الفصل الثالث

حداثة الملكة

وُلدت الملكة فكتوريا في قصر كنسنتون بمدينة لندن في الرابع والعشرين من شهر مايو (أيار) سنة ١٨١٩ كما تقدم وعُمِّدت (نُصِّرت) في الشهر التالي، وحضر عمادها عمها الأكبر وكان نائبًا عن الملك، وعمها الثاني دوق يورك نائبًا عن قيصر الروس إسكندر الأول، واقترح أن تُسمى ألكسندرينا جيورجينا نسبة إلى قيصر الروس وملك الإنكليز، فاعترض عمها الأكبر على ذلك وقال: لا أريد أن يجعل اسم الملك تاليًا لاسم آخر فليدع اسمها ألكسندرينا فكتوريا باسم القيصر واسم أمها، فسميت كذلك وغلب عليها اسم فكتوريا وحده، وسندعوها باسم الأميرة فكتوريا فيما يلي إلى أن تُعطى لقب ملكة.

fig2
شكل ٣-١: أم الملكة فكتوريا.

وكانت قوية البِنية من صغرها فمرت الأيام والأعوام وهي تنمو وتتقوى وتزيد جمالًا واعتدالًا على رزانة ودِعة ووقار كما شهد الذين رأوها في صغرها، ومرت عليها مخاطر كثيرة فحفظتها العناية منها. كان ولد يرمي العصافير بجانب غرفتها وهي في الشهر السادس من عمرها، فمر الخُردُق (الرش) بجانب رأسها تمامًا ولكنه أخطأها، ولما كان لها أربع سنوات من العمر كانت سائرة في مركبة يجرها فرس من الأفراس الصغيرة القد فقُلبت المركبة بها، وكان أحد الجنود مارًّا فأسرع إليها وأخرجها من المركبة قبل أن تصل إلى الأرض فنجاها من الموت وهو لا يعلم من هي فجُوزي في الحال بجانب من المال.

fig3
شكل ٣-٢: الأميرة فكتوريا في السادسة من عمرها.

وأحسنت أمها ومعلماتها تعليمها وتهذيبها عالمات أنها ستكون يومًا ما ملكة على المملكة الإنكليزية، فقرأت مبادئ العلوم والفنون، وتعلمت الألمانية والفرنسوية والإيطالية واللاتينية مع آداب اللغة الإنكليزية والرسم والموسيقى.

وتُوفي عمها الأول الملك جورج الرابع سنة ١٨٣٠ وخلفه عمها الثالث وسُمِي وليم الرابع؛ لأن عمها الثاني دوق بورك تُوفي سنة ١٨٢٧ قبل عمها الأول، وكان لعمها وليم الرابع ابنتان فتُوفيتا قبله وصارت الأميرة فكتوريا ولية عهده، ولم تكن تعلم ذلك لكن معلمتها البارونة لهزن وضعت لها شجرة العائلة المالكة في كتاب تاريخي كانت تدرسه، فلما رأتها قالت ما هذه الورقة فإني لم أرها قبلًا؟ فقالت لها المعلمة: لم نرَ أنه يحسن بك أن تريها إلا الآن. ثم أمعنت نظرها فيها ففهمت مغزاها وقالت: إذن أنا أقرب إلى الملك مما كنت أظن! فقالت معلمتها: نعم. فصمتت ثم قالت: إن كثيرين يفتخرون إذا كانوا في مقامي؛ لأنهم لا يعلمون مصاعبه ففيه مجدٌ كثير وفيه تعب أكثر. ثم رفعت يدها وقالت: أما أنا فسأسير السير الحسن. وقد اتضح لي الآن لماذا تحثينني على الدرس حتى على درس اللغة اللاتينية التي هي أساس اللغة الإنكليزية — كما قلتِ لي — وأصل كل التعبيرات البديعة فيها، وقد درستها كما طلبتِ مني، أما الآن فصرت أعلم سبب ذلك، ثم كررت قولها الأول وهو أني سأسير السير الحسن.

فقالت لها معلمتها: ربما يولد أولاد أيضًا لامرأة عمك الملك فيكون الملك لهم لا لكِ. فقالت: إن ذلك لا يغيظني بل يسرني؛ لأني أعلم أنها تحب الأولاد من محبَّتها لي.

ولما تُوفيت ابنتا عمها كتبت أمها إلى دوقة كنت أم الأميرة فكتوريا تقول: ماتت ابنتاي ولكن ابنتك حية وهي ابنتي. إلا أن عمها الملك لم يكن وديعًا مثل زوجته ولا كان بلاطه لائقًا بأميرة مثل الأميرة فكتوريا فأبعدتها أمها عنه.

وذكر كثيرون من الكُتَّاب الأميرة فكتوريا في ذلك الحين ووصفوها بالنباهة والدعة، قال السر ولترسكوت الشاعر الشهير في يوميته بتاريخ ١٩ مايو سنة ١٨٢٨: «تغديت اليوم مع دوقة كنت فرحب بي البرنس ليوبولد (أخوها) وقابلت فكتوريا الصغيرة ولية العهد، وقد أحسنوا تهذيبها ولم يدعوا أحدًا من الخدم يهمس في أذنيها قائلًا إنك ولية العهد، ولكنني أظن أننا إذا دخلنا إلى أعماق قلبها وجدنا أن حمامة أو طائرًا آخر من طيور السماء نقل هذا الخبر إليه.» وجاء في سيرة لورد كمبل أنه زار قصر كنسنتون وشاهد الأميرة فكتوريا فوجدها أنيسة المحضر على غاية الحشمة والتأدب.

وكل الذين ذكروها في حداثتها أطنبوا في مدحها، وأكثرهم لا يحسبون أن ما كتبوه يشيع ويطلع عليه أحد لأنهم كتبوه في يومياتهم أو في مكاتيب خصوصية، وقد ظهرت ثمرة تعليمها وتهذيبها فيما أبدته من حسن السياسة وفي تحملها الرزايا التي حلَّت بها بالصبر الجميل كما سيجيء.

وسنة ١٨٣٦ زارها خالها دوق سسكس كوبورج مع ولديه أرنست وألبرت، وكأن الغاية من ذلك أن ترى هذين الأميرين لعلها تطلب الاقتران بأحدهما، ويقال إنها أحبت البرنس ألبرت من ذلك الحين، وكتبت إلى خالها تقول أتوسل إليك يا خالاه أن تهتم بصحة من هو عزيز إليَّ وتعتني به اعتناءً خاصًّا، وإني أثق أن كل شيء يجري طبْق المرام في هذا الأمر الذي صار عندي كبير الأهمية.

ولم يخبر البرنس ألبرت بهذا الكتاب ولكن غُيرت دروسه في المدرسة لكي تناسب البلاد الدستورية التي كانت الآمال معقودة بمجيئه إليها.

وفي الرابع والعشرين من شهر مايو (أيار) سنة ١٨٣٧ بلغت الأميرة فكتوريا سن الرشد حسب شرائع الإنكليز، وهو الثامنة عشرة لأولياء العهد، فاحتفل بذلك احتفالًا عظيمًا وجاءتها هدية نفيسة من عمها الملك، وكان قد علم أنها ستخلفه على سرير المُلك، وودَّ أن تبلغ سن الرشد قبل وفاته، وبعد أيام قليلة وفد البارون ستكمار من قِبَل خالها البرنس ليوبولد للغرض الآتي ذكره في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