تنوَّعَت دراسةُ العلماء العرب والمسلمين لمصادر الأشعة؛
فمنهم من درس الأشعة الحرارية الصادرة عن النار وآثارها، ومنهم
من درس الأشعة الحرارية الصادرة عن الشمس وآثارها في كل
الأوساط التي تمُرُّ بها. وقد كانت بعضُ الآراء المُقدَّمة
مُميزة ركَّزنا عليها وشرحناها أكثر من غيرها نظرًا لأهميتها
العلمية والتاريخية.
جابر بن حيان (القرن ٣ﻫ/٩م)
ربط جابر بين لون الأشعة الحرارية المُتولِّدة والمادة
الصادرة عنها، فقال: «فأمَّا الحرارة فإن لونها إنما
يتبيَّن لك كلون الجوهر. واعلم أنَّ الذي ذكرناه من لون
الجوهر ليس هو لونًا له، وإنما هو المتولِّد بينه وبين
الشمس، وليس في إمكان أحد المخلوقين إظهار الجوهر بغير ما
أَرَيْتُكَ إِيَّاه، فأمَّا لون الحرارة فهي الحُمرة
الصافية، وهي التي تظهر في أعالي النار كأحمر الألوان،
فتلك حرارةٌ بلا رطوبة ولا يبوسة، بل الجوهر فقط. وليس
يمكن أحدًا أكثر من هذا أيضًا.»
٥٠ ولعلنا نجد من كلام جابر هذا — رُبَّما لأول
مرة — الرَّبط بين الإشعاع الحراري والطرف الأحمر منه فقط،
فهذه الحقيقة لم يتمَّ الكشفُ عنها إلا في القرن ١٩م، على
يد الفلكي وليم هرشل
W.
Herschel (١٧٣٨–١٨٢٢م) والفيزيائي
الألماني يوهان فيلهلم ريتر
J. W.
Ritter (١٧٧٦–١٨١٠م)؛ أي بعد ألف سنة من
تقدُّم علم الحرارة وأدوات قياسه.
إبراهيم النَّظَّام (القرن ٣ﻫ/٩م)
حاول إبراهيم بن سَيَّار النَّظَّام (تُوفِّي ٢٣١ﻫ/٨٤٥م)
أن يُثبِت أنَّ الحرارة والبرودة أجسامٌ لطاف، وليست
مُجَرَّد أعراض، بدعوى أنَّ الأعراض لا يحدُث بينها تضاد،
إنما يحدث بين الأجسام كالحرارة والبرودة، والسواد
والبياض، والحلاوة والحموضة، وهي أجسامٌ مُتفاسدة يُفسِد
بعضها بعضًا؛ لذلك فإنَّ كل جسمَين مُتفاسدَين فهما متضادَّان.
٥١ أي خالف النَّظَّام الكثير ممن عاصروه الرأيَ
بجعل الحرارة ذاتَ طبيعةٍ ماديَّة لطيفة وليست مُجرد
ظاهرةٍ عابرة تؤثِّر بالأجسام الأخرى وتَضمحِل. وكان يقول
النظَّام إنَّ الدليل على أنَّ الضياء أخف من الحر هو أن
النار تكون منك على قاب غلوة (أي مقدار رمية سهم) فيأتيك
ضوءها ولا يأتيك حَرُّها. مثالٌ آخر: لو أنَّ شمعةً في
بيتٍ غير ذي سقف لارتفع الضوء في الهواء حتى لا تجد منه
على الأرض إلا الشيء الضعيف، وكان الحرُّ على شبهٍ بحاله الأول.
٥٢ طبعًا هو يقصد بذلك أن مدى انتشار الضوء أوسع
من مدى انتشار الحرارة بالنسبة لمنبعٍ صغير كالشمعة، لكن
بالنسبة لمنبعٍ كبير وقريب من الأرض كالشمس فإنَّ الضوء
يترافق مع الحرارة.
النار والصوت والضوء كلها مفاهيمُ مادية حسب النظَّام؛
لذلك فإنَّ مفهوم الحرارة لن يختلف بطبيعته عن تلك
المفاهيم، ويفسِّر الارتباط بين الحرارة والضوء على أنه
ارتباط بين مادتَين لكنهما عندما يَصْدُران عن الجسم فإنَّ
الضوء يسبق الحرارة. لقد «زعم النَّظَّام أنَّ الحرَّ
جوهرٌ صَعَّادٌ بمعنى أن الحرَّ هو جوهر وجسم من الأجسام،
لا عَرَض من الأعراض، وإنما اختلفا، ولم يكن اتفاقهما على
الصعود موافقًا بين جواهرهما؛ لأنهما متى صارا من العالم
العلوي إلى مكانٍ صار أحدهما فوق صاحبه، وكان يَجزم القول
ويُبرم الحكم بأن الضياء هو الذي يعلو إذا انفرد، ولا يُعلى.»
٥٣
الكندي (القرن ٣ﻫ/٩م)
أمَّا الكندي فقد درس تأثير الشعاع الشمسي على الغلاف
الجوي، والدليل على وجود هذا التأثير هو ما يُلاحظ عند
شروق الشمس على بعض الأماكن حيث تكون حرارتُها أشدَّ من
الأماكن الظليلة، وهذا دليلٌ على وجود تلازُم بين الأشعة
الحرارية والأشعة الضوئية.
يقول الكندي في ذلك: «والشعاع يرقِّق الجو، ويُصَيِّر
سلوكَ الأشياء فيها أسهل وأسلس، كالذي يُرى حِسًّا؛ فإنَّ
المواضع التي تُشرِق الشمس فيها تكون أحرَّ من التي فيها
الظل؛ ولذلك ما يكون من حلٍّ في مواضع إشراق الشمس يجدُ
حرًّا شديدًا، ومن حلَّ في الظل بالقرب منه لم يُحِس بذلك
الحر، وإن وُجِد حر، فكلَّما بعدتَ من المواضع التي أشرقَت
عليها الشمس، ضعُف ما تجد من الحر.»
٥٤
إخوان الصفا (القرن ٤ﻫ/١٠م)
درس إخوان الصفا الأشعة الحرارية الصادرة عن الشمس، وتلك
الصادرة عن النار، وقد وجدوا أنَّ انتشار الأشعة الحرارية
الشمسية يكون تدريجيًّا وليس دفعةً واحدة، بخلاف الضوء
الحامل لتلك الأشعة الذي يظهرُ دفعة واحدة كما في حالة
الشمعة؛ أي ثمَّة تفاوت بين سرعة انتشار الأشعة الحرارية
والضوء المُرَافق لها، والدَّليل على ذلك هو ارتفاع درجة
حرارة الجو بشكلٍ تدريجي مع أنَّ الضوء يكون قد وصل إلى
سطح الأرض وأمكنَنا من رؤية ما حولنا.
