

إن المستر ولز على جانبٍ عظيم من اللطف والذوق، فلا هو يحتكر الحديث ولا يبدي رأيه كأنه آيةٌ مُنَزَّلة، وقد ظهر لي أنه لم يُحِطْ علمًا بالإسلام، وما ساح قط في بلادٍ إسلامية ليدرك الفرق الأساسي بين شعبٍ انكليزي يعتصم طالبًا الوحدة بالإنجيل وشعوب إسلامية مختلفة متعددة تعتصم بحبل الله وبكتابه للغاية ذاتها، فالشعب الإنكليزي أليف الفكرة العلمية الحرة وإن لم يكن متطرفًا فيها مثل المستر ولز، وهذه الفكرة — أُم التهذيب والعلم — التي تشترك بها الأُمَم الأوروبية الراقية تقي الإنكليزَ — في عودتهم إلى الإنجيل كرابط سياسي — من الرجعية، من التقهقر، بل من تجديد الحروب الدينية، أما الشعوب التي لم تعرف في تاريخها كله ولا في أدواره الباهرة مظهرًا من مظاهر الحكم المدني البحت، والتي لا ترى في دنياها ما هو جدير بالنظر والاهتمام غير ما كان له صلة في الدين والآخرة، لا يخلوا رجوعها إلى كتابها تحقيقًا للوحدة السياسية من أخطار التعصبات الدينية وأضرار النعرات المذهبية، والخطة المثلى لمثل هذه الشعوب — الخطة التي استحسنها بعدئذ المستر ولز وفضلها على الأولى — هي أن تسعى في تحقيق الوحدة الجنسية القومية لا الوحدة الدينية.

ولكننا وقفنا تلك الليلة عند هذا الحد في الموضوع، ووقفت أستأذنه بالخروج؛ لأن الساعة كانت الثامنة وما كان قد لبس ثوب المساء للعشاء، إلا أنني في الختام أثنيت على روايته الأخيرة التي طالعتها بسرورٍ وإعجاب وهي في رأيي أحسن رواياته وأقصرها، ولها مقدمة هي من الإبداع بمكان، فقد تحرى في شكلها سفر أيوب. إلا أن المساجلة هي بين الله والشيطان فقط، وقد اختلق المستر ولز شيطانًا جديدًا له ذوق وأدب، وله كذلك إلمام بالعلوم وعلى الأخص علم النشوء والارتقاء، سأل الله الشيطان قائلًا كما قال قديمًا في سفر أيوب: وماذا تعمل في الأرض؟ فأجابه الشيطان: أحرك فيها من أجلك.

قلت للمستر ولز: إني تشرفت بالتعرف إلى شيطانه وإني أعرف شيطانًا آخر يشاطره الذوق والأدب، وهو فَذٌّ بين أقرانه، شيطان عربي، تلفيق أديب عربي: «هل قرأت في كتاب ألف ليلة وليلة قصة إبراهيم الموصلي ليلة كان أَرِقًا ضجرًا — ولكنني أؤخرك عن موعدك.»

– لا، لا، قُصَّها علي، الناس في واشنطون لا يتعشون قبل الساعة التاسعة.

فقصصت عليه قصة إبراهيم والشيطان الذي زاره نصف الليل، فقال المستر ولز ضاحكًا: «حقًّا هو لطيفٌ كريم، يغني للمغني ليسليه.»

فقلت مصححًا: «بل ليعلمه أغنية جديدة.»

– نعم، نعم، وعلَّ الشيطان أن يعلِّم العالم عقيدة جديدة» ومد يده يصافحني فقلت: «وقد يكفي أن يحرك العقائد القديمة فتبخر ثم تصفى. مساء الخير.

وكذلك انقضت ساعةٌ لذيذة مع المستر ولز، إلا أنه غاظني بعد أيامٍ في مقالٍ أشار فيه إلى «السوري المسلم» الذي زاره، وما زرته ليكتب عني، ولَمْ أتمالكْ أن بادلته «الفضل» في مقالٍ لي، وكان قد ألقى المسيو بريان خطابه الشهير في المؤتمر فاستشاط المستر ولز غيظًا ونسي تعاليمه الاشتراكية والدولية كلها في ما كتبه في فرنسا ومطامعها، فلقبته إذ ذاك بالأُممي١٠ البريطاني، ولم نجتمع لا حربًا ولا سلمًا في واشنطون بعد ذلك.

