مقدمة
استغرقَت رحلةُ البحث للإجابة عن السؤال المطروح في عنوان
هذا الفصل قرونًا طويلة، ومماحكاتٍ فكرية كثيرة، حتى تم الوصول
إليها؛ فالناس في البداية كانت الحرارة تعني لهم مجرَّد ظاهرةٍ
حسية يتلمَّسون أثَرها في الدفء والطعام الناضج والحماية من
الوحوش المفترسة. وبقي الحال على ما هو عليه حتى ظهَرَت فئةٌ
من الناس التي تفكِّر — وهذا ما لمسناه في مرحلة التحضُّر
والمدنية أكثر من مرحلة الرعي والتنقُّل — وغيَّرَت من نظرتها
للظاهرة، وتعاملَت معها بشكلٍ أكثر عقلانية.
إنَّ تحديد تعريف مفهوم الحرارة من قِبَل العلماء والباحثين،
هو الذي يضع إطارًا للتعامل معها؛ إذْ نُعرِّف اليومَ الحرارةَ
بأنها شكلٌ من أشكال الطاقة المُنتقلة عَبْر حدود المنظومة،
وذلك نتيجةً لوجود فروقاتٍ في درجة الحرارة عَبْر الحدود.
١ وفي أحدَث تعريفٍ للحرارة قَدَّمَه الباحثان
بلونديل
Blundell بأنَّ
«الحرارة هي طاقة في حالة عبور».
٢ ويقصدان ﺑ «حالة العبور
in
transit» انتقالَ الطاقة، بخلاف حالة مكوث
الطاقة التي تكون في جُزيئات المادة نتيجة ارتباطها مع بعضها.
ويرى ستان جيبلسكو
S.
Gibilisco أنَّ الحرارة في حقيقتها نوعٌ خاص
من انتقال الطاقة التي يُمكن أن تنتقل من جسمٍ مادي لآخر، أو
من مكانٍ لآخر؛ أي إنَّ الحرارة «ليست طاقة».
٣
لكن تعريفات الحَرَارة قبل ذلك تختلف عن تعريفنا الحالي لها.
وهذا هو هدفنا من هذا الفصل؛ إذْ سنبحث مختلف التعريفات التي
بحثَت في طبيعة الحرارة منذ أقدم العصور، وحتى نهاية القرن
التاسع عشر، قبل أن وصَلْنا إلى معرفتها حاليًّا في إطار مفهوم
الطاقة.
المبحث الأول: اليونانيون
التفت اليونانيون إلى مفهوم الحرارة منذ القرن السادس قبل
الميلاد، فالكرة النَّارية المُحيطة بكرة الهواء أصلها من
الحرارة، كما اعتقَد بذلك كلٌّ من أنكسمندار وبارمنيدس، ثم قال
أفلاطون باندماج الحرارة واليبوسة لتشكيل النَّار، لحق به
أرسطو الذي أرسى فكرة العناصر الأربعة والعنصر الخامس
(الأثير)، لكنه انتقد تفسيرات الذرِّيِّين للحرارة، وأنه يُمكن
تفسير هذا المفهوم انطلاقًا من نظريته في القوة والفعل. لكن
لوكريتوس لم يتفِق معه، واعتَبَر أنَّ الحرارة تحلُّ في الجسم
الحار، وتنفصل عن الجسم البارد كالروح والجسد.
لكننا سنجد أنَّ التعريف الذي صَمَد وتمَّ اعتماده في
النِّهاية هو تعريف أرسطو للحرارة بأنها تجمُّع الأجزاء
المتجانسة مع بعضها في المادة.
أنكسمندار (القرن ٦ق.م.)
لقد رفض أنكسمندار
Anaximander (تُوفِّي
٥٤٧ق.م.) أنْ يكون الماء مبدأً أول لوجود المادة في
الطبيعة؛ فالماء استحالة للجامد إلى سائل بالحرارة، وهكذا
فإنَّ حالة الحار والبارد سابقةٌ عليه.
٤ وكان يُعتقَد أن الحار ضد البارد، وهما الضدان
الأصليان للأبيرون
Apeiron
(أو أصل الأشياء اللامحدود)، ومنهما نشأَت الأضداد الأخرى
التي نعرفها، وهذا يعني أنَّ الأبيرون مزيجٌ مُتعادل من
الحار والبارد، وليس من كل الأضداد والصفات مُستقلةً عن
الحار والبارد.
٥ وكان — حسب أنكسمندار — أول ما انفصل عن هذا
المزيج هو الحار والبارد؛ حيث تصاعَدَ البخار بفعل الحار،
وتشكَّل من هذا البخار الهواء. أمَّا الرَّاسب فيَبِس
بالتدريج، فكان منه البحر ثم الأرض، وأصبح الحار بعد ذلك
كرةً ناريةً حول الهواء كما تتكوَّن القشرة حول الشجرة، ثم
تمزَّقَت هذه الكرة النارية فتناثَرَت أجزاؤها، ودخلَت
أسطواناتٌ هوائية مبطَّطة هي الكواكب تشتعل فيها النار
وتبدو لنا من فُوَّهاتها، فكل ما نراه من وجوه القمر ومن
كسوفٍ وخسوفٍ ناجم إمَّا عن انسداد الفُوَّهات كليًّا أو جزئيًّا.
٦
لقد كانت أفكار أنكسمندار قويةً جعلَت من بارمنيدس
الإيلي (تُوفي ٤٤٥ق.م.)
Parmenides of
Elea يتبنَّاها، واعتَبر أنَّ أصل الوجود
هو الحار والبارد، أو النور والظلمة، وعن هذَين المبدأَين
ينشأ الوجود.
٧
أفلاطون (القرن ٤ق.م.)
أفكار أفلاطون
Plato
(تُوفي ٣٤٧ق.م.) حول مفهوم الحرارة نجدها في (روابيع
أفلاطون)، والتي عَلَّق عليها أحمد بن الحسين بن جهار
بختار (القرن ٣ﻫ/٩م)، لكن شروحات أحمد لم تخرج عن نظرية
العناصر الأربعة الأرسطية؛ ففي الرابوع الرابع من قول
أفلاطون «ومن التركيب واليبس تولد الحرارة … إلى أن قال:
ومن التركيب والرُّطوبة تولد البرد».
٨ فقال أحمد مُفسِّرًا ذلك بشكلٍ مقتضب،
مُعتبرًا أنَّ لديه القدرةَ على التوسُّع في الشرح لكنه
يخشى الإطالة: «إن الحر أخو اليبَس، والبرد أخو الرطوبة،
فيقول الفيلسوف إن التركيب الواقع واليبس تولد الحرارة،
وبالرُّطوبة والتركيب تولد البرد، ولو قد أخرجتُ ما
تكَلَّم به الفيلسوف مما يثبت كون الطبيعة وتولُّدها وفي
توليد الجواهر على الدرجات ومناظرته للمُجادلين له، لطال
الكلام واشتغل عن المقصود في هذا الكتاب.».
٩
ونحن نقول ليته فعلَها وشرح لنا أكثر من ذلك لنعرف أكثر
ما كان يُفكِّر به أفلاطون، أو ما لديه هو من مَعَارفَ
سائدةٍ في عصره.
أرسطو (القرن ٤ق.م.)
تناول أرسطو
Aristotle
(تُوفِّي ٣٢٢ق.م.) مفهوم الحرارة في كتابه (الكون
١٠ والفساد) وقد عَرَّفها بأنها التي تَجْمَع ما
بين الجواهر المُتجانسة، وتفرِّق المُختلفة؛ لأنَّ التفريق
الذي يُقال عن النَّار أنَّها تفعَله، إنَّما هو في حقيقته
تركيب الأشياء التي هي من نوعٍ واحد، ما دام الذي يحصل هو
أنَّ النار تُخرِج الجواهر القريبة وتنقِّيها، والبرودة ضد
ذلك تجمَع وتركِّب على السواء الأشياء المُتجانسة وغير المُتجانسة.
١١ هذا التعريف للحرارة سَيتَبنَّاه عددٌ لا بأس
به من العلماء العرب والمسلمين لاحقًا، وسيعتمدون عليه في
تفسيراتهم العلمية في الطبيعيات عمومًا.
ويعتبر أرسطو أن الكيفيات الأخرى الثانوية هي التي تتولد
عن الأوَّلية، وتأتي الحرارة والبرودة في طليعة الكيفيات
المؤثِّرة الفاعلة، يقول: «وأمَّا الكيفيات الأُول وهي:
الحرارة، والبرودة، والرُّطوبة، واليبوسة. وأمَّا التالية
لها فالمُتولدة عن هذه الأربع، فالحرارة والبرودة من
الكيفيات الأولى فاعلةٌ قوية، والرطوبة واليبوسة ضعيفةٌ
مُنفعلة بمنزلة المادة لتلك.»
١٢
الحار والبارد والجاف والرَّطب هي مصطلحات؛ فالزَّوج
الأول منها يدلُّ ضمنًا على القدرة على التأثير والزوج
الثاني على التأثُّر. إن الحارَّ هو ذاك الذي يضمُّ
الأشياء من النوع نفسه (مقابل التفكيك الذي يعزوه النَّاس
إلى النَّار بوصفه عملَها، يكون ضم الأشياء من النوع نفسه؛
نظرًا لأنَّ تأثيره يكون إقصاءَ ما هو غريب)، في حين أنَّ
البارد هو ذاك الذي يضُم الأشياء المُتجانسة وغير
المُتجانسة على قدم المساواة.