يقول إخوان الصفا في ذلك: «فإننا نرى الشمس إذا طلعَت
بالمشرق أضاء الهواء من المشرق إلى المغرب دفعةً واحدة،
فإذا غابتْ بالمَغرب أظلَمَ الهواءُ دفعةً واحدة؛
فالحَرَارة إذا بدت تدبُّ أولًا فأولًا يُحمى الجو بزمان،
وكذلك إذا طلعَت الشمس يُحمى الجو أولًا فأولًا بزمان،
وكذلك إذا غابت الشمس برد الهواء أولا بأوَّل بزمان، وأنَّ
الحركة حكمها كحكم الضوء وذلك لو أنَّ خشبة طولها من
المشرق إلى المَغرب نُصِبَت ثم جُذِبَتْ إلى المشرق أو إلى
المغرب عقدًا واحدًا لتحرَّكَت جميع أجزائها دفعةً واحدة.»
٥٦
كما وجد إخوانُ الصَّفا أنَّ الأشعة الحرارية تتميز
بقُدرتها على النفوذ في الأجسام وذلك للَطافتها، لكن
تأثيرها يختلف حسب طبيعة الجسم الذي تمُرُّ فيه:
-
فإذا تحرَّكَت في الأجسام السائلة أحدثَت
الغليان، أي نشأ عنها حملٌ حراري.
-
ويمكن للحرارة الناجمة عن الأشعة أن
تسخِّن.
-
ونظرًا لجفاف الأشعة؛ فإنَّ لها قُدرةً على
تنشيف الأجسام الرَّطْبة.
-
ويُمكن لها بسبب لطافتها (نفوذيتها) أن تنفُذ
عَبْر الأجسام.
-
ويُمكن للضَّوء الذي تحمِلُه أن يُنير ما
حولها.
-
وباجتماع خاصيتَي (الحركة والحرارة) أن تصهر
الأجسام.
يقولون في ذلك: «ومن الصُّور المُتمِّمة لذات النَّار
اللطافة التي تولَّدها الحرارة، وتتلوها سرعة النفوذ في
الأجسام. ومن الصور المُتممة لذات النار أيضًا النور،
ويتلوه الإشراق؛ فقد اجتمعت في جِرم النار عدة صورٍ كلها
مُتمِّمة لها، وهي الحركة، والحرارة، واليبوسة، واللطافة،
والنور. وهي بكل صورة تفعل فعلًا غير ما تفعل بالأخرى؛
وذلك أنَّها بالحركة تغلي الأجسام، وبالحرارة تسخن،
وباليُبوسة تنشف، وباللطافة تنفُذ في الأجسام، وبالنُّور
تُضيء ما حولها، وبالحرارة والحركة تُحيل الأجسام إلى ذاتها.»
٥٧ فهم يُؤكدون على وجود خاصية اللطافة في
الإشعاع؛ بمعنى قدرة الإشعاع على النفاذ في الأجسام مع
تغيير حالتها الفيزيائية.
كما تناول إخوان الصَّفا في رسائلهم موضوعًا مُهمًّا
يتعلق ﺑ «نظرية الفيض
٥٨ الحراري
thermal flux
theory» ونحن نُطلق عليها هذا الاسم؛
لأنهم قاموا بتعميمها على الكثير من الموجودات بطريقةٍ
استدلالية (من الخاصِّ إلى العام)؛ فهم يعتقدون بأنَّ كل
جسم يفيض من ذاته فيضٌ من نوعٍ ما (غير محدد الهُوِيَّة):
«ثم اعلم أنَّ كل موجودٍ تام يفيضُ منه على ما دونه فيضٌ
ما، وأن ذلك الفيض هو من جوهره؛ أعني صورته المقوِّمة التي
هي ذاته».
٥٩
وحسبنا أنَّ نظرية الفيض الحراري هذه أكثر منطقيةً من
نظرية «الموائع أو السيالات
Calories» التي طرحها
العُلماء الأوروبيون في القرن ١٨م لتفسير انتقال الحرارة،
والتي قاموا بتعميمها أيضًا بعد ذلك على الحقلَين
الكهربائي والمغناطيسي؛ فالحَرَارة وفق نظرية السيال عبارة
عن شيء (طبعًا غير معروف بعدُ) ينساب كالماء من جسمٍ لآخر،
هذا السيال يملأ الفراغ الموجود بين ذرات الأجسام السَّاخنة.
٦٠ في حين يقول إخوان الصفا في مجال الفيض
الحراري (وهي حالةٌ خاصة من الفيض) إنَّ «حرارة النَّار
تفيضُ منها على ما حولها من الأجسام، من التسخين والحرارة،
وهي جوهرية النار التي هي صورتها المقوِّمة لها … وهكذا
يفيض من الشمس النور والضياء على الأفلاك والهواء؛ لأنَّ
النور جوهري في الشمس، وهي صورتُه المقوِّمة لذاته.»
٦١ ويقصدون بالفيض الحراري هنا كمية الطاقة
(الحرارية أو الضوئية) التي تمرُّ عَبْر وحدة المساحة في
وحدة الزمن.
ويتابعون شَرْحهم لنظرية الفيض بقولهم: «ثم اعلم ما دام
الفيضُ من الفائض يكون مُتواترًا مُتَّصِلًا، دام ذلك
المُفاضُ عليه، ومتى لم يتواتَر مُتَّصِلًا، عدم وبطَل
وجوده؛ لأنه يضمحل الأول فالأول. والمثال في ذلك الضوء في
الهواء، إذا تواتَر البرقُ واتصل، بقي الهواء مُضِيئًا مثل
النَّهار، لأنَّ الشمس تُفيض الفيض منها على الهواء
متواترًا متصلًا، فإذا حجز بينهما حاجز، عدم ذلك الضوء من
الهواء؛ لأنه يضمحل ساعةً ساعة، ولا يتواتَر الفيض عليه.»
٦٢ أي إن استمرار تدَفق الفيض (أيًّا كان نوعه)
مرهونٌ باستمرار تدَفقه من المنبع، وبعدم وجود حواجزَ
مَادِيَّة تُعِيق أو تمنَع نفوذه، وهذا يعني أنَّ الفيض لا
يملك خاصيَّة اللطافة (النَّفاذية) التي يملِكها الإشعاع
الحراري. كما يختلف الفيض الحراري الذي يتكلم عنه إخوان
الصَّفا هنا عن مفهوم «القوة الرُّوحانية»
٦٣ التي تنبعث من الأجرام، بكون الأخيرة عبارةً
عن خاصيَّة مؤثِّرة عن بُعد (أي حقل) تملكها الأجرام
السماوية الكبيرة.
ونرى أنَّ ما طرحه إخوان الصفا من آراء في هذه النَّظرية
يُمَثل الحَدَّ الأقصى من التماسك الداخلي، والتكيُّف
الأكثر انضباطًا مع الظاهرات الطبيعية؛ فقد أرادوا أن
يُقدموا نظريةً تفسِّر ما يحدث بحيث يُمكن تعميمها على كل
الظاهرات الأخرى المُماثلة لها. وقد كان صمودها وبقاؤها
مرهونًا بعنصر التنبؤ الذي قصَّرَت عنه أو لم تنتبه له،
ناهيك عن قلة تبنِّيها من أجيال العلماء العرب والمسلمين
اللاحقين.
