مقدمة
يُعَد البحث في جذور المفاهيم الأساسية للحرارة واحدًا من أقدم وأعقد الموضوعات العلمية التاريخية، ويُمكِننا اعتبارُه أقدَمَ من الرياضيات والفلك؛ فالحياة على كوكب الأرض لا يمكن لها أن تستمرَّ في الوجود أصلًا دون درجة حرارة مناسبة، وقد حبا المولى — عَزَّ وجلَّ — كوكب الأرض مكانةً في الفضاء؛ حيث إننا لو كنا أقرب لكوكب الزَّهرة لارتفعَت درجة الحرارة واستحالت الحياة، ولو كنا أقرب لكوكب المرِّيخ لانخفضَت درجة الحرارة واستحالت الحياة أيضًا على كوكب الأرض، فجاء موقع الكوكب بتقدير العزيز الحكيم مناسبًا وفريدًا، ولا يمكن بأي شكلٍ من الأشكال أن يكون لأية مُصادفةٍ عبثية دَورٌ في ذلك.
بدأَت دراستُنا بالتساؤل: أيُعقَل لحضارةٍ عربية إسلامية راقية ألَّا يَفطِن علماؤها لمفهوم الحرارة وما يتعلَّق بها من تطبيقات؟
قد يستغرب الكثير من القُرَّاء إذا علموا أنني حتى أحصل على الإجابة بدأَت بتجميع مادة هذا العمل منذ عام ٢٠٠٥م وحتى عام ٢٠١٥م، من بطون وشذرات العشرات من مخطوطات التراث العلمي العربي المُتبقي، والذي وصلتُ إليه، لأُقدِّمه اليومَ سهلَ التناوُل والعرض والتحليل والمُقارنة بين أيديهم؛ وذلك لأنَّ الكثير من الباحثين — خصوصًا غير المختص منهم — سيجد صعوبةً بالغة في اقتناص المادة؛ سواء مما نُشِر من التراث العلمي العربي، أو من المخطوط منه، ويصنع رابطًا بينها لتصلح ككتاب؛ فالمادة مُبعثرة هنا وهناك، وتحتاج لهمةٍ عالية في جمعها، ولصبرٍ عظيم في ترتيبها وتصنيفها، بطريقةٍ يسهُل فهمُها على القارئ المُعاصر، ولخبرةٍ علميةٍ عالية في تحليلها وفهمها. وهو ما قد مَنَّ به المولى — عزَّ وجل — علينا، فمنحَنا الطاقة على حمل الأمانة حتى أدائها. وبعد الانتهاء من العمل علمتُ السبب الرئيس الذي جعل الكثيرين يُحجِمون عن تناول هذا الموضوع بحثًا وتنقيبًا.
لقد حَرصْنا على تقديم هذا العمل بصورته التاريخية والعلمية المُتكاملة؛ فلا يمكن أن نَعزِل التراث العلمي العربي كظاهرةٍ حضارية مُنفصلة عَمَّن سبقَهم من اليونان أو لحقهم من الأوروبيين؛ لذلك وجدنا أن نُحقِّق فيما أنجزَتْه الحضارات السابقة لنُمَيِّز أصالةَ ما قَدَّمه الأجداد، وهي الأصالة التي سيَسبِقون بها من لَحِقَهم من علماء الحضارة الأوروبية.
من ناحيةٍ أخرى، فقد وجَدْنا ضرورةَ إعادة تقييم تاريخ العلم الأوروبي حتى نبحث في أسباب نجاح الثورة العلمية الأوروبية وفشلها عند العرب، كما أننا نبحثُ في أسبابِ ما نُسمِّيه ﺑ «أثَر التضخيمِ الإعلامي» للإنجازات العلمية الأوروبية، مُقابل التقليل من شأن أعمال مَن سبقَهم مِن العلماء العرب والمسلمين؛ لذلك فقد يعذرُنا القارئ من كثرة الاستشهاد بأقوال العلماء العرب والمسلمين، والحقيقة أنَّنا أردنا من ذلك تقديمَ الدليل على أفكارهم التي طرحوها، وأن تحليلَنا لم يكن ضربًا من التأويل المُبَالَغ فيه، وإنما عَرضًا للحقيقة من كل جوانبها.