١٣
ديموقريطس (القرن ٤ق.م.)
مضى زعيم الذرِّيين ديموقريطس
Democritus (تُوفي
٣٨٠ق.م.) أبعدَ من أن يقترح تغيُّر شكل الذرَّات حسب
الحرارة؛ فقد فسَّرَ الطَّعم الحار أو الحرِّيف الذي
نُصادفه في الفلفل الأحمر بأنَّه يملك شكلًا له زوايا
حادَّة تُمكِّنه من اختراق الجسم، وتوليد الحرارة فيه، فهو
«ملتوٍ كثيرًا، وأيضًا صغير ورفيع، بسبب صفته الواخزة (أو
النَّافذة) فإنه ينسابُ بسرعةٍ في كل مكان ولكونه خشنًا
وذا زوايا [حادة] فإنه يتقدَّم تدريجيًّا وباطِّراد إلى
الدَّاخل ويعوق البقية. بهذه الطريقة فإنه يُسخِّن الجسم
بإحداث فسحاتٍ فارغة فيه؛ لأنَّ حرارةً أكثر تنتُج حيثُ
تُوجد فسحة فارغة أكثر. الحلو يتشكل من ذرَّاتٍ كُروية،
والتي تكون كبيرةً إلى حدٍّ بعيد، بسبب ذلك فإنه يُرخي
الجسم تمامًا عندما يمُر عَبْره برفق وعلى نحوٍ غير سريع.»
١٤ وكان ديموقريطس يعتقد مع ليوسيبوس
Leucippus (القرن ٥ق.م.)
أن الحرارة تخترقُ جميع الأجسام تقريبًا، حيث إن لكل جسمٍ
مسامَّ خالية يستطيع جسمٌ آخر أن ينفُذ منها.
١٥
ستراتون اللمباسكي (القرن ٤ق.م.)
فسَّر ستراتون اللمباسكي
Straton (القرن ٤ق.م.) —
متأثرًا بأرسطو كثيرًا — الظاهرات تفسيرًا طبيعيًّا بحتًا،
بحيث إنه أرجعها إلى مبدأَين هما الحار والبارد، وجعل
الحار منهما مبدأً فَعَّالًا
١٦ في غيره.
أفلوطين (القرن ٣م)
يرى أفلوطين
Plotinus
(تُوفي ٢٧٠م) أنَّ «عمل النار [هو] أن تولِّد الحَرَارة؛
و[الجسم] الذي يُصبح حارًّا ينبغي ألا يكون حارًّا من
تِلقاء ذاته، فإذا أتلفَت النَّارُ شيئًا، وجب أولًا أن
يُصبح حارًّا، وأن يُصبح في حالة الحرارة قَسْر طبيعته.»
١٧ وكان يرى أنه إذا صارت الحرارةُ في حرارةٍ
أخرى ضعُفَت.
١٨ ولا نعلم من أين جاء باقتراحه الأخير، هل هو
من التجربة أم من التخيُّل، أم أخذَه عن أحد!
المبحث الثالث: العلماء العرب والمسلمون
اجتمَع أمران في بلاد العرب؛ الحرارة الشديدة، والثراء
اللغوي الهائل؛ لذلك لن نستغرب أن تأتي ألفاظُهم المُتعلقة
بالحَرَارة غَنِيَّة غنىً لم نجده لدى أية أمَّةٍ سابقة أو
لاحقة؛ إذْ يزخر قاموس مفردات الإنسان العَربي بالكلمات التي
ترتبط بالحرارة سواء من ناحية درجاتها، أو أنواعها أو تغيُّرها
مع الزمان والمكان. ويرى الباحثُ عابد الجابري
أنَّ «اللغة لا تعكس الظروف
الطبيعية وحسب، بل تحملُ معها هذا الانعكاسَ نفسَه لتنشُره على
أمكنةٍ وأزمنةٍ مُختلفة، فتكون بذلك عاملًا أساسيًّا، وأحيانًا
حاسمًا، في تحديد وتأطير نظرة أصحابها إلى الأشياء.»
٢١
جاء في معجم العين — وهو أول معجمٍ لغوي عربي — للفراهيدي
(تُوفي ١٧٢ﻫ/٧٨٦م): «حر: حَر النَّهار يَحِرُّ حَرًّا.
والحَرُورُ: حَرُّ الشمس، وحَرَّتْ كَبِدُه حَرَّةً، ومصدره:
الحَرَرُ، وهو يُبْسُ الكَبِد. والكَبِدُ تَحَرُّ من العَطَش
أو الحزن.»
٢٢
ووَرَد في تكملة المعاجم العربية للباحث دوزي: «حَرَّ:
يُستعمل بمعنى حار، يُقال اليوم حرٌّ أي اليوم حارٌّ واليومَ
الشمسُ حرٌّ؛ أي الشمس حارَّة اليوم. الأرض الحَرَّة: بمعنى
الحَارَّة والصواب فيه السوداء بدل السود.»
٢٣ وفي المعجم الوسيط: «حَرَارة: اسم فاعل من حرَّ،
والجمع: حُرُورٌ. والحَرَّارُ: صَانعُ الحَرير أو بائِعُ
الحَريرِ، وتأتي الحَرارة بمعنى: السُّخونة، وإذا أُضيف حرف
الجر (بحرارة) فإنها تعني: بعاطفةٍ مُلتهبة وحماسة، وإذا أضيف
كلمة حرارة إلى كلمة الشباب أصبحَت تعني: فورته واندفاعه،
وحَرَّ الرجُل: عَطِشَ، وشعر بالحرارة، وحرَّتْ كبدُه: يبسَت
من عطَش أو حُزْن، وحَرَّ النهارُ: اشتدَّ حرُّه، سَخُن،
ارتفعت درجةُ حرارته، وحرَّ الماءَ: سخَّنه، وحرَّ القتالُ:
اشتد، وحَرَّ الأرْضَ: سَوَّاها، وحَرتِ الْمَرْأَةُ: طَبَخَتِ الحَريرَة.»
٢٤
وفي «مقاييس اللغة» لابن فارس (تُوفي ٣٩٥ﻫ/١٠٠٤م):
الحرُّ«خِلَافُ الْبَرْدِ، يُقَالُ هَذَا يَوْمٌ ذُو حَرٍّ،
وَيَوْمٌ حَارٌّ، وَالْحَرُورُ: الريحُ الْحَارَّةُ تَكُونُ
بِالنَّهَارِ وَالليْلِ. وَمِنْهُ الْحِرَّةُ، وَهُوَ
الْعَطَشُ. وَيَقُولُونَ فِي مَثَلٍ: حِرةٌ تَحْتَ قِرَّةٍ.»
٢٥
وهذا يعني أنَّ دلالة
كلمة «الحرارة» لغويًّا تُفيد مُغَايرة البُرودة، وانتقال
الجِسْم نحو السخونة، بغض النظر عن المصدر الحراري، وإن
دَلَّنَا هذا الغِنى على شيء، فإنه يدُلنا على الفَهْم
العَمِيق لدلالة لمَفهوم الحَرَارة من قِبَل اللغويين
والنَّاطقين بلغة الضَّاد، ولذلك سيَكُون للعُلماء والفَلاسفة
والحُكماء العرب؛ فقد كانت لهم آراءٌ مُتطوِّرة جدًّا على
أفكار اليونانيين.
لقد بدأت دِرَاسة ظاهرة الحرارة من النَّاحية العلمية عند
العرب منذ القرن (٣ﻫ/٩م)؛ إذْ قدَّم لنا جابر بن حيان (تُوفي
٢٠٠ﻫ/٨١٥م) تعريفَه لعلم الحرارة، وهو أوَّل تعريفٍ موثَّق
تمكَّنَّا من العثور عليه. وعندما نقول إنه وضع «تعريفًا» فهذا
يعني أنَّه قام بعملية تحديدٍ لمعنى هذا العلم، وأنه بات لهذا
العلم قواعدُ مُحدَّدة مضبوطة يمكن تَعَلُّمها ومُمَارستها في
أي مكانٍ وزمان. ولم نجد من العلماء العرب والمُسلمين من أخذ
بتعريف جابر سوى إخوان الصفا (القرن ٤ﻫ/١٠م).