ابن سينا (القرن ٥ﻫ/١١م)
رفض ابن سينا طرح إبراهيم النَّظَّام الذي قال بمادية
الأشعة الحرارية، ووجد أنَّه لو كان كلام النَّظَّام صحيح
لحَدَث تصادُمٌ مَادِيٌّ بين مادية الشعاع ومادية الهواء،
وهي مُجَادلة تذكِّرنا بالجدل الذي دار بين علماء أوروبا
حول طبيعة الضوء هل هي جِسْيمية أم موجية؟
يقول ابن سينا مُبْرهنًا على صحة دعواه مُكتفيًا باعتبار
الشعاع الشمسي مجَرَّد «شيء لا تُعرف ماهيته» يصدُر عن
الشمس وينفُذ عبر جسمٍ شفَّاف، وتتناسب شدة الحرارة
المرافقة للضوء طردًا مع شدة الإضاءة السَّاقطة على الجسم:
«إنَّ الشعاع ليس جسمًا أو قوة تأتي مُنتقلة من الشمس إلى
الأرض مَارَّةً في الوسط؛ بل هو شيءٌ يحدُث في المُقابل
القابل للضوء دفعةً إذا توسَّط بينهما جسمٌ لا يمنع فعل
ذلك في هذا بالموازاة؛ وذلك الجسم الشافُّ. لكن الجسم
القابل للحر، إذا أضاء سَخِن، وكُلَّما اشتدت الإضاءة
اشتَدَّ الحَرُّ.»
٦٤ ويقولُ في موضع آخر: «يجبُ أن تعلم أن
الشعاعات ليست بأجسام؛ لأنها لو كانت أجسامًا لكان جسمان
في مكانٍ واحد أعني الهواء والشعاع، وإنما الضوء لونٌ ذاتي
للمُشِف من حيث هو مُشِف.»
٦٥
وحاول ابن سينا أن يُفَسِّرَ فلكيًّا سبب اشتداد الحرارة
صيفًا، فهي تكونُ في أبعدِ مسافةٍ لها عن الأرض، وفي
الشتاء تكون في أقرب مسافةٍ لكن أشعتها ليست عمودية على
رءوسنا، والسبب في ذلك ميل محور الأرض: «وليست الحرارة
إنما تشتد في الصيف بسبب أنَّ الشمس تصير أقرب مسافةً منا،
بل هي أبعد حينئذٍ مسافةً؛ لأنها أوجية، وهي في الشتاء
أقرب مسافةً وأبعد مسامتة».
٦٦
مع أنَّ ابن سينا سبق وأن وصف الشعاع بأنَّه «شيء»،
لكننا نراه يعود لفكرة الفيض التي سبق وطرحها إخوان الصفا؛
مُبينًا البنية الهندسية للإشعاع الشمسي: «والشعاعُ الذي
يقع من الشمس يكون كأنه شيءٌ يفيض منه على صورة مخروط أو
أسطوانة مثلًا، وتكون واسطته، وهو الذي توهَّمناه شيئًا
مُتَّصِلًا بين الشمس وبين المُستضيء، كان خارجًا من مركز
الأرض نافذًا في وسط تلك الصورة كالمحور أو كالسهم؛ هي أشد
المواضع تسخينًا لأنه أشد المواضع إنارةً؛ لأنَّ الأطراف
أضعف في التأثيرات من الواسطة المُكتنفة من كل جهةٍ بالسبب
المُقَوِّي، فما يسقط عليه هذا السهم المُتَوَهَّم يكون
أشدُّ إضاءةً؛ فلذلك يكون أشدَّ سخونة، وما يبعُد عن هذا
السهم يكون أقلَّ إضاءةً فيكون أقلَّ سخونة؛ أعني السخونة
التي تلزم من نفس المسامتة المضيئة فقط.»
٦٧
ويُعبِّر الشكل الآتي عن كلام ابن سينا السابق:
ويذهب ابن سينا في «رسالة العشق»
٦٨ في مُحاولةٍ منه لتفسير آلية انتشار الإشعاع
الحراري وتأثيره عن بُعد في كل ما ينفعل عن «الحرارة
النَّارية» (الذي هو هنا الطاقة الحرارية)، وهو سببٌ قريب
لتغيره، وما يَحْصُل منه، عند تغيُّر كيفيته هو مثاله،
وليس تلك الكيفية بعينها، قال ابن سينا: «إنَّ كل منفعل عن
سببٍ قريب فإنما ينفعل بتوسُّط مثال، يقع فيه، وذلك بيِّنٌ
بالاستقراء؛ فإنَّ الحرارة النارية إنما تفعل في جِرمٍ من
الأجرام بأن تضع فيه مثالها، وهو السخونة.» ولدى فعل
«السبب البعيد» فإنَّ ما نحصل عليه في نهاية العملية قد
يختلف عَمَّا كان في بدايتها: «ولقائلٍ أن يقول إنَّ الشمس
تُسَخِّن وتسود من غير أن تكون السخونة والسواد مثالها،
لكننا نُجيبُ عن ذلك، بأن نقولَ إن لم نقل إن كل أثرٍ حصل
في متأثِّر من مؤثِّر، عن ذلك الأثَر موجود في المؤثِّر،
فإنه مثال من المؤثِّر في المتأثِّر، لكننا نقول إنَّ
تأثير المؤثِّر القريب إلى المتأثِّر يكون بتوسط مثالٍ ما،
يقع منه فيه. وكذلك الحالُ في الشمس فإنها تفعل في منفعلها
القريب بوضع مثالها فيه، وهو الضوء، ويحدُث من حصول الضوء
فيه السخونة، فيسخِّن المنفعل عنها منفعلًا آخر عنه، بأن
يضع فيه مثاله أيضًا، وهو سخونتُه، فيسخُن بحصول السخونة، ويَسودُّ.»
٦٩
الواقع لم نتمكَّن من تحديد أول من طرح مصطلح «الحرارة
النارية» Fire heat قبل
ابن سينا وابن الهيثم لاحقًا، وغيرهم من العلماء العرب
والمسلمين؛ لأنَّ هذا المصطلح كان شائعًا بين علماء القرن
العاشر والحادي عشر للميلاد، لكن العرب استخدموه للتعبير
عن الطاقة الحرارية الصادرة عن الأجسام المضيئة من ذاتها،
مثل الشمس والنار.
ابن الهيثم (القرن ٥ﻫ/١١م)
لم يقف الحسن بن الهيثم (تُوفِّي ٤٣٠ﻫ/١٠٣٨م) عند حدود
الظاهرات الضوئية من انعكاس وانكسار وغيرها فقط، بل مضى
لأبعدَ من ذلك؛ فقد كان يُريد أن يَفْهم حقيقة الضَّوء،
ومن أي شيء هو، وحتى يَصِل لبُغيته مَيَّزَ ابن الهيثم بين
الشعاع الضوئي بصفته خطًّا هندسيًّا والشعاع الضوئي من
النَّاحية الفيزيائية، وقد تناول هذه التفرقة في رسالة
خاصة عنوانها (رسالة في ماهية الضوء). وقد قال في ذلك:
إنَّ «الكلام في مائية الضوء من العلوم الطبيعية
٧٠ والكلام في كيفية إشراق الضوء محتاج إلى
العلوم التعليمية
٧١ من أجل الخطوط التي تمتد عليها الأضواء. وكذلك
الكلام في مائية الشُّعاع، وهو من العلوم الطبيعية،
والكلام في شكله وهيئته وهو من العلوم التعليمية. وكذلك
الأجسام المشفَّة التي تنفُذ الأضواء فيها، والكلام في
مائية شفيفها، وهو من العلوم الطبيعية. والكلام في كيفية
امتداد الضوء فيها، وهو من العلوم التعليمية؛ فالكلام في
الضوء وفي الشعاع وفي الشفيف يجبُ أن يكون مُرَكَّبًا من
العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية».