٢

في صباح يوم من يناير اشتد بَرْدُه كانت السياراتُ الجميلة تتقاطر نحو البحر في نيويورك، فتقف أمام مَرْسَى إحدى البواخر الكبرى ويخرج منها الأميركيون رجالًا ونساءً وقد جاءوا من أقاصي الولايات المت حدة وأدناها، وهم إلى السياحة التي فُطموا عنها مدة الحرب أشد شوقًا من الصياد إلى الطير ومن الطير المسجون إلى الفلا. أضفْ إلى هذا النشاط وهذه الحالة النفسية بهاءً في الملابس والأمتعة، وأثرًا ظاهرًا في الغنى، وأمثلة باهرة في الجمال، فيتجلى لك رهط السياح الأميركيين بما يبهج العين، ويلمس القلب، ولا يمس العقل إلا نادرًا، يوقظ العواطف ولا يحرك فكرًا، وهم خلاصة الناس يرحلون مدركين أهمية الرحيل وأهميتهم، يفرون من برد أميركا طالبين الشمس في مهدها، راغبين بنسمات السحر في اﻟ «ريفيارا»، وبعليل الهواء في وادي النيل.

وكنت قد ودعت نيويورك ومحجتي غير محجة السياح، وفي صدري أملٌ غذته السنون وتعهدته الحوادث، فما تَلَفَّتَتْ مني لا العين ولا القلب عندما أبحرت «الأدرياتيك» ومرت بتمثال الحرية، كنت وحدي، ولم يخطر قط في بالي أن سألقى بين ذاك الرهط الفخم أحدًا أعرفه، ولكني وأنا سائر إلى غرفتي التقيت على الدرج برفيق المؤتمر المستر ولز، وكان قد ودع واشنطون مثلما ودعت نيويورك وفي نفسه من المؤتمر ومن مهمته الصحافية ما أفصح عنه الوجه تعبًا وضجرًا، ولا غرو إذا كان قد سئم السياسة وراح يطلب زاوية في بلاد الله يفوز فيها بالعزلة وبشيءٍ من النزهة.

قلت إن ظاهر المستر ولز لا يدل على حقيقة أمره، فهو أشبه بالتاجر الغني منه بالمؤلف والفيلسوف، ومع أن كلمة يكتبها اليوم يردد صداها في العالم المتمدن كله، ومع أن نفوذه الأدبي والسياسي أشدُّ من نفوذ كثيرين من ساسة أُوروبا، فهو على جانب عظيمٍ من البساطة والاتضاع، لا تكلُّف في لبسه، ولا في حديثه، ولا في سلوكه، يعتزل الناس إلا ما كان فيهم من حسن الوجوه وحسن القدود، وهو من رسل الإطلاق في الحب بل الإطلاق في أمورٍ عديدة من الحياة الدنيا، إلا أنه لا يطارد على ما علمت ولا يصول، قال لي أحد المسافرين وكان كرسيه إلى جنب كرسي: «يقال إن في نية المستر ولز أن يكتب لنا إنجيلًا جديدًا، فيا لها من مصيبة.»

وعندما أخبرت المستر ولز بخوف جاري وتشاؤمه قال ضاحكًا: «بل أُحبُّ أن أُصحِّحَ أو أُعيد كتابة بعض فصول من التوراة.» ليس الرجل لامعًا في حديثه ولا يجيء بالنكتة أو بظريف الجواب إلا نادرًا، وإن ما فيه من الإخلاص والرصانة، والحصافة والاستقامة، لَيشفع حتى بالمبتذَل أحيانًا من آرائه، ولكنه في حديثه مع السيدات أبرعُ منه مع الرجال، وعنده شيءٌ من المجون الإنكليزي الذي أُشبِّهُه بمن يلبس نعلًا من الكوتشوك فلا تسمع إذا زارك وطء قدميه، لا أُريد بذلك أن مجون المستر ولز خَدَّاع غدار يجيئك من حيث لا تدري، بل هو من النوع الذي تسرك إشارته ولا يسوءك صوته، وكان لي منه حظٌّ يُذكر بالرغم عمن كان يميل إليهن من السيدات ومن يَحُمْنَ منهن حوله، فكنت أحتفظ كل يوم بأثر من نفسه وبشيءٍ من حديثه، وقد كان لنا جلسة ذات يوم طويلة تبادلنا بعدها التآليف وكتب هو على كتابه: «إلى أمين الريحاني، بعد حديث مستحب في مواضيع هذا العالم — عالمنا.»