أمَّا بقية العُلماء فبَعْضُهم تأثَّر بمفهوم أرسطو كالكندي
(تُوفِّي ٢٥٦ﻫ/٨٧٠م) وابن سينا (تُوفِّي ٤٢٨ﻫ/١٠٣٦م) وسيف
الدين الآمدي (تُوفِّي ٦٣١ﻫ/١٢٣٣م) ونصير الدين الطوسي
(تُوفِّي ٦٧٢ﻫ/١٢٧٤م) والتفتازاني (تُوفِّي ٧٩٣ﻫ/١٣٩٠م)
والأحمد نكري (تُوفِّي في القرن ١٢ﻫ/١٨م). وبعضُهم حاول شرح
الظَّاهرة بطريقته الخَاصَّة بشكلٍ مُسْتقل عن التأثُّر بأرسطو
مثل أبي علي الجُبَّائي (تُوفِّي ٣٠٣ﻫ/٩١٥م) والفارابي
(٣٣٩ﻫ/٩٥٠م) وابن ملكا البغدادي (تُوفِّي ٥٦٠ﻫ/١١٦٥م) وابن رشد
(تُوفِّي ٥٩٥ﻫ/١١٩٨م) وفخر الدين الرازي (تُوفِّي ٦٠٦ﻫ/١٢٠٩م)
وابن كمونة (تُوفِّي ٦٨٣ﻫ/١٢٨٥م) والجلدكي (تُوفِّي
٧٤٢ﻫ/١٣٤٢م) والإيجي (تُوفِّي ٧٣٥ﻫ/١٣٥٥م). وهذا الفريق حاوَلَ
أن يُبرِز رأيه النَّاقد وشخصيَّته العلمية من جوانبَ أخرى لم
يتطرَّق إليها التعريف الأرسطي للظاهرة الحرارية.
خالد بن يزيد (القرن ١ﻫ/٨م)
يُعتبَر الأمير خالد بن يزيد بن معاوية (تُوفِّي
٨٥ﻫ/٧٠٤م) من أوائل العرب الذين اهتمُّوا بالعلوم الطبيعية
حتى إنَّه لُقِّب ﺑ «حكيم آل مروان». ويروي ابن النَّديم
(تُوفِّي ٣٨٤ﻫ/١٠٤٧م) أنه وجد لخالد «كتاب الحرارات»،
٢٦ والمؤرخ
فؤاد سزكين لم يأتِ على أي شرح أو تحديد لمكان هذا الكتاب
في الجزء الرَّابع من كتابه (تاريخ التراث العربي/السيمياء
والكيمياء والنبات والفلاحة).
٢٧ قد يكون «كتاب الحرارات» من الكُتب التي
تَمَّت ترجمتُها للعربية عن لغةٍ أخرى لا نستطيع تحديدَ ما
هي، أو مِن مؤلفاته الخاصَّة، لكن ابن النديم لا يُقدِّم
لنا شيئًا عن محتويات هذا الكتاب لتقييم أفكاره، مع أنَّ
العنوان يدلُّ بحديثه عن الحرارات بصيغتها الجمعية، والتي
رُبَّما تُستخدَم في مجال الكيمياء؛ كونَه من أوائل
العُلماء العرب والمسلمين الذين ركَّزوا كثيرًا على هذا
المجال.
جابر بن حيان (القرن ٣ﻫ/٩م)
وضع جابر بن حيان للحرارة بوصفها مفهومًا
تعريفَين:
الأول عامٌّ بأنها «غليان الهيولى، وهي حركتها في الجهات كلها.»
٢٨ وهو لا يُشبه بأي شكل تعريفَ أرسطو. والآخر
خاصٌّ يتعلق بالمعالجة الكيميائية للمواد، حيث تُسلط
الحرارة على المادة حتى تُصبح جسمًا شَفَّافًا له بريقٌ
أحمر شديد الحُمْرة والنَّقاء، يقول جابر: «أما حدُّ
الحرارة في التدابير أن يبلغ بها إلى أن تَصِير جسمًا
شَفَّافًا، له بريقٌ أحمرُ شديد الحمرة، صافيًا غير كمد.»
٢٩
وفي كلا التعريفَين نجد خروجًا واضحًا عن الفكر
اليوناني، والبدء بالتحضير لمرحلةٍ تأسيسية جديدة سيبني
عليها جابر تعريفه لعلم الحرارة. وبذلك رُبَّما يكون جابر
أول من طرح تعريفًا ﻟ «علم الحرارة» فهو العلم الذي يبحثُ
عن طبيعتها والأثَر الذي تُحْدِثه، والسبب الذي أدَّى إلى
توليدها، وهو أدقُّ وأقدمُ تعريفٍ علمي عربي نجدُه في
الوثائق الموجودة بين أيدينا، يقول جابر: «وحَد علم
الحرارة هو العلمُ بجوهرها وأثَرها وما تأثرَت منه إذا كان
عِلمًا بها على التفصيل، فأما إذا كان عِلمًا بها على
الجملة فهو العِلمُ بأثَرها الخاصِّ بها.»
٣٠
علمًا أنَّ علم الحرارة في أوروبا لم يتأسَّس إلا في عقد
الستينيات من القرن الثامن عشر الميلادي،
٣١ أي بعد حوالي تسعة قرون من جهود جابر بن حيان،
وهو تلكُّؤ علمي أخَّر تَقَدُّم البشرية كلها، لا نجد له
أي مُبرِّر.
على العموم هذا العمل التأسيسي لعلم الحرارة الذي قام به
جابر، لم يكن ضربًا من العبث بالكلمات أو الكلام الفلسفي،
وإنما تمهيدٌ نَظَري لنظرية جابر في قياسِ وضبطِ كمية
الحرارة، سواء تلك الموجودة بحالتها العنصرية داخل المادة،
أو التي يتم استخدامها في معالجة المواد. وهو ما سيتم
مناقشتُه بشكلٍ مفصَّل في الفصل الثاني من الباب
الثاني.
الكندي (القرن ٣ﻫ/٩م)
عَرَّف الكندي الحَرَارة بأنَّها «عِلَّة جمع الأشياء من
جواهرَ واحدة، وتفريق الأشياء التي من جواهرَ مختلفة.»
٣٢ وهو كما نُلاحظ تعريفٌ أرسطي الصبغة دون أي
تغيير فيه، ولكن الكندي أدرك حالةَ ثبات الحرارة، وحالةَ
عدم ثباتها في المواد؛ فالحرَارَة تثبُت في النَّار لكنها
لا تثبت في الهواء، وكذلك فإن البرودة تثبُت في الأرض
لكنها لا تثبُت في الماء، ثم يُوضِّح الكِنْدي متى يُقال
للماء إنه بارد ومتى يُقال إنَّه حار، وكذلك الهواء، قال
الكندي: «والهواء، وإن سمَّيناه حارًّا، فليس بالثابت
الحرارة، بل الثابت الحرارة النار، والثابت البرودة الأرض؛
فأمَّا الماء فليس بثابت البرودة ولا الهواء بثابت
الحرارة. ولا يمكن أن يُقال لواحدٍ منهما بالقول المطلَق:
بارد، ولا حار، فأمَّا النار فيُقال لها بالقول المُطلق:
حارة؛ لأنَّها نهاية الحر، والأرض يُقال لها بالقول
المطلق: باردة؛ لأنها نهاية البرد. فأمَّا الماء فإنه
يُقال له الحالان جميعًا: أمَّا إحداهما فبطبعه وما يعرض
له، وهي عنصره، فيُقال له: بارد بالطبع، إذا أُضيف إلى
الهواء؛ وأما الأخرى فبعرض، فيُقال له: حار، إذا أُضيف إلى
برد الأرض، وكذلك الهواء يُقال له بطبعه وما يعرض له: حار،
إذا أُضيف إلى الماء، وبارد: إذا أُضيف إلى النار».
٣٣
وقد أشار البيروني لقول الكندي السَّابق بعد حوالي ٣٠٠
سنة: «والطبيعيون بأَسْرهم مُجمِعون على تحديد الحَرَارة
والنَّار بأنها الجامعة للأشياء المتجانسة والمتفرِّقة بين
غير المتجانسة، ومثَّلَه الكندي شرحًا، فقال: من خاصية
النار جمع أجزاء كل واحد من الأجساد المعدنية جملةً واحدة
محدودة، وتفريق الممتزجة منها إذا اختلفَت جواهرها؛ لأنها
تحرق ما لاقت في قدْرٍ من الزَّمان، فإذا لاقَتهما
مُمتزجَين قبلَت على إحالة أضعافهما بالإحراق حتى تُفنِيَه
ويبقي الأقوى.»
٣٤
أبو علي الجُبَّائي (القرن ٤ﻫ/١٠م)
كان أبو علي الجُبَّائي (الأب) يقول — كما قالت المعتزلة
من قبلُ — إنَّ الثقل هو الثقيل والخفَّة هي الخفيف و«إنما
يكون الشيءُ أثقلَ بزيادة الأجزاء.»
٣٥ وقوله هذا كان ردًّا على بعض من قال بأنَّ
الثقل غير الثقيل والخفة غير الخفيف، مثل أبي الحسين
الصالحي (تُوفِّي ٤٣٦ﻫ/١٠٤٤م)، الذي اتفَق معه أبو هاشم
الجُبائي (الابن) الذي قال بأنَّ الثقل عَرَضٌ يحلُّ في
الجسم فيصبح ثقيلًا، كما يحل اللون أو الحرارة بالجسم.
٣٦ وهي مقولة كما نُلاحظ تتَّفِق بشكلها العامِّ
مع فكرة لوكريتوس التي تُشبِّه الحرارة بالروح التي تحلُّ
بالجسد؛ وعلى هذا فإنَّ الحرارة وفق آراء المعتزلة مجرَّد
ظاهرةٍ عرضية تأتي للجسم من خارجه من مصدرٍ ما، وما إن
يتوقف ذلك المصدر فإن الحرارةَ تَرحلُ عن ذلك
الجسم.