٧٢ ثم يُبيِّن لنا ما هي طبيعة الضوء حسب وجهة
نظره قائلًا: إنَّ «الأضواء هي حرارةٌ نارية وما كان منها
قويًّا كان مُحرِقًا، وما كان منها ضعيفًا كان غير مُحرِق؛
فجميع الأضواء عند أصحاب التعاليم هي حرارةٌ نارية، وإنما
تظهر في الجسم المضيء كما تظهر النار في الجسم الحامل للنار.»
٧٣
وهو هنا كما نُلاحظ أنَّه يعود ويستخدم مصطلح «الحرارة
النارية» الذي سبق واستخدمه ابن سينا، ليقصد به الطاقة
الحرارية المُرَافقة للضوء المرئي، وَفْق مصطلحاتنا اليوم،
أمَّا الحرارة غير النَّارية فهي الطاقة الحرارية التي لا
ترافق الضوء المرئي، لكنها قد تكون موجودة، فإذا زادت شدة
الحرارة النَّارية في الأشعة الحاملة لها كانت مُحرِقة،
وإذا كانت ضعيفة لم تكن مُحرِقة. إذن يرى ابن الهيثم أنَّ
طبيعة الضوء مادية لكن ليس حسب مفهوم إبراهيم النَّظَّام؛
لذا فإن الضوء يَرْتدُّ أو ينعكس إذا وقع على الأجسام
الصقيلة «فالضوء إذا لقي جسمًا صقيلًا فهو ينعكس عنه من
أجل أنه مُتحرك، ومن أجل أنَّ الجسم الصقيل يمانعه، ويكون
رجوعه في غاية القوة، لأنَّ حركته في غاية القوة، ولأنَّ
الجسم الصقيل يُمانعه ممانعةً فعَّالة.»
٧٤
وينقسم الضوء عند ابن الهيثم إلى قسمَين؛ الأول سماه
الضوء الذاتي، وهو الذي ينبعث من الأجسام المُضيئة بذاتها،
مثل ضوء الشمس وضوء النار. والثاني سمَّاه الضوء العَرَضي،
وهو الذي ينبعث من الأجسام غير المُضيئة بذاتها، إلا أنَّ
خصائص هذَين النوعَين من الضوء مُتشابهة في إشراقها على
شكل خطوطٍ مُستقيمة، ومُتشابهة من حيث القوَّة والضعف
تبعًا لزيادة القرب أو البعد.
قال ابن الهيثم: «فأمَّا أصحاب التعاليم، فإنهم يرون
الضَّوء الذي يُشرِق عن الجسم المضيء من ذاته الذي هو صورة
في الجسم، هو حرارةٌ نارية تكون في الجسم المضيء من ذاته …
ووجدوا ضوء الشمس أيضًا إذا أشرق على الهواء سَخَّن الهواء.»
٧٥ وقول ابن الهيثم: «فجميع الأضواء عند أصحاب
التعاليم هي حَرَارة نَارِيَّة.» فإنَّ هذا تعميمٌ يَدُلُّ
على شيوع المصطلح، وليس عند ابن الهيثم فقط.
من ناحيةٍ أخرى، يُقدِّم لنا ابن الهيثم أنَّ سبب تسمية
شعاع البصر بمصطلح «الشعاع» من قِبَل الرياضياتيين؛ وذلك
لأنهم شبَّهوه بشعاع الشمس والنار، «وإنما سمَّى أصحاب
التعاليم شعاع البصر شعاعًا تشبيهًا بشعاع الشمس وشعاع
النار؛ وذلك أنَّ المُتقدمين من أصحاب التعاليم يرون
الإبصار يكون بشعاعٍ يخرج من البصر، وينتهي إلى المُبصَر،
وبذلك الشعاع يكونُ الإبصار وإن ذلك الشُّعاع هو قوَّة
نُورية من جنس الضوء وإنها هي القوة الباصرة، وإنها تمتد
من البصر على سموت خطوطٍ مستقيمة، مبدؤها مركز البصر، وإذا
انتهت هذه القوة النُّورية إلى البصَر أدركت المبصَر،
والقوة النورية الممتدة على الخطوط المستقيمة الخارجة من
مركز البصر مع الخطوط المستقيمة هو الذي يُسمِّيه أصحاب
التعاليم شعاع البصر.»
٧٦
ويتابع ابن الهيثم
قائلًا: إنَّ أصحاب التعاليم مُنقسمون إلى فريقَين؛ أحدهما
يرى أنَّ الشعاع عبارة عن مخروطٍ مُصْمت مُتَّصِل ككتلةٍ
واحدة، مثل المخروط الذي تكلَّم عنه ابن سينا سابقًا، أو
أن الشعاع عبارةٌ عن خطوطٍ
مُستقيمة «ثم مع ذلك
فأصحاب التعاليم مُختلفون في هيئة هذا الشعاع وهيئة حدوثه؛
فبَعْضُهم يرى أنَّ مَخْروط الشعاع جسمٌ مُصْمَت متصل
ملتئم، وبعضهم يرى أنَّ الشعاع خطوطٌ مستقيمة هي أجسام
دقائق أطرافها مُجتمعة عند مركز البصر، وتمتد متفرقة حتى
تنتهي إلى المبصَر، وأن ما وافق أطراف هذه الخطوط من سطح
المبصر أدركه البصر، وما حصل بين أطراف خطوط الشُّعاع من
أجزاء المُبْصَر لم يُدركه البصر؛ ولذلك تخفى عن البصر
الأجزاء التي في غاية الصغر والمسام التي في غاية الدِّقة
التي تكون في سطوح المُبْصَرات.»
٧٧
وحتى يزيل ابن الهيثم عَنَّا الحَيْرة ويحسم الموقف،
يُقَرِّر أنَّ الأشعة سواء كانت حرارية أو ضوئية، فإنها
تنتشر بشكل خطوطٍ مُستقيمة، بغَض النظر عن المصدر الذي
يأتي منه «والشعاع بالقول الكلي هو ضوءٌ مُمْتد على سموت
خطوطٍ مستقيمة كان الضوء ضوء الشمس، أو ضوء القمر، أو ضوء
الكواكب، أو ضوء النَّار، أو ضوء البصر، وهذا هو حدُّ
الشعاع وليس لأصحاب العلم الطبيعي قولٌ مُحَرَّرٌ في الشعاع.»
