الفصل الثاني

جيوبوليتيكية المكان

(١) ثلاث مراحل زمنية في الشرق الأوسط

قلنا إن الشرق الأوسط، بامتداده من اليونان إلى أفغانستان في الشمال، ومن الصومال إلى السند في الجنوب، يحتل المنطقة المركزية في علاقات الشرق والغرب منذ القدم، ولكن طبيعة ووظيفة الشرق الأوسط كمنطقة مركزية قد اختلفت في العصور المختلفة، ويمكن، إجمالًا، أن نجد ثلاث مراحل في تاريخ الشرق الأوسط الطويل، انعكست عليها صفات مختلفة من مركزية المكان الجغرافي للإقليم، وتبدأ المرحلة الأولى منذ نشأة الحضارات العليا القديمة بين النيل والفرات، وتمتد إلى بداية المرحلة الثانية التي تميزت بالركود خلال القرون ١٦ و١٧ و١٨، وأخيرًا تظهر المرحلة المعاصرة ابتداء من القرن التاسع عشر وإلى اليوم.

(١-١) المرحلة الأولى

منذ أوائل التاريخ القديم كان الشرق الأوسط مكانًا لنشأة سلطة أو عدة سلطات سياسية مركزية قومية، تحتكر وتستقطب الطرق البرية والبحرية التجارية التي تنصب إليها من أجزاء العالم المعروف في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبذلك كان الشرق الأوسط البؤرة التي تجتذب التجارة العالمية بمواصفاتها في تلك الفترة المتقدمة، وكانت السلطات القومية تقوم بتوسيع سلطانها في اتجاه طرق التجارة هذه، فكانت مصر الفرعونية تستأثر باحتكار الطرق البرية في داخلية أفريقيا، والطريق الملاحي في البحر الأحمر وجزء من المحيط الهندي، وفي الوقت نفسه كانت أساطيل التجارة المصرية والكريتية والفينيقية والإغريقية تتشارك — متزامنة وغير متزامنة — في تجارات البحر المتوسط بين أعمدة هرقل — جبل طارق — وبحر آزوف والبحر الأسود، وكان هدف التجارة وسوقها الأكبر مصر ودول المدينة المختلفة النشأة والتاريخ على طول ساحل فينيقيا وبحر إيجه والأناضول.

وكانت بابل وآشور من أوائل الإمبراطوريات التي احتكرت التجارة البرية الآسيوية، من الخليج حتى ساحل البحر المتوسط الشرقي، ومن ثم كان استيلاؤهما في فترات زمنية مختلفة، على مدن فينيقيا التجارية، وتدمير احتكار هذه المدن للتجارة البحرية والبرية في ساحل الليفانت. وجاءت بعدهما الإمبراطورية الفارسية لتمتد على سطح أرضي واسع، كاد أن يحتل كل منطقة الشرق الأوسط، وكانت هذه هي الإمبراطورية الأولى التي سعت للسيطرة على كل عالم العبور من اليونان إلى أفغانستان، ومن مصر إلى اليمن، ولكن نمو العالم عمرانيًّا وحضاريًّا أدى إلى نشأة نواة سياسية أخرى في قلب عالم البحر المتوسط: روما، وسرعان ما تقاسم النفوذان الفارسي والروماني عالم الشرق الأوسط، فسيطرت فارس على الجانب الآسيوي وطرق التجارة البرية، بينما سيطرت روما على التجارة البحرية من مصر وساحل شرق البحر المتوسط إلى شمال أفريقيا وغرب أوروبا.

ومنذ نشأة روما وامتدادها في غرب العالم المعروف، زادت العلاقات التجارية عبر اليابس الأورو آسيوي: من الصين برًّا إلى الشرق الأوسط وأوروبا من المحيط الهندي بحرًا إلى مصر والبحر المتوسط، وبذلك لم تعد التجارة العالمية منصبة على المراكز الحضارية والسياسية في الشرق الأوسط فقط، بل أخذت اتجاهات عالمية إلى أوروبا الغربية، وربما كان هذا نوعًا من التحول الكيفي في الشرق الأوسط، فلم يعد وحده مركز العالم، إليه تنصب الطرق العالمية المعروفة، بل بدأت أوروبا تشاركه في ذلك، ومصداقًا لذلك ظهر القول المأثور: كل الطرق تؤدي إلى روما، وبذلك بدأت صفة عالم العبور تسيطر على وظيفة الشرق الأوسط بوضوح لفترة امتدت عدة قرون.

وحينما أصبحت الإمبراطورية الإسلامية أكبر إمبراطوريات العالم في العصور الوسطى والقديمة، عاد الشرق الأوسط يستقطب طرق العالم القديم وتجارته، وكان ذلك على نطاق غير معروف من قبل، وقامت بغداد، ثم القاهرة، بالدور الذي قامت به — بعد بضعة قرون — إسبانيا والبرتغال وإنجلترا وهولندا، ففي بغداد والقاهرة كانت تنصب تجارة العالم من الصين وإندونيسيا والهند وشرق أفريقيا بواسطة البحر، وإليهما كانت تأتي التجارة برًّا من الصين الشمالية ووسط آسيا وسهوب روسيا، وتجارة أفريقيا الداخلية، وبالبحر كانت تتم مبادلات تجارية بين إمارات أوروبا وممالكها وبين العالم الإسلامي، وللتدليل على قيمة التجارة العالمية التي كانت تتجه وتسوق في العالم الإسلامي في الشرق الأوسط، يكفي أن نعرف أن أمجاد وحضارة البندقية وجنوا قامت على جزء يسير من تجارة الدولة الإسلامية، هو ذلك الذي يعبر الشرق الأوسط، أو ينبع منه، ويتجه إلى الأسواق الأوروبية بواسطة أساطيل البندقية وجنوا.

(١-٢) المرحلة الثانية

تبدأ هذه المرحلة من الركود في أواخر القرن الخامس عشر، وقد تحالفت عدة أحداث متقاربة الوقوع على تدهور أوضاع الشرق الأوسط كان أهمها — في إيجاز — ما يلي:
  • أولًا: اكتشاف الطريق البحري حول أفريقيا من أوروبا إلى الهند، وتساقط القلاع العربية على طول شواطئ أفريقيا الشرقية وخليج عمان ومضيق هرمز في أيدي البرتغاليين دون رادع جدي من جانب الدولتين العثمانية والصفوية في إيران.١
  • ثانيًا: بعد أن وطدَ العثمانيون سلطانهم في معظم الشرق الأوسط من مصر واليمن إلى العراق والخليج العربي — سقوط دولة المماليك في مصر والشام والحجاز ١٥١٧ — لم يولِّ العثمانيون موضوع تجارة المحيط الهندي أهمية تُذكر، وكان ذلك لعدة أسباب، منها:
    • (١) استحكام النزاع العثماني مع الصفويين في إيران، والحروب المستمرة بينهما٢ حول العراق الشمالي وأذربيجان، ويعيد هذا النزاع إلى الأذهان صورة النزاع الفارسي الروماني، والنزاع الإسلامي البيزنطي في المنطقة.
    • (٢) اهتمام العثمانيين بفتوحاتهم في البلقان والبحر الأسود وشمال أفريقيا، وعلى هذا استنزفت حروب الأتراك في روسيا والمجر والصرب والنمسا جهود الدولة بحيث ركدت منطقة الشرق الأوسط تمامًا بعد انقطاع التجارة البحرية من الهند إلى أوروبا عبر مصر والخليج العربي.
  • ثالثًا: بدأ الروس في التوغل إلى شرق آسيا عبر نطاق الغابات المخروطية من ١٥٨٠ إلى ١٦٥٠، وبدءوا يزحفون في جبهة عريضة صوب القوقاز ووسط آسيا٣ قاطعين بذلك الطريق أمام التجارة البرية من الصين عبر الشرق الأوسط إلى أوروبا.

وعلى هذا سقط الشرق الأوسط في ركود طويل نتيجة لفقدان أهميته المركزية في طرق التجارة العالمية، فالطرق البرية قُطِعت بواسطة القوى الروسية والصينية، والطرق البحرية احتكرها الأوروبيون الذين أخذوا يجنون ثمارها في صورة أرباح خيالية، بالإضافة إلى انشغالهم باقتسام واستثمار موارد العالم الجديد، ومما يؤكد ذلك أن نعطي بعض التقديرات عن دخل بعض الدول في فترات مختلفة قبل الكشوف الجغرافية وبعدها، لنرى كيف هبطت ميزانية الدخل في دول الشرق الأوسط بعد نمو تجارة أوروبا البحرية، وبرغم أن الأرقام التالية مجرد اجتهاد، وخاصة أرقام القرنين الخامس عشر والسادس عشر، إلا أنها اجتهاد لا بأس، ومؤشر مقبول متمشٍّ مع منطق الأمور.

جدول ٢-١: تقديرات الدخل الإجمالي لبعض الدول: سنوات مختلفة بملايين الجنيهات الإسترلينية.*
الدولة ١٤٨٣ ١٦٠٠ ١٧١٥ ١٨١٥
الدولة المملوكية ٨٫٥
الدولة العثمانية ٨٫٥ ٨٫٥ ١٫٣ ١-٢
البندقية ١٫٩ ٤٫٢ ١٫٣
نابولي ٠٫٦ ٦٫٢ ٣٫٥
ميلانو ٠٫٦ ٣٫١
البرتغال ٠٫٦ ٤٫٢ ١٫٣ ١–٣
فرنسا ٥٫٦ ١١٫٥ ٧٫٠ ٣٢٫٠
قشتالة (كاستيل) إسبانيا ٢٫٧ ٩٫٨ ٣٢٫٥ ١٫٦  ٣٫٥ 
أرجون ١٫٠ ١٫٢
هولندا ٢٫٣ ٢٫٥ ٦٫٠
بريطانيا ٠٫٦ ١٫٩ ٥٫٥ ٧٠٫٠
روسيا ١٫٦ ١٠٫٠
بروسيا ١٫٢ ٧٫٠
الولايات المتحدة ٤٫٠
المصدر: McEvedy, C. “The Penguin Atlas of Modern History”، الأرقام مجمعة عن الصفحات: pp. 24, 38, 58, 90.
يلاحظ أن أرقام ١٤٨٣ و١٦٠٠ كانت في المصدر بملايين الدوكات الذهبية — عملة البندقية — وأن قيمة التحويل — حسب المصدر نفسه — هي ٢٫١ جنيه إسترليني لكل دوكات بندقي، ويلاحظ المصدر نفسه أن قيمة السلع لم تتغير كثيرًا في أوروبا في الفترة بين ١٦٠٠ و١٧١٠، ومن ثم فإن ارتفاع أو انخفاض الدخل في هاتين السنتين يوضح فعلًا نمو أو تدهور مجمل الأوضاع الاقتصادية في الدولة.

(١-٣) المرحلة الثالثة

ظل الركود مسيطرًا على الشرق الأوسط حتى دقت أبوابه فرنسا الجديدة بعد ثورتها في أواخر القرن الثامن عشر، وسواء كانت الحملة الفرنسية على مصر (١٧٩٨) مجرد تكتيك عسكري صرف، أو أنه كانت هناك استراتيجية معينة في ذهن نابليون بونابرت، كامتداد لنجاحه العسكري في البحر المتوسط — الحملة الإيطالية — يهدف من ورائها إلى منافسة بريطانيا باحتلال أقرب طريق بري يمكن أن يؤدي إلى الهند، «ومن ثم يمكن تفسير وجود البعثة العلمية الضخمة التي صاحبت الحملة ودراساتها حول إمكانية شق قناة تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر»، سواء كان هذا الأمر أو ذاك، فإن هذه الحملة يمكن أن تُؤرخ لبداية ظهور الأهمية الجيوبوليتيكية لعلاقات المكان الجغرافية في الشرق الأوسط على مسرح الصراع الدولي المعاصر.

ومنذ ذلك التاريخ تفاعلت وتنافست وتصادمت عدة قوى ذاتية في الشرق الأوسط، وعدة قوى أوروبية على الشرق الأوسط للحصول على مكان يمكن التحكم منه في الإقليم بوصفه الحلقة الرئيسية في تأمين أو تهديد الأملاك الأوروبية في المحيط الهندي عامة، وقد بلغت هذه التفاعلات والمنافسات درجة شديدة من التعقد والتشابك قل مثيلها بالنسبة لأقاليم جيوبوليتيكية أخرى في العالم، فقد انطوت على تكوين تحالفات متكررة من جانب القوى الأجنبية مختلفة تمامًا في عضويتها في كل مرحلة زمنية بحيث يمكن أن يكون حلفاء فترة أعداء في فترة أخرى، وهذه الاختلافات تعكس طبيعة المنافسة الحادة بين كل دولة أوروبية من أجل السيطرة على الشرق الأوسط، ومن ثم يكثر رفقاء جزء من الطريق، وهذه التركيبات المتحالفة المتكررة، قصيرة العمر، كانت تلعب على خلفية ما يدور من أحداث سياسية ذاتية داخل الشرق الأوسط فتتأثر بها في أحيان، وتؤثر عليها في غالبية الأحيان بحيث توجهها وجهة مقصودة تخدم استراتيجية واحدة من القوى المتصارعة الرئيسية: بريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا.