ومن ناحية ثالثة؛ فإنَّ الكثير من المؤرِّخين المُحدَثين الذين يقفون عند المرحلة الأوروبية في تأريخهم لعلمٍ من العلوم أيًّا كان نوعه، يعتقدون أنَّ بقية قصة هذا العلم، أو بقية مراحلِ تطوُّر فكرةٍ من الأفكار يُمكِن للقارئ أن يستكملَها من الكتب الأخرى التي تتكلَّم عنها، والحقيقة أنني لم أجد من الكتب المُترجمة أو المُؤلَّفة التي اطلَعتُ عليها — بعد مسح المكتبة العلمية العربية — ما يُمكِنه أن يُكمِل الكثيرَ من الأفكار الفيزيائية التي كنتُ أبدأ بالتأريخ لها، وقليلةٌ جدًّا تلك المراجع العربية التي كانت تُقدِّم لنا قصةَ تطوُّر فكرة من البداية وحتى النهاية.
وثمَّة أمرٌ نوَد الإشارة إليه تمَّت ملاحظته؛ وهو أن الفجوة الزمنية للاعتراف بالأعمال العلمية من قِبَل المجتمع العلمي نفسه كانت تضيق كلما اتجهنا نحو القرن التاسع عشر؛ فبينما كان الاعترافُ بأعمال اليونانيين والعرب يستغرق مئات السنين في عصور ما قبل الميلاد والوسطى، بات يستغرق عشراتِ السنين بعد عصرِ النهضة الأوروبية، ولهذا دلالته؛ فانتشار الطباعة وتوفُّر وسائل الاتصال والاهتمام بالمؤسسات العلمية ودعم البحث العلمي كل ذلك كان يؤثِّر على تضييقِ هذه الفجوة.
وقد يقول البعض: ما لنا واليونان والغرب، لماذا لا نبدأ بالمرحلة العربية وصعودها وننتهي بانحدارها؟
- الأول: مدى تأثُّرهم أو عدم تأثُّرهم بالفكر العلمي العربي وأسباب هذا التأثُّر.
- والثاني: يكشفُ لنا عن طريقة تفكيرهم إزاء الظاهرات الجديدة التي كانت حَجَر عَثْرة أمام تقدُّمهِم.
سنترك الكِتاب يُجيبنا بما تَوصَّلنا إليه من نتائجَ مُهِمَّة عن إسهامات العلماء العرب والمسلمين في مجال علم الحرارة، والتي كانت غائبةً لزمنٍ طويل فيما تبقَّى من أثَرٍ مخطوط.
أسأل المولى — عزَّ وجل — أن أكون قد وُفِّقتُ في الكشف عن جهود هؤلاء العلماء الذين نفخر — وسنَبقَى نفخَر — بانتمائنا لهم، وانتمائهم لحضارتنا.
والله ولي التوفيق.
حلب، ٢٠١٩م
(١) تاريخ علم الصوت/صدر عن مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ٢٠١٢م.
(٢) تاريخ علم الميكانيك/صدر عن دار الكتب العلمية، ٢٠١٧م.
(٣) تاريخ علم البرودة/صدر عن جامعة دمشق، ٢٠١٨م.
(٤) تاريخ علم الأرصاد الجوية/صدر عن دار طلاس، دمشق، ٢٠١٩م.
(٤) تاريخ علم القياس/سيصدر عن دار أروقة، عمَّان، ٢٠١٩م.
(٥) تاريخ علم الفيزياء الفلكية/سيصدر عن وزارة الثقافة، دمشق، ٢٠١٩م.