٧٨
البيروني (القرن ٥ﻫ/١١م)
ناقش أبو الرَّيحان البيروني (تُوفِّي ٤٤٠ﻫ/١٠٤٨م)
العلاقة بين الحرارة وإشعاع الشمس المرئي، رافضًا القول
إنَّ سبب وجودها يعودُ لوجود زوايا حَادَّة عند انعكاسه،
وإنما السبب الرئيس هو تلازم الحرارة مع إشعاع الشمس، يقول
في ذلك: «وقد قيل في سبب الحرارة الموجودة مع شعاع الشمس
إنه احتداد زوايا انعكاسه، وليس ذلك كذلك، بل هو موجود معه.»
٧٩ بناءً على ذلك فإن أي سطحٍ سينعكس عنه الضوء
فإن الحرارة المُلازمة لأشعة الشمس ستنعكس أيضًا، ولا
يُشترَط أن يكون ذلك السطح صقيلًا مثل المرآة المُقعَّرة
حتى يظهر الأثَر الحراري.
ثم ينتقل ليُحدِّثنا عن الجسم الناري المماسِّ لباطن فلك
القمر، والذي يتسبَّب بتسخين جو الأرض أيضًا، وكيف تتولَّد
الحَرَارة بداخله، والتي يعتقد البيروني أن سَبَبها هو
الاحتكاك بين الهواء وذلك الجسم، وليس كما يعتقد البعض أن
الحرارة خاصيةٌ أصيلة فيه.
قال البيروني: «وأمَّا الجسم المُماسُّ لباطن الفلك، وهو
النَّار، زعموا أنه أصليٌّ طبيعي كالأرض والماء والهواء،
وأن شكله كُروي، وعندنا أنه احتدام الهواء باحتكاك الفلك
إياه وتسحيحه
٨٠ ومماسَّته له من سرعة الحركة، وأنَّ شكلَه شبه
جسمٍ متولِّد من إدارة الشكل الهلالي على وتَره، وذلك مطرد
على ما يذهب إليه من أنه ليس ولا واحد من الأجسام الموجودة
كائنًا في موضعه الطبيعي، وأنَّ كون جميعها حيث وُجِدت
إنما هو بالقسر، والقسر لا يُمكن أن يكون أزليًّا».
٨١
أمَّا من حيث التزامن، فإنَّ الأشعة الحرارية
المُتَرافقة مع أشعة الضوء وحرارة النار الفلكية يصلان
للأرض معًا، ثم يقوم البيروني بتفنيد أقوال الآخرين، ويتفق
مع مَن قال إنَّ حرارة الجو والحرارة النَّاجمة عن بطن
الأرض قد يلتقيان ويُسهِمان في رفع حرارة الهواء المحيط
بالأرض: «وكلا الحرَّين متكافئ الوصول إلى الأرض في
الأزمنة الأربعة، وأمَّا حر الأرض فإما أن يكون ما ينعكس
من شعاعات الشمس من سطحها، وإمَّا أن يكون بخاراتها التي
يُثيرها الحر المُستكن في باطنها على مذهب قومٍ أو الطارئ
عليها من خارج على مذهب آخرين؛ فإنَّ حركة البخار في
الهواء تُكسِبه حرارةً فأما حرارة النار فإنها لا تقرب ولا
تبعد لأنَّ الفلك لا يزيد سرعة ولا بطئًا وأما الشعاعات
المنعكسة فإنها غير منسوبة إلى الأرض، وأما البُخارات فلها
حدٌّ تنتهي إليه ولا تتجاوزه وما أظن القائل مُعتقدًا أن
في الأرض حرًّا مُحتقنًا يخرج من باطن الأرض إلى ظاهرها
وقد احتمى الهواء بشعاعات الشمس فيلتقيان، هذا وجه إن كان
ولا بد.»
٨٢
بعدها يبحثُ البيروني في طبيعة الإشعاع الشمسي، وما قيل
في حقيقته، وكيف يتسبَّب بتسخين جو الأرض، ويضع ثلاثة
احتمالات:
- (١)
فهو إمَّا جسيمات حرارية تخرج من جِرم
الشمس.
- (٢)
أو يتشكَّل بسبب الاحتكاك بين كرة الهواء وكرة
الشمس.
- (٣)
أو أن شعاع الشمس يحتك بسرعةٍ كبيرة بالهواء
عندما يدخل جو الأرض فيجعلُه يسخن.
الاحتمال الأوَّل سيعود لنقاشه في القرن ١٨م الرياضياتي
السويسري ليونارد أويلر
L.
Euler (١٧٠٧–١٧٨٣م) وقد رفضه بدعوى لو
أنَّ هذا الاحتمال صحيح فإنه سيُسهِم في استنفاد مادة
الشمس بسرعة، نتيجة الخسارة في كتلتها. واقترح بدلًا من
ذلك أن تكون جسيمات الأثير هي التي تحمل هذه الحرارة وتصل
لجو الأرض وتجعله يسخن، كما سنجد تفصيل ذلك لاحقًا.
٨٣ لكن هنري كافندش سيختلف مع أويلر، ويُحاول أن
يُثبِت أن الأشعة الحرارية جسيماتٌ مادية تخرج من الشمس.
٨٤
لكن البيروني لم يوضِّح هنا رأيه بالموافقة أو الرَّفض
لتلك الاحتمالات الثلاثة، قال البيروني: «فأمَّا شعاع
الشمس، فقد قيل فيه أقاويلُ كثيرة؛ فمن قائل إنه أجزاءٌ
نارية مشابهة لذات الشمس تخرج من جِرمها، ومن قائل إنَّ
الهواء يحتدمُ بمحاذاة الشمس كاحتدامه بمحاذاة النَّار
إياه، وذلك عند من قال إنَّ الشمس حارةٌ نارية، ومن قائل
إن الهواء يحتدم بسرعةِ سلوكِ الشعاع فيه حتى كأنه بلا
زمان، وذلك عند من قال بخروج طبيعة الشمس عن طبائع
الأُسطُقسات الأربعة.»