هذا التشابك والتعقد يكاد يجعل دراسة الأوضاع السياسية والتيارات المتصارعة على الشرق الأوسط وفي داخله، دراسة تشوبها الصعوبة الجمة، خاصة وأن هناك مئات المصادر التي كتبت عن التاريخ السياسي للإقليم، وغالبيتها الساحقة كتابات لا تتسم بالموضوعية في التفسير والتحليل والنتائج التي تصل إليها، برغم اعتمادها على وثائق موحدة وأحداث مسجلة، وبالرغم من أن الخطوط العامة واضحة ومعروفة، فإننا سنحاول إعادة إبرازها في الصورة الموجزة التالية (انظر الخرائط ٢٦، ٢٧، ٢٨، ٢٩):
  • أولًا: القوى والأوضاع الذاتية في الشرق الأوسط منذ القرن التاسع عشر، مكونات هذه القوى هي: الدولة العثمانية ومصر، وإيران وأفغانستان وصراع كلٍّ منهما مع الآخر.
  • ثانيًا: القوى الأوروبية المتصارعة على الشرق الأوسط، ومكونات هذه القوى وخطوط ضغوطها على المنطقة، وقواعد انطلاقها، هي: بريطانيا كقوة بحرية ذات مرونة تكتيكية واستراتيجية واضحة لوجود قواعد إنجليزية متعددة تحيط بالشرق الأوسط من البحر المتوسط إلى الهند، روسيا، على عكس بريطانيا تمامًا، قوة برية عملاقة ذات جبهة أرضية عريضة متداخلة تداخلًا مباشرًا في الشرق الأوسط من البلقان إلى أفغانستان، فرنسا كقوة بحرية أقل مرونة من بريطانيا برغم وقوعها على شواطئ البحر المتوسط؛ وذلك لأنها لم تكن متفرغة تمامًا لبناء إمبراطورية في الشرق الأوسط نتيجة مشكلاتها الأرضية مع الدول الأوروبية المجاورة، وأخيرًا ألمانيا كقوة برية كانت أقل تأهيلًا من روسيا للدخول في صراعات الشرق الأوسط للبعد المكاني، ولدخولها متأخرة حلبة السباق حول الإقليم، بالإضافة إلى أنها كانت تعاني من مشكلات حدودها القومية، مثلها في ذلك مثل فرنسا.

(٢) جيوبوليتيكية المكان في القرنين ١٩ و٢٠

(٢-١) أوضاع دول الشرق الأوسط

الدولة العثمانية

كان وهن الدولة العثمانية قد بلغ أشده، شأنها في ذلك شأن الدول العظمى التي تدخل مرحلة التدهور والأفول، وقد انعكس ذلك في صورة تكالب الدول الأوروبية على اقتسام الدولة التي سُمِّيت خلال القرن التاسع عشر باسم رجل أوروبا المريض،٤ وفي سبيل ذلك دخلت الدول الأوروبية الرئيسية — بريطانيا وفرنسا وروسيا — صراعات مباشرة في جبهة متحالفة ضد الدولة العثمانية في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى كانت إحدى هذه الدول تنفرد بعمل ما ضد تركيا، فيهب الآخرون لمساعدة تركيا، ولكن هذه المواقف المتعددة كانت دائمًا وأبدًا تنتهي إلى مزيد من تقسيم الدولة العثمانية.
fig25
خريطة (٢٦).
fig26
خريطة (٢٧).
fig27
خريطة (٢٨).
fig28
خريطة (٢٩): الشرق الأوسط في أوائل النصف الثاني من القرن ١٩. بدايات التمزيق وخطوط القوى الإمبريالية. (١) الدولة العثمانية وخديوية مصر وولاية طرابلس. (٢) القوى الإمبريالية البريطانية ومستعمراتها في الهند ومحمياتها في الخليج العربي وعدن، خطوط التحرك البحري صوب مصر وقناة السويس وحوض النيل والبحر الأحمر وفلسطين، ومن الهند إلى الخليج وإيران. (٣) فرنسا ومستعمرتها في الجزائر، وخط تحركها صوب شرقي البحر المتوسط. (٤) ألمانيا وتحركها البري إلى الشرق الأوسط عبر سكة حديد برلين بغداد. (٥) روسيا وتحركاتها البرية إلى القوقاز والمضايق التركية والبلقان ووسط آسيا في اتجاه إيران وأفغانستان. (٦) خط التحرك الإيطالي صوب الشرق الأوسط (أواخر القرن ١٩ صوب إريتريا في جنوب البحر الأحمر، وأوائل القرن ٢٠ صوب ليبيا).

وقد انفردت روسيا القيصرية بكثير من الأعمال العسكرية الموجهة ضد تركيا، وذلك بحكم علاقات المواقع المتجاورة في البلقان والقوقاز، كما أن مشكلة المضايق التركية قد ظهرت إلى الوجود بعد أن طردت تركيا من القرم وأوكرانيا في أواخر القرن الثامن عشر وأصبحت روسيا دولة من دول البحر الأسود، أما بريطانيا وفرنسا فكانتا تتحالفان وتتنافسان معًا ضد تركيا وضد بعضهما، وكانتا تضمان إلى حلفهما بعض الدول الأخرى في أوقات معينة، مثلًا تحالفت الدولتان مع روسيا وبروسيا ضد تركيا خلال الحرب الاستقلالية في اليونان، وتحالفتا مع تركيا والنمسا ضد روسيا خلال حرب القرم، وتحالفتا مع روسيا وبروسيا مع تركيا ضد مصر في ١٨٤٠، وتخاصمتا وتنازعتا خلال أزمة الدروز والمسيحيين في لبنان، فدخلت فرنسا مؤيدة للمسيحيين، وبريطانيا مؤيدة للدروز.

وحينما ظهرت ألمانيا كقوة عسكرية في أوروبا بعد ١٨٧٠ تحالفت فرنسا وبريطانيا وروسيا، وظل هذا الحلف يقوى بتأثير ارتباط الدولة العثمانية بألمانيا والنمسا، وقد أرادت ألمانيا أن تبني جسرًا عبر تركيا إلى الشرق الأوسط والمحيط الهندي وتدق إسفينًا بين روسيا من ناحية وفرنسا وبريطانيا من ناحية أخرى، وقد انعكست هذه الاستراتيجية الألمانية في بناء خط حديدي يربط ألمانيا والدولة العثمانية، عُرف باسم خط برلين بغداد «وصل إلى بلجراد ١٨٨٨، وأنقرة ١٨٩٢، والبصرة ١٩٠٢»، وقد تدعم حلف روسيا وبريطانيا وفرنسا عام ١٩٠٧، وكانت له آثار واضحة في اقتسام إيران بين بريطانيا وروسيا في صورة مناطق للنفوذ وليس في صورة احتلال، لمواجهة القوة الألمانية التركية، وتوقف العداء الروسي الإنجليزي في أفغانستان.

مصر

وخلال فترة ظهور مصر كقوة جديدة في الشرق الأوسط (١٨٠٥–١٨٤٠) في عصر حكم محمد علي، كانت المنافسة الفرنسية الإنجليزية على أشدها، ليس فقط بشأن مصر، بل فيما يخص كل شئون الشرق الأوسط، ففرنسا سعت أن يكون لها مكانة مرموقة في مصر، وقد نجحت في ذلك نجاحًا لا بأس به، ولكن نمو القوة المصرية إلى الحد الذي هدد كيان الدولة العثمانية — حينما اقتربت الجيوش المصرية من إسطنبول — كان كفيلًا بوقوف بريطانيا وروسيا والنمسا موقفًا صلبًا لمساعدة الدولة العثمانية، فهذه الدول كانت تفضل التعامل مع الدولة العثمانية الضعيفة لتحقيق أهدافها المختلفة، فبريطانيا لا ترضى بوجود قوة تهدد طريق الهند، وكان لروسيا والنمسا — بحكم جيرتهما لتركيا — أطماعهما في البلقان، وذلك بالإضافة إلى رغبة روسيا في الحصول على موقف قوي في المضايق التركية — معاهدة هنكار اسكليسي ١٨٣٣، بين تركيا وروسيا، التي نصت على أن يصبح إغلاق المضايق رهنًا بموافقة روسيا — وقد اشتركت فرنسا مع هذه الدول الثلاث لحماية الدولة العثمانية بالإضافة إلى بروسيا وذلك كي لا تصبح وحدها مؤيدة لمصر، وتفقد بذلك أية مزية يمكن أن تحصل عليها في الشرق الأوسط بعد تحطيم القوة المصرية.

وفي عهد ولاية عباس الأول كسبت بريطانيا موقفًا قويًّا في مصر ضد فرنسا، وذلك بالموافقة على إنشاء خط حديدي بين السويس والإسكندرية٥ وهو عكس الاستراتيجية الفرنسية الرامية إلى إنشاء قناة بحرية في برزخ السويس، ثم كسب الفرنسيون جولة ضد إنجلترا بموافقة مصر على شق قناة السويس (١٨٥٨–١٨٦٩)، وفي ١٨٧٥ اشترى الإنجليز أسهم مصر في القناة (= ٤٤٪ من أسهم الشركة)، وفي ١٨٨٢ تذرعوا بحماية أرواح الأجانب واحتلوا مصر، وكان سهلًا عليهم بعد ذلك أن يدخلوا السودان، وتمت لهم السيطرة الفعلية على الطريق الملاحي الجديد الذي يهدد احتكارهم التقليدي لتجارة عالم المحيط الهندي، وبذلك نجحت الاستراتيجية الإنجليزية في الشرق الأوسط، في مقابل إطلاق يد فرنسا في شمال أفريقيا.

إيران

نشأت الدولة الصفوية في إيران خلال القرن السادس عشر، وقد صادفت منذ نشأتها نزاعًا مستمرًّا مع الدولة العثمانية، وفي القرن الثامن عشر تعرضت إيران للمنافسات المختلفة من جيرانها، ففي الفترة بين ١٧٢٢ و١٧٣٠ كانت هناك حروب مستمرة بين إيران والأفغان والأتراك والروس والبريطانيين، وفي القرن التاسع عشر اشتدت المنافسة على إيران؛ فبريطانيا كانت تعتبر إيران والخليج قلعة أمامية بالنسبة للهند، ولذلك أبدت قلقًا شديدًا من تزايد نشاط المبعوثين الفرنسيين إلى البلاط الإيراني خلال الفترة ١٧٩٦–١٨٠٩، ومن ثم عقدت اتفاقًا مع إيران في ١٨٠٠ لمنع هذا النشاط الفرنسي، وقد توقف الفرنسيون عن نشاطهم بعد هزيمتهم في مصر، ولكنهم أرسلوا بعثة إلى إيران عام ١٨٠٧ لعقد معاهدة وحلف ضد الروس، وقد فشلت البعثة أيضًا نتيجة لجهود بريطانيا.

ونظرًا للتجاور المكاني بين روسيا القيصرية وإيران، فإن دور روسيا هنا كان مشابهًا ومكملًا لدورها بالنسبة للدولة العثمانية، ففي ١٨٠١ احتل الروس جورجيا و١٨١٣ تقدموا في أذربيجان، ١٨٢٨ احتلوا ما هو معروف الآن بجمهورية أرمينيا السوفيتية، ولم تستطع المعاهدة الإنجليزية الإيرانية أن تساعد إيران ضد هذا التوغل الروسي، وفي الفترة ١٨٢١–١٨٢٣ خاضت إيران حربًا ضد الدولة العثمانية، وحربًا أخرى بينها وبين أفغانستان (١٨٣٤–١٨٣٧) بتحريض روسيا التي كانت تساند إيران، بينما كانت بريطانيا تساند أفغانستان، وفي ١٨٥٦ حاربت بريطانيا إيران في الخليج واحتلت جزيرة الخرج، وأصبحت إيران تحت النفوذ البريطاني في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وفي ١٨٨٩ مارست بريطانيا نفوذًا اقتصاديًّا كبيرًا بإنشائها البنك الإمبراطوري الفارسي الذي كان من حقه إصدار العملات، وفي السنة ذاتها عقدت إيران مع روسيا امتيازًا بمقتضاه أصبح للروس الحق في مد الخطوط الحديدية في إيران، وفي ١٩٠٧ كفت بريطانيا وروسيا عن النزاع على إيران، بعد أن ثبَّتت كلٌّ منهما نفوذًا معينًا، وذلك كجزء من التحالف ضد ألمانيا.

