تمهيد

ما هو علم النفس الإكلينيكي؟

لو أنك قابلت أيًّا منَّا في سياق اجتماعي واستفسرتَ منَّا عن عملنا، فسيكون معك بعض الحق إن وجدتَ الرد غامضًا بعض الشيء. عندما يَسألني الناس عن ذلك تكون إجابتي شيئًا من قبيل: «اختصاصية نفسية أعمل في مجال الرعاية الطبية …»، وإن ألحُّوا في سؤالهم فقد أجيب: «أقدم العلاج الكلامي لمَن يُواجهُون تحديات في جوانب معيَّنة من حياتهم …». والسبب في هذا أن شرح مجال علم النفس الإكلينيكي ليس سهلًا؛ فنحن نقوم بأشياء شتَّى (منها تقييم الحالة والعلاج والبحث العلمي والتدريس والإدارة والإشراف الأكاديمي والإكلينيكي) وَفقًا لمكان عملِنا الذي يتنوَّع بين (العيادات الخاصة، والمستشفيات، ودُور الرعاية، والسجون، ومراكز الصحة النفسية، وفي السلك الأكاديمي). إضافةً إلى ذلك، لا يَزال بعض الناس يرَون في الأمر سببًا للانزعاج والقلق؛ يتخيَّلون أننا نَعرف الأمور بطريقة سحرية، أو أننا نقرأ ما في عقول الناس (ونحن لا نستطيع ذلك بالطبع!).

هذه المقدِّمة القصيرة جدًّا تُعطينا الفرصة لأن نشرَح عمل الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيِّين، وهو عمل آسرٌ ومليء بالتحديات في الوقت نفسه؛ إذ يتمثَّل في معالجة أفكار الناس ومشاعرهم، وكثيرًا ما يَنطوي ذلك على التعامُل مع تجاربهم المُفجعة أو صعوباتهم الشخصية. وبدلًا من تصنيف هذه التجارب الحياتية بصفتها أعراضًا لأمراضٍ مُعيَّنة أو علامة على الجنون، يتطلَّع الاختصاصي النفسي الإكلينيكي بفُضولٍ لفهم السبب في ظُهور هذه الأعراض، رغبةً منه في فهم المشاعر والأفكار والسلوكيات في سياقها. فما نسعى إليه هو تَمكين الأشخاص من إيجاد سبيلٍ ما يُشعرهم بالتحسن؛ وذلك بأن يتعلَّموا التعايُش مع مُعاناتهم أو تقبلها أو التعامل معها بطريقة مختلفة، أو من خلال تغيير نظرة الأشخاص لأنفسِهم وواقعِهم.

يتمثَّل جوهر علم النفس الإكلينيكي في تطبيق ما نَعرفه من النظريات النفسية والأبحاث بشكل مُبتكَر على التجارب الشخصية الخاصة للأفراد الذين يُواجهون صعوبات أو تحديات في حياتهم. وفوق ذلك، نحرص على إشراك الأشخاص الذين نُحاول مساعدتهم في اتخاذ القرارات (وهو المنهج الذي يُسمَّى أحيانًا ﺑ «العلاج المُتمحوِر حول العميل»)؛ إذ نَعمل فيه انطلاقًا من طريقتهم الخاصة في فهم صعوباتهم، مع مُراعاة ظروفهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

ما من صورة واحدة شاملة أو قطعية للسلامة النفسية، ولهذا لا تُوجد نظرية نفسية واحدة تُناسب جميع المواقف، ولا زلنا نحتاج من العمل الكثير حتى نضمن ممارسة علم النفس الإكلينيكي بطريقة تتَّسم بالحساسية الثقافية وتتجاوب مع كل مَن تستهدف مُساعدتهم. ويشهد المجال جدلًا كثيرًا بشأن ما إذا كان من المُمكن لعلم النفس الإكلينيكي (أو مما يَنبغي عليه) أن يزعم على الدوام أنه يستند إلى مبادئ أو أبحاث يُمكن التحقُّق منها علميًّا. ومن مواطن الخلاف الأخرى أيضًا، ما إذا كان الاختصاصيون النفسيُّون الإكلينيكيون، باستخدامهم لغة الطب النفسي وتشخيصاتها وعملهم في منظومات الرعاية الطبية، يتواطئون لإضفاء صِبغة طبية أو غرائبية على أمور اعتيادية في حقيقة الأمر تُعزى إلى المُعاناة البشرية أو تبعات التفاوت الاجتماعي. هذه المقدمة القصيرة جدًّا تُغطي بعضًا من مساحات الاتِّفاق والاختلاف، وتتناول التطورات المستقبلية لمهنِتنا في هذا العالم الذي يزداد ميلًا نحو الصبغة التكنولوجية والعالمية.