الفارابي (القرن ٤ﻫ/١٠م)
يُعرِّف أبو نصر الفارابي الحرارة بشكلٍ عامٍّ بقوله:
إنها «المبدأ الأول الذي هذا الجسم المركَّب به فعله»، فهو
يعتبر أنَّ الجسم المركَّب، مثل جسم الإنسان، لا يمكنه أن
يقوم بعمله دون وجود الحرارة، ومن الناحية الفيزيولوجية
يُميِّز الفارابي بين نوعَين من الحرارة في جسم الإنسان؛
إحداهما يكون مصدرها القلب، الذي يكفي نفسه والأعضاء
الأخرى، ولا يستطيع أي عضوٍ أن يُغير من حرارته دون
الاستعانة بحرارة القلب، يقول في ذلك: «الحرارة الأُولى هي
بالقوة حراراتُ جميعِ الأعضاء في القلب، وهي الحرارة
المشتركة للأعضاء كلها.» و«حرارة القلب هي الحرارة
المُشتركة للأعضاء كلها، والقلب مكتفٍ في أفعاله بحرارته
هذه غير مفتقرٍ إلى غيره في أن يستفيد عنه الحرارة، وكل
واحدٍ من الأعضاء مُفتقِر إليه في أن يُعدِّل حرارته.»
٣٧
أمَّا النوع الثاني فهي الحرارة التي تُساعد على هضم
الطعام ودمج مكوِّنات الهضم في بنية العضو، وهي التي
يُسمِّيها بالحرارة الغريزية، و«الحرارة الغريزية هي التي
بها يتماسك اتصال أجزاء الجسم، فتطبخ القوة الغاذية التي
تخصُّ ذلك العضو الذي تحصل فيه، وتُنضِجه وتُنهِضه
وتُصيِّره جزءًا مشابهًا لسائر أجزائه.»
٣٨
إخوان الصفا (القرن ٤ﻫ/١٠م)
تبنَّى إخوان الصفا تعريف جابر بن حيان للحرارة، «فإن
قيل: ما الحرارة؟ فيُقال: غليانُ أجزاء الهيولَى، فإن قيل:
ما البرودة؟ فيقال: جُمود أجزاء الهيولَى.»
٣٩ لكن دون أية إضافةٍ جديدة عليه.
ابن سينا (القرن ٥ﻫ/١١م)
نجد في البداية أن ابن سينا يُعَرِّف الحرارة أنها
«كيفيةٌ فعلية محرِّكة لما تكون فيه إلى فوق لإحداثها
الخِفَّة فيعرض أن تجمع المُتجانسات وتفرِّق المختلفات،
وتُحدِث تخلخُلًا من باب الكيف في الكيف، وتكاثفًا من باب
الوضع فيه لتحليله وتصعيده اللطيف.»
٤٠ وهو كما نلاحظ لا يُعدُّ أكثر من تعريفٍ
موسَّع عن تعريف أرسطو. لكنه في موقعٍ آخر يضع رأيًا آخر
في هذا التعريف، فقد يكون للقول السابق حالاتٌ استثنائية
لم يناقشها أرسطو، ويضرب على ذلك بعض الأمثلة: «إنَّ
الحرارة ليست إنما تفرِّق المختلفات، بل قد تفرِّق
المتشاكلة، كما تفعل بالماء، فإنها تفرِّقه تصعيدًا،
وأيضًا فإن النار قد تجمع المختلفة، فإنها تزيد بياض البيض
وصفرتها تلازمًا، ثم بالحقيقة، ولا أحد الفعلين لها فعل
أول؛ وذلك لأن فعلها الأول تسييل الجامد من الرطوبات
بالبرد وتحليله، ثم تصعيده وتبخيره.»
٤١
هبة الله بن ملكا البغدادي (القرن ٦ﻫ/١٢م)
مع ابن ملكا بدأنا نشهدُ تغيُّرًا آخر في فهمِ ظاهرة
الحرارة؛ ولذلك فإنَّه سيُقدِّم لنا تعريفًا جديدًا يختلف
عن التعريف الذي قدَّمه جابر؛ إذْ يقول إنها «حالةٌ بسيطة
مُدرَكَة بحس اللمس، معروفة عند المدرك والمُسمَّى من
المُدركات الأُوَل التي لا تحتاج أن تُعرَّف بغيرها في
حدٍّ ولا رسم.»
٤٢ فقد جعل من الحرارة حالةً مادية بسيطة غير
مركَّبة من غيرها من المحسوسات، نتعرَّف عليها بوساطة حاسة
اللمس، والتي تُعرف بشكلٍ بديهي لا تحتاج لأي شيء يُعرِّف
بها، فمتى أخبرَتْنا حاسة اللمس أن ثمَّة جسمًا حارًّا
فهذا يعني أنَّ فيه حرارة، سواء كان هو منبع الحرارة أو
أنه قد اكتسبها من منبعٍ آخر، بالمُجمل جعل ابن ملكا من
مفهوم الحرارة ما يُمكن إدراكُه من سخونة الجسم أو برودته،
حسب ما يُقرِّره المنهج الذاتي في القياس.
ابن رشد (القرن ٦ﻫ/١٢م)
عالج ابنُ رشد مفهومَ الحرارة من الناحية الطبية أكثر
مِمَّا ركز على الجانب الفيزيائي، وقد قسَّمها إلى قسمَين؛
«طبيعية وغريبة، وإن الكون إنما يكون بالحرارة الطبيعية
والفساد بالغريبة.»
٤٣ أي يكون حدوثُ الأجسام بوجود الحرارة المناسبة
لوجودها، ويكون خرابُها نتيجة تعرُّضها لحرارةٍ خارجية،
فالحرارة الطبيعية هي حرارة جسم الإنسان الذاتية، أمَّا
الحرارة الغريبة فهي التي يتأثَّر بها من الشمس، أو النار،
أو غيرهما من مصادر، يؤكِّد ذلك بقوله: «إنَّ الحرارة
حرارتان؛ حرارة مُلائمة، وحرارةٌ غريبة مستفادة من خارج.
وجميع الأجساد تعفن من الحرارة الغريبة، وإذا عفنَت كانت
هي أيضًا حارَّة بالحرارة الغريبة، باردة بالحرارة
الملائمة. وهذه هي حال أبدان سكان البلاد الحارة دائمًا.
وأمَّا البلدان المُعتدلة، في وقت الشتاء الحرارة الغريزية
أكثر، وفي وقت الصيف تكون الغريبة أكثر.»
٤٤
ويختلف مقدار الحرارة زيادةً أو نقصانًا بحسب مقدار
البرودة التي تمتزج بها؛ الأمر الذي يؤثِّر على الجسم
الحاوي لهذه الحرارة، وبرأي ابن رشد أن هضم الطعام يكون
لدى سكان البلاد الباردة أفضل من هضم الطعام لدى سكان
البلاد الحارة، يقول في ذلك: «الحرارة إنما تختلف بالأزيد
والأنقص، والأزيد والأنقص إنما يوجد لها بحسب ما يُخالطهما
من البرودة؛ إذْ كانت هي المعدِّلة لها حتى تكون مُلائمةً
للموجود التي هي حرارةٌ غريزية. وأيضًا فإن البرودة تحفظ
حرارة المكوَّن لئلا يتفشَّش ويتبدَّد؛ إذْ كان من شأنهما
ذلك ويُصيِّرها إلى باطن المكوَّن؛ ولذلك ما تكون هضوم أهل
البلاد الباردة أحسن من هضوم أهل البلاد الحارَّة، ويكون
الهضم في زمان الشتاء أقوى منه في زمان الصيف.»
٤٥
ويلزم أن يكون دومًا مع الحرارة رطوبة أو جفاف، فإذا
كانت الحرارة في الهواء لزمها رطوبةٌ هوائية، وإنْ كانت
الحرارة من النَّار لزمها الجفاف، والسبب في ذلك أنَّ
الرطوبة واليبوسة يُشكِّلان المادة الأولية للبرودة
والحرارة، والتلازم هنا تلازمٌ واجب وليس اختياريًّا، يقول
في ذلك: «إن كل حرارة تلزمها إما رطوبة وإما يبوسة، كما
يلزم ذلك في الأسطقسات الأربعة؛ فإن كانت الحرارة هوائيةً
لزمَتها رطوبةٌ هوائية، وإن كانت ناريةً لزمتها يبوسةٌ
نارية؛ لأنَّ الرطوبة واليبوسة هما هيولى الحار والبارد،
فكل حرارة أو برودة تلزمها إما رطوبة وإما يبوسة، يكون
قدومها في ذلك كقَدْر الحرارة والبرودة في ذلك، فإن كانت
حرارةً مُطْلقة لزمتها يبوسةٌ مطلقة أو رطوبةٌ مطلقة، في
حرارة النار والهواء، وإن كانت حرارةً غير مطلقة لزمتها
يبوسةٌ أو رطوبةٌ غير مطلَقة.»