أفغانستان

في أفغانستان وباكستان الحالية بما في ذلك معظم كشمير، مجموعة من الممرات الجبلية التي كونت طرقًا رئيسية عبرتها عشرات المرات هجرات الشعوب وجيوش الفاتحين والغزاة، تربط بين السهول الغنية في الهند وبين وديان وواحات وسط آسيا، وتؤدي في النهاية إلى نطاق الشعوب المتحركة أبدًا من التركمان والمغول، ومن ثم فإن المؤثرات التركمانية والمغولية والهندية قد تبادلت التأثير على المنطقة كلها من الهند إلى وسط آسيا بما في ذلك مناطق العبور في جبال أفغانستان وكشمير وشمال باكستان، وذلك منذ أقدم العصور، ويبدأ تاريخ أفغانستان الحديث بأحمد شاه الذي أسس عام ١٧٤٧ إمبراطورية الدوراني، التي شملت أفغانستان الحالية وكشمير والبنجاب وامتدت إلى بلوتشستان على ساحل البحر.

وفي القرن ١٩ تنازع النفوذ الإنجليزي، الذي اتخذ قاعدته في الهند، مع النفوذ الروسي الذي استقر في وسط آسيا، على أفغانستان، بوصفها منطقة الصدام الأساسية بين النفوذين الروسي والإنجليزي حول الهند والمياه الدافئة، وفي الواقع فإن أفغانستان، بحدودها السياسية الراهنة، لم تكن وحدها مسرح المعارك بين نفوذ بريطانيا وروسيا، بل شمل الصراع كل المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى شمال باكستان — الحالية — وجنوبها، وجنوب إيران وشرقها، فهذه كلها منطقة طبيعية واحدة يتداخل فيها الأفغان والتركمان والبالوتش من وسط آسيا السوفيتية إلى سواحل مكران وبالوتشيستان على البحر العربي. ويبدأ تاريخ المنطقة الحديث من القرن الثامن عشر باستقلال أفغانستان وطرد الفرس، لكن الحرب ظلت بينهما سجالًا حتى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كانت بعض الحروب الأفغانية الإيرانية بتحريض روسيا وبريطانيا — كما مر بنا — كحلقة من الصراع الأوروبي حول المنطقة كلها، وقد نجحت بريطانيا بعد حربين (١٨٣٩–١٨٤٢، ١٨٧٩–١٨٨١) في فرض حمايتها على أفغانستان، وفي ١٩٠٧ خرج النفوذ البريطاني بعد الاتفاق مع الروس حول مناطق النفوذ الروسية البريطانية في أفغانستان وإيران — وهو ما يؤكد أن المنطقة ككل كانت مثار الصراع بينهما — وبذلك أصبحت أفغانستان دولة حاجزة بين الهند البريطانية وتركستان الروسية، وزيادة في الفصل بين المنطقتين، أضيف إلى أفغانستان لسان أرضي طويل يُعرف باسم إقليم «واخان»، يفصل بين كشمير البريطانية وتاجيكستان الروسية، ويمتد شرقًا حتى يتلاحم مع حدود الصين في التبت وتركستان، (ثبتت هذه الحدود مع السوفيت عام ١٩٤٨، ومع الصين في عام ١٩٦٤).

(٢-٢) القوى الأوروبية المؤثرة على الشرق الأوسط

أشرنا من قبل إلى أن القوى الأوروبية التي لعبت أدوارًا محددة وواضحة على مسرح الشرق الأوسط كمنطقة مركزية في علاقات الشرق والغرب، كانت تنطلق من مواقع وأماكن مختلفة، مما أدى بها إلى اتخاذ استراتيجيات وخطوط ضغط وتحرك متباينة، وفيما يلي سنحاول — في إيجاز — أن نلقي ضوءًا على مصير هذه الاستراتيجيات المختلفة خلال القرن الحالي.

ألمانيا

تمثل ألمانيا قوة أوروبية برية ذات بعد مكاني واضح عن الشرق الأوسط وقد كانت هي آخر القوى الأوروبية التي دخلت ميدان الصراع على المكان الجغرافي المميز للشرق الأوسط، ولا شك في أن تأخرها الزمني في الدخول إلى المنطقة كان — جنبًا إلى جنب مع بعدها المكاني — السبب الرئيسي في فشل استراتيجياتها طوال النصف الأول من هذا القرن، كما أن دخولها صراع الشرق الأوسط القومي بعد ١٩٥٠ مؤيدةً لليهود، كان بدوره خطأً آخر فادحًا في استراتيجياتها وتكنيكاتها السياسية في المنطقة، وتسعى الآن (١٩٧٤) لتعديل موقفها المتحيز السابق في العالم العربي.

حاولت ألمانيا تعويض بعدها المكاني عن الشرق الأوسط ثلاث مرات منذ التسعينيات من القرن الماضي، وذلك بإنشاء معبر أرضي إلى الشرقي الأوسط، فهي بتزعمها حلف القوى المركزية (ألمانيا – إمبراطورية النمسا والمجر – الدولة العثمانية)، وبوصفها الحليف الأقوى عسكريًّا وتنظيميًّا بالقياس إلى ضعف وتدهور النمسا وتركيا، كانت تريد أن تمد قوتها في صورة إسفين أرضي قوي من وسط أوروبا إلى الخليج العربي والمحيط الهندي والبحر الأحمر، ووظيفة هذا الإسفين عزل روسيا عن حليفتيها بريطانيا وفرنسا، وتهديد الوجود البريطاني في أعماقه الإمبراطوري في الهند بالاستيلاء على ممرات العبور الرئيسية: قناة السويس والخليج العربي، لكن هذا الجسر البري الذي أقامته ألمانيا تعرض للتفكك والانهيار في منطقة البلقان المعادية للنمسا وتركيا معًا نتيجة لنمو الروح القومية خلال القرن التاسع عشر، وتحالف اليونان مع بريطانيا وفرنسا، ومشاعر التحالف بين سلاف الصرب — يوجسلافيا — والروس، وقد كانت هزيمة الأتراك شرقي قناة السويس واحتلال الإنجليز للبصرة، والثورة العربية الشاملة ضد الحكم العثماني، والنفوذ الإنجليزي في جنوب إيران، عوامل متعددة لفشل المحاولة الألمانية الأولى في صراعها مع القوى العالمية لاحتلال الشرق الأوسط أو اتخاذه قاعدة للتأثير على مجرى صراعها من أجل السيادة العالمية ضد بريطانيا وفرنسا.

وقبيل الحرب العالمة الثانية اتبعت ألمانيا استراتيجية الحرب الأولى نفسها، ولكن بصورة موسعة، فقد بنت جسرين إلى الشرق الأوسط كان أولهما تحالفها مع إيطاليا ومن ثم ليبيا في اتجاه ضغوط برية قوية عبر البحر المتوسط إلى مصر وقناة السويس، والثاني كان عبارة عن سلسلة من الارتباطات الاقتصادية والتحالف مع المجر وبلغاريا ونوع من التحالف مع الجمهورية التركية، ثم زيادة واضحة في النفوذ الاقتصادي — ومن ثم السياسي — في كلٍّ من إيران وأفغانستان، وعلى هذا فإن التهديد الألماني في جولته الثانية من الصراع على السيادة العالمية قد تناول الشرق الأوسط مرة أخرى، كقاعدة ضد بريطانيا في المحيط الهندي (قناة السويس، وميول بعض الساسة العراقيين لألمانيا)، وضد الهند البريطانية (إيران وأفغانستان)، وتطويق الاتحاد السوفيتي من الجنوب، وفي خلال الحرب بدا كأن الصراع يميل إلى الكفة الألمانية: سوريا تحت حكومة فيشي الفرنسية الخاضعة للألمان، انقلاب رشيد الكيلاني في العراق لصالح ألمانيا، بوادر مماثلة لذلك في مصر، القوات الألمانية الإيطالية في العلمين وعلى مشارف الدلتا، القوات الألمانية في شمال القوقاز باتجاه الشرق الأوسط في أطرافه الشمالية، ولكن ذلك الرجحان لكفة ألمانيا سرعان ما تبخر؛ لأنه قائم على مجرد الآلة الحربية الألمانية، وبعض المشاعر الودية التي يكنها سكان الشرق الأوسط تجاه ألمانيا تطبيقًا للمثل الشائع «عدو عدوك صديقك»، فلم تكن هناك في الواقع أرض صلبة يقف عليها الألمان في الشرق الأوسط، وبسقوط انقلاب الكيلاني سريعًا، وإنهاء حكم فيشي في سوريا ولبنان، وتنحية شاه إيران وتقسيم الدولة إلى منطقتي نفوذ عسكري بريطاني وسوفيتي، وهزيمة الجيوش الألمانية في العلمين وستالينجراد؛ تحول المد الألماني إلى جزر سريع، وتلاشى دون أن يترك أثرًا في الشرق الأوسط، حتى في تركيا التي التزمت الحياد بعد أن كانت ميالة لألمانيا في مراحل الحرب الأولى للدرجة التي أقفلت معها المضايق في وجه الأسطول السوفيتي.

وأخيرًا فقد ابتعد الدور الأخير الذي لعبته ألمانيا في الشرق الأوسط كثيرًا عن الاستراتيجية السابقة، وأخذ صورة المساعدات الاقتصادية في بعض دول الشرق الأوسط، وخاصة في إيران، لكن أخطر أشكال الدور الألماني المعاصر هو الدور المؤيد لإسرائيل، وبافتراض أن ألمانيا — بعد نكبتها — أُجبرت على دفع تعويضات خرافية لليهود، وأُجبرت على أن تصبح واجهة التمويل المادي والعسكري لإسرائيل، فإن ذلك لم يكن يستدعي استمرارها — عن اقتناع — في تأييد إسرائيل ضد المصالح القومية للمجموعة الكبرى من دول الشرق الأوسط، ولسنا بصدد تفسير هذا الاقتناع الألماني وتحليل مسبباته وضغوطه الخارجية — من جانب أمريكا وبريطانيا وفرنسا — ولكن خلاصة القول أن ألمانيا الغربية قد فشلت مرة أخرى في أن تلعب دورًا هامًّا كقوة ثالثة بين القوى الإمبريالية والاشتراكية على مسرح الشرق الأوسط، ولعل مسعاها الأخير نحو موقف موضوعي في الصراع العربي الإسرائيلي يبدأ مرحلة ألمانية جديدة في المنطقة.

فرنسا

بالرغم من أن فرنسا هي التي فتحت آفاق الشرق الأوسط كمنطقة صراع دولية منذ آخر القرن الثامن عشر، وبالرغم من جهودها النشطة في علاقات وصراعات دول الشرق الأوسط بين روسيا القيصرية وبريطانيا — سواء كان ذلك بتأييدها مصر في عهد محمد علي وإسماعيل، أو تأييدها مسيحيي الدولة العثمانية، أو محاولتها التسلل إلى إيران في أوائل القرن ١٨ — فإن نتائج هذه السياسة لم تجلب لها سوى القليل من المكاسب في الشرق الأوسط، تمثل في حصولها على جيب صغير — سوريا ولبنان — لفترة قصيرة — فترة ما بين الحربين العالميتين.

وقد تضافرت مجموعة من الأسباب على فشل السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط خلال النصف الأول من هذا القرن. ومن بين أهم هذه الأسباب ما يلى:
  • (١)

    فرنسا في مجموعها قوة برية منذ أن أمَّنت إمبراطوريتها في أفريقيا الشمالية والغربية وجنوب شرق آسيا، ومنذ أن واجهت المشكلة الألمانية ابتداء من عام ١٨٧٠، وهي المشكلة التي استنفدت جهودها العسكرية ثلاث مرات في حوالي نصف قرن.

  • (٢)

    بالرغم من القوة البحرية الفرنسية في البحر المتوسط، إلا أن تغير سياستها من حين إلى آخر نتيجة صراعات الحكم الداخلية لم يكفل لاستراتيجيتها أي نوع من الثبات والاستمرارية في الشرق الأوسط، مما جعلها حليفًا غير مأمون، ينتقل من التأييد إلى التردد، ويضيع الوقت بذلك بين الثقة واستعادة الثقة، وفي مواجهة ذلك كان هناك خط ثابت للاستراتيجية البريطانية التي ظلت المنافس الأول لفرنسا طوال القرن التاسع عشر.