وفي ذاك اليوم بعد ذاك الحديث سألتْني إحدى السيدات: «وهل من صحة لِمَا يُقال من أن للمستر ولز أربع زوجات.» فقلت: «هو يعجب بالمسلمين ولكنه على ما أظن لم يعتنق حتى الآن الإسلام»، فأجابت على الفور: «ليس من الضروري أن يعتنق الإسلام.» وفي جوابها ما يشير إلى باب من أبواب النهضة النسائية الحديثة في أُوروبا وأميركا، فإذا وصلت إلى الباب تقرأ ما كتب فوقه وهي كلمة واحدة: المساواة.

وللمستر ولز في فلسفة الزواج الجديدة أسهم عديدة، منها ما يشق كبد الاصطلاحات، ومنها ما يصيب كبد الحقيقة، ومنها ما يُرمَى في الهواء فلا ندري أين يقع وماذا يُصيب، إلا أن سلوكه في الحياة لَينطبق على مبادئه وتعاليمه، أي: أنه مطلَقُ الحرية والتصرف في انتسابه السياسي مثلًا وفي اختياره الجنسيِّ، وهو وإن كان له أكثر من زوجة واحدة — ليس لي أن أُثبت الأمر أو أنفيه — لا يدعي العصمة ولا النبوة، وهو وإن كان اشتراكي المبدأ، لا يحترم كارل ماركس مثلًا ولا يحتقر لويد جورج، ولا يرى في ضيافة الأغنياء ما يراه الشيوعيُّ القصير النظر.

إن التعصب الأعمى لَمِنْ الآثار القديمة، والمفكرُ المهذبُ الحصيف يسير مع الزمان وأبناء الزمان مواليًا في ما لا ضر فيه، ولا يطلب من الناس غير الصدق في القول، وكرم الأخلاق في العمل، وحُسْن الذوق في الاثنين، وقد يقتنع أحيانًا بحسن الذوق فقط. ألا ما أسخف الرجل الذي يفاخر دائمًا بماله أو بدينه أو بمذهبه السياسي وما أثقله، إن أهم ما في الحياة الناس، ومن يحفظ التوازن بين شئون الناس وقضايا الحياة كلها إنما هو صديقنا الأكبر ومعلِّمنا، بل هو من المحسنين إلينا.

ولا أبالغ إذا قلت: إن المستر ولز من هؤلاء الأفراد القلائل في العالم، فما ضره إذا لبس مثل التجار الأغنياء ونام في كرسيِّهِ على ظهر الباخرة مثل سائر الناس — وغط كذلك — وما ضره إذا لعب بالورق مع السيدات؟ إنه طالب راحة ونزهة، وهل في كل الجمال البشري ما يرتاح إليه المرءُ ارتياحه إلى وجهٍ جميل وابتسامة جميلة؟ فضلًا عن أن الروائي يرغب دائمًا بالحياة على اختلاف مظاهرها، يبحث دائمًا عن موضوعٍ، عن عروسٍ، عن حادثةٍ — غريبة أو جديدة — لرواياته.

حدثني ذات يوم مراسل إيطالي كان معنا في مؤتمر واشنطون وكان في الباخرة، وهو شاب جميل، نقطة دائرة من الأوانس باهرة، قال ينتقد كتاب المستر ولز «موجز التاريخ» إن الفصول المختصة بتاريخ إيطاليا مفعَمةٌ بالأغلاط والمقدسات الفاسدة، ولا يدرك ذلك إلا المؤرخ الإيطالي ومَن كان متضلِّعًا بتاريخنا، إنما المستر ولز روائيٌّ لا مؤرِّخٌ، فقلت: إنه أكثر من روائيٍّ وأكثر من مؤرخ، هو فيلسوفٌ ومصلح وحكيم. والمؤرخ غالبًا عقيم وإن اجتمعت فيه مَزِيَّتَا الفلسفة والحكمة؛ لذلك نفضل تاريخ ولز بما فيه من الأغلاط على تواريخ لا أغلاط فيها ولا حياة، أما النوع الأول أي: الخالي من الأغلاط فغير موجود والنوع الثاني نادرٌ جدًّا، وقد لاحظتُ أن في فصول أُخرى غير التي أشار إليها الكاتب الإيطالي قرُب المستر ولز من الحقيقة ولكنه لم يفز بها، وعَلَّ إشارةً خير من عبارة.