٤٦
فخر الدين الرازي (القرن ٧ﻫ/١٣م)
ناقش الإمام فخر الدين الرازي مفهوم الحرارة بطريقةٍ
منطقية صورية، فقد بدأ بمقدِّمتَين عن الارتباط بين
الحرارة والجوهر، فالحرارة جزء من الجسم الحار، والجسم
الحار يتكون من ذرَّات؛ لذلك من المنطقي أن تكون الحرارة
جزءًا من الذرات المكوِّنة للجسم، لكن ليس على طريقة
ديموقريطس. وقد تكون الحرارة ظاهرةً عَرَضية على الجسم
تأتيه من خارجه، يقول في ذلك: إن «الحرارة جزء من الحار،
والحار جوهر، فالحرارة جزء الجوهر، وجزء الجوهر جوهر،
فالحرارة بالنسبة إلى الحار من حيث هو حارٌّ جوهر، لكنها
بالنسبة إلى الجسم القابل لها عَرَض فهي جوهر وعَرَض
بالنسبة إلى الأمرَين.»
٤٧
وبذلك يُحاول الإمام التوفيق بين الرأيَين القائلَين
بأنَّ الحرارة إمَّا أنها مُكتسَبة أو أنها داخلية في
الجسم نفسه.
سيف الدين الآمدي (القرن ٧ﻫ/١٣م)
لم يخرُج سيف الدين الآمدي عن التعريف الأرسطي للحرارة
«وأمَّا الحرارة فهي ما كان من الكيفيات يُفرِّق بين
المُختلفات ويجمعُ بين المُتشاكِلات.»
٤٨
نصير الدين الطوسي (القرن ٧ﻫ/١٣م)
أيضًا نصير الدين الطوسي كان مُتأثرًا بتعريف أرسطو
للحرارة «فالحَرَارة جامِعَة للمُتشاكِلات، مُفرِّقة
للمُختلفات، والبرودة بالعكس.» وقد عَلَّق شارح كتاب
«تجريد الاعتقاد» العلامة ابن المطهر الحِلِّي (تُوفي
٧٢٦ﻫ/١٣٢٥م) على كلام أستاذه الطوسي بأن: «الحَرَارة من
شأنها إحداث الخفة والميل الصاعد، ويحصل بسبب ذلك الحركة،
فإذا وردَت الحرارة على المركب وسخَّنَته طلب الألطف
الصعودَ قبل غيره لسُرعة انفعاله، فاقتضى ذلك تفريقَ أجزاء
المركَّب المختلفة، فإذا صَعِد الألطف جامَع مُشاكِله، فمن
ها هنا قيل: إنَّها تقتضي جمع المُتشاكِلات وتفريق
المُختلِفات، وأمَّا البرودة فإنها بالعكس من ذلك.»
٤٩
وبرأي الطوسي أنَّ مفهوم الحرارة يُطلَق على معانٍ
أُخْرى مُخالفة للكيفية المحسوسة باللمس، والتي سبق وأن
وقف عندها ابن ملكا البغدادي، فشرح ذلك الحِلِّي بقوله:
«أقول: لفظة الحرارة تُطلَق على معانٍ؛ أحدها: الكيفية
المحسوسة من حرارة النَّار، والثاني: الحرارة المناسبة
للحياة وهي شرط فيها وتُسمَّى الحرارة الغريزية، وهي
مخالفة لتلك في الحقيقة لأنَّ تلك مضادَّة للحياة والثانية
شرط فيها، والثالث: حرارة الكواكب النيِّرة وهي مُخالفة
لما تقدَّم.»
٥٠أي إن الطوسي اعتبر حرارة الكواكب النَّيِّرة
(كالشمسِ مثلًا) تختلفُ عن حرارة النار وليست من طبيعةٍ
واحدة، كما اعتبرها البعضُ، بل تختلف عنها، وكلٌّ منهما
يختلف عن الحرارة المتولدة في الجسم الحي.
ابن كمونة (القرن ٧ﻫ/١٣م)
قسم سعيد بن منصور بن كمونة الجسم الفيزيائي الذي يتحرك
حركةً مُستقيمة إلى قسمتَين؛
- الأولى: بصرية، من حيث قُدرته على تمرير
الضوء.
- والثانية: حراريَّة؛ فقد يكو حارًّا خفيفًا، أو باردًا
ثقيلًا.
لكنه لا يُوصلُنا لفهمه لطبيعة الحرارة نفسها، والذي
نعتقد أنه لن يخرج عن المفهوم الأرسطي؛ كونَه اعتمد نظرية
العناصر الأربعة الأرسطية، يقول: «وينقسم الجسم المذكور
بوجهٍ آخر إلى: حارٍّ خفيف، وباردٍ ثقيل. وقد سبق بيانُ
ذلك، وهذا الجسم إذا جاز انفصاله عن كلية نوعه، فهو قابلٌ
للحرق، وقبوله لذلك ولتركه إنْ كان بسهولة، فهو الرَّطب،
وإن كان بصعوبة، فهو اليابس. ونحن إذا تأملنا بسائط
الأجسام التي عندنا في عالم الكون والفساد، لم نجِدها
خارجة عن أربعة؛ الأرض، ويلزمها من التقسيم الأول الكثافة،
ومن الثاني البرودة والثقل، ومن الثالث اليبوسة، والماء،
ويلزمه من التقاسيم الثلاثة؛ الاقتصاد
٥١ والبرودة مع الثقل والرطوبة. والهواء، ويلزمه
من الثلاثة؛ اللطافة، والحرارة، والخفة، والرطوبة. والنار،
ويلزمها منها اللطافة والحرارة، مع الخفَّة، وفي يبوستها
أو رطوبتها شك.»
٥٢
أيدمر الجلدكي (القرن ٨ﻫ/١٤م)
أشار أيدمر الجلدكي إلى مفهوم الحرارة العنصرية في الجزء
الثاني من كتابه (غاية السرور في شرح ديوان الشذور)،
٥٣ وهي الحرارة التي لا تؤثِّر في العناصر
المُتَّحدة مهما بلغَت شدتها.
٥٤ وقد أشار أنَّ النار تتحوَّل إلى نور عندما
تفقد حرَّها ولهيبها؛
٥٥ وذلك لأنَّ «أصل تكوين الحرارة من فيضان
الأنوار الهائلات وإشراقها وإبراقها على سائر المحسوسات.»
٥٦ أي إنه يُميِّز بين حرارة النار ونورها،
فالنار تصبح نورًا عندما تَفقِد حرارتها، وبذلك نتقبَّلُها
ونتمكَّن من الرؤية بوساطتها.
عضد الدين الإيجي (القرن ٨ﻫ/١٤م)
تناوَلَ عضد الدين الإيجي في بداية مُناقشتِه لموضوع
الحرارة مصادر الحرارة (النار، الشمس، الحركة)، لكنَّه
يُشير إلى أنه في جميع المصادر السَّابقة تكون الحرارة ذات
طبيعةٍ واحدة، يقول: «وأيضًا فالحرارة نوعٌ واحد، ثم
يُعلَّل فردٌ منها بالنار، وفردٌ بالشمس، وفردٌ بالحركة؛
فقد عُلِّلَت المُتماثلات بعللٍ مُختلفة مستقلة هي هذه
الأمور وحدها أو مأخوذة مع غيرها، لكن هذا المثال إنما
يصحُّ إذا كانت أفراد الحرارة مُتماثلةً مُتفقة في تمام
الماهية، وسنُنبِّه على عدم تماثُل أفرادها فيما بعدُ،
وإنما لم يُمثِّلوا بأفراد الحرارة النارية المستندة إلى
أفراد النار لعدم تعدُّد العلل ها هنا، فإن العلَّة طبيعة
النار، كما أنَّ المعلول طبيعة الحرارة، وإن اعتُبر
أفرادهما كان كلٌّ من العلة والمعلول متعددًا.»
٥٧
ثم يناقش الإيجي قول ابن سينا حول مفهوم الحرارة
وطبيعتها، فيقول: «قال ابن سينا: الحرارة تُفرِّق
المختلفات، وتجمَع المتماثلات، والبرودة بالعكس؛ وذلك أن
الحرارة فيها قوةٌ مُصعِّدة، فإذا أثَّرَت الحرارة في جسمٍ
مركَّب من أجزاءٍ مختلفة باللطافة، والكثافة، ينفعل اللطيف
منه أسرع فيتبادر إلى الصعود الألطف فالألطف دون الكثيف،
فيلزم بسببه تفريق المختلفات، ثم الأجزاء تجتمع بالطبع،
فإنَّ الجنسية علة الضم والحرارة معدَّة للاجتماع فنُسب إليها.»
٥٨
ويبدو من شرحه السابق عدم اتفاقه مع ابن سينا وأي شخص
يقول بهذا القول، وبالتالي عدم اتفاقه مع الطرح الأرسطي؛
وذلك لأنَّ القول بذلك يُجانِب الصواب حول حقيقة
الحرارة.
سعد الدين التفتازاني (القرن ٨ﻫ/١٤م)
تبنَّى سعد الدين التفتازاني التعريف الأرسطي لمفهوم
الحرارة، وقد عَرَّفها بأنها «كيفيةٌ من شأنها جمع
المتشاكلات وتفريق المختلفات، والبُرودة بالعكس،
والرُّطوبة بكيفية تقتضي سهولة الالتصاق والانفصال، أو
سهولة قبول الأشكال واليبوسة بالعكس، والتحقيق أنَّ في
الحرارة تصعيدًا، وإلا اللطف أقْبَلُ لذلك، فيحدث في
المركَّب الذي لم يشتدَّ التحام بسائطه تفريقُ الأجزاء
المُختلفة، ويتبعُه جمع المتشاكلات.»