  • (٣)
    نتيجة لنمو التهديد الألماني لفرنسا — بحكم علاقات الجوار المكاني — تحالفت فرنسا مع بريطانيا منذ أواخر القرن الماضي وطوال النصف الأول من القرن الحالي، وقد دخلت فرنسا بذلك تحت مظلة الاستراتيجية البريطانية بالنسبة لكثير من المشكلات الدولية، وظهر ذلك جليًّا في الاتفاق ١٩٠٤، وبمقتضاه تركت مصر والسودان لبريطانيا،٦ وبقية شمال أفريقيا لفرنسا — المغرب على وجه الخصوص — وبرغم المنافسة الخفية الإنجليزية الفرنسية، إلا أنه لم يكن في وسع فرنسا — بعد نهاية الحرب العالمية الأولى — أن تحصل على أكثر من سوريا ولبنان كجزء من أسلاب الإمبراطورية العثمانية، مقابل حصول بريطانيا على المراكز الحساسة من قناة السويس إلى الخليج العربي مرورًا بفلسطين والأردن والعراق، محاصرة بذلك مكان فرنسا الجديد في الشرق الأوسط.

وفي خلال الخمسينيات ألقت فرنسا بثقلها تأييدًا لإسرائيل، شأنها في ذلك شأن الدولة الغربية عامة، وكان لهذا الموقف أسباب خاصة وأخرى عامة، أما الأسباب الخاصة فتنبع من مركز فرنسا المزعزع في دول شمال أفريقيا التي أخذت حركاتها القومية الرامية إلى الاستقلال عن فرنسا أشكالًا مختلفة من العنف بلغت أقصى حد لها في ثورة الجزائر الطويلة، وبذلك كان تأييد فرنسا لإسرائيل نوعًا من التكتيك والتعويض لضرب القومية العربية النامية في العالم العربي، سواء منه ما هو موجود في الشرق الأوسط، أو امتداده في أفريقيا الشمالية.

وأما الأسباب العامة التي اعتنقتها دول العالم الغربي فقد نبعت عن عدد من المفهومات والمسلمات الاستراتيجية بالنسبة لأمن ذلك العالم في ذلك الوقت، فقد ساد الاعتقاد، فجأة، بأن إسرائيل هي ممثلة الغرب في الشرق الأوسط، وأنها بذلك ستصبح أول دولة غربية تحتل أرضًا خالصة لها داخل الشرق الأوسط، فهي إذن البديل الحقيقي للاستعمار والإمبريالية معًا، وهي جسر قوي يمكن أن يساعد العالم الغربي على مقاومة وتفتيت الجهود التي كانت تبذلها القوى الوطنية والقومية العربية للتخلص من الاستعمار (مصر – العراق) والتبعية الاقتصادية السياسية للغرب (كل دول الشرق الأوسط بما فيها إيران)، وبذلك تقوم إسرائيل بتحقيق مهمتين: أولاهما الإشراف عن قرب على حرية الملاحة الغربية في قناة السويس (كانت فرنسا لا تزال محتفظة بمستعمراتها في جنوب شرق آسيا ومدغشقر)، وثانيتهما دعم الوضع العام في الشرق الأوسط ضد التيار الاشتراكي أو أفكار تأميم المصالح الغربية (البترول الإيراني وقناة السويس)، وقد كان رد الفعل الفرنسي والبريطاني (والعالم الغربي عامة) عنيفًا على الحركة القومية المصرية بعد تأميم قناة السويس، فاشتركت في حرب سافرة مع بريطانيا وإسرائيل ضد مصر عام ١٩٥٦.

وبالرغم من أن تيار مساندة إسرائيل ما زال قويًّا على المستوى العام في فرنسا إلا أن تغير الجمهورية الفرنسية وتولي الديجوليين الحكم، وتصفية الوجود الفرنسي في الجزائر، قد أدى بفرنسا الرسمية إلى تبني سياسة أخرى أقرب إلى الحياد في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي، ولا شك في أن المصالح القومية الفرنسية وصراع القوى بين أمريكا وفرنسا في أوروبا والشرق الأوسط كانا وراء هذا التغير في الاستراتيجية الفرنسية بالنسبة للشرق الأوسط، وبذلك نعود إلى ما سبق أن ذكرناه من قبل، وهو أن الاستراتيجية الفرنسية في الشرق الأوسط متغيرة اعتمادًا على ما يطرأ داخل فرنسا من تغيرات في الحكم ومشكلات الاقتصاد، وارتباطًا بالمنافسة الخفية أو العلنية مع القوى الغربية الأخرى على الشرق الأوسط، ففرنسا ابتداء من أواسط الستينيات تبحث عن صيغة فرنسية في الشرق الأوسط، ولعلها توفق في تقاربها الاقتصادي من العالم الغربي، لكن إمكاناتها الاقتصادية أقل قدرة على مواجهة منافسة دول أقوى، وعلى الأخص الولايات المتحدة، ولهذا حاولت فرنسا أن تدخل الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ بصيغة أوروبية موحدة، وليست فرنسية فقط، لكن تعدد المصالح الأوروبية وتنافسها، وخاصة الإنجليزية والألمانية بالإضافة إلى النفوذ الأمريكي، قد تسببا في فشل الجهود الفرنسية في توحيد أوروبا بالنسبة للشرق الأوسط.

روسيا والاتحاد السوفيتي

حتى ١٩١٧، حينما تحولت روسيا من العهد القيصري إلى النظام الاشتراكي السوفيتي، كان لروسيا القيصرية دور إيجابي بالنسبة للأحداث الجيوبوليتيكية والبوليتيكية في الشرق الأوسط، وينبع هذا الدور من عدة منطلقات، أهمها أن روسيا، التي ظلت تنمو في كل الاتجاهات من إمارة موسكو في القرن الرابع عشر والخامس عشر، كان مجال توسعها الرئيسي — جغرافيًّا واقتصاديًّا — المساحات الشاسعة قليلة السكان في سيبيريا، والنطاق الغني الذي يحد سيبيريا جنوبًا؛ أي الأراضي الدافئة في وسط آسيا والقوقاز، وجنبًا إلى جنب مع ذلك كان هناك دافع جوهري يمثل خطًّا متصلًا في جيوبوليتيكية روسيا: ذلك هو السعي دائمًا إلى الحصول على جبهات بحرية مفتوحة تضمن لها حرية الحركة والتجارة، في البداية لم يكن أمام إمارة موسكو سوى التقدم شمالًا إلى مياه البحر الأبيض الشمالي، وكان ميناؤها الرئيسي هو أركانجلسك، ولكنها سرعان ما ضغطت غربًا على أملاك السويد في بحر البلطيق إلى أن حصلت على واجهة بحرية قصيرة أقامت فيها عاصمتها بطرسبرج — ليننجراد حاليًّا — تأكيدًا منها لجيوبوليتيكيتها البلطية الأوروبية، وتوسعت شرقًا إلى أن وصلت إلى المحيط الباسيفيكي في أقصى شرق آسيا، وعبرت مضيق بيرنج وامتدت أملاكها لتشمل ألاسكا خلال القرن الثامن عشر.

وعلى هذا النحو فإن روسيا ظلت تنمو في الأصقاع الشمالية، وكانت بذلك فعلًا دولة الشمال الكبرى، لكن كل ما حصلت عليه من واجهات بحرية، برغم طولها، كانت حبيسة التجمد الشتوي الطويل — عشرة أشهر شواطئ وبحار متجمدة على طول ساحل المحيط الشمالي، وعدة أشهر بحار متجمدة في بحري البلطيق وأوختسك — وكانت الموانئ الوحيدة التي لا تتجمد مياهها هي مورمانسك في أقصى الشمال الغربي قرب حدود النرويج، وفلاديفوستك والميناء المتقدم ناخودكا على بحر اليابان.

وكان من الطبيعي أن تتجه روسيا إلى المياه الدافئة القريبة في البحر الأسود، خاصة وأنها أيضًا قريبة مكانيًّا من قلب الإمبراطورية الروسية، ولهذا بدأت روسيا سلسلة من الحروب مع الدولة العثمانية التي كانت تمتلك كل سواحل البحر الأسود، ومع إمارات التتار والبشكير والشركس وغيرهم من الجماعات التي تحتل منطقة الفولجا وشمال القوقاز والقرم، وكانت تعرف آنذاك باسم «خانات قازان» في شمال الفولجا، و«خانات استراخان» في الفولجا الأوسط والجنوبي، وقد أدمجتا في روسيا منذ منتصف القرن ١٦، ثم «خانات القرم» (تابعة للدولة العثمانية) وتمتد في القرم وجنوب أوكرانيا وحوض نهر الدون الأوسط والأدنى، وقد ظلت خانات القرم تحت الحكم العثماني حتى معارك ١٧٧٤–١٧٨٣ التي انتهت بسقوط كل ساحل البحر الأسود الشمالي من الدون إلى الدنيستر في أيدي الروس.

وقد سبق أن أوردنا عددًا من الأحداث الهامة التي أدت إلى توسع نفوذ روسيا في البلقان وتضاؤل نفوذ الدولة العثمانية، لكن كل هذا لم يشمل جوهر المشكلة الروسية: فهي برغم امتلاكها جبهة بحرية طويلة دافئة لا تتجمد على البحر الأسود، إلا أن البحر الأسود بحر حبيس المضايق التركية، ومن ثم كانت مشكلة المضايق التركية هي الشغل الشاغل لجيوبوليتيكية الروس خلال كل أحداث القرن التاسع عشر، ومحركة أشكال مختلفة من النزاع السافر وغير السافر بين روسيا والدولة العثمانية.

وخلال القرن التاسع عشر أيضًا كانت مساعي روسيا لحل مشكلة المضايق التركية لا تمثل مشكلة روسية عثمانية، فالمضايق تمثل المدخل البحري الشمالي لأخطر جوانب الشرق الأوسط كعالم عبور بين الشرق والغرب، فإذا أفلحت روسيا في أخذ المبادأة في هذه المضايق — سواء باحتلالها أو تحييدها لصالح روسيا — فإن شيئًا لا يقف أمام القوة الروسية، وذلك بحكم جبهة التماس والجوار الأرضي والبحري الشاسعة لروسيا بالنسبة لكافة مناطق الشرق الأوسط الشمالية، لهذا فإن النزاع حول المضايق التركية كان خلال القرن التاسع عشر كله نزاعًا بين روسيا كقوة قارية نامية وضاغطة، وبين بريطانيا كقوة بحرية مرنة الحركة ذات أملاك شاسعة في آسيا، يتهددها التقدم الروسي إلى عالم المعابر في الشرق الأوسط.

والملاحظ أن الصراعات الروسية الإنجليزية في الشرق الأوسط لم تقتصر عليهما وحدهما في ميدان معركة سافرة إلا في أضيق الحدود والمناسبات، فقد استطاعت بريطانيا دائمًا أن تشرك خلفاء لها في مواقفها ضد روسيا، ومن الطبيعي أن تكون الدولة العثمانية هي الحليف الأرضي القابع في المنطقة، الذي تستخدمه بريطانيا وتحركه أو تدعمه ضد الروس، ولم تكن بريطانيا تكتفي بذلك، بل كانت دائمًا تجد حليفًا أو حلفاء آخرين من القوى الأوروبية، فأحيانًا كانت فرنسا الحليف الرئيسي، وذلك كرفيقين في طريق واحد هو أطماعهما النهائية في الشرق الأوسط، وفي أحيان أخرى كانت تحرك إمبراطورية النمسا والمجر لتهدد روسيا في أوروبا، وفي أحيان أخرى كانت مملكة بروسيا — ألمانيا — تحالف بريطانيا ضد روسيا، وفي بعض الأحيان كانت بريطانيا تنجح — في توافق ممتاز — في تأليف كل هذه القوى ضد روسيا، وكانت قمة نجاحها في ذلك المسعى حرب القرم (١٨٥٤–١٨٥٦) التي اشتركت فيها تركيا وبريطانيا وفرنسا، وضغطت بروسيا والنمسا ملوحتين بتهديد روسيا، وقد كان في الإمكان أن تتطور حرب القرم إلى حرب عالمية لولا موقف بروسيا والنمسا شبه السلبي.

ومنذ التحالف الروسي البريطاني الفرنسي ضد قوة ألمانيا المتنامية في عام ١٩٠٧، هدأت مشكلات المضايق التركية، فلم تعد مثيرة للقلق بين بريطانيا وروسيا نتيجة انصراف كلٍّ منهما إلى مواقف أكثر خطورة في أوروبا إزاء القوة العسكرية الألمانية، هذا بالإضافة إلى أن بريطانيا كانت قد حلت جزءًا كبيرًا من النزاع على الشرق الأوسط، باستيلائها على مصر ١٨٨٢ وتأمين مرورها في قناة السويس، وخلال الحربين العالميتين وقفت المضايق التركية عائقًا أمام الأساطيل المتحالفة الروسية والبريطانية، وبرغم هزيمة بريطانيا في معركة غاليبولي أمام تركيا خلال الحرب العالمية الأولى، وفشلها بذلك في فتح المضايق، إلا أنها قد دعمت موقف الجمهورية التركية ضد مطالب الروس في المضايق بعد نهاية الحرب العالمة الأولى، عودة منها بذلك إلى استراتيجيتها الأساسية التي امتدت خلال القرن ١٩: منع روسيا من دخول البحر المتوسط.