انتقلت ومحدثي من التاريخ إلى الفنون، وبينا كان يتكلم عن النهضة الفنية الحديثة في إيطاليا وثبتْ منه نظرةٌ أوقفت الكلمة على لسانه، فغَيَّرَ الحديث هاتفًا: «لله هذه الفتاة، أتعرفها (وكانت قد مرت بنا أجمل فتاة في الباخرة) هي ابنة السيدة التي تجلس إلى المائدة قرب المستر ولز، وهو حتى الآن لم يعرفني بها، أكذلك يكون المؤرخ الحقيقي؟» فتأكدت عندئذ أن حسد الكاتب هو حسد القلب، لا حسد الأدب.

٣

ليس للمستر ولز خطة اشتراكية أو طريقة عملية لإصلاح العالم، فهو اليوم اشتراكيٌّ عِلْمًا لا اشتراكي عملًا، وقد يقبل الهيئة الاجتماعية والسياسية الحاضرة بما فيها من المنكرات إلى أن يحدث حادثٌ يقلبها بطنًا على ظهر، وإنه في ما يكتب يمهد السبيل لمثل ذا الحادث بل يستسرع يومه، وله في المستقبل نظرات هي في الغرابة مثل نظرات المستر برنارد شو، إلا أن لها هالة علمية وفيها لب النشوء والارتقاء. في المستر ولز سلامة ذوق يتخلله شيءٌ من المجون، وفي المستر شاو مجونٌ يتخلله شيءٌ من سلامة الذوق.

قلت للمستر ولز: «إذا كان الحب المطلق والأسرة كما هي اليوم يتناكران ويختلفان فأيهما تنبذ، بل أي منهما أنت تنصر؟» فأجاب قائلًا: «لا بد للقائل بالحب المطلق أن يتنازل عن بعض أشيائه لكي تصان الأسرة في حالها الحاضر إلى أن يصير أمرها إلى الحكومة فتؤسس دائرة خصوصية تتولى شأنها.»

ولو سألت المستر شاو هذا السؤال لقال لي: «إذا كان القائل العامل بالحب المطلق ذكيًّا يشتري للأسرة، التي يهمه أمرها، سيارة من سيارات الحرب، وإذا كان قويًّا ينصب لها — بدون مقدمات — المشنقة.»

غني عن البيان أن نتيجة مبدأ المستر ولز الحاضر تضر بصالح الفرد وتحول دون نشوئه النفسي والعقلي، بل هي تناقض تعاليمه الأساسية في الاجتماع، وهو يدرك ذلك ولا يعتذر عنه، قال الشيطان للرب: «إني أحرك في العالم من أجلك ولخيرك»، وفي بستان المستر ولز الأعشاب السامة، والنباتات الطبية والزهور كذلك والثمار، وهو يفتح لك الباب قائلًا: أهلًا وسهلًا، ولكنه لا يرافقك دليلًا، ولا يعترض إذا اقتديت بشيطانه وكنت في البستان صاحب حركة فتخلط الأعشاب بالزهور، لعلك تهتدي إلى حقيقة جديدة من حقائق الوجود، ولعل السم في هذا العشب مثلًا يزيل المرض في تلك الشجرة.

وهناك مبادئ أُخرى أساسية في النشوء والعمران، منها مثلًا: أن الإنسان لا يزال مصعدًا ولم يصل إلى آخر درجة من سلم النشوء والارتقاء، وأن الأوروبي — فردًا لا اجتماعًا — لا يزال خاضعًا للناموس الطبيعي القائل ببقاء الأنسب وصالحًا للعمل به، ولم يصل — كما يظن بعض العلماء — إلى القنة التي يختنق عندها إذا لم ينكس راجعًا، فالمرء والمدنية من هذا القبيل جسمان مستقلَّان.

قال المستر ولز: «إننا في بداية أمرنا في الاكتشاف والعلم، ولا نزال قيد الأوليات في استخدامنا المبادئ العلمية في الحياة وعلى الأخص في أساليب البحث والجدل، ومن الحقائق التي لا تحتاج إلى برهان أن كل ما كان من ارتقائنا في الماضي ليس هو اليوم كما كان، حكوماتنا، وعلومنا، وطرائق الحرب، تغيرت كلها، فهل يعقل أنها ستبقى على ما هي اليوم بعد خمسماية سنة؟ أما إذا قلت: وألا تتغير من الحسن إلى السيئ أو من السيئ إلى الأسوأ؟ أُجيبك: كلا؛ وذلك لأن نشوء الإنسان هو من السافلات إلى العاليات ومن السيئ إلى الحسن دائمًا.»