٥٩
ثم بدأ بمناقشة أنَّ الحرارة مهما كان مصدرها مختلفًا
(من الشمس أو النَّار أو الحركة أو العضو الحي)، تبقى ذات
أثَرٍ واحد محسوس، يقول في ذلك: «وقد يُقال: الحارُّ إطلاق
الحرارة على حرارة النار، وعلى الحرارة الفائضة عن الأجرام
السماوية النيرة، وعلى الحرارة الغريزية، وعلى الحرارة
الحادثة بالحركة، ليس بحسب حينئذٍ اشتراك اللفظ على ما
يُتوهَّم لأنه كمفهومٍ واحد هو الكيفية المحسوسة المخصوصة،
وإن كانت الحرارات مُتخالفةً بالحقيقة، واختلاف المفهوم،
إنما هو في إطلاق الحار على مثل النار، وعلى الأجرام
السماوية التي تفيض منها الحرارة، وعلى الدواء والغذاء
اللذَين يظهر منهما حرارة في بدن الحيوان، وهو في كل
الكواكب والدواء والغذاء صفةٌ مُسَمَّاة بالحرارة الكيفية
المحسوسة في النار، أم ذلك توسُّع وإطلاقٌ للحار على ما
منه الحرارة، وإنْ يقم به معنًى مُسمًّى بالحرارة فيه تردُّد.»
٦٠
الأحمد نكري (القرن ١٢ﻫ/١٨م)
حتى القرن ١٨م بقي تعريف الحرارة عند القاضي عبد النبي
بن عبد الرسول الأحمد نكري أرسطيًّا فهو «كيفية من شأنها
تفريق المختلفات وجمع المتشاكلات، وعند الأطباء مرضٌ يحدُث
بتعفُّن الأخلاط، ولها أقسامٌ وتدبيراتٌ في كتبهم.»
٦١ دون أن يأتي بشيءٍ جديد على من سبَقَه، مع أن
الأوروبيين كانوا في القرن ١٨م قد قطَعوا شوطًا كبيرًا في
فهم طبيعتها، لكن يبدو أنه لم يكن هناك تبادلٌ ثقافي أو
تراجم لأبحاث الأوروبيين قد وصَلَته باللغة
العربية.
المبحث الرابع: الأوروبيون
كان على الأوروبيين الاستفادة مِمَّا قَدَّمه العلماء العرب
والمسلمين حول طبيعة الحرارة؛ إذْ أن إهمال الأفكار والمناقشات
التي قدمها الفريق العربي الناقد لمفهوم أرسطو (خصوصًا جابر بن
حيان)، جعلهم يعيدون البحث في الظاهرة من جديد في القرن
١٧م.
وقد تصارعت في أروقة العلم الأوروبي نظريتان حول تعريف
الحرارة انطلاقًا من طبيعتها؛ الأولى ترتكز على مفهوم «السيال
الحراري»، والأخرى ميكانيكية ترتكز على مفهوم «حركة الجسيمات»
داخل المادة لدى تعرُّضها لمصدرٍ حراري خارجي، وكان لكلٍّ
منهما أنصارُه وأدلَّته وتجاربه، كما كان الحال لدى البحث في
طبيعة الضوء هل هي جُسيمية أم موجية.
فرنسيس بيكون (القرن ١٧م)
لم يصل فرنسيس بيكون
F.
Bacon (١٥٦١–١٦٢٦م) إلى نتائجَ علمية
مُهِمَّة عندما حاول دراسة ظاهرة الحرارة على أساس البحث
عَمَّا يُسَمِّيه صورة الظاهرة؛ أي ماهيتها، عن طريق قوائم
أو جداول الحضور والغياب والتدرُّج.
٦٢
ذكر بيكون الحرارة في كتابه (الأورجانون الجديد) جدولًا
— على نحوٍ مُطابق لاقتناعه أنَّ قوانين العلم يجبُ
اكتشافها من خلال عددٍ كبير من المشاهدات النوعية — عن
مصادر الحرارة مثل: اللهب، البرق، الصيف، الوهج
المُستنقعي، والأعشاب العطرية التي تُسبِّب إحساسًا بالدفء
عندما تُهضم.
٦٣ لكِنَّه عَالج موضوع الحرارة في كتابه (أوهام
المسرح) وهي الأوهام التي تنشأ نتيجة للمذاهب الفلسفية.
٦٤ ويتألَّف هذا المنهج من تجميعٍ للوقائع
وتناولها على نحوٍ مُعين؛ لنفرض مثلًا أننا نبحثُ عن
عِلَّة الحرارة، فعلينا أن نُرتب «قائمة الحضور» بحيث
تتناول جميع الأمثلة المعروفة التي تُوجد فيها ظاهرة
الحرارة، ثم علينا أن نضع «قائمة الغياب» والتي نضع فيها
الحالات الجزئية التي تقابل تلك الحالات التي وضعناها في
«قائمة الحضور» بحيث تكون الحرارة فيها معدومة فيها؛ كما
أنَّه علينا أن نُرتِّب قائمة ﻟ «التفاوت في الدَّرجة»
بحيث تحوي على الحالات التي تُوجد فيها الحَرَارة بدرجاتٍ مُتفاوتة.
٦٥
وقد نتمكَّن من
خلال فحص القوائم أن نجد طبيعةً مولدة تتماشى مع النتيجة
أو الطبيعة المتولِّدة حضورًا وغيابًا وتَدَرُّجًا، عندها
نستطيع أن نَضَع تفسيرًا أو نتيجةً مبدئية، فنتوصل — على
سبيل المثال — أنَّ الحركة هي سبب الحرارة أو «صورتها».
قوائم بيكون هذه تُشبِه كثيرًا الطرائق التي وضعَها بعد
ذلك جون ستيوارت ميل
J. S.
Mill (١٨٠٦–١٨٧٣م) وهي: طريقة الاتفاق،
وطريقة الاختلاف، وطريقة التغيُّر النسبي.
٦٦
يمكننا إلقاء نظرة على القوائم التي أعدَّها بيكون
والمُتعلقة بالحرارة، لتكشف لنا طريقة تفكيره:
٦٧
- (١)
بالنِّسبة للحرارة التي تتولَّد نتيجة تماسِّ
الأجسام، فإنَّ الطبيعة الأساسية أو الأصلية
تُستثنَى، ويَعْني بالطبيعة الأساسية أو الأصلية
هي التي تُوجد في الأشياء ومُستقرة فيها، ولا
تنتقل إليها من طبيعةٍ غريبة عنها.
- (٢)
فيما يتعلق بالاتفاق والتطابق بين الآثار
المتشابهة، التي تؤثِّر بها الحرارة أو البرودة،
فإنَّ حركة الجسم في الجُملة تُستثنَى سواء كانت
في حالة تمدُّد أو انقباض.
- (٣)
فيما يتعلق بسهولة إحماء الأجسام من غير أن
تتلَف أو تتغيَّر بشكلٍ ملحوظ، فإن طبيعة التلف أو
الاتصال العنيف بطبيعة أخرى تُستثنَى.
- (٤)
تُستثنَى حركة الجسم الموضعية أو الامتدادية
فيما يتعلق بالهواء المحفوظ في الأوعية
الزُّجاجية، حيثُ يتمدَّد ولا ترتفع درجة الحرارة
فيه.
- (٥)
بالنسبة للحديد المُتَّقِد الذي لا يتضخَّم
حَجْمه، ويبقى في حدوده الأولى؛ فإن حركة الجسم
الموضعية أو الامتدادية في الجملة
تُستثنَى.
- (٦)
فيما يتعلَّق بالهواء الذي نشعرُ أنه أحيانًا
باردٌ مع أنه خفيف، فإن قلة كثافته تَستَثني
الخفَّة.
- (٧)
بالنسبة للذهب المُتَّقد والمعادن الأخرى، التي
تتصف بكثافةٍ عالية بشكلٍ عام؛ فإن الخفَّة
تُستثنَى منها.
- (٨)
لدى المُقارنة بين الحديد المُتَّقد ولهيب روح
الخمر؛ حيث يظهر أنَّ الحديد أكثر حرارة وأقل
لمعانًا، وأنَّ روح الخمر أقل حرارة وأكثر
لمَعَانًا؛ فإننا نستثني في هذه المقارنة الإضاءة
واللمعان.
- (٩)
بالنسبة لأشعة القمر وغيره من الأجرام العلوية،
عدا الشمس، فإننا نستثني الإضاءة واللمعان.
- (١٠)
فيما يتعَلَّق بالماء المغلي أو الهواء الحارِّ
أو ما يتعلق بالمعادن والأجسام الصلبة، التي
تتلقَّى الحرارة لكن إلى ما دون درجة الاتِّقاد
والاحمرار، فإننا نستثني الإضاءة واللمعان.
- (١١)
بالنسبة للحديد المُلتهِب وغيره من المعادن،
التي تُعطِي الأجسام الأخرى حرارة، ولا تفقد شيئًا
من وزنها ومادتها، فإننا نستثني الانتقال أو المزج
من مادة جسمٍ آخر فيه حرارة.
- (١٢)
بالنِّسبة للسخونة التي تَسْري من اقتراب
النَّار إلى جميع الأجسام على السواء — مثل
الأجسام والخضر وجلود الحيوانات، والماء والزيت
والهواء وغيره — فإننا نستثني الأنسجة الدقيقة،
والتركيب المميز في الأجسام.