ولم تكن حروب روسيا والدولة العثمانية هي الحروب الوحيدة التي تدخلت فيها روسيا في الشرق الأوسط، فالجبهة الروسية البرية تتاخم إيران وأفغانستان، وكان التوسع الروسي فيهما يستمر في أحيان على حساب إيراني — احتلال الروس جورجيا وأذربيجان وأرمينيا في أوائل القرن ١٩ — ولكن الدور الإنجليزي في إيران وأفغانستان ضد التوسع الروسي كان واضحًا ومباشرًا، وعلى عكس الأحلاف الأوروبية التي كانت بريطانيا تجمعها ضد روسيا في صراعهما حول الدولة العثمانية، فإن بريطانيا كانت تعمل وحيدة أمام روسيا في إيران وأفغانستان، ولهذا كانت بعض المجابهات تنتهي باتفاقات روسية بريطانية على تحديد نفوذ كلٍّ منهما في إيران وأفغانستان.

وبعد ثورة ١٩١٧ وتحول روسيا إلى النظام الاشتراكي، لم يعد الحلف الروسي مع الدول الغربية قائمًا، وانطلاقًا من المبادئ اللينينية الأساسية أعلن الاتحاد السوفيتي تأييده لاستقلال الشعوب في مواجهة القوى الاستعمارية، وكانت شعوب دول الشرق الأوسط كلها قد سقطت فريسة التقسيم الاستعماري بين المنتصرين الغربيين، وقد ارتبطت السياسة السوفيتية الجديدة بمحاولة تحييد دول الشرق الأوسط تجاهها، خاصة وأنها كانت تخوض في أوائل العشرينيات حربًا أهلية تدعمها القوى الغربية عامة ضد النظام الجديد، وكانت أهم مجالات الحرب الأهلية هي التي تدور في جنوب الاتحاد السوفيتي ملاصقة لمنطقة الشرق الأوسط، وبعد انتهاء حرب التدخل ضد الاتحاد السوفيتي، اتجه الأخير إلى تدعيم جبهته الداخلية واقتصادياته على الأسس الجديدة، مما دعاه إلى توقف كامل عن متابعة الجيوبوليتيكية القيصرية بالنسبة للشرق الأوسط، ثم جاء التحالف السوفيتي الغربي مرة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية لمواجهة القوة العسكرية الألمانية، وكانت أهم مظاهر هذا التحالف بالنسبة للشرق الأوسط تأمين طريق الاتصال الغربي السوفيتي عبر إيران، وذلك بتقسيمها منطقتي احتلال سوفيتية وبريطانية وتنحية الشاه.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واشتداد الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والكتلة الغربية، ظهرت منطقة الشرق الأوسط مرة أخرى على مسرح النزاع الشرقي والغربي، وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا ونتيجة منطقية لعلاقات المكان التي تربط الاتحاد السوفيتي والشرق الأوسط على طول جبهة عريضة من اليونان إلى أفغانستان، ولا شك في أن تطويق الاتحاد السوفيتي بسلسلة من الأحلاف تزعمتها أمريكا كان مؤديًا بالسوفيت إلى محاولة اختراق الطوق في أضعف نقاطه — وهو الشرق الأوسط.

فعلى عكس حلف شمال الأطلنطي القوي بارتكازه على القوى الأوروبية الغربية والوجود العسكري الأمريكي في ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، وعلى عكس حلف جنوب شرق آسيا الذي يميزه الوجود العسكري الأمريكي من اليابان إلى الفلبين وتايوان — الصين الوطنية — فإن منطقة الشرق الأوسط لم يكن فيها وجود أمريكي عسكري واضح، كما أن دول الشرق الأوسط صغيرة منقسمة على بعضها، وذات مشكلات قومية ضد بعضها (تركيا وسوريا – إيران والعراق – أفغانستان وباكستان من بين عدد آخر من المشكلات)، وفي داخل بعض دول الشرق الأوسط أيضًا مشكلات عويصة الحل، وعلى رأسها مشكلة الباتان والبالوتشي في باكستان ومشكلة الأكراد في إيران والعراق، ومشكلة الصوماليين في جنوب إثيوبيا، ومشكلة إريتريا بلغاتها المتعددة في شمال إثيوبيا، ومشكلة جنوب السودان (آنذاك). وإلى جانب ذلك كله فقد كان يسود المنطقة كلها مد ثوري بأشكال مختلفة ضد أشكال الاستعمار البريطانية الباقية — في مصر والخليج وجنوب اليمن — وضد بقايا الروابط الاستعمارية البريطانية والفرنسية في المنطقة، ويرتبط بهذه الأشكال المختلفة من الاستعمار القديم مشكلات التغير العام في البناء الاقتصادي التقليدي الداخلي في الشرق الأوسط، وهي التي أخذت أشكالًا واتجاهات مختلفة: تأميم البترول الإيراني وقناة السويس، الإصلاح الزراعي وإلغاء الملكيات الزراعية الإقطاعية السمة، مشكلات التنمية الاقتصادية والاتجاه نحو التصنيع في تركيا ومصر وإيران وغيرها من الدول، اتجاهات إلى تغيير نظم واتفاقيات المشاركة في أرباح البترول بين الدول المنتجة والشركات المستغلة لذلك البترول.

وفوق هذا فإن المنطقة ككل شاركت في أشكال مختلفة من مناهضة الإمبريالية الصهيونية الجديدة التي نمت في ظل الاستعمار وتدعمت ماليًّا ومعنويًّا بواسطة المعسكر الغربي كله. وقد اتخذت مناهضة الصهيونية أشكالًا وأبعادًا مختلفة في دول الشرق الأوسط، فالعالم العربي في الشرق الأوسط وخارجه كان المتضرر الأول من قيام إسرائيل واحتلال فلسطين وأجزاء أخرى من الدول العربية فيما بعد، والعالم الإسلامي في الشرق الأوسط وخارجه ساهم بأشكال مختلفة من التأييد للعالم العربي، وخاصة قضية القدس، وعلى هذا كان هناك نوعان من المواجهة ضد الإمبريالية الغربية الصهيونية في الشرق الأوسط: مواجهة على كافة المستويات الرسمية والشعبية في دول العالم العربي من المغرب إلى دول الخليج، ومواجهة شعبية غير رسمية في غالبية الأحوال في العالم الإسلامي عامة من تركيا إلى أفغانستان وباكستان.

على هذه الأرضية القلقة في الشرق الأوسط كانت أضعف نقاط الأحلاف الغربية ضد الكتلة الشرقية، لهذا سقط حلف بغداد، وما زال الحلف المركزي — تركيا وإيران وباكستان — قائمًا، لكنه يواجه مقاومة من جانب بعض القوى السياسية في كلٍّ من إيران وتركيا، كما أن مركز باكستان فيه قد تضعضع نتيجة فشل أمريكا في دعم وحدة باكستان الغربية والشرقية، ولهذا فقد كان منطقيًّا أن يصبح للاتحاد السوفيتي استراتيجية جديدة في دول الشرق الأوسط، تستفيد من التناقضات التي يعج بها هذا الإقليم المتاخم لها، لتفكيك الروابط الغربية، ودعم مركزها بتقليل أخطار الطوق الأمريكي الغربي الممتد جنوبيها، ولا شك في أن دعم الكتلة الشرقية عامة للقضية العربية يرتبط بعدد كبير من القضايا المتشابكة والمنطلقات الأيديولوجية والاستراتيجية، فتحرير الشعوب من أشكال الاستعمار إحدى هذه القضايا، ودعم الحركات الوطنية ينطوي على إضعاف المواقع الاستراتيجية الغربية، وهو في حد ذاته كسب لأمن الكتلة الشرقية وتدعيم لموقفها في الميزان الدولي للقوى.

وقد أتاحت استراتيجية الغرب التي دعمت إسرائيل حتى الآن، وأنقذتها من كثير من المآزق المالية والعسكرية، الفرصة أمام إيجاد أشكال من التعاون العربي السوفيتي، والتعاون العربي مع العالم الاشتراكي، والعالم الثالث، فلم يكن هناك في مجال الصراع الدولي سوى هذا الاختيار.

والخلاصة أن الاتحاد السوفيتي يلعب دورًا نشطًا في الشرق الأوسط، وهو وإن شابه دور الاستراتيجية القيصرية في الشكل، إلا أنه يختلف في المضمون والهدف، فعهد الاستعمار ولى، وأهمية المكان الجغرافي للشرق الأوسط قد زادت أضعافًا مضاعفة عما كانت عليه في القرن التاسع عشر وأوائل القرن الحالي، ذلك أن الاتحاد السوفيتي هو أحد القطبين الرئيسيين في العالم، وأن صراع هذين القطبين يشمل العالم كله، وخاصة منطقة الضعف والقلقلة في الشرق الأوسط؛ وهو الإقليم الذي يقع على منتصف حدود القوى العسكرية السوفيتية والأمريكية، ويهدد أمن كلٍّ منهما في تمام منتصف أنظمتهما الدفاعية والاقتصادية معًا، فالشرق الأوسط مجاور مكانيًّا للمراكز الاقتصادية السوفيتية في القوقاز والفولجا والأورال وشمال وسط آسيا، وفي الوقت نفسه فإن الشرق الأوسط هو قلب الفائض البترولي العالمي، والمحرك الأول للآلة الاقتصادية الغربية بصفة عامة، وليس علينا إلا أن ننتظر ظهور النتائج الفعلية لعملية خفض صادرات البترول العربي، لمدة محدودة وبقدر محدود، على التنظيم الإنتاجي في أوروبا واليابان والولايات المتحدة، لكي ندرك القيمة الفعلية للشرق الأوسط بالنسبة للاقتصاد الغربي.

بريطانيا

نبع اهتمام بريطانيا في الماضي والحاضر بالشرق الأوسط من مجرد علاقاته المكانية، تمامًا مثل روسيا أو الاتحاد السوفيتي، ولكن في الوقت الذي كانت فيه علاقات روسيا مرتبطة بتكاملها الأرضي، كانت علاقات بريطانيا بالشرق الأوسط مرتبطة بتأمين طريقها الإمبراطوري إلى الهند وعالم المحيط الهندي عامة، ولهذا فإن علاقات روسيا وبريطانيا بالشرق الأوسط علاقات ذات استمرارية واضحة، على عكس علاقات ألمانيا وفرنسا اللتين انتابت تدخلاتهما المتكررة في الشرق الأوسط أوقات من النشاط المكثف وأوقات أخرى من الجمود.

وفيما سبق ذكرنا أشكالًا متعددة من التدخل البريطاني في الشرق الأوسط، وخلاصته أن الجيوبوليتيكا الإنجليزية ظلت تتجنب مواجهة مباشرة مع روسيا في الشرق الأوسط، إلا في ظروف محدودة، وبتجنيد حلفاء لها، وأن السمة الأساسية للاستراتيجية الإنجليزية كانت تهدف باستمرار إلى إقامة، أو دعم، دول حاجزة في الشرق الأوسط تفصل بين أملاكها ومصالحها وطريقها الإمبراطوري، وبين التوسع الروسي، وإن ذلك كان يعطي نتائج باهرة، فهو يؤدي إلى استنزاف القوة الروسية المتوسعة، وتحميل الدول الحاجزة الصدمات الرئيسية، مما يجعلها معتمدة على تدعيم بريطانيا لها، وقد حدث ذلك مرارًا في العلاقات العثمانية القيصرية، ومثلها في علاقات إيران وروسيا، وقد كان الأسطول البريطاني هو الأداة المرنة لتنفيذ هذه الاستراتيجية الإنجليزية، ولما كان مثل هذا الأسطول في حاجة مستمرة إلى قواعد متقدمة تكفل وجوده ماديًّا، فقد كان على بريطانيا أن تثبت نفوذها باحتلال مثل هذه القواعد، مثل ذلك أن قبرص أصبحت منذ ١٨٧٨ قاعدة حربية بريطانية، برغم الاعتراف الاسمي بتبعيتها للدولة العثمانية، وقد كان ذلك بحجة مساعدة الدولة العثمانية ضد التهديد الروسي، وكانت بريطانيا قد أمنت قواعد كثيرة لها في الخليج العربي ومسقط وعدن منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى نحو منتصفه،٧ ولكن أكبر تدخل بريطاني في قلب الشرق الأوسط كان احتلال مصر ١٨٨٢، ثم السودان ١٨٩٩، وكان ذلك نهاية للمنافسة الإنجليزية الفرنسية على الشرق الأوسط، ورجحانًا شاملًا لكفة بريطانيا في هذه المنطقة الحساسة.