وهو يرتئي كذلك أن مبدأ النشوء والارتقاء الذي ظهر وتعزز في الشعب السكسوني سيؤهل هذا الشعب أيضًا للعمل الأكبر في تكييف مصير العالم ومستقبله، وما هو بالغريب أن تحاول أُمَّة تسود العالم بواسطة مبدأ علمي اكتشفه علماؤها، ولكننا نخشى — ويحق لنا أن نخشى — مثل هذه السيادة إذا كانت غير مدعومة بمبادئ اجتماعية شريفة، وتعاليم روحية سامية.

«أقول — وعسى ألا تظن قولي غرورًا: إن أميركا وانكلترا تتقدمان الأُمَم في سبيل الارتقاء، وتهديانها إلى حكومة العالم المستقبلة، الحكومة الأُممية.»

لذلك دعيت المستر ولز «الأممي البريطاني» وهو بَشَر مثلي ومثلك لم ينتصر بعد على عوامل الوراثة فيه، ولن تتنصر روحه في الجيل الثاني أو الثالث من ذريته على نواميس هي في سيرها ونشوئها وزوالها بطيئةٌ جدًّا، والبرهان على ذلك، خذه من مبادئ المستر ولز ذاتها، بل من التعاليم الدروينية، وهو يحاربك بها، ولكنه يعتقد أن الحرب حتى بين حقائق الوجود تجلي الحقيقة الكبرى في المثل الأعلى وتقربها من الناس، «فإذا كنا غير مستعدين اليوم للمثل الأعلى في الحكومات فينبغي لنا أن نقبل المثل الذي يدنو منه وهو الحكم الإنكليزي، وهذا مثال من المجون الذي يحسنه المستر ولز.»

لكنه لا يُريد بالحكم الإنكليزي — كما يتبادر للذهن — الاستعمار أو الانتداب، بل يريد التشبه، الاقتداء، الاقتباس، «إذا كنا أحسنَّا أمرًا فلكم الثمرة ولنا، إذا كان دستورنا مثال العدل والحكمة فخذوه دستورًا لكم. إن في الشرق الأقصى اليوم نهضةٌ نحن مديونون بها لأميركا، فقد خطونا في مؤتمر واشنطون خطوة كبيرة نحو الحقيقة الكُبرى في الاجتماع وفي السياسة، أجل، إن الفضل لأميركا في طرح المسألة الصينية على بساط البحث وحَمْل الدول على اتفاق أساسي بخصوص الصين، وجوهر هذا الاتفاق — كما تعلم — هو أن المساعدة لا تكون في أن تدخل الدول الأوربية إلى الصين حاملةً الإنجيل بيد وبرنامج التجارة باليد الأُخرى، بل المساعدة هي أن نخرج من تلك البلاد، ليس إلا، وقد تَمَّ في مؤتمر واشنطون ما كانت الدول تخشاه، فقد أَقَرَّت الدول أن تخرج تدريجيًّا من الصين، كل بلاد لأهلها.»

وهذه من المبادئ التي لا يستطيع المستر ولز اليوم إلا نصرها، لهو وإن كان أُمميًّا يدرك أَنْ لا بد من حكومات في الشرق تتقدم الحكومة الأُممية التي يبشر بها ويدعو إليها، الوجود قبل العدم. فيجب أن تظهر الحكومة الوطنية في الشرق قبل أن تزول، وستكون الصين أول الأُمَم الشرقية الكبرى المتمتعة بحكومة وطنية، فهل تكون أول الأُمَم الشرقية التي تنبذها؟ يقول المستر ولز: لا أدري، ولكنه متأكد أن الوطنيات ستعم الشرق كله، فتنتقل من الصين إلى الهند ومن الهند إلى بلاد العرب.

– «وستكون سوريا آخر مراحل الوطنية في سياحتها الغربية؟»

– «كلا، على السوريين أن يبدءوا بالجهاد، فالنهضة إذا بوشر بها في طرفي الشرق — الأدنى والأقصى معًا — تكون أسرع في سيرها ونجاحها.»