٨٥
وقد توضَّح رأي في طبيعة الإشعاع الشمسي، وطريقة انتقاله
أكثر بعد أن ناقشها مع ابن سينا في المراسلات التي جرت
بينهما؛ ففي المسألة التاسعة طرح البيروني على ابن سينا
السؤال الآتي: «إن كانت الحرارات سالكة عن المركز، فلِمَ
صَارَ الحَرُّ يصل إلينا من الشمس؟ والشعاعات أهي أجسام أم
أعراض أم غير ذلك؟»
٨٦
وكان جواب ابن سينا مؤيدًا للقائلين بأنَّ الحرارة تحدُث
بعد انعكاس الشعاع وتجمُّع أشعته ولا تكون مُترافقة مع
الإشعاع بحد ذاته، رافضًا إمكانية انتقال الحرارة مع
الإشعاع، قال ابن سينا: «يجبُ أن تعلم أنَّ الحرارات ليست
بسالكة من المركز، لأنَّ الحرارة غير مُتحركة، اللهم إلا
بالعَرَض لكونها في جسمٍ مُتحرك ككون إنسانٍ مُتحرك في
سفينةٍ مُتحركة. ويجب أن تعلم أن حر الشمس ليس يصل إلينا
بهبوطه من الشمس من فوق من وجوه: أحدها أنَّ الحرارة لا
تتحرك بذاتها. والثاني: أنه ليس جسم حارٌّ يهبط من فوق
فيسخَّن ما سفل؛ فلذلك أيضًا الحرارة لا تنهبط من الشمس
بالعَرَض. والثالث أنَّ الشمس أيضًا ليست بحارَّة،
فالحرارة الحاصلة ها هنا ليست هابطةً من فوق لتلك الوجوه
الثلاثة التي ذكرناها، ولكنها حادثة ها هنا من جهة انعكاس
الضوء، وسخونة الهواء لذلك كما يُشاهَد ذلك في المرايا
المُحرِقة، ويجبُ أن تعلم أن الشعاعات ليست بأجسام؛ لأنها
لو كانت أجسامًا لكان جسمان في مكانٍ واحد، أعني الهواء
والشعاع، وإنما الضوء لونٌ ذاتيٌّ للمُشِف من حيث هو
مُشِف، وقد حدَّه أرسطوطاليس في المقالة الثانية من «كتاب
النفس»، ومن «كتاب الحس»، في المقالة الأولى بأنه كمال
المشِف من حيث هو مُشِف.»
٨٧
وعندما عاد البيروني وناقش كيف للحرارة أن تأتي عن
الشعاع بعد انعكاس الضوء، إذا كانت الحرارة لا تنتقل مع
الضوء أصلًا؟ فكان من ابن سينا أن كَلَّف تلميذه النَّجيب
محمد بن عبد الله بن أحمد المعصومي (تُوفِّي نحو ٤٦٠ﻫ/نحو
١٠٦٨م) للرَّد على البيروني، فكان من المعصومي أن شرح
للبيروني كيفية انتشار الضوء في الأجسام الشفَّافة، ووصوله
إلى الأجسام غير الشفَّافة التي ينعكس عنها فتظهر الحرارة
بعد الانعكاس، وأكثر مَن يُظهِر الأثَر الحراري في الضوء
هي المرايا المقعَّرة التي تعكس ضوء الشمس وتجمعه في بؤرةٍ
واحدة هي المُحرِق.
قال المعصومي: «أمَّا سؤالك عن كيفية انعكاس الضوء،
فيجبُ أن تعلم أن الضوء ينفُذ في الجِرم المُشِف فيؤدِّيه
إلى الجرم الصُّلب الكثيف، فيظهر فيه حينئذٍ، فإذا كان بين
الجِرمَين الصُّلبَين جِرمٌ مُشِف كالهواء، وظهر الضوء
المصادر للجِرم الكثيف في الآخر بواسطة الجِرم المشف
بينهما، يُسمَّى ذلك انعكاسًا، وكُلَّمَا كان الجسم أصلب
وأقبل للون كان الانعكاس منه أقوى، فإذا انعكس الضوء أحدث
انعكاسُه حرارة، حتى إذا قوي الانعكاس والتفَّ وتزاحم من
أقطارٍ كثيرة أُخر، وكما ترى في المرايا المُحْرِقة، فالذي
يقرب من جهة الأرض إلى الشمس يكون ضوءُه أقوى لقربها،
ولأنه ينعكس على زوايا قائمة؛ أي إنه ينعكس منها على السمت
الذي يصل منه إليها، فيكون مثل العمود، وتكون حرارتها
أشد، وأمَّا ما بعُد عن الشمس من الأرض، فإنه ينعكس منها
الضوء على زوايا مُنفرجة، فلا يلتقي الضوء حينئذٍ على سمتٍ
واحد؛ فلذلك يكون حَرُّها أضعف، ثم إن ذلك الضوء المُنعكس
من الأرض يضعُف كُلما بَعُد من الأرض إلى أن يفنى في وسط
الجو، فهناك يكون الهواء على طبعه بالفعل. وأمَّا إنكارك
لقوله: «بأن الضوء لون المُشِف من حيث هو مُشِف»، فإنما
كان ذلك على وجه المجاز، لأنَّ الهواء وإن لم يكن له لون
لكنه يظهر فيه الضوء، فجائزٌ أن يُسمَّى لونًا له، وإن
شئتَ قلتَ كمال المشف من حيث هو مشف، وهذا هو حدُّ الضوء
على الحقيقة، لأنَّ المشف لا يكون مُشِفًّا إلا بالضوء،
ومعنى قولنا: «كمال الشيء من حيث هو كذا»، هو أنَّ الشيء
رُبَّما تكون له صفاتٌ كثيرة بمعانٍ مختلفة، فيحصُل له
أحدها فيكون ذلك المعنى كمالًا له من حيث هو حساس لا من
حيث هو ناطق، والبصر كمالٌ له من حيث هو مبصر لا من حيث هو
سامع، وتصوُّر هذا اللفظ نافع لا يُستعمل في هذه العلوم
كثيرًا، كما لا يكونُ الهواء مُشِفًّا بالفعل ما لم يكن
ضوء، اللهم إلا بالقوة كان الضوء له كمالًا من حيث هو
مشِف، لأنه خرج به من القوة إلى الفعل في كونه مُشِفًّا.»
٨٨
وهكذا دافع ابن سينا وتلميذه عن الفكر الأرسطي، فهما لا
يُريدان لهذا الفكر أن يتغير من قِبَل أيِّ شخصٍ كان،
ويُتابع المعصومي ردودَه على البيروني الذي رفض فكرة تجسيم
الشعاع، بأنَّ ابن سينا يتفق معه في ذلك، «وأمَّا اعتراضك
على إنكار كون الشعاع أجْسَامًا، بأنَّ قائل هذا القول
يُثبِت الخلاء فغير قادح فيما أجابك به الحكيم؛ لأنك ما
دخلتَ معه مدخل المناظر، وإنما سألتَه عن كيفية الشعاع
فبيَّنه لك، ولو سألتَه عن مسألة نفي الخلاء لبيَّنه
أيضًا، وعلى أن فيما تكلَّم به الفيلسوف [أرسطو] في كتاب
«السماع الطبيعي»، في المقالة الرابعة في إبطال الخلاء
كفاية لمن تصوَّره وتحقَّقه.»
٨٩ لكن البيروني لا يُسَلِّم بنفي الخلاء،
ويُحاول أن يرُدَّ المعصومي عليه اعتمادًا على القاعدة
الأرسطية (إنَّ الطبيعة تكره الخلاء): «وأمَّا اعتراضك بعد
التسليم لنفي الخلاء أنَّ الشعاع أبدًا موجودٌ من أكثر
جوانب الأرض فما تقول في ضوء القمر وقت الكسوف، إن كان
الضوء جِرمًا فإيش يخلفه مكانه؟ إذ ليس الخلاء بموجود.
وعلى أنَّا نرى اطراح شعاع الشمس مُقارنًا للطلوع معًا في
آنٍ واحد، والجسم لا يتحرك ولا يقطع مسافةً إلا في زمان.»