وقد استمر مركز بريطانيا راجحًا في الشرق الأوسط بقية القرن التاسع عشر، وتأكد بصورة لا تقبل الجدل حينما تم توزيع أسلاب الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، حيث نالت فرنسا نصيبًا غير متكافئ مع النصيب الذي أحرزته بريطانيا، ففضلًا عن مصر والسودان، احتلت بريطانيا فلسطين وشقة عريضة من بادية الشام في شرقي نهر الأردن، تحجب بذلك أية أطماع فرنسية تجاه الجنوب، واحتلت بريطانيا العراق وألحقت بالدولة الجديدة مساحة كبيرة من بادية الشام تربطها بشرقي الأردن، لكي يتم تطويق فرنسا بالنسبة إلى أية ضغوط في اتجاه رأس الخليج العربي، وفي عام ١٩٢٥ تم ضم ولاية الموصل إلى العراق، وكانت تركيا تطالب بها، وبذلك أيضًا لم يعد هناك إمكان تقارب فرنسي مع إيران، وعلى هذا النحو أصبحت بريطانيا تسيطر على المحاور الرئيسية للطرق في الشرق الأوسط: طريق السويس والبحر الأحمر، وطريق الخليج وسهول العراق كلها، وطريق البر السهلي من شرق البحر المتوسط إلى رأس الخليج عبر فلسطين والأردن والعراق (انظر الخريطة ٣٠).

وقد سقطت إمبراطورية بريطانيا في الشرق الأوسط بعد استقلال الهند وباكستان والحركات القومية العربية، لكن المصالح البريطانية الاقتصادية والتجارية ظلت قائمة داخل الشرق الأوسط (متمثلة في بترول الخليج العربي) وخارجه (متمثلة في تأمين طريق التجارة عبر قناة السويس)، وفي كلتا الحالتين لم تعد هذه مصالح بريطانية خالصة، بل شاركت فيها الدول الأوروبية الغربية، وعلى رأسها فرنسا وهولندا وإيطاليا وألمانيا الغربية، بالإضافة إلى المصالح الأمريكية الاقتصادية والاستراتيجية، ولم تعد لبريطانيا قواعدها العسكرية باستثناء قبرص، وبعض معاهدات في دول الخليج، ويعني هذا أن بريطانيا لم تعد تتصرف وحدها في منطقة الشرق الأوسط، بل من خلال التحالف الغربي العام، سواء كان ذلك حلف الأطلنطي أو الحلف المركزي أو السوق الأوروبية المشتركة، ولا شك في أن ذلك راجع إلى ما سبق أن ذكرناه من انقسام العالم جيوبوليتيكيًّا إلى معسكرين يعمل أحدهما تحت المظلة السوفيتية، والآخر تحت المظلة الأمريكية.

fig29
خريطة (٣٠): تقسم الشرق الأوسط ١٩٢٠. (١) الدولة العثمانية تنكمش إلى جمهورية تركيا. (٢) مناطق الاحتلال البريطانية. (٣) مناطق الاحتلال الفرنسية. (٤) مناطق الاحتلال الإيطالية. (٥) دول مستقلة (غالبًا تحت نوع من أنواع النفوذ البريطاني).

وأخطر الأدوار التي لعبتها بريطانيا في الشرق الأوسط لم يكن فقط تقسيم العالم العربي إلى دول ذات حدود مستحدثة لم يكن لها وجود من قبل، وبالتالي تفتيت جهوده في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل كانت هناك عملية «زرع» جسم غريب داخل الشرق الأوسط، يعمل بدوره على تبديد جهود العالم العربي في مجالاته السياسية والاقتصادية، ذلك أن السماح بإنشاء وطن يهودي في فلسطين، بتشجيع الهجرة أو التغاضي عنها خلال فترة الانتداب البريطانية، قد أدى إلى الموقف السياسي العام المثير للقلق والحروب في كافة أنحاء الشرق الأوسط، ولا شك في أن عدة متداخلات قد شاركت في دفع الموقف في فلسطين إلى هذا الاتجاه، كان على رأسها الموقف الإيجابي البريطاني من القضية اليهودية عامة منذ ما قبل ١٩١٤ وحتى نهاية الانتداب البريطاني عام ١٩٤٨، وهي النهاية التي شاب إعلانها «دراماتيكية» سياسية غير معلنة الأسباب حتى الآن، لكن لا نشك في أن الضغوط الأمريكية والصهيونية والغربية عامة، قد ساعدت على إنهاء الانتداب بهذه الصورة، وفي الوقت نفسه كان النشاط الصهيوني المكثف الدائم الحركة منذ عام ١٩١٦ في فلسطين وأوروبا ثم الولايات المتحدة، عاملًا آخر حاسمًا من بين المتداخلات التي خلقت أوضاع فلسطين بعد ١٩٤٨، فهذا النشاط الكثيف من جانب الحركة الصهيونية العالمية قد خلق كل الظروف المواتية لوجود يهودي قوي عدديًّا وماديًّا ومدعمًا بتأييد خارجي، فالنشاط الصهيوني كان يعمل على مستويين بنفس القوة وفي ذات الوقت، المستوى الأول إنشاء نواة الوجود اليهودي في فلسطين لكي تصبح واقعًا يستقطب العمل حوله ويزيد من تكثيفه، وقد تم ذلك بالهجرة المستمرة الشرعية وغير الشرعية — كما حددتها سلطات الانتداب الإنجليزي — وبالدعم المستمر للمهاجرين وتنظيمهم تنظيمًا عسكريًّا في صورة مستعمرات ذات خطة بناء تصلح للحرب، وبالدعم المادي لشراء الأراضي وإقامة ما يشبه واقعًا اقتصاديًّا في صورة ناس يعيشون على منتجات الأرض التي يحوزونها، أما المستوى الثاني الذي عمل عليه النشاط الصهيوني فكان إيجاد الروابط وإنشاء الجسور بين الحركة الصهيونية — ممثلة اليهود في فلسطين — وبين المؤسسات الاقتصادية والسياسية في العالم الغربي كله، وهذه الجسور هي التي حملت، وتظل تحمل، إلى إسرائيل معينًا لا ينضب من التأييد والدعم بكافة أشكاله: المالي والحربي والمعنوي، وقد استخدمت الحركة الصهيونية في إنشاء هذه الجسور عدة وسائل وأسلحة مادية وفكرية وأيديولوجية وعاطفية وأسطورية، وذلك حسب نوع المؤسسة التي تبني معها خط الاتصال، وكان على رأس هذه الوسائل استغلال الاضطهاد النازي لليهود (علمًا بأن اليهود لم يكونوا وحدهم ضحايا النازية، بل سقط من الألمان ضحية النازية أعداد أكبر من ضحايا اليهود)، وقد ضخمت الدعاية الصهيونية هذا الجانب في أذهان سكان أوروبا وأمريكا، ونجحت في تمهيد الطريق أمام الضغط على الحكومات في اتجاه تأييدها، وكان اليهود الذين يحملون جنسيات أوروبية وأمريكية مختلفة، الركيزة الأساسية في شتى أنواع المساعدة للحركة الصهيونية، وكثير من هؤلاء مسيطرون بصورة أو أخرى على نواحٍ مختلفة من المراكز الحساسة في أوروبا وأمريكا: الحياة المالية والشركات والصحافة وأشكال الإعلام الأخرى.

ومما لا جدال فيه أن مسئولية بريطانيا التاريخية في القضية الفلسطينية مسئولية جسيمة، وأنه برغم الضغوط الصهيونية وغيرها كانت هي واضعة استراتيجية المنطقة كلها، مستندة إلى أساس محوري في تلك الاستراتيجية هو مزيد من التفرقة لمزيد من الضعف، أو هو ما يعبر عنه دائمًا بالشعار المعروف «فَرِّق تَسُد»، ففي الهند خلفت دولتين متحاربتين، ومشكلة صعبة الحل هي كشمير، وفي العالم العربي في الشرق الأوسط خلفت دولًا عديدة صغيرة، وزادت على ذلك بإقحام مشكلة عويصة متعددة الجوانب: عنصرية دينية عسكرية في فلسطين، ولا شك في أن قيام المشكلة الفلسطينية — بالشكل الذي اتخذته خلال ربع القرن الماضي، أو بشكل آخر تصورته بريطانيا — يخلق جوًّا من التوتر يستدعي بقاء بريطانيا قرب منطقة قناة السويس أو عندها، لكن نتائج الحرب العالمية الثانية قلبت موازين بريطانيا واتخذت اتجاهات أخرى بتغير الزمن ومراكز القوى العالمية.

الولايات المتحدة والشرق الأوسط

تمثل الولايات المتحدة آخر الدول التي دخلت ميدان الصراع حول الشرق الأوسط وقد كان ذلك نتيجة للبعد المكاني من ناحية، وسيطرة القوى الأوروبية الغربية على الشرق الأوسط حتى نحو منتصف هذا القرن، وقد ترتب على نتائج الحرب العالمية الثانية وظهور زعامة أمريكا للعالم الغربي، مع نمو المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط المرتكزة أساسًا في صورة شركات البترول، أن الولايات المتحدة قد دخلت بصور مختلفة في كل مناطق الضعف في مستعمرات أوروبا السابقة في العالم الأفرو آسيوي، بما في ذلك إقليم الشرق الأوسط، وقد كان هذا الإقليم بأهميته المكانية المعروفة أحد المناطق الرئيسية التي ركزت فيها الولايات المتحدة جهودها من أجل استكمال حلقة الأحلاف في مواجهة الاتحاد السوفيتي، وقد زاد اهتمام أمريكا بالشرق الأوسط بعد تصفية مركز بريطانيا تدريجيًّا نتيجة لاشتراكها المباشر في حرب السويس ١٩٥٦، وظهر على الأثر ما أسمته أمريكا «فراغًا» في الشرق الأوسط حاولت ملئه بتحالفات لإحلال سلام أمريكي pax americana (مبدأ أيزنهاور ١٩٥٦)، لكن التأييد الغربي عامة والأمريكي خاصة لإسرائيل كان بمثابة سد يقف أمام هذه السياسة الأمريكية، وهو ما زال واحدًا من أهم العوائق أمام التقارب الأمريكي في الشرق الأوسط عامة.٨

على وجه العموم قامت جيوبوليتيكية أمريكا في الشرق الأوسط على مبادئ مشابهة تمامًا للمبادئ الإنجليزية في المنطقة ذاتها خلال القرن التاسع عشر والقرن الحالي، فالحلف المركزي — وسابقه حلف بغداد — هو وريث فكرة الدولة الحاجزة التي اتبعتها السياسة الإنجليزية بينها وبين روسيا، وقد حل الأسطول الأمريكي في البحر المتوسط محل الأسطول الإنجليزي، وأخذ يظهر في مياه الشرق الأوسط كلما دعت الحاجة إلى إبراز قوة الوجود الأمريكي في المنطقة، وكان أكثر أشكال تدخل الأسطول الأمريكي مباشرة في عام ١٩٥٨ حينما نزل مشاة الأسطول الأمريكي إلى لبنان خلال الأحداث اللبنانية الداخلية وردة فعله على سقوط حلف بغداد، ويعتمد الأسطول على قواعد حلف الأطلنطي في البحر المتوسط، وخاصة في إيطاليا واليونان، كما كان يعتمد على قواعد أمريكية أخرى داخل الشرق الأوسط وعلى هوامشه، خاصة قاعدة هويلس — عقبة بن نافع بعد تصفيتها في ليبيا — ولا تزال قاعدة الأسطول والطيران الأمريكي في جنوب البحر الأحمر — مصوع وأسمره في إثيوبيا — وفي مناطق مختلفة من تركيا وإيران تمثل ركائز أمريكية عسكرية قوية تحيط بالشرق الأوسط العربي.