ثمة ما يَنبغي أن يُقال هنا عن المُصطلحات المستخدمة في هذا الكتاب؛ فعلى الرغم من أنَّ علم النفس الإكلينيكي يُشكِّل عن أسباب الكثير من المعاناة الجسدية/الوجدانية افتراضاتٍ مُختلفة غير طبية، فإنَّ أغلب الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيِّين يعملون في بيئة الرعاية الصحية؛ حيث يَحضر «المرضى» ليتلقوا «العلاج» حتى «يَتعافوا» من «أعراضهم». وصحيحٌ أنَّ هذا أفضل من تسمية هذه المُعاناة جنونًا أو خبلًا، لكن استخدام هذه الألفاظ الطِّبية لا يخلو من العيوب. فقد يُوحي، على سبيل المثال، بأنَّ أولئك الذي يحتاجون إلى المساعدة ليسوا سوى مُتلَقِّين غير فاعِلين لمَهارات الطبيب الخبير (مثلَما يحدُث في حالة إصابة الشخص بالتهابٍ في الزائدة الدُّودية)، وأن ما يُعاني منه الشخص يَكمن داخل جسده أو عقله ويُمكن «إصلاحه»؛ وذلك من خلال وسائل جراحية ودوائية بشكلٍ أساسي (كما قد يَحدُث إن كان مصابًا بالملاريا أو بورمٍ دماغي).

لهذه الأسباب، يُفضِّل بعض الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيِّين استخدام كلمة «عميل» بدلًا من «مريض». ويُفضل البعض استخدام كلمة «خبرات» على «أعراض»، ليُؤكِّدوا بذلك على أن المعاناة قد تكون ذات طبيعة وجدانية غير مرَضية. وفي هذه المقدمة القصيرة جدًّا، نستخدم كلمة «عميل» في الأغلب لنَعكِس توكيدًا على الطبيعة الفاعِلة للشخص المُتلقِّي للمُساعَدة، لكنَّ الألفاظ المرتبطة بالسياق الطبي تُستخدَم أحيانًا، لا سيَّما عندما يتلقَّى الشخص خدمةً نفسية تتعلَّق بالرعاية الصحية لإحدى حالات الصحة البدَنية (مثل السكتة الدماغية أو السرَطان أو داء السُّكري). لكن ذلك كله يعتمد على السياق إلى حدٍّ كبير، ولا يُشير إلى وجود اختلاف أساسي في نَظرة الاختصاصي النفسي للشخص وفهمِه له.

ونظرًا لأنَّ الشاغل الأساسي لعِلم النفس الإكلينيكي هو الإنسان، فإنَّ هذه المقدمة القصيرة جدًّا تضمُّ العديد من دراسات الحالة والحكايات القصيرة عن حياة أناسٍ حقيقيِّين. لكن من المُهم بالطبع كما لك أن تتوقَّع، ألا نخون ثقة مَن شاركونا جزءًا من حيواتهم. ولهذا فجميع القصص المذكورة هنا محرفة قليلًا حفاظًا على سرِّية الهُوية، وغُيِّرت جميع الأسماء والأماكن والسِّمات الدالَّة المهمَّة كذلك. على الرغم من ذلك، فجميع القصص المذكورة نابعة من التجارِب النفسية لأُناسٍ حقيقيِّين، ونأمل أن تُقدم لك لمحة عن العمل الذي نقوم به في وظيفتِنا.

ثمة مُقدمات قصيرة جدًّا ممتازة موجودة بالفعل تُغطي مساحات ذات صلة بموضوعنا، لذا لا بد أن نُوضِّح ما ستُضيفه هذه المقدمة عليها. هذه المقدمات القصيرة الموجودة بالفعل كتبت عن مجموعات معيَّنة من العملاء (مثل علم نفس الطفل) أو نوعيات مُعيَّنة من المشكلات (مثل التوحُّد والفصام) أو السياقات (مثل علم النفس الجنائي) أو النظريات (مثل التحليل النفسي). وثمة مقدِّمات قصيرة أخرى عالجت موضوع علم النفس الإكلينيكي باقتضاب، باعتباره فرعًا من المجال الأوسع (مثل المقدمة القصيرة جدًّا عن علم النفس). أما هذه المقدمة القصيرة جدًّا فتركز حَصرًا على علم النفس الإكلينيكي بصفتِه مهنة، وتُوضح الكيفية التي قد يتعامَل بها الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيُّون مع فئة مُعيَّنة من الناس أو المشكلات في الممارسة العمَلية. وعلى غرار جميع المقدِّمات في السلسلة، ليس المقصد من وراء هذا الكتاب أن يكون كتاب مُساعَدة ذاتية، بل يهدف لأن يُعطيك فكرة عن السياقات التي قد تتعامَل فيها مع الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيين، وعن تدريباتهم ومهاراتهم، وكيفية قيامهم بأنشطتهم اليومية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