- (١٣)
فيما يتعلق بالنار الشائعة — خصوصًا النار
الباطنية في جوف الأرض، وهي أبعدُ ما تكون وأشد
تفرُّقًا عن الأجرام السماوية — فإننا نستثني
الأجرام السماوية.
- (١٤)
بالنسبة لأشعة الشمس، فإننا نستثني طبيعة
العناصر؛ أي العناصر المعروفة عند
الأقدمين.
وهكذا بعد أن أعَدَّ بيكون تلك القوائم قام باستخدام
منهج الرَّفض أو الاستبعاد بهدف تعيين قانونٍ ما من خلال
استبعاد أو استثناء القوانين الأخرى المُعارضة له. وبخصوص
الحَرَارة فقد كان يرمي للكشف عن مصدر الحرارة أو سببها؛
ومن ثم يستبعد النَّظريات القديمة التي تتعارض مع قوائمه؛
حيث إنه استبعد النظرية القائلة بأنَّ الحرارة تأتي من
مصدرٍ خارج عن الأرض، فالأرض — وفقًا له — أحد مصادر
الحرارة طبقًا لقائمة الحضور التي لديه، واستَبعَد النظرية
القائلة بأنَّ الحرارة تتوقَّف على وجود عنصرٍ معين في
الجسم الحارِّ كالنار مثلًا، وهي أحد العناصر التي نادى
بها إنبيدوقليس
Empedocles
(تُوفِّي ٤٣٠ق.م.)، حيث إنه لدينا مصادر حرارة لكنها لا
تحوي عنصر النار. وبقي بيكون يستبعد عدةُ نظرياتٍ حتى وصل
إلى حلٍّ يتفق مع ما ورد في القوائم، وفي النِّهاية وصل
إلى أن الحرارة كائنةٌ في كل جسمٍ متحرك، وهي الحركة
المُمْتدة التي تشمل كل أجزاء الجسم؛ ومن ثم قال إنَّ
الحركة «صورة» الحرارة، وكما نلاحظ هنا أن بيكون قد أقرَّ
بأن للكون عددًا معينًا من الطبائع، كما أنَّه لا يميز بين
الصورة والطبيعة والعلة، فالكلمات الثلاث تُشير إلى أن ما
يبحث عنه العلم ويسعى إليه هو القانون العلمي.
٦٨ ومن ذلك كله يتوصَّل بيكون إلى تعريف للحرارة
بأنها «حركةٌ تمددية تتقيَّد وتصارع خلال جزيئات الأجسام.»
٦٩
روبرت هوك (القرن ١٨م)
عرَّف روبرت هوك
R. Hooke (١٦٣٥–١٧٠٣م)
الحرارة في كتابه (علم الرَّسم المجهري)
٧٠ فهي: «عبارة عن حركة مُستمرة لأجزاء الجسم …
ولا يُوجد أي جسم في الطبيعة يحوي على جسيماتٍ دقيقة ساكنة.»
٧١ «إنها اهتياجٌ بالغ الشدة والحِدَّة في أجزاء
جسمٍ مُعين»،
٧٢ إنها «لا شيء إلا الإثارة السريعة العنيفة
لجزيئات جسمٍ ما.»
٧٣ وقد أعرب إسحاق نيوتن
I.
Newton (١٦٤٢–١٧٢٧م) عن رأيٍ مُمَاثل في
كتابه (البصريات) عام ١٧٠٥م.
٧٤ ويُعَد تعريف هوك أحدَ أقربِ التعريفات
للتعريف الحديث للحرارة.
ميخائيل لومونوسوف (القرن ١٨م)
أكَّد الروسي ميخائيل لومونوسوف
M.
Lomonosov (١٧١١–١٧٦٥م) في بحثه المُعنوَن
(تأملات في سبب الحرارة والبُرودة) عام ١٧٤٥م، أنه لم يكن
يعترف بنظرية السيال الحراري التي شاعت وانتشَرَت في
أوروبا، وقال: «إنَّ الحرارة تعود إلى سببٍ واحد هو الحركة
الداخلية لدقائق المادة.»
٧٥
جون كارل فيلكه (القرن ١٨م)
كرَّس الباحث السويدي جون كارل فيلكه
J.
C. Wilcke (١٧٣٢–١٧٩٦م) جزءًا من وقته
للبحث في طبيعة الحرارة. وقد وجد أن آراء العُلماء لم
تُحدِّد سببًا مُعينًا للحرارة والبرودة، لكنه وجد من
المقبول وعلى نطاقٍ واسع جدًّا الافتراض أنَّ الحرارة
مادةٌ أولية سائلة غير ملحوظة، بحيث تكون معروفةً فقط من
خلال التأثيرات التي تُنتِجها، وقد دعاها فيلكه ﺑ «النار
Eld» أو «مادة النار
Eld-ämne». وافتراض أيضًا
بأنَّ كلًّا من الأجسام الصلبة والسائلة تُمارس انجذابًا
إلى هذه المَادَّة، أو بالأحرى جُسيمات المادة الصلبة تقوم
بذلك، إنها تنفُذ إلى مسام الأجسام وتُحيط بها وتلتصق
بجسيماتها الخارجية، وعند درجة التَّجمُّد تكون جُسيمات
الماء مُحَاطة بكميةٍ معيَّنة من المادة الأولية، التي
تُبقيها بعيدةً عنها وتُبقي عليها سيولَتها، وإذا أُضيفَت
أكثر، فإنَّ حجم الماء يزداد، بينما وجود «مادة النَّار»
الإضافية يُبيِّنه ارتفاعُ ميزان الحرارة. من ناحيةٍ أخرى،
فإن الكمية الأصغر تُسبِّب لجُسيمات الماء أن تدخل في
تماسٍّ فوري؛ حيث إن سطوحها تتجمَّع لتُشكِّل جليدًا
صلبًا، يُوضِّح فيلكه أفكاره عن جُسيمات الماء هذه
بمقارنتها مع عددٍ صغير من الأقراص الرقيقة الموضوعة
بالماء. بينما يُوجَد المزيد من الماء والأقراص القابعة
على قمة بعضها بعضًا يُمكن لها أن تنفصل بسهولة، لكن إذا
تمَّ سكب الماء، فإنَّ الأقراص المُلتصقة سوية بقوةٍ
كبيرة، تنفصل ثانيةً عندما يتم إضافةُ ماءٍ أكثر. عند درجة
حرارة ٧٢ من الحرارة التي يمتصُّها الثلج فقط فيه، تُصبِح
سائلًا يتوافق مع كمية الماء الكافي لفصلها فقط، وذلك
بالدخول بين الأقراص.
٧٦
أي إنَّ فيلكه كان من أوائل الدعاة والمبشِّرين بنظرية
السيال الحراري.
جوزيف بلاك (القرن ١٨م)
لعلَّ أهم إسهامات الفيزيائي والكيميائي الاسكتلندي
جوزيف بلاك
J. Black
(١٧٢٨–١٧٩٩م) هو تمييزه بين مفهومَي الحَرَارة ودرجة
الحرارة، وذلك من خلال تجربته على القُرص الحديدي
والمِقلاة المُمْتلئة بالماء، حيث قام بوضعهما في وقتٍ
واحد على منبعَين حراريَّين يُطلقان كميتَي حرارةٍ واحدة،
وبعد عشر دقائق وجد أنَّ القُرص قد سخن لدرجة لا يمكن لمسه
فيها، بينما الماء في المقلاة سخن بشكلٍ دافئ، وهذا يعني
أن مقدارًا واحدًا من الحرارة ينتج لدينا درجتَين
مُختلفتَين من الحرارة، ومنه استنتج أنَّ الحرارة هي كمية
من شيءٍ ما دون ريب، أما الاحترار أو السخونة فيدلُّ على
درجة حرارة ذلك الشيء.
٧٧
وقد أطلق بلاك على هذه الخاصيَّة اسم «القابلية
للحرارة». وبعدها اختار العلماء الرقم «واحد» بشكلٍ
اعتباطي كمقياس لقابلية الاحترار، وتُقارَن اليوم هذه
القدرة على امتصاص الحرارة مع المواد الأخرى مع هذا
الرَّقم، وتُدعى ﺑ «الحرارة النوعية
Specific heat»،
٧٨ وتوصَّل إلى أن لكل مادة «سعة حرارية»
heat capacity أو حرارةً
نوعية خاصة بها.
٧٩
يقول بلاك: «باستخدامنا لجهاز القياس هذا تعلَّمنا أنه
إذا أخذنا ألف نوعٍ أو أكثر من المواد المُختلفة كالمعادن،
والحجارة، والأملاح، والريش، والصوف، والماء، وبعض السوائل
الأخرى، تختلف «حرارة» كلٍّ منها عن الأخرى في بداية
الأمر، ووضعناها كلها في حجرةٍ واحدة غير مُدفَّأة ولا
تدخلها الشمس، نُلاحظ أنَّ الحرارة تنتقل من الأجسام
الأسخن إلى الأجسام الأبرد، وذلك في بضع ساعات أو يومٍ
واحد. وفي نهاية هذه الفترة الزَّمنية إذا قُمْنا بوضع
ميزان الحرارة على هذه الأجسام لوجدنا أنه يُسجِّل الدرجةَ
نفسها تمامًا.» وبذلك لم يكن بلاك ليقبل بالخلط بين كمية
الحرارة الموجودة في الأجسام وبين «شدتها أو قوتها العامة»
كما كان يصطلح على تسميتها.