ولا شك في أن اعتماد أمريكا على إسرائيل من ناحية، وإيران من ناحية أخرى، يثير أكبر العقبات أمام تحسين العلاقات الأمريكية العربية، فلكل من الدولتين نوايا توسعية على حساب الدول العربية، والتوسع الإسرائيلي سافر وعدواني الطابع ولا يحتاج لمزيد من الشرح، أما النوايا التوسعية الإيرانية فهي وإن كانت صغيرة الحجم مساحيًّا، وتتخذ طابع التهديد في معظم الحالات — النزاع الإيراني السعودي حول دولة البحرين قبل استقلالها، مشكلات الحدود الإيرانية العراقية — فإنها قد اتخذت الطابع العدواني في حالة واحدة حتى الآن: احتلال جزر الطنب وأبو موسى، وهذه جزر عربية صغيرة لكن احتلال إيران لها يكمل لها السيطرة على مدخل الخليج العربي عند مضيق هرمز، بالإضافة إلى احتمالات قوية لوجود البترول في مياه هذه الجزر، وبالرغم من أن حجم الادعاءات الإيرانية صغير، إلا أنه يتضمن مغزى أعمق وأشمل، فإيران، بتسليحها الثقيل الحديث، مؤهلة للقيام بدور خاص يهدف إلى تحييد أية اتجاهات عربية إزاء موارد البترول في دول الخليج والعراق، وهذا دور يماثل من ناحية النوع، وليس الكم، دور إسرائيل في منطقة شرق المتوسط وقناة السويس، فكلاهما إذن يقوم بدور ضار وبغيض، ومن ثم يجعل الارتباط الأمريكي به — حلقة مفرغة من السبب والمسبب في علاقات أمريكا بإيران وإسرائيل — سببًا في قلة النجاح الذي تصادفه السياسة الأمريكية في اجتذاب الدول العربية في الشرق الأوسط، ويساهم هذا في زيادة فعالية الوجود السوفيتي في المنطقة في وقت الأزمات، وذلك بالرغم من أن الدول العربية في الشرق الأوسط تمثل فعلًا العمق الاستراتيجي للحلف المركزي في مواجهة الاتحاد السوفيتي، فإيران وتركيا، بدون العالم العربي، يمثلان معًا أضعف نقاط التحالفات الغربية؛ لأنهما يشبهان خط دفاع أول بدون خطوط دفاع احتياطية ثانية وثالثة.

ولا يزال الوقت مبكرًا جدًّا قبل أن تتضح صورة الجيوبوليتيكا الأمريكية بعد الحرب الرابعة العربية الإسرائيلية في أكتوبر ١٩٧٣، وظهور البترول العربي كعنصر عضوي شديد الفعالية في النزاع العربي الإسرائيلي، جنبًا إلى جنب مع جميع عناصر المعركة، هناك احتمالات تغير، لكنها ستظل دائمًا داخل إطار المنافسة العالمية على الشرق الأوسط كعالم المعابر الحيوية وكمنطقة احتياطي البترول الكبيرة فيما تبقى من القرن العشرين.

(٢-٣) دول الشرق الأوسط بعد الحربين العالميتين

ترتب على هزيمة القوى المركزية في الحرب العالمية الأولى تغيرات جوهرية في موازين القوى العالمية، وقد كان أكثر التغيرات الجوهرية في العالم هو ذلك الذي لحق بالشرق الأوسط من تقسيمات، تحققت معه السيطرة الغربية بلا منازع، فتركيا التي كادت أن تنتهي إلى تصفية مماثلة لما حدث في الماضي لبولندا — أي تصبح شعبًا بلا أرض٩ — استعادت حدودًا قومية متفقة، إلى حد بعيد، مع الحدود اللغوية التركية في أوروبا والأناضول،١٠ ودعمت بريطانيا والاتحاد السوفيتي حدود إيران وأفغانستان، كل بطريقته الخاصة (اتفاقات ومعاهدات).

أما عرب الشرق الأوسط فقد نالهم من التمزيق ما لم تنله منطقة أخرى، وفي الحقيقة فإن ما حدث في هذه المنطقة هو إعادة لسياسة «البلقنة» — أي التقسيم إلى دول صغيرة ضعيفة على نحو دول البلقان — وقد كانت مقومات البلقنة في البلقان تعتمد على اختلافات لغوية وقومية وطائفية وتاريخية متعددة، بينما لم تكن في المنطقة العربية واحدة من هذه المقومات التي يمكن أن تتخذ ذريعة لتمزيق ائتلاف عرب الشرق الأوسط: لا لغات ولا طوائف أو أديان تحتل أرضًا خاصة، بل فرشة أساسية شاملة عربية إسلامية مع تداخل هامشي لبعض الطوائف، كما أن هذا التداخل، الذي أدى إلى تعايش صحي وسليم، قد تم تدريجيًّا لمدة تزيد عن ألف سنة، بحيث أصبحت كل هذه الطوائف جزءًا لا يتجزأ من الفكر والحضارة والقومية العربية، وقد شارك كل العرب — وخاصة المثقفين — في مساعي العروبة منذ مطلع القرن الحالي، وبغض النظر عن خفايا الدبلوماسية البريطانية في الشرق الأوسط في تلك الفترة، فإن الثورة العربية الكبرى حققت — لفترة قصيرة — اتحادًا عربيًّا قويًّا ضد العثمانيين، وساعد بطريقة إيجابية في إنجاح الإنجليز عسكريًّا وسياسيًّا ضد القوات والدولة العثمانية.

ولا شك في أن بذور القومية العربية — التي حصدتها مبكرًا عملية الاحتلال والانتداب الإنجليزي والفرنسي في العالم العربي — لم تقتلع نهائيًّا، بل زادت قوة ونموًّا بفعل خيبة الأمل والشعور بخيانة الدول الغربية لهم، وقد ظل السخط، والمقاومة السافرة في أحيان (ثورة ١٩١٩ في مصر، والثورات المتكررة في سوريا ضد فرنسا)، يتفاعل مع عديد من العوامل ضد الدول الغربية خلال فترة ما بين الحربين، ونتيجة لانشغال الحركة القومية بمصير بلادها — كل على حدة — فإن الهجرة اليهودية لفلسطين لم تظهر كقضية عربية موحدة إلا متأخرًا جدًّا، وبذلك انحصرت مقاومة التسلل اليهودي بالقوى العربية المحلية في فلسطين،١١ ولا شك في أن مقدرات العرب في فلسطين وغيرها من الدول العربية كانت — بحكم سيطرة إنجلترا وفرنسا — غير قادرة، أو لم تؤهل عمدًا، لتقدير فداحة ما يحدث في فلسطين.

وقد كانت أهم نتائج الحربين العالميتين أن الشرق الأوسط لم يعد جيوبوليتيكيًّا مجرد منطقة تتنافس عليها القوى الأوروبية، بل إنه منذ الخمسينات أصبح إقليمًا حساسًا في جيوبوليتيكية القوى العالمية بدخول الولايات المتحدة دخولًا مباشرًا في مشكلات الشرق الأوسط الداخلية، والمشكلات الخاصة بأنظمة الدفاع الغربي في هذا الإقليم الحساس، وكان البترول في إيران والدول العربية مصدرًا آخر من أسباب ظهور الشرق الأوسط على مسرح السياسة العالمية خلال ربع القرن الأخير.

وقد ترتب على هذه الأوضاع أن برزت عدة مشكلات ذات طابع استراتيجي في عدد من مناطق الشرق الأوسط تركزت في الدول التي تسيطر على المعابر المائية والجبلية أو بالقرب منها: تركيا وأفغانستان ومصر وفلسطين.

في تركيا دارت المشكلات الاستراتيجية حول منطقتين هما إقليم قرص-أردهان وإقليم المضايق، ويقع إقليم القرص وأردهان على الحدود التركية السوفيتية بين البحر الأسود وأرمينيا، وقد طالب الاتحاد السوفيتي بإعادة ضم الإقليم مرارًا بعد أن استولت عليه تركيا عام ١٩١٧، وقد كان في الأصل جزءًا من أملاك الدولة العثمانية وظل النزاع قائمًا عليه منذ ١٨٧٨، وقد أنهت روسيا النزاع عام ١٩٥٣ بتنازلها عن الإقليم، أما المضايق التركية فهي لا تزال محكومة باتفاقية مونترو ١٩٣٦ التي تنص على السماح بمرور السفن الحربية خلال السلام من البحر الأسود وإليه، وذلك بالنسبة لدول البحر الأسود فقط، كما يسمح لسفن حربية تابعة لدول أخرى بالمرور خلال أوقات السلام ولكن بعدد وحمولة محدودتين، وبناء على ذلك رفضت تركيا مرور أساطيل الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، مما أثار الاتحاد السوفيتي وطالب عام ١٩٤٥ بإدارة مشتركة للمضايق تمارسها كل دول البحر الأسود، كما طالب باشتراكه مع تركيا في نظام الدفاع عن المضايق، لكن دخول تركيا الأحلاف الأوروبية ابتداء من ١٩٥٤ والمعاهدات التركية الروسية، قد جمد المطالب السوفيتية، وفي مقابل ذلك تلتزم تركيا بتنفيذ بنود مونترو، ومن ثم تسمح لعدد محدود من سفن الأسطول الأمريكي بدخول البحر الأسود في بعض المناسبات، كما تسمح لسفن الأسطول السوفيتي بالعبور والتواجد في البحر المتوسط مرات متعددة خلال أزمات الشرق الأوسط والحروب العربية الإسرائيلية، وبرغم ذلك فمما لا شك فيه أن المضايق التركية تمثل منطقة نزاع كامنة، لكنها لا تدخل نطاق النزاع الثنائي بين تركيا والاتحاد السوفيتي، وإنما هي جزء من المشكلات الاستراتيجية في أنظمة الدفاع السوفيتية والغربية معًا، وببقاء تركيا ضمن الأحلاف الغربية، فإن المضايق التركية تمثل إلى الآن نقطة ضعف في جيواستراتيجية السوفيت، كما كان ذلك شأنها خلال القرنين ١٨، ١٩، وهي بذلك تمثل استمرارية للنزاع الجيوبوليتيكي بين القوى البحرية (دعم بريطانيا وأمريكا لتركيا) والقوى البرية (الاتحاد السوفيتي)، وذلك برغم تطور تكنولوجية الحرب تطورًا جذريًّا منذ القرن الثامن عشر، وتثبت بذلك أهمية علاقات وجيوبوليتيكية المكان الجغرافي واستمرار تأثيرها لفترات طويلة.

وفي الطرف الشمالي الشرقي من الشرق الأوسط، وأيضًا في مواجهة الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي — بضم الصين — تقع أفغانستان على الممرات الجبلية الحيوية المؤدية إلى جنوب آسيا والمحيط الهندي، وقد سبق أن ذكرنا أن أفغانستان ظلت تُستَخدم في وظيفة الدولة الحاجزة بين النفوذين البريطاني والروسي، وقد سقطت هذه الوظيفة بعد استقلال الهند وباكستان، وحلت محلها مباشرة مشكلات كامنة كانت قد ترتبت على الحدود التي اصطنعتها بريطانيا لحماية الهند في منطقة عرفت باسم «منطقة الحدود الشمالية الغربية» التي تسيطر على ممر خيبر، وكانت هذه الحدود الدفاعية البريطانية قد اقتطعت جزءًا من أراضي قبائل الباتان، الذين يكونون الجزء الأكبر من سكان أفغانستان.

ولم تكن مطالب أفغانستان الإقليمية في باكستان — ضم إقليم الباتان، أو إنشاء دولة بوشتوستان — هي وحدها السبب في سقوط وظيفة أفغانستان كدولة حاجزة، فقد كان هناك سببان آخران، أولهما تمثله مشكلة بالوتشستان، التي تسكنها مجموعة لغوية تمتد أوطانها داخل حدود أفغانستان وباكستان معًا، وتسعى أفغانستان إلى الحصول على بالوتشستان، مؤيدة مساعيها بأسانيد تاريخية، من أجل الحصول على واجهة بحرية على المحيط الهندي، وتقلل بذلك من عزلتها الداخلية واعتمادها على ميناء كراتشي في تجارتها.

ومما لا شك فيه أن باكستان قد احتلت، منذ نشأتها، مكانًا جغرافيًّا كثير المشكلات، فعلى عكس الهند التي تمثل كتلة أرضية موحدة، تكونت باكستان من مساحتين أرضيتين منفصلتين «ولغتين وحضارتين مختلفتين — باستثناء الدين الذي يجمع بينهما — وتوجيهين جغرافيين شديدي الاختلاف»، وقد انتهى الأمر بانفصالهما كوحدتين سياسيتين مستقلتين، وفضلًا عن ذلك فإن باكستان الحالية — الغربية — تحتل مكانًا جغرافيًّا قلقًا بوصفه منطقة التقاء السهول الغنية — البنجاب وحوض السند — بالهضاب والجبال الفقيرة التي تخترقها الممرات الجبلية ذات الشهرة التاريخية منذ القدم، وبذلك فإن باكستان — كوريثة للنطاق الحدي الدفاعي الذي اصطنعته بريطانيا — دولة محملة بأعباء ومشكلات سياسية ناجمة عن أوضاعها الجغرافية السيئة، وهذه الأعباء قد أضيف إليها من جديد عبء الدفاع ضد الاتحاد السوفيتي في منطقة آسيا الجنوبية، وذلك بإشراكها في سلسلة من الأحلاف الغربية.