– «وما قولك بمصر؟»

– «إني من أنصار المصريين في الاستقلال إذا استثنينا منه ترعة السويس، فلا يجب أن تستولي على الترعة دولة واحدة من الدول؛ لأنها ممر عمومي في طريق التجارة والأسفار التي تصل الشرق بالغرب، ويجب أن تكون — والحال هذه — في يد حكومة أُممية، أو حكومة مؤلَّفة من دول العالم الكبرى. حكومة تكفل حياد الترعة وشيوعيتها وتحميها، أما الدول الصغيرة فلا تنفع إذا اشتركت بهذا الحكم، وقد تضر، فهي غالبًا تبيع أصواتها في تقرير الأمور، نعم، يحق لمصر أن تكون من الدول المسيطرة على الترعة، وما خلا ذلك فأنا قلبًا وقالبًا نصير استقلالها التام.»

– «أوَلا تظن أن في استطاعة مصر أن تحمي الترعة؟»

– «ليست المسألة في نظري مسألة حماية فقط، أنت تعلم أني أنصر المبدأ الذي يقول بالاستيلاء العام على طرق التجارة والأسفار العمومية في العالم بأسره، وما نفع المبادئ إذا ظلت إلى الأبد في العقل والخيال، ينبغي أن توضع موضع العمل، ولا بد لكل عمل من بداية.»

– «وهل تطلب العمل بذا المبدأ في ترعة باناما أيضًا؟ وكيف يمكنك أن تنفذه؟»

– «نعم، إن النظريات والمبادئ خاضعةٌ مثل كل أَمْرٍ من أُمُور الحياة لناموس النُّشوء والارتقاء، فإذا بدأنا في مصر ننتهي في أميركا.»

– «ولكن لمصر — كما لسائر الأُمَم — الحق الأول، الحق المطلق، في أرضها.»

– «لا يحق لأُمَّة من الأُمَم أن تملك أرضًا لا تستثمرها ولا تدع غيرها أن يستثمرها، وعلى هذا القياس أقول أيضًا لا يحق لأُمَّة من الأُمَم أن تستولي وحدها على طريقٍ عامة من طرق العالم وتقفلها يوم تشاء دون من تشاء من الأُمَم، زد على ذلك أنها لا تستطيع — وهذا أشد ضررًا — أن تحميها في زمن الحرب.»

ولا يختلف رأي المستر ولز في الأُمَم الشرقية، إذا جَرَّدْنَاه من المبدأ الاشتراكي، عن رأيِ بعض الأحرار من السياسيين الأُوروبيين، فهم رغم عطفهم على الشرقيين، لا يثقون بهم حتى الآن الثقة التامة، «ليكن لهم الاستقلال السياسي»، يقول السياسيون والمستر ولز أيضًا: «ليتمتعوا بالحكم الوطني، وليتعلموا أثناء ذلك العلوم التقنية والميكانيكية والاقتصادية، وإذا كانوا لا يجيئون إلى أُوروبا لهذا الغرض، ليكن لنا حق التعليم في بلادهم.» قلت: «وهل تظن أن هذه العلوم تكفي لتقدُّم الشرقيين ورقيهم؟»

فأجاب على هذا السؤال وهو يذكرني بكلمة قلتها في واشنطون إذ سألني أحد المراسلين الشرقيين: ما هو دينك؟ فقلت: لا دين لي اسمًا ورسمًا، ولكني أعتقد بالله أبينا أجمعين، وأعتقد كذلك بالإخاء البشري.

فقال المستر ولز — مجيبًا سؤالي: أضف إلى العلوم دينك هذا، ولا أظن أن أُمَّةً من الأُمَم تحتاج أكثر من ذلك — إذا عملت به — لرقيها وعمرانها.

١  إن مثلي في نشر هذه المقالة مثل مَنْ فقد مَنْ يحبه ولا يزال يحتفظ بصورة الحبيب.
٢  محطتان من محطات سكة الحديد في باريس.
٣  الذي نبتت لحيته، وهو اسم أُطلق على الجنود الفرنسويين عامةً.
٤  أسماء أماكن أشهر المعارك في الحرب العظمى.
٥  خطاب ألقاه في حفلة لجنة تحرير سوريا ولبنان في نيويورك.
٦  هو وعد من وعود الحرب اللمَّاعة التي خدعت كثيرين غيرنا.
٧  وما كان في الحسبان أن سيحذوا غيرهم حذوهم.
٨  نسينا في تلك الأيام التاريخ وأن الأُمَم في سياستها غيرها في آدابها.
٩  هو الكاتب الإنكليزي الشهير ﻫ. ج. ولز H. G. Wells.
١٠  الاشتراكيون هم أمميون أو دوليون Internationalists أما الاشتراكي الوطني أو الأممي البريطاني فالتناقض ظاهر فيه، وأظن الأُممي أقرب إلى معنى Internationalist من الدولي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