٨٠
إذن نتيجة إضافة أو نزع الحرارة تتغيَّر درجة حرارة بعض
المواد تغيُّرًا موافقًا لنوعها، وتُعَد الحرارة النوعية
بمثابة العطالة الحرارية للمادة، والتي نُعَرِّفها بأنها
مقدار الحرارة اللازمة لتغيير حرارة كيلوغرام واحد من
المادة درجةً مئوية واحدة.
٨١
وقد أشار بلاك بأنَّ تمدُّد الأجسام بفعل الحرارة قد أدى
إلى الكثير من الافتراض بأنَّ الحرارة تزيد وزن الأجسام،
لكن تلك التجربة بيَّنَت الحقائق غير ذلك بالنسبة له،
وأضاف بأنه إذا اعتمدَت الحرارة على إضافة مادةٍ دقيقة
للأجسام، فإنَّ المادة «ليس لديها أي درجة جاذبية يمكن
إدراكها». غير ذلك، فإنَّ المُلاحظة بأنَّ الحرارة لم
تَزِد في وزن الأجسام كان اعتراضًا قويًّا على نظرية
كليغهورن، ومع أنَّها أعادت الكثير من الفلاسفة إلى وجهات
نظر فرنسيس بيكون، ودراساتٍ أخرى مالت إلى أن تظهر بأن
«الحرارة هي تأثير لمادةٍ أولية غريبة»، لكن اكتشافات بلاك
الخاصة به جعلَت من الصعب تجنُّب الاستنتاج بأن الحرارة
مادةٌ أولية، مع أن جميع التصوُّرات كانت فرضية ويجب
تجنُّبها «في استغراق الوقت الذي يمكن توظيفه أفضل في
تعلُّمٍ أكثر للقوانين العامة للعمليات الكيميائية.»
٨٢
هنري كافندش (القرن ١٩م)
عرَّف الفيزيائي البريطاني هنري كافندش
H. Cavendish (١٧٣١–١٨١٠م)
في بحث غير منشورٍ له اسمُه (دلالات حول نظرية الحركة)
الحرارةَ بأنها اهتزازاتٌ للأجسام الصغيرة والجسيمات
الموجودة في الأجسام الكبيرة لتجاربنا التي نُجريها. وهو
سبقٌ، وقاله هوك ونيوتن ومعاصروه كثيرًا قبل ذلك. لكن
كافندش ذهب إلى أبعدَ من ذلك بوساطة قيامه بالفهم
الميكانيكي لدقة الحساب الرياضياتي للحرارة، قال كافندش:
«الحرارة هي القوة الدافعة الميكانيكية لاهتزاز الجسيمات.»
حيث إنه ربط قانونه النظري للمصونية بقانونٍ تجريبي، وهو
القانون المُتعارَف عليه لدى وصل جسمَين حراريَّين غير
متساويَين، فإنَّ الحرارة المفقودة بالأول تساوي تلك التي
اكتسبها الآخر؛ أي يتلقى الجسم الأول «قوةً دافعة بقَدْر،
أو بكلمات أخرى، زيادة الحرارة مضروبة بكمية مادتها بحجم
فقدان الأجسام الأخرى، بحيث يبقى مجموع القوة الدافعة
الميكانيكية ثابتًا.»
٨٣
الكونت رمفورد (القرن ١٩م)
عندما حاول بنيامين طومسون أو كما يُعرَف باسم الكونت
رمفورد
Count Rumford
(١٧٥٣–١٨١٤م) أن يختبر فكرة الارتباط بين الحرارة والحركة
بتجربةٍ أخرى غير تجربة المدفع، قام عام ١٧٩٩م بوزن ماء
منصهرٍ عن ثلج، ووجد أنه يساوي وزن الثلج الأصلي، وبما أن
الثلج يستلزم كمية كبيرة من الحرارة لانصهاره، وجب أن يكون
وزن الماء أكبر من وزن الثلج وهذا يعني أن نظرية السيال
صحيحة. وكون النتيجة التي حصل عليها مُخالفةً للنظرية فهذا
يعني أن الحرارة لا وزن لها، ومضى اعتمادًا على ذلك لتعريف
الحرارة بأنها: «حركةٌ اهتزازية عنيفة لمكوِّنات الأجسام الساخنة.»
٨٤
جان بابتيست فورييه (القرن ١٩م)
مع حدوث الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩م تمكَّن جان بابتيست
فورييه
J. B Fourier
(١٧٦٨–١٨٣٠م) من دخول مدرسةٍ عسكرية، والتي سُمِّيَت فيما
بعدُ كلية الفنون التقنية المتعددة
Polytechnic ذات الشهرة
الواسعة في بواكير القرن التاسع عشر، وبعد التخرُّج بقي
كمدربٍ فيها، وقد أخذ نابليون بونابرت فورييه معه في حملته
المصرية وجعله بارونًا تقديرًا لاكتشافاته الرياضياتية
الكبيرة التي كانت ذات علاقةٍ بالتوصيل الحراري وحساب
مجالات درجة الحرارة؛ تلك الاكتشافات نُشِرَت أولًا في
نشرة العلوم
Bulletin des
Sciences عام ١٨٠٨م. وبعد ذلك العمل
الأول، واصل فورييه إنتاجه العلمي بنشاط، وفي النهاية
لخَّص عمل حياته في كتابه (النظرية التحليلية للحرارة)
٨٥ في عام ١٨٢٢م.
٨٦
العمل الأخير في
الأساس هو كتاب عن التحليل، ونرى فورييه فيه غير متأثِّر
تمامًا بأي تخميناتٍ بشأن طبيعة الحرارة، أو ما إذا كانت
الحرارة هي سيال حراري عديم الوزن أو شكل من أشكال الحركة،
يقول فورييه: «يُمكن للمرء فقط أن يكوِّن فرضيات عن
الطبيعة غير المرئية للحرارة، إلا أنَّ معرفة القوانين
الرِّياضياتية التي تحكم تأثيراتها مستقلة عن كل
الفرضيات.» صحيح أن تصريحات فورييه تُصاغ بجملٍ طويلة
وعتيقة الطراز مثل هذه: «إذا وقع جُسيمان بالقرب من جُسيمٍ
غير مُحدد ويملكان درجات حرارة مختلفة، فإنَّ الجسيم
الأكثر حرارة ينقل مقدارًا معينًا من حرارته إلى الآخر؛
وهذه الحرارة — المنقولة من الجسيم الأكثر حرارة إلى الآخر
الأكثر برودة في وقتٍ مُعَيَّن وخلال لحظةٍ مُعينة — تكون
متناسبة مع اختلاف درجة الحرارة، إذا كان هذا الاختلاف
يملك قيمةً صغيرة.»
٨٧
وبشكلٍ مُغاير للحُلم بطريقة نيوتن الوحيدة والمطبَّقة
على كل الكون، فإنَّ قوة وجاذبية عمل فورييه تقعان في
إطارٍ ضيق من التركيز الواعي والواضح. إنَّ نظرية الحرارة
عند فورييه ستبحث فقط فيما هو غيرُ قابلٍ للإحالة لقوانين
الميكانيكا: «مهما يمكن أن يكون مدى النظريات الميكانيكية،
فإنها لا تنطبق على تأثيرات الحرارة؛ إذْ يُشكِّل هذا
نوعًا خاصًّا من الظاهرات، الذي لا يمكن شرحه بمبادئ
الحركة والتوازن.» وقد بقي فورييه غيرَ واضحٍ بشأن الطبيعة
الماورائية الأساسية للحرارة، ومن ناحية التنظير، فإنه لم
يركِّز على اعتبارات الأسباب «العميقة».
٨٨
هرمان فون هلمهولتز (القرن ١٩م)
نشر الفيزيائي الألماني هرمان فون هلمهولتز
H. von Helmholtz
(١٨٢١–١٨٩٤م) في عام١٨٤٧م، بحثه عن الحرارة والطاقة،
وأورَدَ في بَحْثه هذا أنَّ الحرارة شكلٌ من أشكال الطاقة،
وحَظِيَت فكرتُه هذه بقَبولٍ سريع؛ فقد قال في عمله
الأوَّل عن الديناميكا الحرارية أو الترموديناميك (حول
مصونية القوة)
٨٩ الذي قرأه على الجمعية الفيزيائية في برلين:
ما دُعي حرارة هو أولًا القوة الحيَّة
life
force [الطاقة الحركية] للحركة الحرارية
[للذرات] وثانيًا القوى المرنة بين الذرات. الأولى هي ما
كانت حتى الآن تُدعى الحرارة الطليقة والثانية هي الحرارة
الكامنة. إلى هذا الحد تلك الفكرة عُبِّر عنها قبل —
بوضوحٍ إلى مدًى ما — لكن الآن أتى تبصُّر هلمهولتز الناجح
بخاصة؛ ارتداد الذرات والتجاذبات بينها جعلا تمامًا النظام
الميكانيكي مُعقدًا أكثر مما كأنه أي نظامٍ عياني في أي وقت.
٩٠