وهذا هو السبب الثاني الذي أدى إلى سقوط وظيفة أفغانستان كدولة حاجزة، فإن انضمام باكستان إلى حلف أمريكي قد أدى إلى موقف مناقض في أفغانستان، فاتجهت — كرد فعل — إلى الاتحاد السوفيتي، دعمًا لموقفها من مطالبها الإقليمية في باكستان، وحماية لنفسها من قوة الحلف الغربي الباكستاني الإيراني، كنوع من التوازن الدولي، وقد أدى استحكام النزاع بين أفغانستان وباكستان إلى توقف اعتماد الأفغان على ميناء كراتشي الباكستاني، وتحولت غالبية التجارة الأفغانية إلى المرور عبر الأراضي السوفيتية؛ مما أعطى التقارب السوفيتي الأفغاني جسمًا ماديًّا تدور حوله الاستراتيجيات المختلفة، بما فيها اتفاقيات المعونة الاقتصادية السوفيتية الكبيرة — أكثر من ضعف حجم المعونة الأمريكية — لأفغانستان، وهكذا فإن الموقف السوفيتي عبر أفغانستان والهند قد كسب مكانة متميزة في جنوب آسيا باختراقه الحصار الأمريكي، على عكس موقفه في غرب آسيا الذي تقف أمامه تركيا وإيران والحلف الغربي.

أما فيما يختص بالممر المائي في قناة السويس فإنه كان، وسيظل، يمثل منطلق مشكلة بالنسبة لمصر ومنطقة فلسطين (بالشكل الذي تمثله الآن في صورة وجود غربي إسرائيلي عدواني) في إطار جيوبوليتيكي واحد، وبالرغم من أن قناة السويس مشكلة مصرية صميمة، مثلها في ذلك مثل المضايق التركية، إلا أن الأهمية الحيوية لكلٍّ من هذين المعبرين المائيين تجعلهما بالضرورة جزءًا من المخططات السياسية العالمية.

ونظرًا لأن تركيا قد أصبحت طرفًا في معسكر الأحلاف الغربية، فإن قضية المضايق التركية قد استقرت استقرارًا نسبيًّا منذ نحو ربع قرن، ولأن مصر تتتبع سياسة قومية في علاقتها العربية والدولية دون أن يستقطبها أحد المعسكرين، فإن قضية قناة السويس ظلت غير مستقرة بالدرجة التي تحققت في مضايق البحر الأسود، وتشكل القضية الفلسطينية، في أحد جوانبها الهامة، طرفًا من أطراف الصراع الإمبريالي مع الحركة القومية في مصر حول قناة السويس (خلال ربع القرن الأخير)، فقد أصبح الوجود الإسرائيلي في فلسطين سببًا في إغلاق القناة مرتين منذ تأميمها، وذلك بالاتفاق الكامل مع القوى الغربية الأوروبية في عام ١٩٥٦، ومع الإمبريالية العالمية عامة والقوى الأمريكية خاصة في عام ١٩٦٧ وما بعدها، ولعل ذلك هو الموقف الذي تصورته الاستراتيجية البريطانية منذ وعد بلفور وتقسيم الدول العربية: أن تضمن وجودًا غربيًّا قريبًا من القناة لحماية مصالحها، وقد حاولت بريطانيا أن تعيد سيطرتها المفقودة على الشرق الأوسط بتدخلها المباشر عام ١٩٥٦ مع فرنسا وإسرائيل، على نحو ما كانت تفعل في القرن ١٩ ضد الدولة العثمانية، لكن هذا الدور قد أنهى المركز الممتاز الذي كان لها في الشرق الأوسط إلى الأبد، وكذلك فإن مشاكلها الاقتصادية ومكانتها السياسية العالمية جعلتها تقنع بالعمل غير المباشر مع أمريكا وإسرائيل.

ولسنا بحاجة إلى شرح مشكلة السويس من الناحية المصرية، فقد كان الكفاح القومي في مصر منذ أواخر الأربعينيات يهدف إلى إزالة الوجود البريطاني من مصر عامة، بما فيها القناة، وبتأثير تفاعلات ذاتية في الحركة القومية المصرية نتيجة صراع مع عناصر مختلفة من مجموع السياسية الغربية، وعلى خلفية تصارع التيارات الغربية والقومية في معظم دول الشرق الأوسط العربية، تم تأميم قناة السويس،١٢ وفي النهاية فإن قناة السويس — كرمز للصراع القومي — قد أدت إلى محاولة الغرب الحصول على مركز القوة في المعبر المائي بالقوة، ومن ثم تفجر الصراع الدولي بين المعسكرين الشرقي والغربي، ودخل الشرق الأوسط العربي مجموعة من الخطوط السياسية المتعارضة في أحيان، والمتوافقة في أحيان أخرى، وبرغم الأحداث الكثيرة التداخل أو التعارض أو التوافق في بلاد الشرق الأوسط العربية، فإن هذه الأحداث يجب أن نفهمها على أنها مؤشر لمحاولة الدول العربية البحث عن الذات من خلال صيغة صحية للتآلف القوي في عالم الغد.

هوامش

(١) وصل فاسكود جاما إلى الهند ١٤٩٨، وهزم «الميدا Almeida» نائب ملك البرتغال أسطول المماليك وسلطنة «جو جارات» الهندية عام ١٥٠٩ في معركة «ديو» البحرية، وكانت هذه هي المحاولة الأولى والأخيرة من جانب دول الشرق الأوسط لوقف البرتغاليين. بعد ذلك نظم «البوكيرك» استراتيجية البرتغال العسكرية، فاحتل هرمز — دون أن يساعد الفرس أميرها — وملقا وغير ذلك، لكنه فشل في احتلال عدن أو جزيرة سقطرة.
(٢) أولى الحروب بينهما ١٥١٤، واستمرت متقطعة في بعض الفترات مثل ١٧٢٥، وآخر حروب مهمة بين الدولتين كانت في ١٨٢١–١٨٢٣.
(٣) احتل الروس ساحل البحر الأسود الشمالي وشبه جزيرة القرم بعد هزيمة تركيا ١٧٨٣، ثم بدءوا يتوغلون في القوقاز على حساب تركيا وإيران وإمارات التتار والتركمان منذ ١٧٨٥ إلى ١٨٣٠، وفي وسط آسيا بدأ التوغل التدريجي منذ ١٨٥٠ وأكملوا احتلالهم للمنطقة كلها ١٨٨٥.
(٤) في ١٨١٢ احتلت روسيا إقليم بسارابيا (في جنوب غرب أوكرانيا حاليًّا) ١٨٢٢–١٨٢٦ الحرب اليونانية، ١٨٢٧ تحالف أوروبا ضد تركيا ومصر من أجل اليونان، ١٨٢٩ استقلال اليونان، ١٨٢٨ وصلت الجيوش الروسية إلى أدرنة — قرب إسطنبول — وتوقيع معاهدة أدرنة التي أقيمت بمقتضاها إمارة ذات حكم ذاتي في ولاشيا وملدافيا — رومانيا — تحت الحماية الروسية، ١٨٣٠ احتلت فرنسا الجزائر، ١٨٣٨ حكم ذاتي للصرب، ١٨٥٣–١٨٥٦ حرب القرم اشتركت فيها تركيا وأوروبا الغربية ضد روسيا، خسرت تركيا رومانيا نهائيًّا ومزيدًا من الأراضي في القوقاز، ١٨٨١ احتلت فرنسا تونس، ١٨٨٢ احتلت بريطانيا مصر، ١٩١١ احتلت إيطاليا ولاية طرابلس الغرب (ليبيا)، ١٩١٢-١٩١٣ حرب البلقان الأولى والثانية واستقلال بلغاريا ومعظم البلقان، ١٩١٤–١٩١٨ الحرب العالمية الأولى واحتلال بريطانيا وفرنسا الدول العربية التابعة لتركيا، وانكماش الدولة العثمانية إلى أراضيها الحالية وإلغاء السلطنة وإعلان الجمهورية التركية.
(٥) بُدِئ في إنشاء الخط من الإسكندرية ١٨٥٢، وصل القاهرة ١٨٥٤، والسويس ١٨٥٨.
(٦) آخر أشكال الصدام المباشر بين بريطانيا وفرنسا كان في فاشودة في أعالي النيل ١٨٩٨.
(٧) بدأت بريطانيا تسيطر على معابر الشرق الأوسط البحرية المطلة على المحيط الهندي منذ عام ١٧٩٩، حينما احتلت جزيرة بريم في مضيق باب المندب كخطوة لتطويق التهديد الفرنسي الذي مثلته حملة نابليون على مصر في ١٧٩٨، ثم احتلت جزيرة سقطرة في ١٨٣٤، واحتلت عدن عنوة في ١٨٣٩، ومنذ ١٨٢٢ كانت قد عقدت اتفاقات حماية مع سلطنة مسقط لضمان مدخل الخليج العربي، لكنها كانت قد بدأت باتفاقات مع شيخ الكويت في ١٧٩٩ أيضًا كنهاية لطريق البريد البري من حلب بدلًا من البصرة العثمانية، وفي ١٨٦٠ كان الأسطول البريطاني — بحجة منع الرقيق والقرصان — قد حول الخليج إلى بحيرة بريطانية، وتوالت بعد ذلك معاهدات الحماية مع الإمارات المختلفة: ١٨٦١–١٨٨٠ مع البحرين، ١٨٩٢ مع الإمارات العربية المتحدة، ١٨٩٩ مع الكويت، ١٩١٦ مع قطر.
(٨) كان أول تدخل أمريكي نشط في الشرق الأوسط في اليونان خلال الحرب الأهلية عام ١٩٤٧، ثم جاء التدخل الأمريكي — بالطرق الدبلوماسية — في مشكلة البترول الإيراني بتأييد الشاه ضد تيار مصدق وحزب توده الموجه نحو تأميم البترول، وكذلك كان لموقف أمريكا في موضوع السد العالي والتضييق على مصر في سعيها للحصول على السلاح أثر سلبي على علاقات أمريكا والعالم العربي.
(٩) احتلت اليونان أزمير وساحل الأناضول الغربي، وفرنسا وإيطاليا اقتسمتا الساحل الجنوبي التركي، وقوات الاحتلال — معظمها بريطانية — في تركيا الأوروبية، واقترح إقامة جمهورية أرمينية وأخرى كردية في شرق الأناضول (بنود معاهدة سيفر ١٩٢٠)، لكن نجاح الثورة التركية المسلحة في معارك حقيقية انتهت بهزيمة اليونان (١٩٢٢) أدى إلى انسحاب فرنسا وإيطاليا من الساحل الجنوبي ومن تركيا الأوروبية، وظلت بريطانيا فترة قليلة في المضايق ثم انسحبت أيضًا عام ١٩٢٢.
(١٠) مع استثناءات قليلة في الجنوب الشرقي — منطقة الأكراد الذين تسميهم الدولة «أتراك الجبل» تجنبًا لاسم كردي — وفي الجنوب ابتداء من الدجلة حتى الإسكندرونة حيث توجد أقليات عربية. في ١٩٣٨-١٩٣٩ تركت فرنسا إقليم الإسكندرونة للأتراك بحجة أنه تركي، وذلك برغم تعارض هذا الإجراء مع نصوص انتداب فرنسا على سوريا «بأن تحافظ على وحدة الأراضي السورية.»
(١١) قاوم العرب اليهود المهاجرين وسلطات الانتداب الإنجليزية مقاومة سافرة طوال مدة الانتداب وخاصة خلال معارك ١٩٢٢ و١٩٢٩ والإضراب العام ١٩٣٦ ومعارك ضارية بين ١٩٣٦ و١٩٣٩.
(١٢) تبدأ هذه الخلفيات عام ١٩٤٥ بإنشاء جامعة الدول العربية — الإطار الرسمي للدول العربية في الشرق الأوسط وأفريقيا حتى الآن. وفي عام ١٩٤٨ حاربت الدول العربية مجتمعة في فلسطين حربًا حتمها الفشل نتيجة التكتلات العالمية. ١٩٥٢ الثورة المصرية. ١٩٥٣ المعاهدة العسكرية الإنجليزية والأمريكية مع المملكة الليبية. ١٩٥٥ إقامة حلف بغداد مع مملكة العراق وتركيا وإيران وباكستان وبريطانيا وأمريكا. حرب السويس ١٩٥٦ وإثارة شعوب المنطقة ضد الغرب. مبدأ أيزنهاور لملء الفراغ والنقطة الرابعة في ١٩٥٦. ١٩٥٧ أمريكا تعلن ضمانها لاستقلال الأردن. ١٩٥٨ اتحاد سوريا ومصر في ج ع م. فبراير ١٩٥٨ إعلان الاتحاد العربي الهاشمي بين مملكتي العراق والأردن ردًّا على قيام ج ع م. يوليو ١٩٥٨ ثورة العراق وإعلان الجمهورية، ومن ثم سقوط الاتحاد العربي وسقوط حلف بغداد. مارس–أكتوبر ١٩٥٨ أحداث لبنان الداخلية وإنزال القوات الأمريكية في لبنان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