٩٠
ويرى الباحث عبد الكريم اليافي أنَّ هذه المساءلة التي
دارت بين البيروني وابن سينا وتلميذه المعصومي، لم تُطرح
على طاولة البحث في العلوم الفيزيائية عند الأوروبيين إلا
قريبًا من بداية القرن العشرين، وخصوصًا طبيعة الضوء ومصدر
الطاقة. وقد لاحظنا كيف يستغرب البيروني من رفض ابن سينا
أن يكون الشعاع جسمًا، وقوله بأنه مُجرد صفةٍ للأجسام
المُضاءة، ورفضه كذلك لحركة الحرارة، واعتباره أنها نتيجة
انعكاس الضوء والشعاعات ومنقولة من طرف الأجسام المتحركة.
وقد قرَّر البيروني أنَّ الحرارة موجودة في الشعاع نفسه
وليست مجرد انعكاس للشعاع على الأجسام، وهذا الأمر قريبٌ
من تعريف العلم المعاصر للحرارة على أنها شكلٌ من أشكال الطاقة.
٩١
ابن طفيل (القرن ٦ﻫ/١٢م)
تناول ابن طفيل (تُوفِّي ٥٨١ﻫ/١١٨٥م) في قصَّته
الرَّمزية (حي بن يقظان) عملية انتقال الحرارة بوساطة
الإشعاع الشمسي، فقال: «… قد تبرهن في العُلوم الطبيعية
أنَّه لا سبب لتكوُّن الحرارة إلا الحركة أو مُلاقاة
الأجسام أو الإضاءة … وأنَّ الشمس لا تسخِّن الأرض كما
تسخِّن الأجسام الحَارَّة أجسامًا أُخر تماسُّها … ولا
الشمس أيضًا تسخِّن الهواء أولًا، ثم تُسَخِّن بعد ذلك
الأرض بتوسُّط سخونة الهواء. وكيف يكون ذلك ونحن نجدُ أنَّ
ما قرُب من الهواء من الأرض في وقت الحر أسخنُ كثيرًا من
الهواء الذي يبعد عَنَّا علوًّا؟ فبقي أنَّ تسخين الشمس
للأرض إنما هو على سبيل الإضاءة لا غير؛ فإنَّ الحرارة
تتبع الضوء أبدًا، حتى إن الضوء إذا أفرط في المرآة
المقعَّرة أشعل ما حاذاها.»
٩٢
أي إنَّ ابن طُفيل يَعْتقدُ أنَّ الحرارة تتولَّد من
وراء ثلاثة أسباب؛ الحركة، أو مُلاقاة الأجسام الحَارَّة،
أو الإضاءة. وفكرة ملاقاة الأجسام سبق وأن طرحها إخوان
الصفا، أمَّا الأجسام التي تقبل الحرارة فهي الأجسام
الكثيفة غير الشفافة. واعتمادًا على ذلك فَسَّرَ سبب برودة
طبقات الجو العُليا أكثر من السفلى، حيث إن الحرارة لا
تسخِّن الهواء مباشرة، وإنما تسخِّن الأرض أولًا ثم تشعُّ
الحرارة من الأرض للهواء. وأشار ابن طفيل إلى أن الشُّعَاع
الشمسي المسامت لرءوس النَّاس؛ أي العمودي عليهم، كانت
الحرارة المُصاحبة له أشد، نظرًا لأنَّ كمية الإشعاع التي
تصل الأرض في هذه الحالة أشد.
٩٣
وبذلك يردُّ ابن طفيل على أرسطو وأتباعه الذي لم يقبلوا
بفكرة التلازم بين الضوء والإشعاع الحراري المرافق له ولا
يتفق معهم في الرأي. كما رَفض ما يعتقد به البعض من أنَّ
خط الاستواء شديد الحرارة، مُقدمًا الدليل على ذلك بأنَّ
السبب الرئيس لظهور الحرارة هو إمَّا الحَرَكة أو مُلاقاة
الأجسام الحارَّة والإضاءة. وتبين أيضًا أنَّ الشمس غير
حارَّة بذاتها ولا مُتكيفة بشيءٍ من الكيفيات المزاجِيَّة،
كما تبَيَّن أنَّ الأجسام التي تقبل الإضاءة أتم القبول،
هي الأجسام الصقيلة غير الشفافة، ويَليها في قبول ذلك
الأجسام الكثيفة غير الثقيلة، فأمَّا الأجسام الشفَّافة
غير الكثيفة فلا تقبل الضوء بوجه. وبحسب ابن طُفيل أنَّ
الرأي السابق هو لابن سينا، ولم يسبقه إليه أحد، ثم يشترط
بناءً عليه، وإذا كان هذا البُرهان صحيحًا، فاللازِمُ أنَّ
الشمس لا تسخِّن الأرض كما تسخِّن الأجسام الحارَّة
أجسامًا أخرى تمسُّها؛ لأنَّ الشمس غير حارة بذاتها ولا
الأرض أيضًا تسخَّن بالحركة لأنها ساكنة وعلى حالةٍ واحدة
في شروق الشمس عليها، وفي وقت مغيبها عنها، وأحوالها في
التسخين والتبريد، ظاهرة الاختلاف للحِسِّ في هذَين الوقتَين.
٩٤ طبعًا قوله «الشمس غير حارة بذاتها» لم يكن
صحيحًا، لكنه أراد أن يقول بإمكانية ولادة الإنسان في
البُقْعة التي تُعد تحت خط الاستواء.
٩٥
ويُتابِعُ ابنُ طفيل قائلًا: «ولا الشمس أيضًا تُسخِّن
الهواء أولًا ثم تسخِّن بعد ذلك الأرض بتوسُّط سخونة
الهواء، وكيف يكون ذلك ونحن نجدُ ما قرب من الهواء من
الأرض في وقت الحرِّ أسخنَ كثيرًا من الهواء الذي يبعُد
عنه علوًّا؟ فبقي أنَّ تسخين الشمس للأرض إنما هو على سبيل
الإضاءة لا غير؛ فإن الحرارة تتبع الضوء أبدًا حتى إنَّ
الضوء إذا أفرط في المرآة المُقَعَّرة أشعل ما حاذاها، وقد
ثبت في علوم التعاليم بالبَرَاهين القَطْعِيَّة أنَّ الشمس
كُرويَّة الشكل، وأن الأرض كذلك، وأن الشمس أعظمُ من الأرض
كثيرًا، وأنَّ الذي يستضيء من الأرض بالشمس أبدًا هو أعظم
من نصفها، وأنَّ هذا النصف المُضيء من الأرض في كل وقتٍ
أشد ما يكون الضوء في وسطه لأنه أبعدُ المواضع من الظلمة
عند مُحيط الدَّائرة، ولأنه يقابل من الشمس أجزاءً كثيرة،
وما قرُب من المُحيط كان أقل ضوءًا حتى ينتهي إلى الظلمة
عند محيط الدائرة الذي ما أضاء موضعُه من الأرض قط. وإنما
يكون الموضع وسط دائرة الضياء إذا كانت الشمس على سمت رءوس
الساكنين فيه، وحينئذٍ تكون الحَرَارة في ذلك الموضع أشدَّ
ما يكون، فإن كان المَوْضِع مما تبعُد الشمس فيه عن مسامتة
رءوس أهله كان شديد البرودة جدًّا، وإن كان مما تدوم فيه
المسامتة كان شديد الحرارة. وقد ثبت في علم الهيئة أنَّ
بقاع الأرض التي على خط الاستواء لا تُسامت رءوس أهلها سوى
مَرَّتين في العام عند حلولها برأس الحمل، وعند حلولها
برأس الميزان، وهي في سائر العام ستة أشهر جنوبًا منهم،
وستة أشهر شمالًا منهم، فليس عندهم حَرٌّ مُفرط ولا بَرْدٌ
مُفرط وأحوالها بسبب ذلك متشابهة.»
٩٦
وهكذا فإنَّ الإشعاع الحراري الشمسي يتم امتصاصه من قبل
الأرض أولًا، ثم تعود وتشعُّه للهواء، وبذلك يسخن الهواء.
ولاحظ ابن طفيل بأنَّ الإشعاع عندما يكون بزاوية قائمة
(مُسامتًا لرءوس الناس) فإنَّ الحرارة التي تَصْحَبه تكون أشد.
٩٧
ابن رُشد (القرن ٦ﻫ/١٢م)
بدأ ابن رشد مناقشة مسألة انتشار الحرارة عن طريق
الإشعاع بسؤال: «هل الضوء مسخِّن أو ليس بمسخِّن؟» ثم
يُجيب بعد تَمْحِيصٍ للمَسْألة مع ما عَالَجَهُ السَّابقون
عليه، طبعًا بالدرجة الأولى أرسطو، ثم يُمَهِّد بطرح
مجموعةٍ من الفرضيات التي يقول فيها: «ففيه أيضًا موضع فحص
وعويص شديد؛ وذلك أنه إذا اعتبرنا ما يظهر من ذلك في
المرايا المُحْرِقة والزُّجاجة المَمْلوءة بالماء التي
تُحرِق القُطن، ظُن من ذلك أنَّ الشعاع يَحْرق بذاته،
وبخَاصَّة إذا كان الانكسار على زوايا قائمة؛ أعني إذا
انكسر الشُّعاع على نفسه أو انكسَرَت أشعةٌ من مواضعَ
كثيرة إلى موضعٍ واحد. وإذا رجعنا إلى المعارف الأول في
ذلك وهو أنَّ الشيء إنما يخرج من القوة إلى الفعل بمُخرِج
من نوعه بالفعل، لَزِمَ ألا تكون الحَرَارة تتولد إلا عن
جسمٍ حارٍّ، والنارُ عن جسمٍ ناري، فنقول: إنه قد تبين
أنَّ الضوء ليس بجسم، فإن كانت فيه قوة التسخين بالذات
فإنَّ المُسخِّن يكون الجسم المُضيء بما هو مضيء، لا الضوء
على حياله، وإذا كان المسخِّن هو الجسم المضيء، وكان يظهر
أنَّه كلما كان الجسم أشد إضاءةً كان أشد تسخينًا، فقد
يُظن أن الضوء فيه هو سبب التسخين، فتكون الحرارة لا تتولد
عن حرارة مثلها بالنَّوع ولا النَّار عن نار. وإذا كان ذلك
كذلك، فقد يجبُ عليها أحد أمرَين؛ إما ألا نعترف بكلية هذه
المقدمة، وإما أن يكون هذا الفعل للضوء بالعَرَض،
والاعتراف بكُلية هذه المقدِّمة هو واجب في الأمور
الطبيعية والصناعية، وقد فُصِّل الكلام فيها في غير هذا
الموضع، وحُلَّت الشكوك الواردة فيها.»
٩٨
ومن المُقَدِّمة السَّابقة — التي تحمل بصماتِ نظرية
أرسطو — يؤكِّد ابن رشد أنَّ الضوء شيء والحَرَارة شيءٌ
آخر، ولا يشترط وجود تناسبٍ طردي بين زيادة شدة الإضاءة
والحرارة، وإذا قبل القارئ بهذه المقدمة، فإنَّ ابن رشدٍ
يطلُب منه أن يفهم حقيقةَ ما يحدُث، وهو أنَّ التلازم بين
الضوء والحرارة مُجرد ظنٍّ ظاهري، والسَّبب الحقيقي هو
حركةُ أجزاءِ الهواء فهي المسئولة عن التسخين، ولكن الناس
تعتقد أنَّ الضوء يحملُ الحرارة؛ لأنه عندما ينعكس شعاعُ
الضوء تنعكس معه الحرارة، وإذا انكسر الضوء انكسَرَت
الحرارة، وهي في الحقيقة مجرد حالةٍ عَرَضية وليست
دائمة.
يتابع ابن رشد: «وإذا أنزلنا الأمر هكذا فلننظُر على أي
وجه يُمكن أن يكون هذا للمضيء بالعَرَض، فنقول: إنَّ الجسم
المضيء لو كان ساخنًا لم يسخن، إذ ليس هو بخارًا، وإنما
يعرض له أن يسخن من قِبَل الحركة، كما يقول أرسطو،
والحرارة الشَّائعة من قِبَل الحركة في المُتسخن
والسَّارية فيه تعرض للشُّعاع فيُظن لمُلازمتها الشعاع
دائمًا أنَّ الشعاع هو السبب في التسخين، وليس الأمر كذلك،
بل ذلك بالعَرَض؛ أعني أنَّه حيث تكثُر الإضاءة تكثُر
الحَرَارة، فيُظن أنَّ الإضاءة هي سبب الحرارة، وهذا
النَّوع من الانكسار العَارِض للحرارة النَّارية في الهواء
إنما عرض لها من قِبَل الحركة الحادثة في أجزاء الهواء عند
تحريك الكواكب له، فتصير هذه الحرارة مُلازمةً للشعاع
للمُناسبة التي بينهما، فإذا استقام الشعاع استقامت هذه
الحرارة، وإن انعكس الشعاع انعكسَت، فإن تحرَّكَت مُنعكسةً
تضاعفَت السخونة، وإن تحرَّكَت من مواضعَ كثيرة إلى موضعٍ
واحد، كالحال في المرآة المُحرِقة، كان الأمر كذلك.»
٩٩
أيدمر الجلدكي (القرن ٨ﻫ/١٤م)
أشار الجلدكي إلى أنَّ النار تتحوَّل إلى نور عندما تفقد
حَرَّها ولهيبها،
١٠٠ وذلك لأنَّ «أصل تكوين الحرارة من فيضانِ
الأنوار الهائلات وإشراقِها وإبراقِها على سائر المحسوسات.»
١٠١ أي إنه ميَّز بين حرارة النار ونورها، فالنار
تُصْبِح نورًا عندما تفقد حرارتها، وبذلك نتقبَّلها
ونتمكَّن من الرؤية بوساطتها، وهو يُعيد هنا إلى الأذهان
ما قد طرحه إخوان الصَّفا، قبل ٤٠٠ سنة، في نظرية الفيض
الحراري، لكن بصيغةٍ أخرى تُفيد بأنَّ الضوء المَقبول
حسيًّا لا يحوي بداخله على حرارة تضُر.